عندما ندخل معركة واسعة بحجم العالم، ننطلق وكأنّنا نريد أن نبعث الإسلام في وعي العالم من جديد، لذا فإنّ من الطبيعيّ أن نخوض عمليّة مواجهة لكلّ القوى المضادّة، سواء كانت مضادة في القاعدة الفكرية، أو في الخطوط التفصيليّة التي تتحرّك من هذه القاعدة، لأنّ مشكلة الإسلاميّين الحركيّين لا تنحصر في القوى الكافرة التي تقوم على أسس فكرية بعيدة عن القاعدة الإسلامية، بل إنها تتحرّك حتى في الدوائر الإسلاميّة الّتي تريد للإسلام أن يتجمّد في العبادة، أو تريد للإسلام أن يطيع أولي الأمر، فيتجمّد في دوائر أو بلاطات الملوك، ليتحوّل إلى موظّف في بلاطاتهم وقصورهم.
التصدّي الفكريّ للواقع المستجدّ
ومن هنا، فإنّ من الطبيعي مواجهة تيّارٍ يأخذ عنواناً فكريّاً يتحدّث عن الرّفق في الإسلام في مواجهة الظّلم، وعن السّلم في مواجهة الحرب، وعن العقلانيّة في مواجهة الانفعاليّة، وعن الاعتدال في مواجهة التطرّف، وعن الواقعية في مواجهة المثاليّة. ويتحدّث البعض أنّ أيّ عمليّة تغييريّة قد تفرض العنف في بعض المواقف، ليست من الإسلام في شيء، فليس لمسلم أن يقتل مسلماً حتى لو كان المسلم الآخر ظالماً، وليس للمسلم أن يثور على الحاكم حتى لو كان ظالماً، وما إلى ذلك. وهكذا، قد ينطلق الفقهاء المسلمون من هنا وهناك، وبعض الفقهاء من الشّيعة، ليتحدّثوا إلينا بأنّ مسألة إيجاد حكم إسلاميّ في زمن الغيبة، هو جزء من عدم إيماننا بالإمام المنتظر(عج)، وأنّ كلّ دولة تخرج قبل خروج القائم، هي دولة ضلال، على طريقة قول ذلك الشّاعر:
لقد وضعت أوزارها حرب هاشم وقالت قيام القائم الطّهر موعدي
أو يقوم بعض الفقهاء السنّة ليتحدّثوا عن طاعة أولياء الأمر وما إلى ذلك، ليبرّروا كثيراً من القوانين العلمانيّة. وهكذا ننطلق مع الدائرة العلمانيّة، لنتحدّث عن العقل العربي الّذي لا يزال يعيش التخلّف، وعن الحركة الإسلاميّة التي لا تملك مشروعاً، وعن الصّحوة الإسلاميّة التي كانت من نتاج الواقع الّذي عاشته الحركات القوميّة أو الماركسيّة، وليس حركة فعل من خلال العناصر المتوفّرة في الإسلام... وهكذا تجد في هذا المجال عملاً متحرّكاً لإثارة كلّ عناصر الضّعف في الدائرة الإسلاميّة، في الساحات الشعبيّة والعامّة، وعلى مستوى الحركات الإسلاميّة الّتي تحوّلت إلى قواعد إسلاميّة وما إلى ذلك. وهكذا نجد أنّ هناك نوعاً من أنواع تفريغ المفاهيم الإسلاميّة من قيمها الحيّة، ليُفرض عليها تصوّر معيّن.
ومن الطبيعيّ أنّ هذه المفردات تمثّل جزءاً من حملة شرسة تقودها المخابرات الدّوليّة ضدّ المسلمين. وعندما نتحدّث عن المخابرات الدوليّة، فإننا نعني المخابرات التي تملك ثقافة نفسيّة وفقهيّة واجتماعيّة، كما وتديرها أجهزة الاستكبار العالمي والإقليمي والدوائر الفكرية الموجودة في العالم الإسلامي.
إنّ على المفكّرين الإسلاميّين أن يلاحقوا هذا الواقع، ويتصدّوا لمناقشة كلّ المفاهيم المطروحة، وكلّ الأفكار المتحرّكة، من أجل أن يحفظوا للمسلمين وجههم المقدّس، كما هي نقاوة الإسلام وأصالته.
مشكلة الواقع الإسلاميّ
المشكلة أنّنا نجد أسماء تتضخّم، ولا نجد فكراً يكبر. إننا نجد حركات تتمدّد، ولكننا لا نجد حركية تضع الخطّة وتواجه التحدّي. ومن مشاكلنا، أنه يولد لنا في كلّ يوم كتّاب، ولكن لا يوجد لنا في كلّ جيل مفكِّر يعرف كيف يعبِّر.
إني أدعو إلى حالة طوارئ فكريّة ينطلق فيها العلماء المسلمون والمثقّفون من أجل أن يكونوا في مستوى الحركة الإسلاميّة الصّاعدة الّتي استطاعت أن تنشر وجودها لتصبح قوّة عالميّة يحسب لها الاستكبار حساباً، كما لو كانت في مستوى قوّة الاتحاد السوفيتي السّابق، بحيث بات حلف الأطلسي يستعدّ لحرب ما يسميه بالأصوليّة الحركيّة الإسلاميّة، تماماً كما كان يستعدّ لحرب الاتحاد السوفيتي السابق.
إنّ هناك خشية من أن تولد لدينا حركة إسلاميّة كبيرة لا يرفع المفكّرون من مستواها، ولا يستطيعون أن يعطوها حاجاتها التي تتطلّبها من الفكر والفقه، لأنّنا لا نزال ندرك أنّ فقهاء الإسلام يستخدمون كلّ جهد وكلّ طاقة في كتاب الطهارة وفي كتاب الصّلاة، وفي كلّ كتب العبادات، أكثر ممّا يستخدمون طاقاتهم في ما يستجدّ في العالم من أنظمة جديدة في الاقتصاد وفي الحرب والسّلم وما إلى ذلك، ليكون لدينا فقه ينفتح على حاجات العصر من خلال انفتاحه على مشاكل العصر...
الإسلاميّون بين الطّائفة والدّين
إنّ هذه الاتجاهات قد وجدت انعكاسات سلبيّة في بعض الحركات الإسلاميّة، عندما حصرت دورها في أعمال عباديّة وخيريّة واجتماعيّة.
إنَّنا عندما نواجه مثل هذه الاتجاهات في العمل الإسلامي، فعلينا أن نعطي أنفسنا فرصة فهم المنطلقات لمثل هؤلاء الأشخاص الّذين يتبنّون هذا الاتجاه. ربما يفكّر بعض الناس في أنّ الإسلام دين ودولة، وأنَّه ليس مجرّد حالة مختنقة بالتخصّص في العمل الإسلامي، بمعنى أنهم لا يرفضون مسألة الحكم الإسلامي، ولكنّهم يرفضون التحرّك في الجانب العملي في هذا الاتجاه. فكما يتخصّص إنسان بالفقه، ويتخصّص إنسان آخر بالفلسفة الإسلاميّة، فهم يتخصّصون بالعمل الإسلامي العبادي والخيري والاجتماعي والأخلاقي وما إلى ذلك، على أساس أن يتولّى العمل الإسلامي السياسي، الّذين يأخذون بأسباب السياسة في تطلّعاتهم الإسلاميّة، ليستفيدوا من المناخ الإسلامي الروحي والأخلاقي والاجتماعي الّذي يهيّئه هؤلاء لهم، باعتبار أن أية أرضية إسلامية تنفتح في النهاية على الحركة الإسلامية الشّاملة.
وربما يقع بعض هؤلاء الناس في حالة اليأس من عودة الإسلام إلى الحكم، من خلال ما يلاحظونه من قوى الكفر التي استقطبت كلّ مواقع العالم، بحيث إنّ المسلمين لا يستطيعون أن يحصلوا على أيّة قوّة إلا من خلال الكفر. ولذلك، يحدِّد الكفر العالمي والاستكبار العالمي للمسلمين نوعيّة سلاحهم وكميّته، ويفرضون عليهم شروط استعمال السّلاح في هذا الموقع أو ذاك، ويضغطون عليهم عندما تزيد الكميّة عن الحاجة التي يراها الاستكبار العالمي مناسبة، أو عندما يشعر بأنّ الكميّة أو النوعيّة الموجودة عندهم، تشكِّل خطراً على مصالحه أو مصالح حلفائه، كما نلاحظ ذلك في ما حدث بالنسبة إلى العراق، أو ما يحدث بالنسبة إلى أي بلد آخر.
ربما يفكِّر هؤلاء الناس أنّ قضيّة الحكم الإسلامي هي قضيّة ميؤوس منها. ولهذا، فإنّ التّجربة التي يمكن أن تتحرّك في هذا الاتجاه، هي تجربة لا يقدّر لها النّجاح. ولذلك، فإنّ علينا أن نحتفظ بالبقيّة الباقية من الإسلام، وهو الإسلام العبادي والأخلاقي والاجتماعي، الّذي يحفظ امتداد الإسلام في حركة الواقع الشعبي على مستوى الحالة الفرديّة أو الاجتماعيّة، إذا لم نستطع أن نحتفظ بالإسلام في الحالة السلطويّة وما إلى ذلك.
وربما يفكِّر بعض النّاس في أنّ الإسلام ليس نظام حكم، وأنه دين دعوة تركّز على توحيد الله، وعلى عبادته، وعلى الإيمان بنبيّه، واتّباع رسوله، في ما شرّعه من تشريعات فرديّة أو اجتماعيّة، وفي ما أثاره من أخلاقيّات وأساليب ومناهج، مما يمكن أن يعيش في الحياة، بعيداً عن مسألة الحكم.
إنَّ هذه الاتجاهات الّتي تختلف في طبيعتها، ليست هي الاتجاهات الّتي يمكن للإنسان المسلم أن يواجه طموحاته في الإسلام من خلالها. لا يمكن أن يكون المسلم محايداً أمام ما يقرأه من القرآن، فعندما يتحدّث الله عن المستكبرين والمستضعفين، هل يمكن أن يكون الإنسان حياديّاً بينهما؟ وعندما يتحدّث الله عن العادلين والظّالمين، هل يمكن أن يكون حياديّاً بينهما؟ لا يمكن ذلك، ولا بدّ من أن تثير هذه الأمور التّفكير: من هم المستكبرون في واقعنا؟ ومن هم المستضعفون في واقعنا؟ ومن هم العادلون؟ ومن هم الظّالمون؟ إلى آخر ما هناك.
إنَّ الإسلام يمثِّل كلّاً مترابطاً، فلا يمكن أن تعزل جانباً عن جانب، لتحبسه في جانب وتغلق عليه الجانب الآخر. وهكذا، عندما يدرس هؤلاء النّاس فقه الإسلام، وفقه الإسلام ليس فقه العبادات، ولكنّه فقه المعاملات، وفقه السياسات، وفقه العلاقات الدبلوماسيّة، وما إلى ذلك، كيف يمكن أن توحي إلى الإنسان بالجانب الفردي للإسلام، وأنت تحدِّثه عن كلّ قوانين الإسلام التي تتّصل بحياته التجاريّة وحياته السياسيّة وما إلى ذلك؛ ممّا يقرِّره فقهاء الإسلام، انطلاقاً من المصادر الإسلاميّة الصَّحيحة؟ كيف أستطيع أن أوفِّق بين الإسلام في التزاماته القانونيّة الّتي تلزمني، والواقع السلطويّ الّذي أعيشه؟
أما حديث اليأس، فإنني أعتقد أنّ مسألة اليأس والأمل هما من المسائل النسبيّة في كلّ الحياة، وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى أنّ المؤمن لا ييأس: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [1]، وحدّثنا الله عن الملوك الذين سقطوا، والملوك الذين استبدلوا، وحدّثنا الله في ساحة الصّراع: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [2]، وهكذا {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [3].
إننا عندما ننطلق إلى واقع التاريخ، فإننا نجد أن هناك أمماً كانت في دائرة الذلّ، وانتقلت إلى دائرة العزّة الكبرى. إن بريطانيا كانت سيِّدة البحار في العالم: أين بريطانيا الآن؟ وأميركا كانت مستعمرة لبريطانيا: فأين أميركا الآن؟
لذلك، فإنَّ {تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، ليست مجرّد نظريَّة روحيَّة إيمانيَّة يحلّق بها الإنسان في عالم الأحلام والمثاليّات. لا، ولكنها مسألة الواقع. وقضيّة الواقع هي أن تدرس مواقع قوّتك، وأن تحركها، وأن تنمي هذه المواقع لتزيدها، وأن تدرس قوّة الآخرين، وتدرس نقاط ضعفهم، فتحارب الآخرين في نقاط ضعفهم بنقاط قوّتك، وتحاول أن تدرس المتغيّرات والظّروف الموضوعيّة التي تغيّر الأمور من حال إلى حال. وإذا كنت قد تألمت في موقع، فإن الآخرين يتألمون في موقع آخر: {إن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} [4]، إن مسألة اليأس ليست مسألة إسلاميّة، وحتى مسألة الخوف من الآخر في الجهاد ليست إسلاميّة.
* كتاب: الإسلاميون والتحدّيات المعاصرة
[1] [القصص: 5].
[2] [آل عمران: 139، 140].
[3] [يوسف: 87].
[4] [النساء: 104].