حاول النّاس تقديم صورة الملائكة في أذهانهم، بالطريقة التي يحدّدون فيها حقيقتهم، فذكروا في ذلك عدّة وجوه وأقوال:
الأول: وهو قول المحقّقين من المتكلّمين، إنها أجسام لطيفة، نورانية إلهية، خيِّرة سعيدة، قادرة على التصرفات السريعة، والأفعال الشاقّة، والتشكّل بأشكال مختلفة، ذوات عقول وأفهام، مسكنها السماوات، وبعضها عند الله أقرب من بعض وأكمل درجةً، كما قال تعالى ـ حكايةً عنهم ـ : {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}[1]. وإلى هذا القول ذهب أكثر المسلمين، وفي أخبار أهل البيت(ع) ما يدلّ عليه.
الثاني: وهو قول عبدة الأوثان، إنها هذه الكواكب الموصوفة بالسعود والنحوس، وإنها أحياء ناطقة، فالمسعدات ملائكة الرحمة، والمنحسات ملائكة العذاب.
الثالث: وهو قول معظم المجوس والثنوية، القائلين بالنور والظلمة، وإنهما جوهران حسّاسان قادران، متضادّان في النفس والصورة، مختلفان في الفعل والتدبير. فجوهر النور فاضل، خيِّرٌ، طيب الريح، كريم النفس، يسرّ ولا يضرّ، وينفع ولا يمنع، ويحيي ولا يبلي، والظلمة ضدّ ذلك.
والنور يولّد الأولياء، وهم الملائكة، لا على سبيل التناكح، بل كتولّد الحكمة من الحكيم، والضوء من المضيء. وجوهر الظلمة يولّد الأعداء وهم الشياطين، كتولّد السّفه من السّفيه.
الرابع: قول مَن قال: إنَّها ليست أجساماً، بل جواهر متحيِّزة، ثم اختلفوا، فقال بعضهم ـ وهم طوائف من النصارى ـ: إنها النفوس الناطقة المفارقة لأبدانها، فإن كانت خيِّرةً صافيةً فهي الملائكة، وإن كانت شريرة كثيفة، فهي الشياطين. وقال آخرون ـ وهم الفلاسفة ـ: إنَّها مخالفة لنوع النّفوس النّاطقة البشريَّة، وإنَّها أكمل قوةً، وأكثر علماً. ونسبتها إلى النفوس البشرية نسبة الشمس إلى الأضواء، فمنها نفوس ناطقة فلكيَّة، ومنها عقول مجرّدة.
ومنهم مَن أثبت أنواعاً أخرى من الملائكة: وهي الأرضية المدبّرة لأحوال العالم السفلي، خيّرها الملائكة، وشرّيرها الشياطين.
واقع الملائكة في القرآن الكريم
ونحن نلاحظ في هذه التّفاسير، أنّها لا تمنحنا أية تصوّرات تفصيليَّة عنهم، بحيث نستطيع من خلالها أن نضع لهم صورة في مستوى النموذج، بل كل ما هناك، هو المفاهيم الضَّبابية التي تثير المعنى، ولكنَّها لا تقدّم المثال، لذلك، فإنّنا لا نجد فائدةً في ذلك، باعتبار أنها من عالم الغيب، الَّذي لا نطّلع عليه إلا من خلال مصادره القدسيَّة، مما جاء في الكتاب أو ثبت من السنّة.
ونحن نلاحظ أنَّ الله لم يحدّثنا عنهم إلا من خلال بعض خصائصهم العمليَّة وأدوارهم الكونيَّة، فهم ينـزلون في ليلة القدر: {بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}[2]، ما يوحي بوجود مهمّاتٍ موكولةٍ إليهم في النظام الكوني، مما عبّر عنه الله سبحانه في سورة الدخان: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا}[3]. وهم الحافظون لعباد الله، الموكلون بقبض أرواحهم: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}[4]، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ}[5]، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}[6].
وهم الكاتبون لأعمال العباد: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}[7]. {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[8].
وهم العابدون، والَّذين لا يستكبرون عن عبادته، المسبّحون الساجدون له: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[9]. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[10]، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}[11].
وهم يستغفرون لمن في الأرض: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ}[12]. وهم الذين يعرجون إلى الله في يوم القيامة: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[13].
وهم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[14].
وهم الَّذين يتنـزّلون على المؤمنين بالله، المستقيمين على خطه، ليبشروهم بالجنة، وليعلنوا لهم ولايتهم لهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}[15].
وهم عباد الله المكرّمون، الّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وهم الشفعاء الذين لا يشفعون إلا لمن ارتضى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[16].
وقد حدَّثنا الله أنَّه أدار معهم الحوار حول خلق آدم، باعتباره الخليفة الَّذي يريد له أن يتحمّل مسؤوليَّة الأرض، فكانَ سؤالهم عن الحكمة في ذلك، لعلمهم، من خلال تعريف الله لهم، أو من خلال تجربةٍ إنسانيَّة سابقة بائدة، كما يقال، بأنّ هذا الخليفة ـ الإنسان، سوف يفسد في الأرض، ويسفك الدماء. وإذا كان دوره أن يسبّح، ويحمد الله، ويقدّسه، فإنهم قائمون بهذا الدور العبادي، ولكن الله ردّ عليهم بأنَّه يعلم ما لا يعلمون.
ثم أجرى للملائكة امتحاناً في معلوماتهم الأرضيَّة، ليثبت لهم أنَّهم لا يملكون كلّ المعرفة ليكونوا بديلاً عن هذا الخليفة، وذلك عندما علّم آدم الأسماء كلها، مما يتصل بمسؤوليته العامة في إدارة شؤون الحياة على الأرض، وسأل الملائكة عن هذا الجانب من العلم، فلم يملكوا جواباً، فطلب من آدم أن يعرّفهم ذلك، وانتهى الحوار بالحقيقة الحاسمة، وهي أنّ الله هو الذي يملك علم غيب السماوات والأرض، وما يبديه الخلق، وما يكتمونه، ما يفرض عليهم إرجاع كل الأمور إليه، والتسليم له في كل شيء.
وذلك هو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[17].
وما دمنا في أجواء الملائكة مع آدم، فإنَّ الله أمر الملائكة بالسّجود لآدم، تحيةً له، وتعظيماً للإبداع الإلهي في خلقه، فسجدوا امتثالاً لأمره، وانقياداً له، لأن المسألة لم تكن مسألة سجودٍ لهذا المخلوق، بل هي امتداد لعبوديتهم لله، وخضوعهم المطلق له، فلا مجال لديهم ـ من ناحيةٍ ذاتيةٍ ـ لسؤال أو اعتراض، وهكذا تمّ الأمر بكل بساطةٍ طبيعية، ولكن {إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[18] ـ وقد كان من الجن لا من الملائكة ـ لاستغراقه في ذاته، بعيداً عن الاستغراق في عبادة ربه. وهكذا انطلق الملائكة في هذا الموقف، ليكونوا عباد الله المكرمين الذين {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[19].
*كتاب: آفاق الروح
[1] [الصافات:164]
[2] [القدر:4]
[3] (الدخان:4-5)
[4] [الأنعام:61]
[5] [الأنعام:93]
[6] [الرعد:11]
[7] [يونس:21]
[8] [ق:17-18]
[9] [الأعراف:206]
[10] [الأنبياء:20]
[11] [الزمر:75]
[12] [الشورى:5]
[13] [المعارج:4]
[14] [غافر:7-9]
[15] [فصّلت:30-32]
[16] [الأنبياء:26-28]
[17] [البقرة:30-33]
[18] [البقرة:34]
[19] [الأنبياء:27]