في القرآن مصطلحان ينطلقان ليحدّدا العلاقة الحيويّة، الفكرية والعملية، بالله أو بالشيطان، وهما "حزب الله" و"حزب الشيطان".
خطّان لا يلتقيان
وعندما يتحدّث القرآن عن كلمة الحزب، فإنّه لا يعني هذا الشكل التنظيمي الذي يتحرك بطريقة معينة وبأسلوب معيّن قد يفصل قسماً من الأمّة عن جسم الأمّة، ولا ينفتح على الواقع كلّه.
ولكنه يريد أن يعطي مسألة الانتماء إلى الله بعداً جماعياً في حجم الإنسان، كما يعطي بعداً جماعياً في حجم الإنسان بالانتماء إلى الشيطان، فليس هناك خطّ ثالث، هناك خطّ الله وخطّ الشيطان، وهما خطّان متضادّان، متناقضان، لا يلتقي أحدهما بالآخر في عمق الدوافع الإنسانية، ولا في الخطوط المتحركة في حياة الإنسان.
فلننطلق من القرآن لنرى كيف حدّد الله صفة هؤلاء وصفة هؤلاء، فبالنسبة إلى مصطلح "حزب الله"، يقول سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ* إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ}(1).
هذا نموذج من الآيات، وهناك نموذج للمصطلح، ففي هذا النموذج، يخاطب الله الذين آمنوا بأنّ عليهم أن يستقيموا في الخطّ، وأن لا يعتبروا أنفسهم أول الناس أو آخرهم، فإذا استمرّوا بالإيمان عاش الإيمان بهم، وإذا ابتعدوا عنه سقط الإيمان، وعليهم أن يعرفوا أنهم إذا كانوا مؤمنين، فتلك ليست منّة يمنّون بها على الله، ولا على الرسول، لأنّها في بعدها الواقعي العملي، ليست لحساب الله ولا لحساب الرسول، بل هي لحساب أنفسهم، كما قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى، وهو يعالج هذه النفسية المنتفخة التي إذا أقبلت على فكرٍ حمّلت داعية الفكر المنّة بأنّها آمنت بالفكر.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم}(1). فليست المسألة متصلة بي من خلال ما ينفعني ذاتياً، لأنّ قصة الداعية ليست قصةً شخصية، يمنحه الناس فضلاً إذا استجابوا له، ويواجه واقعهم بالتعسّف وبالمنقصة إذا لم يستجيبوا له. فقد حلّ الله المسألة لرسوله، عندما كان(ص) يعيش في نفسه بعض الألم، لا من خلال حسابات شخصية، ولكن من أجل الناس، لأنّ روحيته كانت روحية الرأفة والرحمة والانفتاح على الناس، كانت نفسه تذهب حسراتٍ عليهم لأنّهم لم يؤمنوا.. كان يعيش في نفسه حالة الحزن الرسالي لأنّ الناس لم يستجيبوا له، لا من خلال إحباط شخصي يعيشه الإنسان ليشعر بأنه فاشل، ولكن من خلال ذهنية رسالية تريد للناس كلّهم أن يسعدوا بالله وبرسالاته، وأن ينفتحوا على الله في كلّ شيء.
ولذلك قال الله لرسوله، وهو يريد أن يلطِّف المعاناة النفسية التي يعيشها، لماذا تتألّم؟ لماذا تذهب نفسك حسرات؟
{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ}(2)، فقصّتهم هي مع الله لا معك،
{إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ* لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (3)،
{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}(4). ولذلك يريد الله تعالى أن يوحي لكلّ المؤمنين أن اثبتوا على إيمانكم، حاولوا أن تنمّوه، وأن تطوّروه، وأن تعمّقوه، وأن تثبّتوه، وأن تنفتحوا به على كل آفاق الحياة، لأنّ إيمانكم يمتدّ بامتداد الحياة كلّها.
ولكن إذا ارتدّ أحد منكم عن إيمانه، لطمع لوّح إليه به شخص أو جماعة، أو لضغط أطبق عليه من خلال الواقع، أو لنقاط ضعف تحرّكت في نفسه من خلال غرائزه {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}، فسوف يهمله الله وينساه، لا نسيان الوعي للأشياء، فالله لا ينسى، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ولكنّ النسيان هنا هو نسيان الإهمال:
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(1). تتحوّل إلى كمية مهملة في زاوية من زوايا الحشر لا يلتفت إليك فيها أحد، حتى يفرغ الله من حساب الخلائق.
{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ}، فإذا انحرفت القافلة، فهناك أكثر من قافلة سوف تسير على الطريق
{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، يتحوّل الحبّ عندهم إلى حبّ الله، وأيّ حبّ أكثر سعادة من حبّ الله لك من خلال حبّك له.
معنى أن تحبّ الله
أيّها الأحبّة، هناك بعض المشاعر والأحاسيس وبعض الألطاف الإلهيّة، إذا عاشها الإنسان روحاً وعقلاً وقلباً وحركةً، فإنّه يشعر بالسّعادة التي ليس فوقها سعادة، تماماً كما هي الجنّة، فيها ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بَشَرْ، فمن أين يأتي حبّ الله للإنسان؟ فليس بين الله وبين أحدٍ من عباده قرابة، فالله يحبّ العباد من خلال ما يعيشونه من روحانيّة الفكر، ومن استقامة السلوك، ومن سعة الأُفق، ومن كلّ هذه النبضات في قلوبهم وفي مشاعرهم التي تتحوّل إلى إحساس بالإنسان الّذي هو خلق الله، وليحصلوا على حبّ الله من خلال حبّهم للخلق، لأنّهم عيال الله، فأحبّهم إليه أنفعهم لعياله.
فإذا كنت الإنسان الّذي لا ينفتح على عيال الله، ولا يساعد عيال الله، ولا يهدي عيال الله، ولا يرفع مستوى عيال الله، فكيف تريد أن يحبّك الله؟!
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله}(1). فالاتّباع هو أن تتّبع رسول الله إيماناً وشريعةً ومنهجاً وحركة وحرباً وسلماً وفي كلّ شيء، فإذا اتّبعت رسول الله، فهناك حبُّ الله.
وعليّ(ع) كنموذج راقٍ أحبّ الله وأحبّه الله، لأنّه انفتح على الله بالمعرفة، واتسعت المعرفة عنده وانطلقت في الآفاق، حتى قال: "لو كُشِفَ لِيَ الغطاء ما ازددتُ يقيناً". وعاش عليّ الحبّ لله، حتى كأنّه لا يحسّ لذعات جهنّم عندما يفكّر فيها ـــ وهو البعيد عنها كلّ البعد لأنّه معصوم ـــ، ولكنّه يحسّ بلذعات فراق الله من خلال جهنّم، ولا يحسُّ بضغط حرّ النّار ولهيبها وآلامها، ولكنّه يحسُّ بضغط فقدان النّظر إلى كرامة الله، وهذا ما كان يقوله في دعائه: "فهبني يا إلهي وسيّدي ومولاي وربّي، صبرتُ على عذابك فكيف أصبِرُ على فراقك"، كيف يصبر الحبيب على فراق حبيبه، ودورُ النّار هو أن تفصل الإنسان عن ربّه؟! "وهبني يا إلهي صبرتُ على حرّ نارك"، تلذعني، تشعلني، تؤلمني، "فكيف أصبرُ عن النّظر إلى كرامتك".
فهذا هو الحبُّ، فأنْ تحبّ الله، يعني أن تنفتح على كلّ مواقع رضاه، وأن تحبّه يعني أن تحبّ أولياءه، وأن تحبّه هو أن تتبرّأ من أعداء الله، بحيث يكون عقلك عقل إنسان منفتح على الله، وقلبك قلب إنسان ينبض بالله، وحركتك حركة إنسان يتحرّك في طريق الله.
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، فعندما تحبّ ربّك، فكيف يمكن أن تعصيه، وعندما تحبّ ربّك، فكيف يمكن أن تغفل عنه، وعندما تحبّه، فكيف يمكن أن تنساه؟! يقول ذلك الشّاعر بالأسلوب العرفاني:
تهوى ليلى وتنامُ اللّيلَ؟ لعمرك ذا طلبٌ سمجُ!
فالحبّ يبقى مشتعلاً في قلب المحبّ، بحيث لا يدع له جفناً يغمض.
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حُبَّه هذا لعمرُك في الفعالِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأطعتَهُ إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
عزّ المؤمنين وتواضعهم
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وذلك بأنْ تعيش معهم مظهر الذلّ لا روح الذلّ، فالله لا يريد للمؤمن أن يكون ذليلاً، بل يريده أن يعيش عزيزاً، ولكنّ الذلّ هنا هو ذلُّ التواضع، ذلّ تقديم التّنازلات من أجل الحقّ والخير. وفي
(دعاء كميل) فقرة لو عشناها لما عشنا التكبُّر: "وفي جميع الأحوال متواضعاً"، هذا ما يطلبه عليٌّ(ع) من ربّ العالمين باسمنا، وهو المتواضع لله وللمؤمنين، فكان إذا مدحه شخص خشع لربّه، وكان يقول: "اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممّا يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون"(1).
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، أن تشعر بأنّ المؤمن أخوك، وأنَّ روحك روحه، وأنَّ مصلحتك مصلحته، وأنّ إنسانيّتك تنفتح على إنسانيّته، فليس هناك إثنينيّة في مسألة العزّ والذلّ بين المؤمنين، ولكنّها مسألة الوحدة التي تجعل "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الأعضاء بالسّهر والحمّى"، فهل تشعر يدك إذا تواضعت لرجلك، أو أيّ عضو إذا تواضع للعضو الآخر، هل يشعر بانتقاص عزّته، أمْ يشعر بأنّه متداخل ومتفاعل معه؟!.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} لا عزّة الكبرياء، فالله لا يريد لنا أن نعيش الكبرياء بمعنى العقدة الذاتيّة التي يشعر فيها الإنسان بعلوّ الذّات تجاه الآخر، أيّاً كان الآخر، ولكنّها العزّة التي بمعنى الشّعور بأنّ الإيمان يجعل الإنسان أعلى وأكبر، ويجعل الآخر أصغر وأسفل،
{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}(1). لا في ذاتيّاتكم، ولا في أحسابكم وأنسابكم، ولا في ثرواتكم
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فالعلوّ بالإيمان هو أن لا تسقط أمام الكافر حتى لو كان يملك الدّنيا، حاول أن تقف وقفة العزيز بالإيمان أمام ذلّ الآخر بالكفر، حاول أن تقف وقفة العزيز بطاعة الله أمام الإنسان الذّليل بمعصية الله.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله}، فهم لا يعيشون الاسترخاء واللامبالاة، ولا يهملون ساحة الصّراع، ولا يبتعدون عن ساحة التحدّي، ولا يواجهون المشاكل التي تفترس الواقع الإسلاميّ بطريقة الإنسان الذي يقول:
ما علينا إنْ قضى الشّعب جميـعاً أَفَلَسْنَا في أمان؟!
بل ينطلقون ليجاهدوا في سبيل الله جهاداً ثقافياً في ساحة الصراع الثقافي، وجهاداً سياسياً في ساحة الصراع السياسي، وجهاداً أمنياً في ساحة الصراع الأمني، وجهاداً اجتماعياً في ساحة الصراع الاجتماعي، وجهاداً عسكرياً في ساحة الصراع العسكري، أن تشعر بأنَّ جهدك وقوّتك وطاقتك ليست ملكاً لك، ولكنّها لله، فالله أعطاك إيّاها من أجل أن تحرّكها في طريق الله.
{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله}، إنّهم يقفون الموقف الصّلب، وإن لامهم اللائمون، واتّهمهم المتّهمون، وشتمهم الشاتمون، وابتعد عنهم المبتعدون،
{وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}، هب أنَّ الناس كلّهم يلومونك، فما دام الله هو وحده الّذي يعذرك ويرعاك ويلطف بك ويرضى عنك، فما قيمة غضب اللائمين؟! إنّه "غضبُ الخيلِ على اللّجُم"، وكما قالها رسول الله(ص): "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أُبالي".
فليتك تحلوُ والحياةُ مريرةٌ وليتكَ ترضى والأنامُ غضابُ
وليت الّذي بيني وبينكَ عامرٌ وبيني وبين العالمينَ خرابُ
{وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}، ذلك هو الوعي للإيمان، وذلك هو الوعي للإسلام، وذلك هو الحبُّ لله، وتلك هي الصّلابة في أمر الله، ذلك هو الجهاد المرّ القاسي الصّعب.
{ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ}، فالإيمان نعمة، وحبّك لله نعمة، وحبُّ الله لك نعمة، وجهادك وعزّتك وتواضعك كلّها نِعَم، وتقول دائماً:
{الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ}، فالسّعادة الكبرى هنا {وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
خطُّ الولاية
ذلك هو الإنسان المؤمن، ولكنّ الحركة لا بدّ لها من أن تنطلق من قاعدة، ولا بدَّ لها من وليّ يسدّدها، وينظّم لها خطواتها، ويهيّئ لها دربها، ويخطّط لها منهجها، لأنّ الحركة بدون وليّ هي حركة تتحوَّل إلى فوضى، لذلك:
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله}، هو وليّ الكون كلّه، ووليّ الخلق كلّه، وهو
{وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}(1)، وهو المهيمن على الأمر كلّه، وهو الربّ بكلّ سعة ربوبيّته، من موقع أنّه هو الذي خلق الخلق ودبّرهم وأنعم عليهم وأرسل لهم رسله،
{وَرَسُولَهُ} الذي يتحرّك بالولاية في خطّ الحياة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}(2)، وفي خطّ تنظيم أموركم وتخطيط حياتكم، حتى تنطلقوا في الصّراط المستقيم إلى مواقع رضوان الله.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} في غياب الرسول، والذين يعيشون هذه الرّوح وهذا الإخلاص لله، والانفتاح عليه بصلاتهم، والانفتاح على الإنسان من خلال الله بزكاتهم.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، وكان عليّ(ع) الّذي نزلت فيه هذه الآية يصلّي، ولكنَّ صلاته لم تكن لتشغله عن عبادته، فكان يتقرّب إلى الله بالصّدقة حتّى وهو في الصّلاة، ومن هنا انطلقت ولايته في خطّ القرآن.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، فهذا هو خطّ الولاية، ولا بدّ للولاية من أن تتحرّك في الأرض،
{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}، ويكون من "حزب الله"، لأنّه ينطلق من القاعدة التي وضعها الله لحركة الولاية لله وللرّسول وللّذين آمنوا، الّذين يتميّزون بالصفات التي تجعلهم في هذا المستوى، وليس كلُّ الناس يتميّزون بذلك.
{فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْغَالِبُونَ} الغالبون بحجّتهم، والغالبون بشجاعتهم، والغالبون بجهادهم، والغالبون ولو بعدَ حين،
{إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(1).
وهذا هو الجانب الإيجابي.
خطّا التّولّي والتّبرّي
وهناك الجانب السلبي الذي يختلط بالجانب الإيجابي، أي فيه سلبٌ من جهة، وفيه إيجاب من جهة!
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ }(2)، في عقولهم وفي قلوبهم وفي إحساسهم وشعورهم، بحيث تهتزّ كلّها للّذين حادّوا الله ورسوله احتراماً. كلا، لا يجتمع في قلب إنسان حبّ الله وحبُّ مَن عادى الله، ولقد قالها عليّ(ع) وهو يحدِّدُ لنا أعداءنا وأصدقاءنا: "أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، وصديق صديقك، وعدوّ عدوِّك، وأعداؤك: عدوُّك، وعدوُّ صديقك، وصديق عدوِّك"(3).
إنّ "التولّي" و"التبرّي" خطّان يتحرّكان ليجتمعا عند قاعدة الإيمان في النّفس:
{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}(1)، أي عمّق وخلّد، والله عندما يكتب شيئاً في قلبك، فإنّه لا يكتبه إلاّ إذا كان كلّ قلبك لله: "ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلبُ عبدي المؤمن"، فقلبك إذا كنت تحبُّ الله هو عرش الله.
{كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ}؛ إنّها كلمة يهتزّ لها كلّ كيان الإنسان، فإنّني عندما أقرأها أشعر بفيض السّعادة والروحانية واللّطف الإلهي الّذي ينهمر على الإنسان، عندما ينطلق ربّ العالمين ليكتب في قلبك أنّك مؤمن
{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}، كما أيّد عيسى بروح القدس، فالله يؤيّد المؤمن الذي لا يوادُّ من حادّ الله ورسوله حتى لو كان أقرب أقربائه، إنّه يؤيّده بروح منه كما يؤيّد الأنبياء بروحه
{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2).
إنّ حزب الله ـــ أيّها الأحبّة ـــ ليس ورقة في كتاب، وليس حركة في التّنظيم؛ هو حركة في الإيمان وفي حبّ الله، وفي أن تكون كلُّ حياتك لله، يتحرّك الله فيها بكلّ وحيه، وفي كلّ ما يريده منك وما ينهاك عنه.
من هم الشيطانيّون؟!
أمّا الشيطان، فلا يحتاج إلى كلّ هذا التفصيل، فإذا لم تكن مع الله فأنت شيطانيّ،
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله}(3)، فدوره أن يغلق عقلك عن الله، فلا يعود يفكّر فيه، ودوره أن يغلق قلبك عن الله، فلا ينبض به، ودوره أن يبعد الله عن طريقك وعن خطّتك وعن علاقاتك، وعن معاملاتك وعن كلّ أقوالك، وعن كلّ أفعالك.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}(4)، فإذا نسيت ربّك نسيت نفسك، ونسيت مسؤوليّتها ومصيرها:
{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، والله يقول لنا ويحذّرنا:
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(1)، ولقد حدَّثنا الله عن الشّيطان في أكثر من آية وإشارة
{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} (2)، وقال وقد حضّر كل أسلحته:
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}(3)، كحاجز في منتصف الطّريق
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}(4)، ولكنَّ الله قال له:
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(5)، سلطانك على الغافلين والضالّين
{إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ}.
ويحدّثنا الله عنه
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ}، هناك يصبح الشّيطان تقيّاً،
{إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالَمِينَ* فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ}(6).
في مشهد القيامة
وفي نهاية المطاف، يقف الشيطان في يوم القيامة، ويقف النّاس الذين أغواهم، وزيّن لهم، وأضلّهم، وأنساهم ربّهم وأبعدهم عن الله، ويجد الناس الشيطان فرصةً لهم ليقدّموا عذرهم أمام الله، فليتحمّل الشيطان وزر كلّ الخلائق
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}(7)؛ إنّه محامٍ من أروع المحامين:
{إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}،
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}(8)، وها أنتم ترون الخير أمامكم لمن عمل الخير، والشرّ لمن عمل الشرّ، والله أصدق الواعدين
{إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}(9)، فمهمّتي ـــ والكلام للشيطان ـــ هي أن أكذب، فلقد كذبت على أبيكم عندما أقسمت له أيماناً مغلّطة
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}(1)،
{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}(2).
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ}، فلا يحمّلني أحدٌ المسؤوليّة
{إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ}، قرعتُ الطبل فتجمّعتم حولي،
{فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم}، لقد أعطاكم الله عقلاً، فلماذا لم تحرّكوه، وأنزل عليكم رسلاً، فلماذا لم تتّبعوهم؟ ثم يقول لهم: كلّنا في المحرقة
{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(3).
ويبقى "حزب الله" و"حزب الشّيطان" خطّين يتحرّكان في الحياة، وليعرف الإنسان أين الشيطان وأين الله، لأنّ بعض الشياطين قد يأتونكم باسم الله، فتنسون الله، فلذلك افتحوا عقولكم وافتحوا قلوبكم، وانفتحوا على ربّكم، حتى تملكوا معرفة الله، لتعرفوا الشيطان من خلال معرفتكم بالله، لأنَّ المشكلة هي أنّ الحقّ والباطل قد يمزجان، فيرى الإنسان الحقّ باطلاً والباطل حقّاً.
هدانا الله سواء السّبيل، وعرّفنا أنفسنا وطريقنا وغايتنا.
والحمد لله ربِّ العالمين.
فكر وثقافة، ج2، المحاضرة الثامنة عشرة، بتاريخ: 12/10/1996
الهوامش :
(1) سورة المائدة، الآيات: 54 ـ 56.
(1) سورة الحجرات، الآية: 17.
(2) سورة الأنعام، الآية: 33.
(3) سورة الغاشية، الآية: 21.
(4) سورة الشورى، الآية: 48.
(1) سورة طه، الآيتان: 125 ـ 126.
(1) سورة آل عمران، الآية: 31.
(1) نهج البلاغة، الإمام عليّ بن أبي طالب، الخطبة 184، ص 226.
(1) سورة آل عمران، الآية: 139.
(1) سورة البقرة، الآية: 257.
(2) سورة الأنفال، الآية: 24.
(1) سورة محمد، الآية: 7.
(2) سورة المجادلة، الآية: 22.
(3) البحار، ج64، باب 11، ص 123.
(1) سورة المجادلة، الآية: 22.
(2) سورة المجادلة، الآية: 22.
(3) سورة المجادلة، الآية: 19.
(4) سورة الحشر، الآية: 19.
(1) سورة فاطر، الآية: 6.
(2) سورة الأعراف، الآية: 15.
(3) سورة الأعراف، الآية: 16.
(4) سورة الأعراف، الآية: 17.
(5) سورة الإسراء، الآية: 65.
(6) سورة الحشر، الآية: 16.
(7) سورة إبراهيم، الآية: 22.
(8) سورة الزلزلة، الآيتان: 7 ـ 8.
(9) سورة إبراهيم، الآية: 22.
(1) سورة الأعراف، الآية: 21.
(2) سورة الأعراف، الآية: 20.
(3) سورة إبراهيم، الآية: 22.