كتابات
07/03/2014

أدلّة الإيمان تمرّ بالحياة لا بالفلسفة

أدلّة الإيمان تمرّ بالحياة لا بالفلسفة

نلاحظ في لجانب الّذي تتحرك فيه الآيات في أسلوب الحوار، في إثبات وجود الله من خلال ظواهر الكون وأسرار الطبيعة، أنّ القرآن الكريم ـ في حديثه عن الإيمان بوجود الله ـ لا يتحدّث عنه بالطريقة الفلسفية المجرّدة التي تجعل من الفكرة شيئاً تجريديّاً، يرقد في الفكر بأسلوب عقليّ جافّ لا تشعر بأيّ أثر للحياة فيه، بل يحاول أن يتحدّث عنه من خلال حركة الحياة الّتي تشير إليه ـ وهو يرعى الحياة ويخلقها وينمّيها ويجدّدها ويحييها ـ والّتي تدعو الإنسان ـ على هدى ذلك ـ إلى شكره وعبادته، وإلى التعرّف إليه من خلال حاجة الإنسان إلى شكر النّعم وعبادة المنعم، حيث تكون المعرفة بالله غايةً في نفسها، ووسيلة إلى الشّكر والعبادة، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يشكر أو يعبد من لا يعرف، فهذا الكون وما فيه من عظمة، هو دليل على وجود الله من جهة، ونعمةٌ للإنسان من جهة أخرى ينبغي للإنسان أن يشكرها.

ولعلّ قيمة هذا الأسلوب، أنّه يجعل العقيدة تتحرّك مع حركة الحياة اليوميّة، ومع الكون الواسع الكبير الّذي يحيط بالإنسان، ويدفع حياته إلى النموّ والتجدّد والاستمرار، فلا يشعر الدّاعية في حواره مع الآخرين أنّه ينفصل عن الحياة وهو يتحدّث، ولا يشعر الآخرون أنهم يغرقون في ضباب الأفكار التجريديّة وهم ينطلقون في معرفة الله، وبهذا تكون قضيّة المعرفة بالله والإيمان بوجوده، قضيّة الحياة بكلّ ما فيها من قوّة وحيويّة واستمرار، وليست قضيّة الخيال الّذي يفتِّش عن موطئ قدم له في عالم الواقع.

وتواجهنا ـ في هذا الأسلوب ـ آيات كثيرة نختار بعضاً منها، كمثَلٍ حيٍّ على ذلك:

1 ـ {والله أخْرَجَكُم مِنْ بطونِ أمّهاتِكُم لا تعلَمون شيئاً وجعَل لكُم السمْعَ والأبصار والأفئِدة لعلَّكُم تشْكُرون}[النّحل: 78].

2 ـ {أوَلَمْ يرَ الذينَ كفَرُوا أنَّ السمواتِ والأرْضَ كانَتَا رتْقاً ففتَقْناهُما وجعلْنا مِنَ الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ أفَلا يؤمِنون* وجعَلْنا في الأرضِ رواسِيَ أن تَميدَ بِهِمْ وجعَلْنا فيها فِجَاجاً سُبُلاً لعلّهُم يهْتدون* وجعَلْنا السماءَ سقْفاً محْفوظاً وهُم عنْ آياتِها مُعْرِضون}[الأنبياء:30-32].

3 ـ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا* وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}[الفرقان:45-49].

إننا نشعر ـ ونحن نقرأ هذه الآيات ـ بأنّ حياتنا الّتي نعيشها منذ بدأنا رحلتها، إلى أن اكتملت نشأتها؛ نأكل ونشرب ونتحرّك، ونواجه حاجاتنا الطبيعيّة التي سخّر الله لنا قوى الكون لتلبيتها، نشعر كيف يكون وجود الله في حياتنا، قضيّةً تتّصل بسرّ الحياة الّذي لا نستطيع الانفصال عنه ولو لحظة، لأنّ ذلك يعني الانفصال عن معنى الوجود الّذي يتحوّل إلى فرضيّة تبحث عن أساس لها بين آلاف الاحتمالات.

وهكذا نجد، في هذه النّماذج وغيرها، كيف يمكن للدّاعية المسلم أن يفيض في الحديث عن ظواهر الحياة، وهو يتحدّث عن أيّ شيء يتّصل بها، حتّى إذا استطاع أن يشدّ أفكار الآخرين واهتمامهم إلى ذلك، أطلق الفكرة الإلهيّة كفكرة تبرّر ذلك كلّه، وتعطيه المعنى المعقول في عمليّة توعية وإيمان.

ويتعاظم هذا الدّور في الوسط العلميّ الّذي يهتمّ بعلوم النبات والحيوان والفيزياء والكيمياء، فإنّ من الممكن أن يجد في هذا الوسط، الميدان الرّحب الّذي يصول فيه ويجول بالأسرار الكامنة في كلّ هذه العلوم الّتي تمتدّ في جذورها لتصل إلى المعرفة الحقّة بالله سبحانه وتعالى.

العقل يقود إلى الإيمان

حاول القرآن الكريم، في أسلوب الحوار من أجل الإيمان بالله، أن يطرح الفكرة المضادّة إلى جانب فكرة الإيمان بالله، في نطاق الطّريقة العقليّة في التّفكير الّتي تطرح الفروض المحتملة، ثم تبدأ عمليّة النفي والإثبات، لتكون النّتيجة في مصلحة الغرض الأخير الذي يثبت أمام النّقد، وذلك ما تجسّده لنا الآية الكريمة في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطّور: 35].

إنّ الموضوع ـ في القضيّة ـ لا يخلو من فروض ثلاثة:

1 ـ أن لا يكون هناك خالق.

2 ـ أن يكون الخالق هو المخلوق نفسه.

3 ـ أن يكون الله هو الخالق.

ونلاحظ أنّ الآية تطرح الفرضين في أسلوب الاستفهام الإنكاريّ، الّذي يعني رفض الفكرة الّتي يدور الاستفهام حولها. فالفكرة الأولى مستحيلة، لأنّ فرض الحدوث وعدم وجود أساس لحتميّة الوجود، لتكون من قبيل واجب الوجود، يفرض وجود القوّة الخالقة التي تبرّر له وجوده، ما دام فرض الوجود والعدم فيه متساويين، ما يجعل من الضّروريّ في عمليّة الوجود، أن نبحث لها عن علّة خارج الذّات.

أمّا الفرض الثّاني، فهو مستحيل أيضاً، لأنّ خلق الإنسان نفسه يفرض كونه سابقاً لنفسه في الوجود، فيلزم أن يكون الشّيء موجوداً في حال عدمه، وهو فرض غير معقول، لأنّ الموجود لا يمكن فرضه معدوماً في حال وجوده، وبالعكس، لأنّه تناقض مستحيل، فيثبت الفرض الثّالث، على أساس هذه المحاكمة العقليّة، وهو أن يكون الله هو خالق الإنسان.

ويتنوّع الأسلوب في آيات أخرى، فنجد القضيّة تعيش بين افتراضين: الأوّل أن يكون الخالق هو الله.. والثّاني أن يكون الإنسان، لأنّ الفرض الثّالث الّذي ينفي عمليّة الخلق ليثبت الأزليَّة، لا معنى له في ممكن الوجود، وهذا ما تصوّره لنا الآيات الكريمة التّالية في قوله تعالى:

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 57- 72].

ونلاحظ في هذه الآيات، أنّ الموضوع الّذي يدور عليه الحوار، ليس هو الإنسان وخلقْه، بل هو الظّواهر الّتي تعيش في حياته، ابتداءً من النّطفة الّتي هي المرحلة الأولى في عمليّة الخلق، إلى الموت والحياة، إلى الزّرع الّذي نزرعه، والماء الّذي نشربه، والنّار الّتي نوقدها.

من الّذي أوجد ذلك؛ هل هو الإنسان أم الله؟

وهنا تحاول الآيات الكريمة أن تركّز على عجز الإنسان عن حماية هذه الأشياء من الطّوارئ والحوادث، أو العمل على استمرارها، بينما تظلّ في النّظام الدقيق الّذي يحكمها، بعيداً عن إرادة الإنسان واختياره في بدايتها وحركتها ونهايتها، ما يجعلنا نخضع للفكرة الّتي يفرضها الإيمان، من أنّ الخالق لها هو خالق الإنسان؛ إنّه هو الّذي يملك القدرة المطلقة في ذلك كلّه.

ونودّ ـ في نهاية الحديث في هذا الموضوع ـ القول إنّ من الممكن أن تكون هذه الآيات خاضعةً للمنهج الّذي يريد إرجاع الإنسان إلى فطرته وإحساسه الدّاخليّ، باعتبار أنّ النّتيجة الّتي تحاول الوصول إليها، تخضع للوجدان الصّافي والإحساس الذّاتيّ المجرّد، من دون حاجة إلى التّحليلات الفلسفيّة الّتي أشرنا إليها في مقدّمة الحديث، لأنّ قصّة النفي والإثبات ـ في هذا الموضوع ـ وجدانيّة فطريّة، كما يلاحظها كلّ من رجع إلى فطرته ووجدانه... [كتاب: الحوار في القرآن، ص:111-114].


نلاحظ في لجانب الّذي تتحرك فيه الآيات في أسلوب الحوار، في إثبات وجود الله من خلال ظواهر الكون وأسرار الطبيعة، أنّ القرآن الكريم ـ في حديثه عن الإيمان بوجود الله ـ لا يتحدّث عنه بالطريقة الفلسفية المجرّدة التي تجعل من الفكرة شيئاً تجريديّاً، يرقد في الفكر بأسلوب عقليّ جافّ لا تشعر بأيّ أثر للحياة فيه، بل يحاول أن يتحدّث عنه من خلال حركة الحياة الّتي تشير إليه ـ وهو يرعى الحياة ويخلقها وينمّيها ويجدّدها ويحييها ـ والّتي تدعو الإنسان ـ على هدى ذلك ـ إلى شكره وعبادته، وإلى التعرّف إليه من خلال حاجة الإنسان إلى شكر النّعم وعبادة المنعم، حيث تكون المعرفة بالله غايةً في نفسها، ووسيلة إلى الشّكر والعبادة، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يشكر أو يعبد من لا يعرف، فهذا الكون وما فيه من عظمة، هو دليل على وجود الله من جهة، ونعمةٌ للإنسان من جهة أخرى ينبغي للإنسان أن يشكرها.

ولعلّ قيمة هذا الأسلوب، أنّه يجعل العقيدة تتحرّك مع حركة الحياة اليوميّة، ومع الكون الواسع الكبير الّذي يحيط بالإنسان، ويدفع حياته إلى النموّ والتجدّد والاستمرار، فلا يشعر الدّاعية في حواره مع الآخرين أنّه ينفصل عن الحياة وهو يتحدّث، ولا يشعر الآخرون أنهم يغرقون في ضباب الأفكار التجريديّة وهم ينطلقون في معرفة الله، وبهذا تكون قضيّة المعرفة بالله والإيمان بوجوده، قضيّة الحياة بكلّ ما فيها من قوّة وحيويّة واستمرار، وليست قضيّة الخيال الّذي يفتِّش عن موطئ قدم له في عالم الواقع.

وتواجهنا ـ في هذا الأسلوب ـ آيات كثيرة نختار بعضاً منها، كمثَلٍ حيٍّ على ذلك:

1 ـ {والله أخْرَجَكُم مِنْ بطونِ أمّهاتِكُم لا تعلَمون شيئاً وجعَل لكُم السمْعَ والأبصار والأفئِدة لعلَّكُم تشْكُرون}[النّحل: 78].

2 ـ {أوَلَمْ يرَ الذينَ كفَرُوا أنَّ السمواتِ والأرْضَ كانَتَا رتْقاً ففتَقْناهُما وجعلْنا مِنَ الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ أفَلا يؤمِنون* وجعَلْنا في الأرضِ رواسِيَ أن تَميدَ بِهِمْ وجعَلْنا فيها فِجَاجاً سُبُلاً لعلّهُم يهْتدون* وجعَلْنا السماءَ سقْفاً محْفوظاً وهُم عنْ آياتِها مُعْرِضون}[الأنبياء:30-32].

3 ـ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا* وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}[الفرقان:45-49].

إننا نشعر ـ ونحن نقرأ هذه الآيات ـ بأنّ حياتنا الّتي نعيشها منذ بدأنا رحلتها، إلى أن اكتملت نشأتها؛ نأكل ونشرب ونتحرّك، ونواجه حاجاتنا الطبيعيّة التي سخّر الله لنا قوى الكون لتلبيتها، نشعر كيف يكون وجود الله في حياتنا، قضيّةً تتّصل بسرّ الحياة الّذي لا نستطيع الانفصال عنه ولو لحظة، لأنّ ذلك يعني الانفصال عن معنى الوجود الّذي يتحوّل إلى فرضيّة تبحث عن أساس لها بين آلاف الاحتمالات.

وهكذا نجد، في هذه النّماذج وغيرها، كيف يمكن للدّاعية المسلم أن يفيض في الحديث عن ظواهر الحياة، وهو يتحدّث عن أيّ شيء يتّصل بها، حتّى إذا استطاع أن يشدّ أفكار الآخرين واهتمامهم إلى ذلك، أطلق الفكرة الإلهيّة كفكرة تبرّر ذلك كلّه، وتعطيه المعنى المعقول في عمليّة توعية وإيمان.

ويتعاظم هذا الدّور في الوسط العلميّ الّذي يهتمّ بعلوم النبات والحيوان والفيزياء والكيمياء، فإنّ من الممكن أن يجد في هذا الوسط، الميدان الرّحب الّذي يصول فيه ويجول بالأسرار الكامنة في كلّ هذه العلوم الّتي تمتدّ في جذورها لتصل إلى المعرفة الحقّة بالله سبحانه وتعالى.

العقل يقود إلى الإيمان

حاول القرآن الكريم، في أسلوب الحوار من أجل الإيمان بالله، أن يطرح الفكرة المضادّة إلى جانب فكرة الإيمان بالله، في نطاق الطّريقة العقليّة في التّفكير الّتي تطرح الفروض المحتملة، ثم تبدأ عمليّة النفي والإثبات، لتكون النّتيجة في مصلحة الغرض الأخير الذي يثبت أمام النّقد، وذلك ما تجسّده لنا الآية الكريمة في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطّور: 35].

إنّ الموضوع ـ في القضيّة ـ لا يخلو من فروض ثلاثة:

1 ـ أن لا يكون هناك خالق.

2 ـ أن يكون الخالق هو المخلوق نفسه.

3 ـ أن يكون الله هو الخالق.

ونلاحظ أنّ الآية تطرح الفرضين في أسلوب الاستفهام الإنكاريّ، الّذي يعني رفض الفكرة الّتي يدور الاستفهام حولها. فالفكرة الأولى مستحيلة، لأنّ فرض الحدوث وعدم وجود أساس لحتميّة الوجود، لتكون من قبيل واجب الوجود، يفرض وجود القوّة الخالقة التي تبرّر له وجوده، ما دام فرض الوجود والعدم فيه متساويين، ما يجعل من الضّروريّ في عمليّة الوجود، أن نبحث لها عن علّة خارج الذّات.

أمّا الفرض الثّاني، فهو مستحيل أيضاً، لأنّ خلق الإنسان نفسه يفرض كونه سابقاً لنفسه في الوجود، فيلزم أن يكون الشّيء موجوداً في حال عدمه، وهو فرض غير معقول، لأنّ الموجود لا يمكن فرضه معدوماً في حال وجوده، وبالعكس، لأنّه تناقض مستحيل، فيثبت الفرض الثّالث، على أساس هذه المحاكمة العقليّة، وهو أن يكون الله هو خالق الإنسان.

ويتنوّع الأسلوب في آيات أخرى، فنجد القضيّة تعيش بين افتراضين: الأوّل أن يكون الخالق هو الله.. والثّاني أن يكون الإنسان، لأنّ الفرض الثّالث الّذي ينفي عمليّة الخلق ليثبت الأزليَّة، لا معنى له في ممكن الوجود، وهذا ما تصوّره لنا الآيات الكريمة التّالية في قوله تعالى:

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ* نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 57- 72].

ونلاحظ في هذه الآيات، أنّ الموضوع الّذي يدور عليه الحوار، ليس هو الإنسان وخلقْه، بل هو الظّواهر الّتي تعيش في حياته، ابتداءً من النّطفة الّتي هي المرحلة الأولى في عمليّة الخلق، إلى الموت والحياة، إلى الزّرع الّذي نزرعه، والماء الّذي نشربه، والنّار الّتي نوقدها.

من الّذي أوجد ذلك؛ هل هو الإنسان أم الله؟

وهنا تحاول الآيات الكريمة أن تركّز على عجز الإنسان عن حماية هذه الأشياء من الطّوارئ والحوادث، أو العمل على استمرارها، بينما تظلّ في النّظام الدقيق الّذي يحكمها، بعيداً عن إرادة الإنسان واختياره في بدايتها وحركتها ونهايتها، ما يجعلنا نخضع للفكرة الّتي يفرضها الإيمان، من أنّ الخالق لها هو خالق الإنسان؛ إنّه هو الّذي يملك القدرة المطلقة في ذلك كلّه.

ونودّ ـ في نهاية الحديث في هذا الموضوع ـ القول إنّ من الممكن أن تكون هذه الآيات خاضعةً للمنهج الّذي يريد إرجاع الإنسان إلى فطرته وإحساسه الدّاخليّ، باعتبار أنّ النّتيجة الّتي تحاول الوصول إليها، تخضع للوجدان الصّافي والإحساس الذّاتيّ المجرّد، من دون حاجة إلى التّحليلات الفلسفيّة الّتي أشرنا إليها في مقدّمة الحديث، لأنّ قصّة النفي والإثبات ـ في هذا الموضوع ـ وجدانيّة فطريّة، كما يلاحظها كلّ من رجع إلى فطرته ووجدانه... [كتاب: الحوار في القرآن، ص:111-114].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية