{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}(النّساء: 108- 109)...
أتعرفون كيف نزلت هذه الآيات؟ نزلت لتبرّئ يهوديّاً، ومعروفة آنذاك طبيعة علاقات اليهود بالإسلام، وقد عبَّر عنها قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [المائدة: 82]، ومع ذلك، أنزل الله آيات كثيرة ليبرّئ يهوديّاً ممّا أُريد أن يُلصَق به من تهمة وهو بريءٌ منها.
سرق بعض الناس في المدينة، وكان السّارق من بعض العائلات المهمّة، وكان مسلماً، فتجمَّع قومه وتدبَّروا في أمرهم، وكيف يدبّرون هذه الفضيحة وماذا يفعلون. في اللّيل، اجتمعوا دون أن يسمعهم أحد، فقد شعر وجهاء العشيرة أو وجهاء العائلة بالعار، أخذوا هذا المال المسروق، أو عملوا طريقة ليظهر وكأنَّ اليهوديّ هو السارق، وقالوا إنَّ اليهودي سوف يحكم عليه بشكلٍ سريع، لأنَّ يهوديّته تمنع من التّدقيق في أمره، وكانت المعطيات تتّجه إلى أن يكون اليهوديّ هو السّارق، لأنَّ هناك أشياء، شكليّات، قد تتجمَّع حول بريء، فيخيَّل إليك أنّه المجرم.
عصبيّةٌ يرفضها القرآن
وكاد الحكم يصدر على اليهوديّ، لأنَّ النبيّ (ص) كان يحكم بحسب المعطيات عنده لا بعلم الغيب، ثمّ نزلت هذه الآية: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ}، يجتمعون في اللّيل ويتداولون، ماذا نقول بحقّ هذا اليهودي؟ كيف نرتّب أمر اتّهامه؟ كيف نرتِّب التهمة له؟ كما يفعل بعضنا في كثيرٍ من الحالات عندما نختلف، ويكون واحد من أصحابنا أو من عشيرتنا أو من طائفتنا أو من بلدنا مُداناً بشيء ونحاول أن نبرِّئه، كيف نجتمع على أساس عائليّ أو على أساس حزبيّ أو على أساس بلديّ أو على أساس طائفيّ، كيف نستطيع أن نبرّئ صاحبنا ونلصق التّهمة بإنسانٍ آخر؟ ألا نفعل ذلك كثيراً ونبرّره كثيراً؟
والوسط السياسيّ، غالباً، يأخذ بمثل هذا، والوسط العشائريّ، غالباً، يأخذ بمثل هذا، والوسط الطائفيّ، غالباً، يأخذ بمثل هذا، لأنَّ المسألة لا تنطلق من خلال الارتباط بالحقّ، ولكنّها ترتبط بالعصبيّة في ذلك كلّه.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}. نزلت هذه الآية لتبرّئ اليهوديّ على الرغم من يهوديّته، لأنَّ العدالة في الإسلام لا تنظر إلى دين الشّخص، أيّ دين يلتزم، ولكنّها تنظر إلى حقّ الشّخص في أيّ مجالٍ من المجالات، لتعطيه حقّه، مهما كان دينه ومهما كان موقعه.
وعلى هذا الأساس، تابعت الآية {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}، تقول إذا صدر عنكم شيء من هذا القبيل، نتيجة عاطفة، أو نتيجة حزبية، أو نتيجة طائفية، إذا صدر عنكم مثل هذا الشيء وتبتم، فإنَّ الله يتوب عليكم {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً}[النّساء: 110]. إذا تراجعت وقلتَ يا ربّ، لقد أخذت بالعاطفة، فدافعتُ عن مجرم على حساب بريء. يا ربّ، لقد ظلمتُ نفسي، ولقد عملت سوءاً وأنا أستغفرك من ذلك، فالله يقول لك إذا صدقت نيّتك في التّوبة، فإنّي أغفر لك.
مسؤوليَّة فرديَّة!
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}، يعني عندما يسيء شخص من العشيرة أو من العائلة، أو شخص من الطائفة أو من حزب، أو من أيّ جهةٍ كانت من التجمُّعات الموجودة في المجتمع، إذا كسب إثماً، فلماذا تشعر العشيرة أو الطائفة أو الحزب أو الجماعة بأنَّ هذا الأمر مشكلة كبيرة لها؟ إنّه لا ينال العشيرة شيءٌ من إثم فرد من العشيرة، ولا ينال العائلة شيءٌ من إثم فرد من أفراد العائلة {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النّساء: 111]، لأنَّ المسؤوليّة في الإسلام فرديّة، أبوك لا يتحمّل إثمك، أنتَ تأثم، أمّا أبوك، فإنسان طاهر لا يجوز لإنسان أن يتعرَّض له بكلمة سوء. وهكذا عندما يخطئ إنسان، فهو مَن يتحمّل مسؤولية خطئه.
هذا الشّيء المتعارَف عند النّاس، إذا انحرفت امرأة أو فتاة من العائلة، فإنّهم يشعرون بأنَّ شرف العائلة قد تلطَّخ، ولهذا فإنّهم يعملون على قتل هذه الإنسانة من دون دراسة الظّروف.
الإسلام يقول: لكلّ إنسان شرفه الخاصّ، ليس هناك شيء اسمه شرف العائلة، أمّا إذا انحرف فرد من العائلة أو أخطأ، فشرف العائلة لم يدنَّس، لكنّ شرفه هو الذي يُدَنَّس. ولهذا، لا بدّ أن يعامَل على أساس المسؤولية الفرديّة في هذا المجال.
هذه العقليّة الإسلاميّة العادلة التي تجعلك تواجه المسألة على أساس أنّ هذا الإنسان هو مَن كَسَبَ الإثم، إذاً هو من يعاقَب, ثمّ مَن الّذي يعاقِب وكيف يكون العقاب؟ هذه الأمور لا بدَّ أن تخضع لحدود، ولا تنطلق في دائرة العصبية. ولعلَّ العصبيّة هي مجال عصبيّات ظالمة، والسبب أنّ المجتمع العشائريّ الآن يعتبر أنّ شرف العشيرة يدنّس إذا أخطأت الفتاة، ولكنّ شرف العشيرة لا ينبغي أن يدافع عنه إذا أخطأ الشابّ. إذا أخطأت الفتاة، فمعناه أنّ هناك العار، ولكن إذا أخطأ الشابّ، فعلينا أن نوكل له محامياً، وعلينا أن نخوض معركة للعشيرة ضدّ العشيرة الثانية، حتّى نحميه من اعتداء أهل البنت التي اعتدى عليها، أليس كذلك؟ لأنَّ المرأة ضعيفة، ولأنّ الشابّ يخدم العشيرة، المرأة لا تُقاتل، فإذا خسروا امرأة، فإنّهم لا يخسرون بندقيّة، ولكنَّ الشابّ يخسرون معه بندقية.
إذا كانت المسألة مسألة الشّرف، فأيّ فرق بين أن يسيء أحد إلى شرفك أو تسيء إلى شرف الآخرين؟ لكن إذا كانت المسألة مسألة جاهليّة، فإنَّ الجاهليّة تفرض نفسها على عقولنا حتّى لو كنّا مسلمين.
يقال إنّ أبا العلاء المعرّي كان لا يأكل لحم حيوان، عنده فلسفة في الموضوع، مرِضَ ذات يوم فوَصَفَ له الطّبيب دجاجاً، فجيء له به، وهو لم يكن يرى، أخذه بيده، قال له: استضعفوك فوصفوك، هلّا وصفوا شبل الأسد؟! لماذا لم يطلب الطبيب أن يأتوا له بلحم ابن الأسد؟ لأنّهم لا يستطيعون أن يطالوه، لكن أنتَ ضعيف، يستطيعون أن يطالوك في أيّ وقت.
عدالة الإسلام
وهكذا نجد في حياة الناس السياسية والاجتماعية، عندما تخطئ شخصية كبيرة، فإنَّ كلّ الناس يتبرّعون للدفاع عنه وحمايته، حتّى لو كان في مستوى الجريمة، وعندما يخطئ عنصر بسيط، فإنّ كلّ قوانين العالَم تنزل على رأسه لتدافع عن الحريّة وعن العدالة وعن الحقوق، "إِنَّما أهلك مَن كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ. والّذي نفس محمّد بيده، لو أنَّ فاطمة بنت محمّد سَرَقَتْ لَقطعت يدها".
هذا هو منطق الإسلام {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أنتَ تفعل فعلتك، أو قريبك، ثمّ تلصقها ببريء، مستغلاً قوّتك الماليّة أو قوّتك الإعلاميّة أو قوّتك السياسيّة أو قوّتك العشائريّة، لأنَّ الناس يقبلون منك ولا يقبلون من الآخر، فتلصق التهمة به {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً} البهتان هو أن تنسب إلى إنسان ما لم يفعله {وَإِثْماً مُّبِيناً}[النّساء: 112] إثماً واضحاً يعاقبه الله عليه يوم القيامة. فهناك حقَّان؛ حقّ خاص وحقٌّ عام؛ حقّ هذا الإنسان لأنّك اتّهمته بدون حقّ، والحقّ العامّ هو حقّ الله، لأنّك كذبت وظلمتَ إنساناً في ما لا يجوّز لكَ الله ذلك.
*من كتاب "الجمعة منبر ومحراب".