قد لا نستطيع استعراض جميع تجارب الإعلام الكافر والاستكباريّ، الّتي تهدف إلى إضعاف الإسلام في نفوس المسلمين وغيرهم من الشّعوب، ليتمكَّنوا من السَّيطرة على الواقع الإسلاميِّ في جميع المجالات العامَّة، وهذا لا يتأتَّى إلاَّ من خلال إلغاء الشَّخصيَّة الإسلاميَّة، ومنع الإسلام من العودة إلى الحياة من موقع الحكم والشَّريعة والسِّياسة العامَّة للحياة، ولكنَّنا نريد أن نثير بعض المفردات الإعلاميَّة الّتي لا تزال تتحرَّك في السَّاحة السّياسيَّة العالميَّة في مواجهة الحركة الإسلاميَّة، حيث لا يزال الصِّراع السّياسيّ والعسكريّ دائراً في نطاقها.
الإعلام والثَّورة الإسلاميّة
فقد بدأت الحرب الإعلاميَّة ضدّ الثَّورة الإسلاميّة الّتي انطلقت في إيران، لتحرّك في كلّ مكانٍ من العالـم الإسلاميّ الجمود الذّهنيّ الّذي انعكس على طبيعة الواقع، وحوّله إلى جمود سياسيّ يختنق في داخله الإنسان المسلم، الأمر الَّذي قد يضطرّه إمَّا إلى الانسحاب من ساحة الصِّراع في موقعٍ ما، أو الدّخول فيه باسم التيّارات الإقليميّة والقوميّة والماركسيّة في موقعٍ بعيدٍ عن الإسلام.
وكان الإعلام الاستكباريّ يتحدَّث عن هؤلاء الثَّائرين على الحكم الطّاغي في إيران، فوصفهم بـ "الرجعيَّة السَّوداء"، متحدِّثاً عن التخلّف الَّذي ينتظر إيران على يد هؤلاء الَّذين يريدون العودة بالمرأة إلى عهود الحريم، وإرجاع الرَّجل إلى عهود القرون الوسطى، وبالتَّالي تحويل إيران إلى دولةٍ بدائيَّةٍ دينيَّةٍ غارقة في أوحال الجهل والظّلام، وإخراجها من أجواء الحضارة والتقدّم والتّطوّر العلميّ والاجتماعيّ!
ونجحت الثَّورة في إيران، وسقط الطَّاغية، وانطلقت الثَّورة في أوَّل تجربة لها لإقامة دولة إسلاميَّة مرتكزة على قواعد الفكر الإسلاميّ الشَّامل في خطِّ الشَّريعة الإسلاميَّة، وشنَّ الإعلام هجوماً حادّاً عليها، وبدأ يتحدّث عن الأصوليّة الإسلاميّة الّتي تريد أن تصادر كلّ ما توصَّلت إليه الإنسانيّة من حضارة وتقدّم وإبداع في مجال حقوق الإنسان، وإنسانيّة التّشريع، وفي ديمقراطيَّة الحكم، وما تحقَّق من انفتاحٍ عقلانيٍّ على كلّ مواقع الفكر من منطلق الحريّة الإنسانيّة، ليعود الإنسان، ومن خلال هذه الأصوليَّة، إلى ما كانت عليه الأوضاع في العهد النبويّ الأوّل، حيث بدائيَّة الفكر، وظلاميَّة العقل، وقسوة التَّشريع، وعدوانيَّة الدَّعوة، وخنق الحريَّة، واعتبار السَّيف وسيلةً وحيدة للإيمان، وسيطرة الجهل على الإنسان وعلى الحياة، باعتبار أنَّ الدّين يرفض العلم، ويعادي التقدّم، ويحارب الحريّة والانفتاح!
وهكذا، تحرّكت الثَّورة، وانطلقت بانفتاحٍ على العالـم الإسلاميّ، بحركةٍ إيحائيَّةٍ فكريَّةٍ ثوريَّةٍ دخلت إلى صميم ذهنيَّة الأمَّة الإسلاميّة، وحرّكت الوعي لدى الفرد المسلم، ما جعلها تتّخذ لنفسها مواقع ثوريّة في أكثر من بلدٍ عربيٍّ أو إسلاميّ، فيما صنعته من حركة، أو فيما أثارته من مواقع الانتفاضة الكامنة في الخلفيَّات السّريَّة في أكثر من حركة إسلاميَّة، وفيما أطلقته من نداء القوَّة في أكثر من ساحة إسلاميَّة، وعندما شعر الاستكبار العالميّ بأنَّ مواقعه دخلت دائرة الخطر في أكثر من بلدٍ عربيٍّ وإسلاميّ، كما في العراق ومصر والمغرب وأفغانستان ولبنان وفلسطين وغيرها، بدأ الإعلام يتحدَّث عن تصدير الثَّورة بالعنف، هادفاً من وراء ذلك إلى خلق أجواء إثارةٍ ضدّ الثَّورة الإسلاميَّة، والإيحاء بأنَّها تستخدم العنف في حركتها، متوسّلةً التوسّع الجغرافيّ لحدودها، كي يثير من النَّواحي السّياسيَّة والعسكريَّة والأمنيَّة دول المنطقة وشعوبها، لتقف في وجه هذه الثَّورة المتحرّكة الّتي قد تنال التّأييد من بعض جيرانها إذا بقيت محصورةً في داخل حدودها، ولكن لن تكسب هذا التّأييد إذا حاولت الامتداد إلى الخارج، لأنَّها ستخلق أكثر من مشكلة لحكّام هذه الدّول، وللخلفيّات السّياسيّة الدّوليّة الكامنة وراءها.
وهكذا، كان شعار تصدير الثّورة الموجَّه ضدّ الثورة الإسلاميّة في إيران، واجهة إعلاميَّة للحرب وللإثارة، كعنوانٍ للعنف والتّخريب والتطرّف على أكثر من صعيد.
الحكم الإسلاميّ والتطرّف
وكانت كلمات التّطرّف والتعصّب والتزمّت، هي المفردات اللّغويَّة السياسيَّة الَّتي بدأ الإعلام الاستكباريّ يحرّكها في القاموس السّياسيّ المضادّ لهذه الثّورة، عندما بدأ الثّائرون الإسلاميّون يتحدّثون عن الدَّولة الإسلاميَّة، والحكم الإسلاميّ، والمشروع الإسلاميّ السياسيّ، في مواجهة المشروع الوطنيّ اللّيبراليّ أو القوميّ أو الماركسيّ أو الاشتراكيّ أو الديمقراطيّ.
بدأ الإعلام الغربيّ يحرِّك مفردات التّطرّف والتعصّب والتزمّت في القاموس السّياسيّ المضادّ للثَّورة الإسلاميَّة
وتنوّعت حركة هذه الكلمات في عدّة اتّجاهات، فهناك الاتجاه الَّذي حاول أن يثير كلمة الدّولة الإسلاميّة، وكلمة الدّولة المسيحيَّة، في البلدان التي يعيش فيها المسلمون والمسيحيّون، مثل لبنان، ليثيروا مسألة التّقسيم الَّتي تتماشى مع الخطّة اليهوديّة، الّتي ترمي إلى تقسيم المنطقة إلى دولٍ دينيَّة صغيرةٍ على صورتها، وعمل الإعلام الاستكباريّ باتجاهٍ آخر يضع أمام كلمة الحكم الإسلاميّ قوانين الشَّريعة في قطع يد السَّارق وجلد الزّاني ورجمه وإعدام القاتل والمرتدّ، ونحو ذلك من قوانين الحدود الّتي تمثّل القسوة والوحشيّة ومصادرة الحريّة وحول ذلك، ممّا تفنّن المتفلسفون في استخراج سلبيّاته وإثارة أجواء المأساة فيه، بعيداً عن واقعيّة المصلحة الإنسانيّة في داخله، ليقولوا للمسلمين إنَّ العصر لـم يعد في وارد الانسجام مع مثل هذه التّشريعات، لأنَّ تطوّر قانون العقوبات جعل القوانين أكثر إنسانيَّة، كما أنَّ تطوّر الأوضاع الإنسانيَّة جعل القوانين المدنية الحديثة أكثر انسجاماً مع مصلحة الإنسان في مواقع التطوّر.
وثمّة اتجاه آخر تحرَّك ليضع أمام المشروع الإسلاميّ السياسيّ كلمة المشروع الطّائفيّ، الذي يريد أن يحرّك السياسة في المواقع الطائفيّة، ما يؤدّي إلى المزيد من الصّراعات المذهبيّة والطائفيّة الّتي تسقط المشروع السياسيّ، ويجعل البلاد تدور في لظى حروب داخليَّة مجنونة لا يمكن أن يوقفها شيء، بينما يمثِّل المشروع الوطني الديمقراطي ـ حسب زعمهم ـ القاعدة الواسعة التي يلتقي عليها الجميع، على أساسٍ من حركة الحريّة في ساحة الوطن كلّه.
وهكذا، أراد الإعلام المضادّ أن يقوم بعمليَّة إيحاءٍ مثيرة ضدَّ تحرّك الإسلام في الدّائرة الشعبيَّة على مستوى السَّاحة العامَّة للأمَّة، لتلتقي بالمشاريع المضادَّة، ولتأخذ صفة التطرّف في مقابل صفة الاعتدال في المواقع المتسامحة الّتي ترفض الطرح الإسلامي في المسألة الثقافية، أو لتأخذ صفة التعصّب في مقابل صفة التسامح، وصفة التزمّت في مواجهة كلمة الانفتاح، ليسقط المشروع الإسلاميّ السياسيّ أمام كلّ الطروحات العلمانيّة أو الماديّة التي تجمع النّاس كلّهم تحت شعارٍ واحدٍ لا يعترف بعلاقة الدين بالحياة، ليؤكِّد الصِّفات الأخرى البعيدة عن الدِّين.
الإسلام الأصوليّ والإرهاب
ولـم تقتصر المسألة على هذا الأمر، فقد تطوَّر الوضع الإسلاميّ في دائرة الثَّورة، فانطلقت العمليَّات الاستشهاديَّة في مواجهة قوى الاستكبار العالميّ والصهيونيَّة، واستطاعت إسقاط الكثير من المواقع المتقدِّمة للظّالمين، ثمَّ بدأت عمليَّات الخطف والتَّفجير ونحوهما من وسائل العنف الّتي اتُّهِمت فيه الحركة الإسلاميّة الأصوليّة، التي أخذت صفة الإرهاب الّتي لا تملك أيّة شعبيّة على مستوى شعوب العالـم، ولا سيَّما الشعوب التي عانت النّتائج المأساويّة لمثل هذه الأمور. وأخذ الإعلام الاستكباريّ يتحدَّث عن الإسلام الأصوليّ والمسلمين الأصوليّين من موقع الصّفة الإرهابيَّة الّتي تتوسَّل للوصول إلى أهدافها بالوسائل الإرهابيَّة الّتي لا يبرّرها شرع ولا عقل ولا قيمة إنسانيّة، واستغلّ الإعلام بعض الحوادث الأمنيَّة في أكثر من موقعٍ من بلاد العالـم، ليضاعف حملته لإطفاء الشّعلة الثوريَّة المقدَّسة التي انطلقت من ثورة الإسلام الحركيّ، وتشويه الصّورة المشرقة الّتي برزت من خلال حركة المسلمين المجاهدين في نطاق المقاومة الإسلاميَّة، الّتي استطاعت أن تتمرَّد على عوامل الخوف لدى المسلمين أمام المستكبرين، وأن تنزعه من نفوسهم.
ولا تزال المسألة تتفاعل في تخطيط الإعلام الاستكباريّ على مستوى إثارة القضيَّة على صعيد الفكر، ووسم هذا الإسلام الأصوليّ بأنَّه يعتمد على فكرة العنف الدَّامي اللاإنساني، كنهجٍ لتحرّكه في ساحة الصّراع، واعتبار الجهاد بأنَّه حالة تختزن العدوان وتمارسه.
كما يتحرَّك هذا الإعلام على مستوى الإثارة السياسيَّة الّتي تعمل على تشويه التحرّك السياسيّ الإسلاميّ، لتضعه في دائرة العنف الدّينيّ الذي يتحرّك في ذهنيّة الحروب الدينيّة، التي تعمل على تدمير الواقع المضادّ من حولها، من دون أن تفسح له المجال لإدارة قضايا الصّراع بالحوار الفكريّ والسياسيّ الهادئ المعقول.
حملة عالميَّة ضدّ الإسلاميّين
وقد اتَّخذت الحملة على الإسلام الأصوليّ، تحت شعار مكافحة الإرهاب، بعداً عالميّاً استطاع من خلاله احتواء الشّعوب المستضعفة، وجرّها إلى الوقوف بجانبه في نطاق الواقع، بقصد الحصول على براءةٍ دوليّةٍ من تهمة الإرهاب، ليقود الحملة ضدَّه بطريقة قاسية لا تحمل في داخلها أيّ عنصرٍ من عناصر الموضوعيّة.
وتحرّكت التيّارات المضادَّة للإسلام، حتى تلك التي تحمل لواء الثَّورة على الاستكبار، مستفيدةً من هذه الحملة الاستكباريّة ضدَّ الإسلام الأصوليّ، باعتباره أضحى، بالنِّسبة إليها، يشكِّل خطراً متوقَّعاً على الواقع السّياسيّ كلِّه، ولو بنسبة صغيرة، فانضمَّت إلى الإعلام المستكبر في تحريك مسألة الإرهاب في الصِّراع ضدّ الإسلام، واستطاع الإعلام الظَّالـم أن يخلط بين الإرهاب والجهاد، معتبراً أنَّ العمليَّات الجهاديَّة الّتي يقوم بها المجاهدون لإخراج إسرائيل من بلاد المسلمين، عمل إرهابيّ، في الوقت الّذي يعتبر أنَّ عمليّات التّدمير التي تقوم بها إسرائيل ضدّ المدنيّين دفاع عن النّفس. وهكذا، لا تزال المسألة تتفاعل في الإعلام السّياسيّ، كجزءٍ من الحرب النفسيّة الإعلانيّة ضدّ الحركة الإسلاميَّة في العالـم.
ولـم تعد المواجهة للحكم الظّالـم وللاستعمار المستكبر بالعنف، مسألة جهاديّة نضاليّة، بل تحوّلت إلى عنوان التطرّف والإرهاب، لأنَّ الجهاد في نطاق هذا المفهوم محصور بالسَّاحة العسكريّة الحربيّة الّتي تمثّلها الحرب التّقليديّة. أمّا المعارضة للحكم الدّاخليّ وللواقع السّياسيّ الدّوليّ الّذي يختفي خلفه، فلا بُدَّ من أن تتَّخذ أسلوب الرّفق واللّين بالطّريقة السّياسيّة الحضاريّة.
حتى إنَّ الإسلاميّين في بعض المواقع، بدأوا يتحدّثون عن العنف كأسلوبٍ مرفوضٍ في الدائرة السياسيّة الداخليَّة أو الخارجيَّة في غير حالة الحرب، لأنَّهم يؤمنون، فيما يقولون، بالأسلوب السِّلميّ في نشاطهم الإسلاميّ في الدَّعوة والسياسة.
ولا تزال القضيَّة تتفاعل على أكثر من صعيد، لتسقط أكثر من موقع، ولتهزَّ أكثر من قاعدة، ولتهزم الموقف الإسلاميَّ المتصدِّي للاستكبار بشكلٍ فاعلٍ وقويّ.
كيف نواجه الإعلام الاستكباريّ؟
هذا هو بعض الواقع الإعلاميّ الاستكباريّ الّذي يخوض المعركة ضدّ الإسلام والمسلمين على الصَّعيدين الفكريّ والسياسيّ، فكيف نواجهه؟
أوّلاً: التّخطيط:
نواجهه بالتَّخطيط للسياسة الإعلاميَّة الإسلاميَّة من النَّاحية الشَّرعيَّة، للتعرّف إلى ما يجوز وما لا يجوز، وتحديد المضمون الإعلاميّ في مسألتي الصِّدق والكذب، ومعرفة الحلال والحرام منه، وبلورة القيمة الأخلاقيَّة في حدودها العمليَّة أمام الحالات الطَّارئة الّتي قد يتحوَّل فيها الصِّدق إلى مشكلةٍ صعبةٍ للأمَّة في حركتها الدّفاعيَّة عن القضايا المصيريَّة، ويكون الأخذ ببعض الكذب حلاًّ لها، واتخاذ القرار الشَّرعيّ الواضح في ذلك، لئلاَّ تختلط الممارسات بين الحلال والحرام، من خلال غموض الحدِّ الشَّرعيّ.
وهكذا، نجد من الضَّروريّ البحث لتحديد المواقع السياسيّة المضمونَ السياسيَّ والاجتماعيَّ للإعلام، لدراسة عوامل إثارة الفتنة في داخل المجتمع الإسلاميّ، وفي داخل المجتمعات الأخرى، أو عوامل الدَّعوة إلى الوحدة، وإغلاق ملفَّات الصِّراع الدَّاخليّ والخارجيّ، ليعرف الإعلام طريقه الشَّرعيّ في إثارة بعض القضايا المثيرة، وتحريك بعض المواقع الحسَّاسة الّتي قد تثير فتنةً هنا ومشكلةً هناك، أو خلق وضعٍ سلبيٍّ على صعيد آخر.
إنَّ تأكيدنا على المضمون يتَّصل بالرّوحيَّة الإسلاميَّة الّتي يعيشها الإنسان المسلم في أجواء الإعلام الإسلاميِّ فيما يطلقه أو فيما يسمعه، فيشعر بأنَّه يطيع الله في ذلك فيما يقول، وبأنَّ العاملين للإسلام يطيعون الله فيما يسمعه منهم، حتّى لا تتحرَّك المسيرة في وعي السَّائرين معها في خطِّ الانحراف، بعيداً عن الإسلام، لكي لا يضلّوا عن الهدف، ولكي لا ينعكس الأمر سلباً على القيم الأخلاقيَّة في حركة المجتمع الإسلاميّ في نظر من يراقبونه ويرصدون واقعيّة القيم الرّوحيّة في حياة الإنسان المسلم، ليحدّدوا من خلالها موقفهم من الإسلام في مسألتي الانتماء أو التّأييد، أو ليبدأوا الحملة عليه، من خلال اكتشافهم للمسافة الّتي تفصل بين القول والفعل، أو بين النظريّة والتّطبيق، ممّا يوحي بأنَّ الإسلام ذو صبغة خياليَّة للقيمة الأخلاقيَّة، ويواجه الصِّفة الواقعيَّة للقيمة الأخلاقيَّة الّتي يتحرَّك معها الآخرون. وفي رأيهم هذا، يتطابق الوعي النّظريّ مع الخطِّ العمليّ للتّفكير.
ثانياً: طبيعة الأسلوب:
التّخطيط الإسلاميّ للإعلام من ناحية الشّكل في طبيعة الكلمة المختارة، وفي الأسلوب المتّبع، وفي المصادر الّتي تطلق المادّة الإعلاميّة وتحرّكها، فيما هي الكلمة القاسية، أو الكلمة الليّنة، أو اللفظ المثير، أو غير المثير، وفيما هو الأسلوب الأحسن والأسلوب السيّئ أو الأسوأ، وفيما هو المصدر الموثوق أو غير الموثوق، وما هو الحلال والحرام من ذلك، وما هي القاعدة في هذا وما هو الاستثناء، حتى يعرف المسلم حدوده فيما يأخذ من ذلك أو فيما يدعه منه، ليعرف كيف يكون إسلاميّاً في وسائل إعلامه، كما يكون إسلاميّاً في مضمونه.
وقد يدخل في ذلك الحديث عن الصّورة الّتي قد تكون مادّةً إعلاميّةً مثيرةً أو مفيدة، وهي الحركة التمثيليّة أو التّصويريّة الّتي تؤثّر تأثيراً إيجابيّاً أو سلبيّاً، ومعرفة ما هو الحلال في الصّورة وما هو الحرام منها، لأنَّ الصّورة والحركة قد دخلتا السياسة الإعلاميَّة من خلال التّلفاز أو السّينما أو المسرح أو الصّحيفة والمجلَّة والملصق، وانطلقتا لتثيرا المسألة في الخطِّ الفكريّ على أساس دلالاتهما الفكريّة والأخلاقيّة والسياسيّة، ممّا قد يسجّل فيه البعض نقطةً سلبيّة، بينما يعتبرها البعض الآخر نقطة إيجابيَّة، تبعاً للجانب الّذي ينطلق فيه كلّ منهما في النّظر إلى الواقع في نتائجه السّلبيّة أو الإيجابيّة.
ثالثاً: العناصر المؤثّرة في التّحريك:
دراسة العناصر النفسيّة والاجتماعيّة والفكريّة المؤثّرة في تحريك ذهنيّة الرّأي العام المحلّي والدّولي لمصلحة القضايا الّتي يثيرها الإعلام الإسلاميّ في دائرة الفعل أو في دائرة ردّ الفعل، وذلك من أجل الحصول على أصدقاء ومؤيِّدين لهذه القضايا فيما توحي به الآية الكريمة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}1، بحيث نعرف كيف نحرّك الأسلوب في خدمة قضايانا، وبالاتجاه الذي نحوّل فيه أعداءنا إلى أصدقاء، أو نربح من خلاله بعض الصَّداقات.
ولعلَّ هذا هو ما توحي به كلمة الحكمة الّتي يتكرَّر ذكرها في القرآن إلى جانب الكتاب، فيما يعلّم الله به رسله، وفيما يعلّم به الرّسل أتباعهم، كما يتكرَّر ذكرها إلى جانب الموعظة الحسنة، كما في قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}2.
فالظّاهر أنَّ المراد بها الطَّريقة المنفتحة الّتي تراعي كلَّ الظّروف الموضوعيّة المحيطة بالشَّخص، والجوّ والفكرة في نطاق الدَّعوة، فيما قد يتضمَّنه تعريف علماء البلاغة لمصطلح البلاغة بأنَّها "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، ما يفرض على البليغ أن يكون واعياً لمقتضيات الحال من ناحية الفهم الواسع للفكرة والواقع، ليحرِّك أسلوبه في اتجاه تحقيق الانسجام بين الواقع والفكرة.
وقد نحتاج إلى تأكيد نقطةٍ مهمَّة في هذا المجال، وهي أنَّ الانسجام مع العناصر المؤثِّرة في قناعات الرّأي العام، من حيث الأسلوب أو المضمون، لا يعني الانحراف عن الفكرة، أو التنكّر لسلامة الموقف، أو العبث ببعض مواقع الهدف، لأنَّ النّقطة الّتي أثرناها لا تستهدف تحقيق النَّجاح على مستوى الحصول على التّأييد الجماهيريّ للقيادة أو للجماعة أو للدَّائرة السياسيَّة أو المحور الحزبيّ، بل تستهدف الحصول على النَّتائج الإيجابيَّة للحالة الإسلاميَّة في حركة الرّسالة في السَّاحة الكبيرة للأمَّة، الأمر الَّذي يجعل الانحراف عن الخطِّ موقع فشلٍ لا موقع نجاح، لأنَّ الرّساليّين لا يعتبرون النّجاح في حركتهم فيما يحصلون عليه من تأييد النَّاس لهم، بل فيما يحصلون عليه من تأييدٍ لرسالتهم وأهدافها في الحياة.
رابعاً: دراسة المفردات الأمنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة:
قد يكون من الضَّروريّ أن ندرس المفردات الأمنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في واقعنا الإسلاميّ، ممّا قد ينعكس انعكاساً سلبيّاً على السّاحة الإعلاميّة لدى الآخرين، الّذين يلتقطون هذه المفردات أو بعضها، ليحركوها في المجال الإعلاميّ ضدّ الحالة الإسلاميّة، ممّا قد يكوّن صورةً قلقةً في أذهان الرأي العام في الدّاخل والخارج، لاصطدامه بالكثير من المسلّمات أو البديهيات الأخلاقيّة أو الأحكام الشّرعيّة، الأمر الّذي يشوّه الصّورة السياسيّة الإسلاميّة لدى المسلمين وغيرهم.
ربَّما كان من الضَّروريّ أن ندرسها لنفرّق بين الأمور الخاضعة في طبيعتها الأمنيّة والسياسيّة للموازين الشّرعيّة، على أساس الأحكام الأوليّة في دائرة العناوين الذاتيّة الموضوعيّة للأشياء، أو الأحكام الثانويّة في نطاق الحالات الطّارئة المتمثّلة بالعناوين الثّانويّة الّتي قد تقلب شخصيّة الحكم، تبعاً لتغيير طبيعة الموضوع، ما يجعل له دوراً جديداً يحقّق المصلحة الّتي تكمن وراء الحكم الشّرعيّ، وبين الأمور المنطلقة من انحرافات ذاتيّة، أو أخطاء حزبيّة، أو أوضاع انفعاليّة، أو حسابات شرعيّة خاطئة، أو حالات فوضويّة جاهلة، قد تتحرَّك في الوسط الإسلاميّ الّذي يحمل شعارات الحالة الإسلاميّة، وفي خطَّيها السياسيّ والجهاديّ.
ففي الحالة الأولى، لا بُدَّ لنا من إثارة الإعلام الفكريّ، لتحديد القواعد الشّرعيَّة الّتي تحكم هذه المفردات، من خلال عمقها الذّاتيّ، أو من خلال عنوانها الطّارئ، ليستقيم للمسلم فهم المسألة في دائرتها الشرعيَّة، فلا يسقط أمام الدّعاية المضادّة التي توحي له بأنَّ السّاحة تتحرّك في غير الخطّ الشّرعيّ الإسلاميّ، لتهزّ ثقته بالخطّ وبالقيادة الشرعيّة، وليستقيم فهم الرّأي العام من غير المسلمين، من الّذين يواكبون المسيرة بإعجاب وتأييد، ويرصدون حركتها في مواقع الالتزام، أو من الَّذين يريدون أن يفهموها ويدرسوها كظاهرةٍ دينيّة سياسيّة مثيرة، ليتعرَّفوا مواقع الجدّيَّة فيها في التزامها الفكريّ، ليتّخذوا منها الموقف السّلبيّ أو الإيجابيّ، تبعاً للنّتائج الواقعيّة للدّراسة.
وإذا كنَّا نؤكِّد دراسة القاعدة الشَّرعيَّة الّتي تحكم هذه المفردات، فإنَّنا نؤكِّد في الوقت ذاته دراسة الواقع الموضوعيّ الَّذي تتحرَّك فيه في نطاق الظّروف الطّارئة أو الثّابتة، أو في دائرة الأشخاص الّذين يتحرّكون فيها في هذا الجانب أو ذاك، لنستطيع الوصول إلى وعي النظريّة في دائرة سلامة التّطبيق، من خلال وعي الخصائص الواقعيَّة للنظريَّة والتَّطبيق في الدّائرة الإسلاميَّة في نطاق الواقع.
وفي الحالة الثّانية، لا بُدَّ لنا من إدارة الموقف الإعلاميِّ بانتقاد الحالة الانحرافيَّة، وتحديد مواقع الانحراف، ورفض منحها الشرعيَّة الإسلاميَّة، ورفع الغطاء عن الأشخاص الّذين يتحرّكون في الخطِّ المنحرف، على أساس الخطِّ الإسلاميّ الّذي خطَّه النبيّ محمَّد(ص): "إنَّما أهلك الّذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق الضّعيف أقاموا عليه الحدّ. وأيم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها"3.
وإذا كنّا نؤكّد إبعاد التّصرفات اللاشرعيَّة عن الشّرعيّة الإسلاميّة، فلا بُدَّ لنا من تقويم الظروف الصَّعبة الّتي قادت الخطأ، والتّحدّيات القاسية الموجَّهة من قبل القوى الظّالمة المستكبرة، الّتي أدَّت إلى حصول هذا الردّ العنيف الّذي قام به هؤلاء النَّاس.
ولا بُدَّ إلى جانب ذلك، من إثارة التّصرّفات المجرمة أو المدمِّرة الّتي يتحرّك فيها الاستكبار العالميّ وعملاؤه من حكّام البلدان الإسلاميَّة أو المستضعفة، في محاصرة المسلمين والمستضعفين في حريّاتهم واقتصادهم وأمنهم وثقافتهم، وما إلى ذلك من القضايا الّتي تجعل العاملين في مواجهة الإسلام يفكّرون في محاصرته، وتوجيه الضّغوط المضادّة في ساحاته، بالوسائل الشّرعيّة وغير الشّرعيّة، لتخفيف الضَّغط عنهم، وتقوية مواقعهم في ساحة الصّراع.
إنَّ التَّصرّف الإعلاميّ بهذه الطّريقة، سوف يضع المسألة في نصابها الصَّحيح في دائرتها الإسلاميَّة، كما يحدّد طبيعتها في الدّائرة السياسيّة الواقعيّة العامَّة، مقارنةً بطبيعة التصرّفات الأخرى الّتي يقوم بها الاستكبار العالميّ، من جرائم واعتداءات، ويجعل من ساحة الصّراع ساحةً مشدودةً إلى الموقف الّذي يجابه الموقف، والاتّهام الّذي يردّ بمثله.
خامساً: المواجهة السَّريعة للإعلام المضادّ
قد يحتاج الموقف الإعلاميّ المضادّ إلى مواجهةٍ سريعةٍ، عندما يحرّك بعض الوسائل الإعلاميَّة للاستفادة من نقاط الضَّعف الواقعيّة لدى الجانب الإسلاميّ، أو توجيه الأنظار إلى بعض الجوانب المظلمة من الصّورة، أو التّخطيط لإرباك السَّاحة ببعض الاتهامات المثيرة، والإشاعات الكاذبة، وعناصر التَّشويه الزَّائفة، وذلك بالردِّ الحاسم الّذي يكشف طبيعة التَّضليل الإعلاميّ من جهة، ويثير المسألة الإعلاميَّة في الكشف عن نقاط الضَّعف لدى القوى المستكبرة بمختلف الوسائل الحاسمة، والاستفادة من كلِّ الفرص المتاحة في كلِّ المواقع، والتَّأكيد على جوانب الإثارة الدّينيَّة والاجتماعيَّة والسّياسيَّة، ممّا يمكن أن يحرِّك الإعلام ضدَّه، فيحاصر كلَّ مخطَّطاته، ويهزم كلَّ مواقعه، ليمنعه من الاستفادة من كلِّ العناصر الإعلاميَّة المطروحة في ساحاته، من جهة أخرى.
إنَّ علينا إبعاد الإعلام الإسلاميّ عن دائرة الانفعال الذّاتي الَّذي يجعل الكلمة تخرج من دون دراسةٍ ووعي
إنَّنا نؤكِّد سرعة الردّ بما يمكننا من الوسائل، لأنَّ ذلك هو السَّبيل الأفضل لحماية الموقف الشّعبيّ، ومنع الإعلام المضادّ من السَّيطرة على ذهنيَّته وتقييمه للأشياء، بحيث إنَّنا إذا لـم نستطع ربح قناعات النَّاس إلى جانب الإسلام، فقد نستطيع أن نثير القلق والارتباك والشكّ في مواقف الآخرين.
ولعلَّ المشكلة المطروحة في ساحة الإعلام الإسلاميّ، هي فقدان المبادرة والسّرعة في كثيرٍ من الحالات، ما يجعل الإعلام المستكبر وحده في السَّاحة آمناً من ردِّ الفعل، مستفيداً من المقولة الشّائعة التي تؤكِّد أنَّ الحقَّ لا يحتاج إلى إعلام، لأنَّه يتكفَّل بالدِّفاع عن نفسه بنفسه، ولكنَّنا نعرف أنَّ الحقّ لا بُدَّ له من وسائل كفيلة لإطلاع النّاس عليه، ولهذا أرسل الله الرّسل وأنزل الكتب، ليكتشف النّاس من خلال ذلك طريق الحقّ، وليتعلَّموا كيف يواجهون الباطل بالحقّ.
سادساً: الابتعاد عن دائرة الانفعال
إنَّ علينا إبعاد الإعلام الإسلاميّ عن دائرة الانفعال الذّاتي الَّذي يجعل الكلمة تخرج من دون دراسةٍ ووعي، ويثير الجوَّ بالحماس الهائج المجنون، الَّذي لا يتوقَّف أمام الحدود الطَّبيعيَّة للواقع، ويربك الكثير من المواقف تحت تأثير الضّغوط النفسيّة المنفعلة.
إنَّ العقلانيَّة والموضوعيَّة والواقعيَّة هي العناوين الَّتي ينبغي أن تحكم الخطَّ الإعلاميَّ الإسلاميَّ، لأنَّها هي الَّتي تدفع العاملين إلى أن يخطِّطوا بهدوءٍ واتّزان، من خلال دراسة السَّاحة الأخرى الّتي نريد توجيه الإعلام إليها، وهذا الأمر يفرض علينا التعرّف إلى طبيعتها ومؤثّراتها وأوضاعها الفكريَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة، أو من خلال دراسة ساحتنا الّتي نريد حمايتها من تأثير الأضاليل فيها، ما يجعلنا بحاجةٍ إلى التَّوازن الدَّاخليّ والخارجيّ في حركة الفكرة والأسلوب، لأنَّه قد يخيَّل إلى بعض المتحمِّسين من العاملين الواقعين تحت تأثير الحماس الثَّوريّ الَّذين يريدون أن يختصروا الموقف كلَّه بخطابٍ ثائر، أو شعارٍ منفعل، أو حماس هائج، أنَّ هذا الأسلوب هو الَّذي يوحي إلى الآخرين بقوَّة الموقف الإسلاميّ، ويخوّفهم من مواجهته، وبذلك يحمون السَّاحة الإسلاميَّة من عدوانهم عليها، لأنَّ الهدوء كما يخيَّل إلى هذا الطّرف، هو موقف ضعف وخذلان. ولكنَّ هذه النَّظرة خاطئة، لأنَّ الإعلام المضادَّ قد يستفيد من هذا الجوِّ المنفعل، لتأكيد كثيرٍ من الأفكار المضادَّة الّتي يريد أن يدفع جمهوره إليها، من أجل حشد أجواء الإثارة في ساحته، ليتمكَّن من الحصول على تأييده فيما يخطِّط له من العدوان علينا، على أساس أنَّ هناك خوفاً وخطراً على حضارته وحياته.
ولذلك، لا بُدَّ للإعلام الإسلاميِّ من أن يأخذ في حسابه التَّأثير في قناعات الرّأي العام في الدّول المستكبرة، ليعرف موقع الحقيقة في الموقف، فيما تحاول إدارته السياسيّة وأجهزته المخابراتيّة إبعاده عنها، ما يجعل من الكلمة الواقعيّة الهادئة سبيلاً إلى الوصول إلى أفكاره، أو إلى إفقاده الثّقة بقياداته، وإثارة القلق حول مستقبل سياساتها، في تأثيرها في أمَّته واستقرارها.
إنَّ الانفعال قد يكون حاجةً في بعض المواقع، ولكن لا بُدَّ من أن تخضع حركته لعقلٍ مفتوح، وفكرٍ هادئ، وتخطيطٍ دقيق
إنَّ الانفعال قد يكون حاجةً في بعض المواقع، ولكن لا بُدَّ من أن تخضع حركته لعقلٍ مفتوح، وفكرٍ هادئ، وتخطيطٍ دقيق، يتحرّك بحسابٍ عندما تفرض المصلحة الإسلاميّة أن يتحرّك، ويقف بحسابٍ عندما تفرض المصلحة الإسلاميّة أن يقف، وذلك هو ما نريده للإعلام الإسلاميّ في كلِّ خطواته العمليَّة الهادفة إلى إسقاط إعلام الاستكبار والمستكبرين، وإعزاز الإسلام والمسلمين.
مجلّة المنطلق الفكريّة، العدد 37، التاريخ: 8 محرّم 1408هـ/ 1 تشرين الثّاني 1987م.
1 [فصّلت: 34].
2 [النّحل: 125].
3 صحيح مسلم، مسلم النيسابوري، ج 5، ص 114.