كتابات
27/10/2014

الكفر في العقيدة الإسلاميَّة

الكفر في العقيدة الإسلاميَّة

الكفر في اللّغة: ستر الشّيء. ووصف اللّيل بالكافر لستره الأشخاص. الكافر: الزرّاع، لستره البذر في الأرض.

وأعظم الكفر جحود الوحدانيّة أو الشريعة أو النبوّة أو ثلاثتها، وذلك من جهة ستر الحقيقة في العقيدة. وقد يُقال: كفر، لمن أخلّ بالشريعة وترك ما لزمه من شكر الله عليه.

التزام العقيدة عمق الإيمان

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}[1].

هذا هو النّداء الّذي وجّهه الله للمؤمنين الذين يدخلون الإيمان من خلال الأجواء العامّة للدعوة، بعيداً عن التفاصيل، بأنّ عليهم أن يتعمّقوا في معناه، وفي جميع مجالاته، لأنّه يمثّل الخطّ الممتدّ في تاريخ الرسالات، كما يمثّل الآفاق الرحبة الواسعة التي تلتقي بالله ورسوله ورسله وملائكته، لأنّ الدعوة تمثّل الحقيقة التوحيدية لله في ذاتيّاتها العقيديّة، وفي امتدادها إلى رسالات الله في عناصرها الغيبيّة والتشريعيّة والمفاهيم الرسالية، وتحمل في روحيّتها مسؤوليّة الدنيا والآخرة في انسجام وترابط وامتداد، فلكي يكون الإنسان مؤمناً، كما يريده الله، لا بدّ له من الإيمان بالله ورسوله والكتب السماوية التي أنزلها على محمّد(ص) وعلى سائر الأنبياء، ولا بدّ له من الإيمان بالحقائق التي تتضمنّها هذه الكتب، ممّا يدخل في عالم الغيب، من الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، فذلك هو الهدى الذي لا ضلال معه.

أمّا الذي يكفر بذلك كلّه أو بعضه، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً، لأنّه لا يرتكز في مسيرته العقيدية على قاعدة الحقيقة التي لا بدّ له من الوقوف عليها.

وفي هذا السياق من الحديث عن الكافرين، يحدّثنا الله عن بعض النماذج التي تتلاعب بقضيّة الكفر والإيمان في حياتها، من خلال مواقفها، لأنّهم لم ينطلقوا من منطلق الجدّية في مسألة الالتزام بالعقيدة، أو بالخطّ الذي تسير عليه، بل انطلقوا في اعتبارها حالةً طارئة من الحالات التي يتلاعب بها الناس على أساس مصالحهم. وهؤلاء هم الذين يعلنون الإيمان ثمّ ينحرفون إلى خطّ الكفر، ليقفوا فيه مع الكافرين، فإذا وجدوا الساحة غير ملائمة لهم فيما يستهدفونه من مصالح وأطماع، عادوا إلى خطّ الإيمان، وأظهروا الندم والتراجع، فإذا واجهتهم صعوبة الالتزام بالحقّ، وناداهم رفاق الكفر لكي يرجعوا إليهم، رجعوا إلى الكفر وأمعنوا فيه، وازدادوا كفراً، وهؤلاء لا يتعلّقون بأيّ سبب من أسباب المغفرة، لامتدادهم بالكفر، {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}، لأنّهم ابتعدوا عن أجواء الهداية باختيارهم، فكيف يهديهم الله سواء السبيل؟

إنّ مسألة العقيدة هي مسألة عمق الإيمان في العقل والقلب والحركة، بحيث يعيش الإنسان الثبات عليه، فلا تهزّه الشبهات، ولا تثيره الطوارئ، ولا تسقطه الأطماع، وهي مسألة الصلابة في الالتزام به، ما يجعل الإنسان في موقع القوّة العقليّة والروحيّة من دون أيّ ضعفٍ طارئ، لأنّه ارتكز في الأساس على وعي الدليل والحجّة والبرهان، وهذا هو الذي يؤكّده الإسلام في عقلانيّة الفكر العقيدي، على هدى ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[2].

حكم منكر الضّروري!

وفي مسألة الحكم بالكفر على الإنسان، هناك بعض الحالات التي لا تتّصل بالجانب السلبي في الاعتقاد الإسلامي بشكل مباشر، وهي حالة إنكار الضّروري، وهو ما تأكّد ثبوته في الشّريعة بشكل بديهيّ قاطع، لأنّه ممّا ثبت في الدّين ضرورةً، كإنكار الصّلاة أو الصّوم أو الحجّ، أو حرمة الزّنا والقمار وقتل النفس المحترمة وشرب الخمر، وغيرها مما هو من مسلّمات التّشريع الإسلامي، من دون شكّ أو ريب، فقد حكم الفقهاء بكفر منكر الضّروري. ولكن قد يُتأمّل في ذلك، بأنّه لا يُمثِّل أيّة علاقة مباشرة بالعقيدة، فلا يعتبر إنكاره موقفاً سلبيّاً جاحداً بأصول العقيدة، بل هو إنكار لحكم شرعيّ فرعيّ خاضع للالتزامات الشرعيّة، لا للالتزامات الإيمانيّة.

ولكنّ دراسة هذه المسألة في العمق، في امتدادها الفكري، يجعلها مرتبطة بأصول الإيمان، لأنّ بداهة ثبوت هذه الأمور في التشريع، تُثبت أنَّ الله قد بلّغها في القرآن، وأنّ النبيّ قد بيّنها في السنّة بشكل قطعيّ، ولذلك، فإنّ نفيها يستلزم تكذيب الله ورسوله فيما بلّغاه وشرّعاه، فتمتدّ المسألة إلى عدم التّصديق بالكتاب والسنّة، وهذا ما يؤدّي إلى تكذيب الله والرّسول، وهو أمر ينافي الإيمان العميق بهما، فيتحوّل إلى حالة سلبيّة في العقيدة، ما يوجب الكفر بالله والرّسول ولو بشكل جزئيّ، وهذا ما يتنافى مع التّأكيد العقيديّ للإيمان المطلق بكلّ ما ثبت عن الله والرّسول.

وفي ضوء ذلك، فإنّ الحكم بكفر منكِر الضّروريّ مشروط بكونه ملازماً لتكذيب الله والرّسول، لا أن يكون منطلقاً من شبهة فكريّة، بحيث يلتقي مع الإيمان بصدق الله والرّسول، لأنّه قد يفهم المسألة بما لا ينافي الثابت التشريعي، لتأويله بطريقة خاصّة، أو تفسيره بشكل معيّن، كما في مسألة الاعتقاد بالتجسيم أو برؤية الله بالبصر، استناداً إلى بعض الظواهر القرآنيّة أو بعض أحاديث السنّة، أو في مسألة شبهة الخوارج في قضيّة التّكفير، أو في بعض ما قد يعتقده بعض المتصوّفة والعارفين من سقوط التّكليف بالعبادة إذا وصل الإنسان إلى درجة اليقين، على هدى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[3]، حسب تفسيرهم له بذلك...

وعلى هذا الأساس، فإنّ بداهة ثبوت هذه الأمور في التّشريع الإسلامي، لا يجعل المنكرين لها في نطاق الحكم بالكفر، لأنّهم انطلقوا من شبهة، ولم ينطلقوا من رفض التّصديق بالكتاب والسنّة، بل قد يخيّل إليهم أنّهم يلتزمون ذلك بالاستناد إليهما، لا إنكاراً لهما.

ولذلك، فإنّنا لا نملك الحكم بكفر المجبّرة والمجسّمة والمشبّهة والخوارج وأمثالهم، ممّن انطلقوا من شبهة في إنكارهم لما ثبت من الدّين ضرورة عندنا أو عند غالبيّة المسلمين.

مخاطر التكفير

ولا بدّ من الإشارة في هذا المجال إلى ما قد يتحدّث به بعض العلماء في المذهب الوهّابي، أو في بعض المذاهب الكلاميّة الأخرى، من الحكم بتكفير بعض المسلمين الذين ينطلقون في التزاماتهم العمليّة بما جاءت به بعض النصوص في الكتاب والسنّة، فيرون المسلمين الذين لا يلتزمون بمضمون اجتهادهم، أو لا يرون حجّية الأحاديث التي يعتمدونها، خارجين عن الإسلام، أو ملتزمين بخطّ الشّرك، كما في مسألة الإيمان بشفاعة الأنبياء والأولياء والتوسّل بهم وزيارة قبورهم، انطلاقاً من شبهاتهم في قضيّة الإيمان والكفر. وربّما يصل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحلال دمائهم على أساس حليّة سفك دم الكافر والمشرك.

ولعلّ مشكلة بعض هؤلاء، أنّهم لا يملكون العقل المنفتح، والثّقافة العميقة الواسعة في أصول العقيدة والتّشريع، بما يقودهم إلى الحوار والجدال بالّتي هي أحسن في هذه الأمور الملتبسة، ولا سيّما في فتاوى قتل المسلمين الذين يلتزمون بما يرفضه هؤلاء، ويعتبرونه شركاً وكفراً.

وتلك هي مشكلة الظّاهرة التكفيريّة في هذا العصر، والّتي تحوّلت إلى خطر على الواقع الإسلاميّ كلّه، في ما يقوم به هؤلاء من المجازر الوحشيّة التي تطاول الرجال والنساء والأطفال من دون أيّ ذنب، وهذا ما أدّى إلى تشويه صورة الإسلام لدى الآخرين، واعتباره دين عنف وإرهاب، انطلاقاً من الأوضاع السلبيّة التي أصبحت في مستوى الظاهرة في أكثر من بلدٍ إسلاميّ.

وربّما امتدّ هذا الاتجاه السلبي في تكفير من ليس كافراً، وتضليل من ليس ضالاً، إلى بعض المواقع الحوزويّة في المذهب الإمامي الشيعي الإثني عشري، في اعتبار بعض الأمور التفصيلية في العقيدة أو في التاريخ، من ضروريّات الدين، أو من ضروريّات المذهب، في المواقع التي وقعت محلاًّ للخلاف لدى القدماء، أو الّتي ترتكز على بعض الخطوط النظريّة الّتي لا تصل إلى مستوى الضّرورة أو البداهة، أو التي تنطلق من قضايا تاريخيّة تأخذ قداستها الشعوريّة من خلال العاطفة المرتبطة بأشخاصها.

ومن المؤسف أنّ مثل هذه الأحكام بالكفر أو الضّلال تنطلق من مواقع مرجعيّة دينيّة، لا تقبل الجدل أو النّقاش في أحكامها الّتي تمنحها القداسة من دون أيّ أساس.

إنّ المشكلة لدى الاتجاه التّكفيري، أنّ كثيراً من أصحابه ينطلقون من حالة جهل مغلق لا ينفتح على الآخر من خلال عناصر العلم، وذلك بما أراده الله للمسلمين من الجدال بالّتي هي أحسن، حتى بالنّسبة إلى غير المسلمين، ومن ردّ الخلافات والمنازعات الفكريّة أو الفقهيّة إلى الله والرّسول، بالرجوع إلى القواعد العلميّة الموضوعيّة المنفتحة على الحقيقة في الأخذ بحقائق الكتاب والسنّة، بالعقل المفتوح والقلب المنفتح.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  (النساء: 136، 137).

[2]  (الحجرات: 15).

[3]  (الحجر: 99).


الكفر في اللّغة: ستر الشّيء. ووصف اللّيل بالكافر لستره الأشخاص. الكافر: الزرّاع، لستره البذر في الأرض.

وأعظم الكفر جحود الوحدانيّة أو الشريعة أو النبوّة أو ثلاثتها، وذلك من جهة ستر الحقيقة في العقيدة. وقد يُقال: كفر، لمن أخلّ بالشريعة وترك ما لزمه من شكر الله عليه.

التزام العقيدة عمق الإيمان

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}[1].

هذا هو النّداء الّذي وجّهه الله للمؤمنين الذين يدخلون الإيمان من خلال الأجواء العامّة للدعوة، بعيداً عن التفاصيل، بأنّ عليهم أن يتعمّقوا في معناه، وفي جميع مجالاته، لأنّه يمثّل الخطّ الممتدّ في تاريخ الرسالات، كما يمثّل الآفاق الرحبة الواسعة التي تلتقي بالله ورسوله ورسله وملائكته، لأنّ الدعوة تمثّل الحقيقة التوحيدية لله في ذاتيّاتها العقيديّة، وفي امتدادها إلى رسالات الله في عناصرها الغيبيّة والتشريعيّة والمفاهيم الرسالية، وتحمل في روحيّتها مسؤوليّة الدنيا والآخرة في انسجام وترابط وامتداد، فلكي يكون الإنسان مؤمناً، كما يريده الله، لا بدّ له من الإيمان بالله ورسوله والكتب السماوية التي أنزلها على محمّد(ص) وعلى سائر الأنبياء، ولا بدّ له من الإيمان بالحقائق التي تتضمنّها هذه الكتب، ممّا يدخل في عالم الغيب، من الإيمان بالملائكة واليوم الآخر، فذلك هو الهدى الذي لا ضلال معه.

أمّا الذي يكفر بذلك كلّه أو بعضه، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً، لأنّه لا يرتكز في مسيرته العقيدية على قاعدة الحقيقة التي لا بدّ له من الوقوف عليها.

وفي هذا السياق من الحديث عن الكافرين، يحدّثنا الله عن بعض النماذج التي تتلاعب بقضيّة الكفر والإيمان في حياتها، من خلال مواقفها، لأنّهم لم ينطلقوا من منطلق الجدّية في مسألة الالتزام بالعقيدة، أو بالخطّ الذي تسير عليه، بل انطلقوا في اعتبارها حالةً طارئة من الحالات التي يتلاعب بها الناس على أساس مصالحهم. وهؤلاء هم الذين يعلنون الإيمان ثمّ ينحرفون إلى خطّ الكفر، ليقفوا فيه مع الكافرين، فإذا وجدوا الساحة غير ملائمة لهم فيما يستهدفونه من مصالح وأطماع، عادوا إلى خطّ الإيمان، وأظهروا الندم والتراجع، فإذا واجهتهم صعوبة الالتزام بالحقّ، وناداهم رفاق الكفر لكي يرجعوا إليهم، رجعوا إلى الكفر وأمعنوا فيه، وازدادوا كفراً، وهؤلاء لا يتعلّقون بأيّ سبب من أسباب المغفرة، لامتدادهم بالكفر، {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}، لأنّهم ابتعدوا عن أجواء الهداية باختيارهم، فكيف يهديهم الله سواء السبيل؟

إنّ مسألة العقيدة هي مسألة عمق الإيمان في العقل والقلب والحركة، بحيث يعيش الإنسان الثبات عليه، فلا تهزّه الشبهات، ولا تثيره الطوارئ، ولا تسقطه الأطماع، وهي مسألة الصلابة في الالتزام به، ما يجعل الإنسان في موقع القوّة العقليّة والروحيّة من دون أيّ ضعفٍ طارئ، لأنّه ارتكز في الأساس على وعي الدليل والحجّة والبرهان، وهذا هو الذي يؤكّده الإسلام في عقلانيّة الفكر العقيدي، على هدى ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}[2].

حكم منكر الضّروري!

وفي مسألة الحكم بالكفر على الإنسان، هناك بعض الحالات التي لا تتّصل بالجانب السلبي في الاعتقاد الإسلامي بشكل مباشر، وهي حالة إنكار الضّروري، وهو ما تأكّد ثبوته في الشّريعة بشكل بديهيّ قاطع، لأنّه ممّا ثبت في الدّين ضرورةً، كإنكار الصّلاة أو الصّوم أو الحجّ، أو حرمة الزّنا والقمار وقتل النفس المحترمة وشرب الخمر، وغيرها مما هو من مسلّمات التّشريع الإسلامي، من دون شكّ أو ريب، فقد حكم الفقهاء بكفر منكر الضّروري. ولكن قد يُتأمّل في ذلك، بأنّه لا يُمثِّل أيّة علاقة مباشرة بالعقيدة، فلا يعتبر إنكاره موقفاً سلبيّاً جاحداً بأصول العقيدة، بل هو إنكار لحكم شرعيّ فرعيّ خاضع للالتزامات الشرعيّة، لا للالتزامات الإيمانيّة.

ولكنّ دراسة هذه المسألة في العمق، في امتدادها الفكري، يجعلها مرتبطة بأصول الإيمان، لأنّ بداهة ثبوت هذه الأمور في التشريع، تُثبت أنَّ الله قد بلّغها في القرآن، وأنّ النبيّ قد بيّنها في السنّة بشكل قطعيّ، ولذلك، فإنّ نفيها يستلزم تكذيب الله ورسوله فيما بلّغاه وشرّعاه، فتمتدّ المسألة إلى عدم التّصديق بالكتاب والسنّة، وهذا ما يؤدّي إلى تكذيب الله والرّسول، وهو أمر ينافي الإيمان العميق بهما، فيتحوّل إلى حالة سلبيّة في العقيدة، ما يوجب الكفر بالله والرّسول ولو بشكل جزئيّ، وهذا ما يتنافى مع التّأكيد العقيديّ للإيمان المطلق بكلّ ما ثبت عن الله والرّسول.

وفي ضوء ذلك، فإنّ الحكم بكفر منكِر الضّروريّ مشروط بكونه ملازماً لتكذيب الله والرّسول، لا أن يكون منطلقاً من شبهة فكريّة، بحيث يلتقي مع الإيمان بصدق الله والرّسول، لأنّه قد يفهم المسألة بما لا ينافي الثابت التشريعي، لتأويله بطريقة خاصّة، أو تفسيره بشكل معيّن، كما في مسألة الاعتقاد بالتجسيم أو برؤية الله بالبصر، استناداً إلى بعض الظواهر القرآنيّة أو بعض أحاديث السنّة، أو في مسألة شبهة الخوارج في قضيّة التّكفير، أو في بعض ما قد يعتقده بعض المتصوّفة والعارفين من سقوط التّكليف بالعبادة إذا وصل الإنسان إلى درجة اليقين، على هدى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[3]، حسب تفسيرهم له بذلك...

وعلى هذا الأساس، فإنّ بداهة ثبوت هذه الأمور في التّشريع الإسلامي، لا يجعل المنكرين لها في نطاق الحكم بالكفر، لأنّهم انطلقوا من شبهة، ولم ينطلقوا من رفض التّصديق بالكتاب والسنّة، بل قد يخيّل إليهم أنّهم يلتزمون ذلك بالاستناد إليهما، لا إنكاراً لهما.

ولذلك، فإنّنا لا نملك الحكم بكفر المجبّرة والمجسّمة والمشبّهة والخوارج وأمثالهم، ممّن انطلقوا من شبهة في إنكارهم لما ثبت من الدّين ضرورة عندنا أو عند غالبيّة المسلمين.

مخاطر التكفير

ولا بدّ من الإشارة في هذا المجال إلى ما قد يتحدّث به بعض العلماء في المذهب الوهّابي، أو في بعض المذاهب الكلاميّة الأخرى، من الحكم بتكفير بعض المسلمين الذين ينطلقون في التزاماتهم العمليّة بما جاءت به بعض النصوص في الكتاب والسنّة، فيرون المسلمين الذين لا يلتزمون بمضمون اجتهادهم، أو لا يرون حجّية الأحاديث التي يعتمدونها، خارجين عن الإسلام، أو ملتزمين بخطّ الشّرك، كما في مسألة الإيمان بشفاعة الأنبياء والأولياء والتوسّل بهم وزيارة قبورهم، انطلاقاً من شبهاتهم في قضيّة الإيمان والكفر. وربّما يصل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحلال دمائهم على أساس حليّة سفك دم الكافر والمشرك.

ولعلّ مشكلة بعض هؤلاء، أنّهم لا يملكون العقل المنفتح، والثّقافة العميقة الواسعة في أصول العقيدة والتّشريع، بما يقودهم إلى الحوار والجدال بالّتي هي أحسن في هذه الأمور الملتبسة، ولا سيّما في فتاوى قتل المسلمين الذين يلتزمون بما يرفضه هؤلاء، ويعتبرونه شركاً وكفراً.

وتلك هي مشكلة الظّاهرة التكفيريّة في هذا العصر، والّتي تحوّلت إلى خطر على الواقع الإسلاميّ كلّه، في ما يقوم به هؤلاء من المجازر الوحشيّة التي تطاول الرجال والنساء والأطفال من دون أيّ ذنب، وهذا ما أدّى إلى تشويه صورة الإسلام لدى الآخرين، واعتباره دين عنف وإرهاب، انطلاقاً من الأوضاع السلبيّة التي أصبحت في مستوى الظاهرة في أكثر من بلدٍ إسلاميّ.

وربّما امتدّ هذا الاتجاه السلبي في تكفير من ليس كافراً، وتضليل من ليس ضالاً، إلى بعض المواقع الحوزويّة في المذهب الإمامي الشيعي الإثني عشري، في اعتبار بعض الأمور التفصيلية في العقيدة أو في التاريخ، من ضروريّات الدين، أو من ضروريّات المذهب، في المواقع التي وقعت محلاًّ للخلاف لدى القدماء، أو الّتي ترتكز على بعض الخطوط النظريّة الّتي لا تصل إلى مستوى الضّرورة أو البداهة، أو التي تنطلق من قضايا تاريخيّة تأخذ قداستها الشعوريّة من خلال العاطفة المرتبطة بأشخاصها.

ومن المؤسف أنّ مثل هذه الأحكام بالكفر أو الضّلال تنطلق من مواقع مرجعيّة دينيّة، لا تقبل الجدل أو النّقاش في أحكامها الّتي تمنحها القداسة من دون أيّ أساس.

إنّ المشكلة لدى الاتجاه التّكفيري، أنّ كثيراً من أصحابه ينطلقون من حالة جهل مغلق لا ينفتح على الآخر من خلال عناصر العلم، وذلك بما أراده الله للمسلمين من الجدال بالّتي هي أحسن، حتى بالنّسبة إلى غير المسلمين، ومن ردّ الخلافات والمنازعات الفكريّة أو الفقهيّة إلى الله والرّسول، بالرجوع إلى القواعد العلميّة الموضوعيّة المنفتحة على الحقيقة في الأخذ بحقائق الكتاب والسنّة، بالعقل المفتوح والقلب المنفتح.

*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  (النساء: 136، 137).

[2]  (الحجرات: 15).

[3]  (الحجر: 99).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية