كتابات
05/03/2014

بشريّة الرّسول والنّظرة الواقعيّة إلى الإنسان

بشريّة الرّسول والنّظرة الواقعيّة إلى الإنسان

في نظرة الإسلام إلى الإنسان، نجد الواقعيّة تنطلق من تأكيده بشريّته، الّتي ترافقه في جميع مراحل حياته الّتي تتصاعد في قمّة السموّ حتى تبلغ درجة النبوّة، أو تنحدر إلى أقصى درجات الانحطاط حتّى تقترب من درجة الشّيطان. فهو، في كلتا الحالتين، البشر الّذي يجلس على القمّة منتصراً على عوامل الضّعف، أو الّذي يهوي في الهاوية مستسلماً لنوازع الشر.

ولذا جاءت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم، لتؤكّد بشريّة النبيّ أمام الّذين يفترضون فيه صفةً أخرى غير هذه الصّفة، أو يتطلّبون منه عملاً فوق قدرة البشر.

فقد حدّثنا القرآن عن صفة النبيّ ـ أيّ نبيّ كان ـ أنّه يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق، ويفرح ويحزن ويتألّم، وتتمثّل فيه مواطن قوّة الإنسان في حياته العامّة، كما تتمثّل فيه مواطن ضعفه الّتي تظلّ في إطار البشريّة، دون أن تنحرف به إلى ما يتنافى مع خطّ النبوّة أو قداستها.

وبذلك استطاع أن يعيش آلام البشر ومشاكلهم، فيحيا معهم، ويعالج قضاياهم من خلال ظروفهم الّتي يفهمها فهماً جيّداً من خلال الطبيعة البشريّة المتمثّلة فيه.

حتّى فكرة وجود الملاك مع النبيّ، والنبيّ ـ الملاك، الّتي كانت تراود أفكار النّاس الّذين اعترضوا على فكرة النبيّ ـ البشر، أو الّذي ينطلق بالرّسالة وحده دون أن يكون معه ملك منزل من السّماء، حتى هذه الفكرة المطروحة آنذاك، عالجها القرآن بشكل حاسم، يضع القضيّة في إطارها الطبيعيّ الّذي يقرّر ـ بوضوح ـ أنّ الله لو شاء أن ينزل ملكاً يرافق النبيّ، لوجب أن تكون له خصائص البشر، ليكون صالحاً لمركز النبوّة، أو لإعطاء القوّة العمليّة.

قال الله تعالى: {وقالُوا مالِ هذا الرّسولِ يأكُلُ الطَّعام ويَمشي في الأسواقِ لوْلاَ أُنزِلَ إليهِ ملَكٌ فيكونَ معَهُ نذيراً}[الفرقان: 7].

وقال تعالى: {وقالوا لَوْلا أُنْزِلَ عليهِ ملَكٌ ولو أنزَلْنا ملكاً لقُضِيَ الأمر ثم لا يُنظَرون* ولو جعلناهُ ملكاً لجعلناهُ رجُلاً ولَلبسْنا عليهِم ما يلْبسُونَ} [الأنعام: 8-9].

فقد رأينا أنّ "البشريّة" لا تنفصل عن كيان "الإنسان"، حتّى في إطار اتّصاله بالله عن طريق الوحي، وانفصاله عن النّاس بارتباطه المباشر بكلمات الله.. فلا يتحوّل في نظر النّاس إلى إله أو نصف إله، بل هو ـ بالرّغم من خصائصه الكبيرة ـ بشر يوحى إليه، ولا يعلم الغيب إلا بمقدار ما يلقيه إليه الله من وحيه، ولا يستطيع اجتراح المعجزات إلا بقدرة الله، في إطار محدود. ولذا، فهو لا يستجيب للتحدِّيات الّتي تقترح عليه ما شاءت من اقتراحاتٍ لا تنطلق من الحاجة إلى الإقناع، بل تنطلق من مواجهة الموقف بالتحدّي لمجرّد التحدّي.

{قُلْ إنَّما أنَا بشَرٌ مِثْلُكُم يوحَى إلَيَّ أنَّما إلهُكُمْ إلهٌ واحد}[الكهف: 110].

{وقالوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حتَّى تَفْجُرَ لنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً* أوْ تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نخِيلٍ وعِنَبٍ فتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تفجيراً* أوْ تُسقِطَ السماءَ كما زَعَمْتَ علَيْنا كِسَفاً أو تأتِيَ بِالله والملائِكَةِ قَبيلاً* أو يكونَ لَكَ بيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أو ترْقَى في السماءِ ولَنْ نُؤمِنَ لِرُقيِّكَ حتّى تُنزِّلَ علَيْنا كتاباً نقرؤه قُلْ سبْحان ربّي هل كُنتُ إلا بشراً رسولاً}[الإسراء: 90-93].

{ولو كنتُ أعلمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرتُ من الخيرِ وما مسّني السّوء}.[الأعراف: 188].

تلك هي حالة الإنسان البشر في جانب السموّ حتّى القمّة.

أمّا الإنسان الّذي يهوي إلى هاوية الخطيئة كنتيجة لاستسلامه لنقاط الضّعف، فإنّه لا يتحوّل إلى شيطان تمنعه شيطانيّته من العودة إلى رحاب إنسانيّته، بل يبقى إنساناً خاطئاً يمكن أن يعمل على تصحيح خطئه، لأنّ الخطيئة ليست ذاتيّة له، بل هي أمر طارئ يعرض له من خلال مواجهته حالات الضّعف بإرادة ضعيفة، ولذا فإنّه يظلّ في الطريق إلى الله، ليتعلّق به في حال التّوبة، ويرتفع ـ من خلال ذلك ـ من جديد إلى السّفح الصّاعد أبداً نحو القمّة، في عمليّة عودة إلى قمّة البشريّة المنطلقة أبداً إلى الله، وهذا هو سرّ عظمة النّظرة الإسلاميّة إلى الإنسان، فهي لا تجعله تحت رحمة الشّعور بخطيئة أصليّة مفروضة عليه، تبتعد به عن مستوى القمّة، ولا تدعه يرتفع ـ مهما سما ـ إلى المستوى الّذي ينفصل فيه عن تشريعه ليتّخذ لنفسه صفة الإله.

فالعقيدة الإسلاميّة تجعل الإنسان يتطلع إلى الله وهو في قمّة مجده، ليشعر بضآلة هذا الجسد أمام مجد الله، كما توجّهه إلى أن يتطلّع إلى الله وهو في أشدّ حالات الانحطاط، ليعرف كيف يمكن للخطيئة أن تذوب أمام غفران الله، لينطلق ـ من جديد ـ في السّير مع نفسه في درب القمّة إلى الله.

إنّها الواقعيّة الّتي تنظر إلى الإنسان على الطّبيعة كائناً يعيش بالرّجاء إلى حدّ ما لئلا يقع في قبضة الغرور، ويخلد إلى الخوف إلى حدّ ما لئلا يقع في قبضة اليأس.

*   من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة"


في نظرة الإسلام إلى الإنسان، نجد الواقعيّة تنطلق من تأكيده بشريّته، الّتي ترافقه في جميع مراحل حياته الّتي تتصاعد في قمّة السموّ حتى تبلغ درجة النبوّة، أو تنحدر إلى أقصى درجات الانحطاط حتّى تقترب من درجة الشّيطان. فهو، في كلتا الحالتين، البشر الّذي يجلس على القمّة منتصراً على عوامل الضّعف، أو الّذي يهوي في الهاوية مستسلماً لنوازع الشر.

ولذا جاءت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم، لتؤكّد بشريّة النبيّ أمام الّذين يفترضون فيه صفةً أخرى غير هذه الصّفة، أو يتطلّبون منه عملاً فوق قدرة البشر.

فقد حدّثنا القرآن عن صفة النبيّ ـ أيّ نبيّ كان ـ أنّه يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق، ويفرح ويحزن ويتألّم، وتتمثّل فيه مواطن قوّة الإنسان في حياته العامّة، كما تتمثّل فيه مواطن ضعفه الّتي تظلّ في إطار البشريّة، دون أن تنحرف به إلى ما يتنافى مع خطّ النبوّة أو قداستها.

وبذلك استطاع أن يعيش آلام البشر ومشاكلهم، فيحيا معهم، ويعالج قضاياهم من خلال ظروفهم الّتي يفهمها فهماً جيّداً من خلال الطبيعة البشريّة المتمثّلة فيه.

حتّى فكرة وجود الملاك مع النبيّ، والنبيّ ـ الملاك، الّتي كانت تراود أفكار النّاس الّذين اعترضوا على فكرة النبيّ ـ البشر، أو الّذي ينطلق بالرّسالة وحده دون أن يكون معه ملك منزل من السّماء، حتى هذه الفكرة المطروحة آنذاك، عالجها القرآن بشكل حاسم، يضع القضيّة في إطارها الطبيعيّ الّذي يقرّر ـ بوضوح ـ أنّ الله لو شاء أن ينزل ملكاً يرافق النبيّ، لوجب أن تكون له خصائص البشر، ليكون صالحاً لمركز النبوّة، أو لإعطاء القوّة العمليّة.

قال الله تعالى: {وقالُوا مالِ هذا الرّسولِ يأكُلُ الطَّعام ويَمشي في الأسواقِ لوْلاَ أُنزِلَ إليهِ ملَكٌ فيكونَ معَهُ نذيراً}[الفرقان: 7].

وقال تعالى: {وقالوا لَوْلا أُنْزِلَ عليهِ ملَكٌ ولو أنزَلْنا ملكاً لقُضِيَ الأمر ثم لا يُنظَرون* ولو جعلناهُ ملكاً لجعلناهُ رجُلاً ولَلبسْنا عليهِم ما يلْبسُونَ} [الأنعام: 8-9].

فقد رأينا أنّ "البشريّة" لا تنفصل عن كيان "الإنسان"، حتّى في إطار اتّصاله بالله عن طريق الوحي، وانفصاله عن النّاس بارتباطه المباشر بكلمات الله.. فلا يتحوّل في نظر النّاس إلى إله أو نصف إله، بل هو ـ بالرّغم من خصائصه الكبيرة ـ بشر يوحى إليه، ولا يعلم الغيب إلا بمقدار ما يلقيه إليه الله من وحيه، ولا يستطيع اجتراح المعجزات إلا بقدرة الله، في إطار محدود. ولذا، فهو لا يستجيب للتحدِّيات الّتي تقترح عليه ما شاءت من اقتراحاتٍ لا تنطلق من الحاجة إلى الإقناع، بل تنطلق من مواجهة الموقف بالتحدّي لمجرّد التحدّي.

{قُلْ إنَّما أنَا بشَرٌ مِثْلُكُم يوحَى إلَيَّ أنَّما إلهُكُمْ إلهٌ واحد}[الكهف: 110].

{وقالوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حتَّى تَفْجُرَ لنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً* أوْ تَكونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نخِيلٍ وعِنَبٍ فتُفَجِّرَ الأنْهارَ خِلالَها تفجيراً* أوْ تُسقِطَ السماءَ كما زَعَمْتَ علَيْنا كِسَفاً أو تأتِيَ بِالله والملائِكَةِ قَبيلاً* أو يكونَ لَكَ بيْتٌ مِن زُخْرُفٍ أو ترْقَى في السماءِ ولَنْ نُؤمِنَ لِرُقيِّكَ حتّى تُنزِّلَ علَيْنا كتاباً نقرؤه قُلْ سبْحان ربّي هل كُنتُ إلا بشراً رسولاً}[الإسراء: 90-93].

{ولو كنتُ أعلمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرتُ من الخيرِ وما مسّني السّوء}.[الأعراف: 188].

تلك هي حالة الإنسان البشر في جانب السموّ حتّى القمّة.

أمّا الإنسان الّذي يهوي إلى هاوية الخطيئة كنتيجة لاستسلامه لنقاط الضّعف، فإنّه لا يتحوّل إلى شيطان تمنعه شيطانيّته من العودة إلى رحاب إنسانيّته، بل يبقى إنساناً خاطئاً يمكن أن يعمل على تصحيح خطئه، لأنّ الخطيئة ليست ذاتيّة له، بل هي أمر طارئ يعرض له من خلال مواجهته حالات الضّعف بإرادة ضعيفة، ولذا فإنّه يظلّ في الطريق إلى الله، ليتعلّق به في حال التّوبة، ويرتفع ـ من خلال ذلك ـ من جديد إلى السّفح الصّاعد أبداً نحو القمّة، في عمليّة عودة إلى قمّة البشريّة المنطلقة أبداً إلى الله، وهذا هو سرّ عظمة النّظرة الإسلاميّة إلى الإنسان، فهي لا تجعله تحت رحمة الشّعور بخطيئة أصليّة مفروضة عليه، تبتعد به عن مستوى القمّة، ولا تدعه يرتفع ـ مهما سما ـ إلى المستوى الّذي ينفصل فيه عن تشريعه ليتّخذ لنفسه صفة الإله.

فالعقيدة الإسلاميّة تجعل الإنسان يتطلع إلى الله وهو في قمّة مجده، ليشعر بضآلة هذا الجسد أمام مجد الله، كما توجّهه إلى أن يتطلّع إلى الله وهو في أشدّ حالات الانحطاط، ليعرف كيف يمكن للخطيئة أن تذوب أمام غفران الله، لينطلق ـ من جديد ـ في السّير مع نفسه في درب القمّة إلى الله.

إنّها الواقعيّة الّتي تنظر إلى الإنسان على الطّبيعة كائناً يعيش بالرّجاء إلى حدّ ما لئلا يقع في قبضة الغرور، ويخلد إلى الخوف إلى حدّ ما لئلا يقع في قبضة اليأس.

*   من كتاب "مفاهيم إسلاميّة عامّة"

نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية