يمنح الدِّين الإنسان قاعدة فكريّة لتفسير الوجود وما يتَّصل به، ما يضيف مزيداً من الثّبات النفسي والرّوحي للإنسان في مواجهة تحدّيات الحياة وإشكالاتها المتنوّعة، ضمن رابطته الإنسانيّة التي تجمعه بالآخر على مستوى التنوعّ العرقي والمعرفي، وعلى مستوى تكامل الطاقات، والتي ركّز الإسلام عليها كأساسٍ لنماء العلاقات الإنسانيّة وتكاملها الإيجابي، خدمةً لمسيرة المجتمع وسيره الطّبيعيّ نحو الله تعالى، على قاعدة البرّ والتّقوى، وعلى قاعدة العدل الّتي نزلت على أساسه كلّ الرّسالات السماويّة. فالدّين لديه كلّ الإمكانات التي تغني الاجتماع الإنساني إيمانياً وأخلاقياً وقيمياً وروحياً، وكلّ ذلك يقوّي من ركائز المجتمع، ويبعده عن السّقوط والانهيار، ويعطيه الثّقة العالية بالقدرة على مواجهة الضّغوطات بحكمةٍ ووعيٍ لسنن الله في الكون والحياة.
ولعلّ "قيمة الدّين في الاجتماع الإنساني، أنّه يوفّر للإنسان القاعدة الفكريّة التي تفسّر الظواهر الكونية والإنسانية، بالاستناد إلى القوّة الإلهيّة الخالقة القادرة والحكيمة، التي ركَّزت الوجود في كلّ تفاصيله على أسس ثابتة في قوانينها، متوازنة في حركتها، ما يسمّى السنن الإلهيّة، فالله هو ربّ الوجود كلّه، الذي يتطلّع إليه الإنسان في كلّ أوضاعه، ليمنحه القوّة في مواطن الضّعف، وليرعاه في كلّ أموره، فلا يحسّ بالضياع، ولا يشعر بالقلق أمام الكون في علاقته بحركته ووجوده، لأنه يرتبط به في وحدة النظام العام، وفي صفة المخلوقيّة للخالق والعبودية للربّ، والخضوع لكلّ تدابيره.
وانطلاقاً من هذه القاعدة، يمتدّ الإحساس بهذه الوحدة إلى داخل المجتمع الإنساني الّذي يعيش كلّ أفراده في نطاق الرابطة الإنسانيّة، التي تجمع كلّ تنوّعات الناس في وحدة يلتقون عليها، وفي دور يتكاملون فيه.. ولذلك، لا يمثّل التنوّع تبايناً، بل يمثّل تكاملاً في الخصوصيّات، بحيث ينضمّ بعضها إلى البعض الآخر، من أجل الإعمار والتّكامل الإنساني، وهذا هو الذي عبّر عنه القرآن الكريم، في تأكيده وحدة عنصر الخلق وتنوّع خصائص الإنسان:
{يا أيّها النّاس إنّا خلقناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكُم شعوباً وقبائل لتعارفوا}[الحجرات: 13]. فالتنوّع هو الوسيلة الفضلى للتّعارف، لأنه يفضي إلى انجذاب الإنسان إلى الإنسان الآخر، لبناء علاقات تسدّ الحاجات الخاصَّة، وتتبادل الإفادة من الطّاقات المتنوِّعة.
وإذا كان الإسلام يركّز على العلاقة الإنسانيّة في دائرة التّعارف الحيويّ، فإنّه يثير الجانب الحركيّ في هذه العلاقة، ليدعو المؤمنين والمؤمنات إلى التَّعاون على البرِّ والتقوى، بحيث يتكامل الجميع في تحقيق هذين العنوانين الكبيرين في الواقع، اللّذين يمثِّلان الخير كلّه في علاقة الإنسان بالإنسان لجهة تعزيز العدل والتّكافل الاجتماعي، وفي علاقة الإنسان المنفتحة على الله، في دائرة السّلوك الفردي والاجتماعي، على أساس الضَّوابط الرّوحيّة والعمليّة، وليبعدهم عن التعاون على الإثم والعدوان، اللّذين يمثّلان الشرّ في نطاقه الفكري والحركي، وقهر الإنسان الآخر في كلّ أبعاده وأوضاعه.
ويمتدّ الفكر الإسلاميّ ليرى في العدل قيمة إنسانيّة ترتكز عليها النبوّات في كلّ خطوطها وامتداداتها وتشريعاتها وتطبيقاتها، فيقرّر أنّ قضية الدين هي قضية عدل، فلا دين بلا عدل في جميع تطلّعات الإنسان وقضاياه، حتى إنّ العدل لا يقف عند المسلم، بل يلتقي بالمسلم والكافر معاً، فلا يجوز للمسلم أن يظلم الكافر مهما كانت درجة كفره، وعلى الحاكم المسلم أن يحمي الكافر من ظلم المسلم.
وهكذا نجد الإسلام يؤكّد رفض الركون إلى الظّالم، والسّكوت على فعل المنكر، وترك المعروف، ما يجعل للرّقابة الاجتماعيّة دوراً إلى جانب الرّقابة الرسميّة.
ولا نريد أن نثير كلّ العناوين الإسلاميّة في التفكير والتشريع الإسلاميّين، التي تهدف إلى سلامة المجتمع الإسلامي في عملية توجيه وتنفيذ وانفتاح وانضباط وتوازن، ولكننا نريد الإشارة ـ من خلال بعض المفردات ـ إلى أن الدين في طبيعته الروحية والعقائدية، يملك العناصر التي تترك تأثيرها الإيجابي في عملية تكامل الاجتماع الإنساني.
والدين ـ في بُعده الإيماني ـ ينفتح على عالم آخر، وهو عالم الحياة والموت، فلا يضيق الإنسان ذرعاً بالمشاكل الصّعبة في حياته، ولا يتعقّد من أيّة حالة سلبيّة ذاتيّة، فالدّين يحثّ الناس دوماً على المواساة والمساعدة حتى الإيثار، لأنّ ذلك يُثمر في مستقبل الدّنيا تارةً، وفي مستقبل الآخرة تارةً أخرى، نوعاً من التّعويض الإلهي، بما يوفّره للمؤمن من النعم الوافرة في الحياة، ومن الثواب الجزيل بعد الموت، ما يبتعد به عن كلّ المشاعر المضادّة أمام تحدّيات الواقع، لأنَّ الواقع ليس كلّ شيء في الطّموح الذّاتي، ولأنَّ الحياة في مسؤوليته الإيمانية تمثّل حركة القيم والأهداف الكبرى التي يعمل على تحقيقها ولو من عمق المعاناة النفسية والعملية.
ولذلك، فإنّه يمكن للمؤمن أن يتحسّس السعادة في وجدانه، وهو في قلب الألم، ويرتاح للواقع في سلبياته كما يرتاح له في إيجابياته، لأنّ المسألة في حساباته ليست مسألة الذّات، بل مسألة القيمة، فهي التي تؤكّد إنسانيّته في أعماق المعاناة.. ولعلّ من الطبيعي أن يوفر ذلك كلّه قدراً كبيراً من الراحة النفسيّة للإنسان الفرد في حياته الخاصّة، والإنسان المجتمع في حياته الاجتماعيّة، بحيث ينفتح على الواقع القيميّ بكلّ راحة وطمأنينة، فلا يتعقّد من الواقع، بل يبقى في مصالحة معه على مستوى الإحساس وعلى مستوى النّتائج.
وهناك جانب آخر مهمّ في الدّين، وهو هذا السّموّ الرّوحيّ الّذي ينطلق بالإنسان إلى آفاق الله، خالقه وخالق الكون، ليتعبّد له في إحساس الخضوع لربوبيّته، في حالة وجدانيّة يمتزج فيها الرّجاء من خلال النعمة، بالخوف من خلال العظمة.. فهو من المفردات العبادية، الربّ، الرحمن، الرحيم، الكريم، المنعم، المتفضّل، المحسن، وهو مع ذلك، القويّ، القادر، القاهر فوق عباده، المتجبر، الّذي يُطلّ جبروته في عظمته وقدرته على الوجود كلّه، وهو الحكيم الخبير الّذي يتصرّف بالكون والإنسان من خلال الأسرار العميقة التي تضع لكلّ شيء قانوناً، وهذا هو الذي يجعل الإنسان واثقاً مطمئنّاً بمسار متوازن لحركة الوجود، لأنَّ الرّعاية الإلهية في مواقع الرحمة، والقدرة الربانيّة في مواقع القوّة، توحيان إليه بالأمن الّذي قد يعرفه الإنسان، حتى في أوضاع الفوضى التي يشعر بأنها لا تخضع لقاعدة، ولا تقف عند حدّ.
وهكذا، يقف الإنسان المؤمن أمام كلّ المتغيرات والهزات الواقعيّة، في هدوء عقلي وشعوري، وطمأنينة نفسية، لأنّ كلّ شيء خاضع للتّخطيط الإلهيّ
{إنّا كلَّ شيءٍ خلقْناهُ بقدَرٍ}[القمر: 49]..
{إنَّ الله بالغُ أمره قد جعَلَ الله لكلِّ شيءٍ قدراً}[الطّلاق: 3]. وبذلك، فإنّ المجتمع الإنساني لا يشعر بالإحباط والسّقوط وانعدام الوزن أمام أية تقلّبات وتحوّلات، لأنها ليست جنوناً في حركة الحياة، بل هي حركة عاقلة في دائرة سنن الله في الكون والإنسان، بحيث يمكن للاجتماع الإنساني أن يراقبها ويرافقها، ضمن وعيٍ لأوضاعها ودلالاتها، وقدرةٍ على التّعامل معها بواقعيّةٍ واتّزان".
[كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، ص 3-5].
من هنا، فالدِّين عامل بناء ورقيّ وسموّ بمشاعر الإنسان وإيمانه ووجوده وكيانه، إذا ما وعى الإنسان سنن الله وإرادته وتعاليمه، وعقلها بكلّ تسليم وطاعة منفتحة.