إنّ الإنسان هو قيمة، كما أراد الله له أن يكون عندما كرّمه، ولكنّه القيمة المتحركة في الوجود الّتي تعطي حركيّتها وتأخذ منها حيويّتها وقوّتها. ونحن نعيش في كلّ تطلعاتنا الرسالية مسألة القيم التي تتنوع في أوصافها، فهناك من يتحدث عن قيم روحية أو إنسانية أو مادية، وما إلى ذلك مما يختلف الوصف فيه، ولكنه يلتقي على معنى يمتدّ في الواقع الإنساني ليؤكّد امتداده في النتائج الإيجابية أو السلبية.
قيمة العقل
ومن هنا، كانت قيمة العلم الذي يستمد في داخله حركيته من قيمة العقل، فالعقل هو القيمة الإنسانية التي تعطي هذا الإنسان امتداده وعمقه وسموّه، لينفذ إلى كل قضايا الوجود، فلا قضية إلا والعقل هو الّذي يطلّ عليها ويضيئها، حتى الغيب الّذي لا يملك العقل أن ينفذ إلى تفاصيله، ينطلق العقل ليطلّ عليه ليكتشف وجوده، وليشير للإنسان أن يرتبط به. قد لا يكون هناك مجال للعقل أن يعيش في كلّ تفاصيل الغيب، ولكنّ العقل يستطيع أن يكتشف إمكانيّة الغيب، ثم يتحرك مع الرسول الذي هو، بحسب التّعابير، عقل من خارج، ليكون العقل رسولاً من داخل، هذان الرسولان يتكاملان، فالعقل يعطي الغيب إمكانية أمام الذين يتحدثون عن المستحيل، والرسول يكتشف من خلال الوحي كلّ تفاصيل هذا الممكن، ويركّز الواقع على هذا الأساس.
لذلك، أن تتحدّث عن العلم كقيمة، أن تتحدَّث عن العقل كقيمة القيم، وهذا ما نستطيع أن نكتشفه من الحديث القدسيّ الّذي يرويه أئمة أهل البيت(ع): "لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أعزّ عليّ منك.. إيّاك آمر وإياك أنهى، وبك أثيب وبك أُعاقب"، فالأنبياء والأولياء إنّما انطلقوا في عظمتهم من خلال أنهم ملكوا عقلاً أعطى للوجود عقلاً، وانفتحوا بالعقل الّذي وهبهم إيّاه الله، فكانوا أعزّ خلق الله بالعقل الذي يختزنونه، والّذي هو أعزّ خلق الله..
إنّ مسألة أن نتعلّم، أن نخلص لعلمنا، وأن نخلص لعطاء العلم، وأن نفسح المجال للفكر الحرّ أن يأخذ حريته، حتى لو كان ذلك على خلاف ما نؤمن به، إذا بقي في دائرة الفكر وفي دائرة العلم، ولم يخرج ليثير الفوضى في المجتمع، لأن الحرية لا بدّ من أن تكون مسؤولة في حركة الفكر، كما هي مسؤولة في حركة الواقع السياسي والاجتماعي.
إنّ هناك من أئمّة أهل البيت(ع) في بعض استيحاءاتهم للقرآن، من يحاولون دائماً أن يستوحوا من الواقع المادّي واقعاً معنويّاً لمصلحة العلم، حيث نجد عن الإمام محمد الباقر(ع) في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}.. قال إنّ تأويلها الأعظم "من نقلها من ضلال إلى هدى"، كأنّ المسألة أنّ الضلال والجهل موت، وأنّ الهدى هو الحياة، فكما أنك إذا أحييت نفساً فكأنما أحييت الناس جميعاً، لأنك انطلقت من مبدأ الحياة في تقديسك للمبدأ، كذلك إذا هديت إنساناً ووعيته، فكأنما هديت الناس جميعاً، لأنك انطلقت من المبدأ نفسه.
عيد المعلّم
في هذا الجوّ، عندما نريد أن نحتفل بعيد المعلّم، فإننا نحتفل بهذه الطاقة الحيّة التي تعطي، نحتفل بها لنقول إنّ عليها أن تتجاوز الخطوط التقليدية فيما يفرضه عليها المجتمع من تقاليد معيّنة، لتتجاوز ذلك إلى الآفاق الواسعة في مسألة إغناء التجربة العلميّة والوعي العلمي، كما أنّنا نريد للمعلّم أن يكون رسولاً، ومن الطبيعيّ أنّه لا بدَّ له من أن يعيش كما يعيش الناس الآخرون بكرامة، ولا بد للمجتمع من أن يهيئ له ذلك، ولكن عليه في جميع الأحوال أن لا يتجاوز حركة الرسالة إلى حركة المهنة في حياته.
وفي هذا المجال، نستطيع أن ننطلق لنتكامل في كلّ عطائنا العلميّ، وفي كل دراساتنا العلمية، مشكلتنا في العالم الثّالث كلّه، أنّ حاجاتنا موجودة لدى الآخرين، ونحن نعرف أن الحاجات هي الّتي تستعبد الإنسان، الآخرون يستعبدوننا من خلال حاجاتنا، نحن أسرى الآخرين الّذين يملكون حاجاتنا، عندما يكون لنا اكتفاء ذاتيّ في العلم، فإننا نستقلّ. لا تتحدثوا عن استقلال بالمطلق، وأنتم تحتاجون إلى كلّ ما عند الآخرين، لتكونوا مجرّد سوق استهلاكي للآخرين، إننا نريد أن ننطلق من موقع المستهلك إلى موقع المنتج، ليس معنى ذلك أنّنا نتعقّد من علم الآخرين، لأنّنا لا نعتبر أنّ هناك وطناً لعلم، نحن لا نتعقّد من الغرب في علمه، وإن كنا نناقش بعض علمه، ولكنّنا نقف عند مسألة إدارته السياسيّة.
إذا أردنا أن نأخذ بالقيم فيما ركّزه الله في كتابه المجيد، فعلينا أن نأخذ القيم كلّها، والعلم قيمة، كما هو الإيمان قيمة. لذلك، لتكن لنا ثورة علميّة، كما نتحرّك في ثورة سياسيّة جهاديّة، نستطيع بها أن نحرك طاقاتنا من أجل الإبداع والعطاء والإنتاج، لنكون من خلال الإسلام معلّمي العالم، نعلّمهم إسلاماً قوياً بالعلم، ومركّزاً على أساس ما يمكن أن يحفظ للإنسان سموّه ونموّه.
مرحلة الوقت الضّائع
إنّ المرحلة الراهنة التي نعيشها هي مرحلة الوقت الضّائع، فالقضايا في المنطقة كلّها مجمَّدة، كلّ منطقة تعيش مشاكلها الداخليّة بشكل تجترّ فيها هذه المشاكل، من دون أن يسمح بأن تمتدّ هذه المشاكل إلى الخطوط الحمراء. لذلك، يعمل الاستكبار العالميّ على أساس إبقاء المشاكل في كلّ دائرة من الدّوائر في العالم، ولا سيّما في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، بحيث تنشغل كلّ جماعة بنفسها، وينشغل كلّ بلد بنفسه، لأنه لا يراد للمنطقة أن تتكامل في مواجهة القضايا الكبرى.
إننا عندما ندرس العالم، فإننا نجد أنه ما من بلد إلا وفيه مشاكل اقتصادية وسياسية، هناك عمل استكباري لتطويق كلّ حركة تحرّر وحركة استقلال في العالم الثّالث، لذلك نعتبر أنّ هذا الوقت هو الوقت الضّائع الذي لا تحلّ فيه أيّ مشكلة.
المشكلة التي تتحرك في المنطقة الآن هي كيف يمكن مصاهرة القضيّة الإسرائيليّة والقضيّة العربية بالمستوى الذي يحقق مصلحة إسرائيل بالكامل دون أن يُعطى العرب أيّ شيء.
هناك أيضاً في المنطقة عمل لمحاصرة الجمهورية الإسلامية اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وأمنياً، لأنهم يعتبرون أن وجودها كقوة في المنطقة يمكن أن يخرب الكثير من التوازنات، ليس معنى ما نقول أنّ هذا هو القضاء والقدر الذي لا بدّ من أن ننحي أمامه، إننا نعتقد أن الشعوب يمكن أن تجد كثيراً من الفرص والثغرات التي تربك فيها مخططات المستكبرين، ولكن المسألة هل نريد ذلك أو لا نريد؟ فإذا استطعنا أن نركّز خيارنا، فإنّنا نستطيع بذلك أن نركّز الكثير، كما حقّقنا، ولو بنسب متفاوتة، الكثير.
* محاضرة ألقاها سماحته بمناسبة عيد المعلّم، في قاعة المحاضرات في حوزة الإمام المنتظر في بعلبكّ.