من القضايا الّتي عالجها القرآن الكريم بأكثر من أسلوب، مسألة إقامة الإنسان في بلده أو هجرته منه. فهل يريد الإسلام للإنسان أن يبقى في بلده، فلا يهاجر منه مهما كانت الظّروف، أو أنّه يشجّع الإنسان على الهجرة في بعض الظّروف، وقد يوجبها عليه في ظروف أخرى؟
لقد عاش الإسلام هذه التّجربة في بداية الدّعوة الإسلاميّة، فهاجر المسلمون من مكَّة إلى الحبشة، ثم هاجروا ومعهم رسول الله(ص) إلى المدينة، ولقد أعطى الإسلام للمهاجرين عنواناً كبيراً.
المستضعفون قسمان
وما نريد طرحه في هذا اللقاء، هو كيف عالج القرآن الكريم هذه المسألة، إن في خط الهجرة، أو في موقع المهاجرين. فنلتقي بالآية الأولى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النّساء: 97-98].
إنّ هاتين الآيتين تعالجان بعض النماذج من الناس الذين عاشوا في بلد يسيطر عليها المستكبرون، الذين يتحرّكون في خطّ الكفر فيفرضونه على الناس، بحيث يمنعونهم من أن يفتحوا أية نافذة على الهدى، إلى درجة أنّهم ـ وهم يعيشون في هذا البلد ـ لا يجدون إلّا ثقافة الكفر، فليست هناك أيّ فرصة لثقافة الإيمان على أيّ مستوى من المستويات، سواء على مستوى الكتاب، أو على مستوى النّادي، أو على مستوى الموعظة والخطابة والحديث وما إلى ذلك، فيكفر هؤلاء انطلاقاً من هذا الموقع. وهنا، تدخل الآية الكريمة إلى ظروف هؤلاء، فتقسّمهم إلى قسمين؛ القسم الأوّل: هو الّذي يستطيع أن يجد فرصة في الانفتاح على خطِّ الهدى وخطِّ الحريّة، بالهجرة من بلاده إلى بلادٍ يملك فيها أن يتحرَّر من ضعفه، وأن ينفتح على خطِّ الهدى.
وهناك فئة لا تملك أيّة فرصة لذلك، فهم لا يملكون فرصة مالية أو رسمية تتيح لهم الخروج من بلدهم إلى بلاد أخرى، وقد يكونون من الرجال أو النساء أو الولدان، فيبقون في البلد نتيجة انعدام فرص الهجرة منه.
والله تعالى يحدِّثنا عن الفئة الأولى أن لا عذر لهم إذا كان بقاؤهم في بلادهم يفرض عليهم الكفر والضّلال، في الوقت الّذي يجدون الفرصة للخروج من هذه الدائرة المغلقة. وأمّا الفئة الثانية، ممن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فإنّ الله يحدّث عنهم بقوله: {فَأُوْلَـئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}[النّساء: 99]. ولعلّ (عسى) هنا لا توحي بمعنى الحسم، بل بمقاربة الموقف للعفو وللمغفرة. فربما يكون الأساس في ذلك، أنّ الله يريد لهؤلاء أن يدقّقوا: هل إنهم لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً، أم أنّهم ليسوا من أولئك؟
الضّعف ليس عذراً
ونخرج من خلال هذا العرض بنتيجة حاسمة، وهي أنّ الإسلام لا يعتبر الضّعف عذراً إذا أمكن للإنسان أن يحوِّل ضعفه إلى قوّة، سواء كان ذلك في بلده، أو كان ذلك خارج بلده، وسواء كان ذلك على مستوى القضيّة الكبرى، وهي قضيّة الإيمان والكفر، أو على مستوى القضايا الثانويّة، كالظلم والعدل وغيرهما، فربّما يبقى الإنسان في بلده ليخضع لخطط الظّالمّين وليشاركهم فيها وهو مجبر على ذلك، في حين أنّه قادر على أن يخرج منها ليتخفّف من هذه الضغوط.
فعلى الإنسان أن يدرس موقفه وموقعه ومدى قدرته على الخروج من هذا الطّوق المحكم الذي يحدق به {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} بالكفر أو بالضّلال أو بالظّلم {قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، فإذا كنتم مستضعفين في بلدكم، وكنتم لا تملكون أن تتحرَّروا من سيطرة المستكبرين، فإنّ هناك أرضاً أخرى يمكن أن تجدوا فيها حرية الثقافة والحركة والموقف {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، لأنَّ الحجَّة قامت عليهم بقدرتهم على أن يخرجوا من دائرة الكفر إلى دائرة الإيمان {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}، فهم لا يملكون أيّة فرصة للخروج من الطّوق المحكم { فَأُوْلَـئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ الله عفوّاً غفوراً}.
ثم يعطينا الله سبحانه وتعالى قاعدة عامّة في فوائد الهجرة، وأنَّ على الإنسان أن لا يحبس نفسه في دائرته الخاصَّة، ليجد العذر لنفسه في كلّ السلبيّات التي قد تترتب عليه من خلال ذلك. فقد يجد الإنسان في الهجرة فرصاً كثيرة، وقد يجد آفاقاً واسعة يستطيع من خلالها الانفتاح على حريته، وعلى خطوط الهدى في ثقافته. {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} فرصاً كثيرة {وَسَعَةً}، فإذا ضاق به بلد، فإنّ بلاد الله الأخرى تتسع له.
ثم يؤكّد سبحانه وتعالى أنّ الإنسان الذي يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ}، فقد تكون هجرة في خطّ جهاد، أو في خطّ هدى، أو في خطّ حريّة، وإلى غير ذلك ممّا يحبّ الله ورسوله للإنسان أن يأخذ به {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ}، أن يموت وهو مغترب {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى الله} فإنَّ الله يتكفّل بأجره، ولعلّ هذه الكلمة توحي بأنَّ الله تعالى يعطيه بحسب كرمه ورحمته ما لا يحصى عدده، ولا يعرف مقداره من الأجر والثّواب {وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا}[النّساء: 100].
دراسة قرار الهجرة
وعلى ضوء هذا، نعرف أنَّ الإسلام لا يعتبر الهجرة سلبيّة، بل على الإنسان أن يدرس الهدف من الهجرة وظروفها: هل هي هجرة يحبّها الله ورسوله؟ وهل إنَّ الهدف منها مما يحبّه الله ورسوله؟ هل يحفظ دينه في الهجرة؟ هل يحفظ حريّته؟ هل يحفظ موقفه؟ وقد ورد عن الإمام عليّ(ع) عندما تحدَّث عن هذا الجانب "ليس بلد أولى بك من بلد". فالبلد والوطن ليس صنماً تعبده، وليس هو سجناً تحبس نفسك فيه، فقيمة وطنك بمقدار ما يحفظ لك إنسانيّتك، ويحمل مسؤوليّتك، ويلبّي حاجاتك وقضاياك وأهدافك. فالإمام(ع) يريد أن يقول إنَّ على الإنسان أن لا يربط نفسه ببلد معيّن بحيث يسجن نفسه فيه، بل عليه أن يدرس المسألة من ناحية إنسانيّة، فأيّ بلد يحفظ لي إنسانيّتي وديني وحريتي وعزّتي وكرامتي فذلك بلدي "خير البلاد ما حملك". فالبلد الذي يملك بأن يحمل همّك وقضاياك وعزّتك وكرامتك وحريتك ودينك هو خير البلاد.
نماذج المهاجرين
ثم ننتقل إلى آية أخرى يحدِّثنا الله فيها عن نماذج المهاجرين في عهد الدّعوة الأولى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}، أي الذين سبقوا إلى الهجرة انطلاقاً من إيمانهم بالإسلام، ومن حاجة الإسلام إلى أن ينتقل نشاط المسلمين إلى بلد آخر، إمَّا ليتخفّفوا من الضّغط الذي كان واقعاً عليهم، كما في هجرة المسلمين إلى الحبشة، أو هجرة بعضهم إلى يثرب، أو من أجل بناء مجتمع إسلاميّ جديد، كما في الهجرة التي حصلت في السّنين الأخيرة من الدّعوة الإسلاميّة إلى يثرب {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، رضي الله عنهم من خلال ما أخلصوا له، ورضوا عن الله من خلال ما هداهم إلى دينه، ومنحهم من ألطافه، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. ورضا الله ليس أمراً مطلقاً في حياة الإنسان، فقد يبدأ الإنسان عملاً يرضي الله، ولكنَّه يتطوّر بعد ذلك إلى عملٍ يغضب الله، فالله سبحانه وتعالى يرضى عنهم من خلال سبقهم إلى الإسلام، ومن خلال صدقهم وإخلاصهم وعملهم، فإذا انحرفوا عن خطّ الإخلاص، كانت النتائج المترتبة على انحرافهم سلبيّة. {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التّوبة: 100] إذا استقاموا على الطّريقة التي بدأوا بها.
ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}. وضغط عليهم وحوصروا وسجنوا ومنعوا من كلِّ شروط الحياة الكريمة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، لنعطيهم الفرصة الطيّبة التي يعيشون فيها على أساس الحصول على موقعهم المميَّز {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[النّحل: 41]. من أين انطلق هؤلاء في هجرتهم؟ {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[النّحل: 42]، فقد ظلموا وصبروا، وقد اضطهدوا وأريد فتنتهم عن دينهم، ولكنّهم ثبتوا على دينهم وصبروا. وعندما خوَّفهم الناس من المستقبل توكّلوا على الله {وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: 173].
ويقول عزَّ من قائل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قُتِلُوا}، لأنّهم واجهوا المعركة في حركة الهجرة {أَوْ مَاتُوا} موتاً طبيعيّاً وهم في خطّ الهجرة {لَيَرْزُقَنَّهُمْ الله رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الحجّ: 58]. والمراد من الرّزق هنا هو رزق الآخرة {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}[الحجّ: 59].
البحث عن السّعة
ثم يعطي الله سبحانه وتعالى خطّاً عامّاً لكلّ الناس الذين يعيشون الاضطهاد والضّغط {يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت: 56]. فكلّ الأرض مسجد لله، فإذا ضاق بالإنسان بلده، فلم يستطع أن يعبد الله كما يريد له سبحانه وتعالى أن يعبده في الفكر الحقّ، وفي العاطفة الحقّ، وفي السّلوك الحقّ، فإنَّ هناك أكثر من أرض تتّسع لعبادة الله سبحانه وتعالى، فعليه أن لا يحبس نفسه في أرضٍ لا يملك فيها أن يعبد الله كما يحبّ.
وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، وهي كناية عن الأجر المعجّل الّذي يعطيه الله للإنسان، وأرض الله واسعة، فإذا ضاقت بكم أرض، فإنَّ هناك أكثر من أرض تتّسع لحركاتكم وطموحاتكم وحرياتكم، ولكن عليكم أن تصبروا، لأنَّ من الصّعب على الإنسان أن يفارق وطنه الّذي ولد فيه، والذي كان يمثِّل ملاعب صباه، وملتقى أهله وأصدقائه وأحبابه، وموطن ذكرياته. لكنَّ الإنسان الذي يصبر من أجل القضيّة الكبرى، سوف يجد نتيجة صبره {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزّمر: 10]. ولعلّ الصّبر هو القيمة الإسلاميّة الأخلاقيّة المميّزة التي جعل الله الأجر عليها أجراً غير محدود، باعتبار أنّه القيمة التي تدعم كلّ القيم، كالعفّة والصّدق والأمانة والعدل ونحوها، مما يرتكز على صبر الإنسان فيها على شهواته ونوازعه الذاتية ونقاط ضعفه التي تجرّه إلى السّقوط أو الاهتزاز، وهكذا تحفظ للإنسان إنسانيّته أمام البلاء، أو تبعده عن مواقع سخط الله وتقرّبه إلى مواقع رضاه، فهو الذي يمنح الإنسان القوّة التي ترفعه إلى الأعلى في مدارج الرّفعة والسموّ والانطلاق.
ثم يحدِّثنا الله عن نموذجٍ آخر من المهاجرين: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ الله وَرِضْوَانًا}. عندما انطلقوا بعيداً من أوطانهم، وجرّدوا من ديارهم وأموالهم، لم يشعروا بالسقوط ولا باليأس والإحباط، بل انفتحوا على فضل الله ورضوانه {وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}[الحشر: 8]، لأنهم صدقوا الله في كلامهم ومواقفهم، وفي صبرهم على ما واجهوه من تحدّيات وضغوط.
ومن الطّبيعيّ أن يكون هؤلاء قد هاجروا إلى بلاد مملوءة بالنّاس، ولذلك يحدِّثنا الله عن هؤلاء الّذين استقبلوا المهاجرين، كيف كانت مشاعرهم، وكيف كانت عواطفهم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، كناية عن يثرب الّتي كان يسكنها الأوس والخزرج، والّذين أحبّوا من هاجر إليهم، لأنّهم دخلوا في الإسلام، وشعروا بأخوّة الإسلام التي تربطهم بالمهاجرين، فانفتحوا عليهم حبّاً بحبّ، لأنهم شعروا بأنَّ رابطة الإسلام تمثّل رابطة تنفتح على العاطفة، وعلى الفكر والموقف أيضاً.
{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، فقد استقبلوهم في بيوتهم، فضاقت بيوتهم عليهم، ولقد قدَّموا إليهم المساعدات، فشحَّت أموالهم عليهم، ولكنَّهم لم يشعروا بأيّ حرج أو ضيق {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، كانوا يقدِّمون للمهاجرين ما هم بحاجة إليه، فيؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي كانت ظروفهم الماديّة صعبة {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}، أي من يقيه الله البخل وشحّ النّفس {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9]. ونستوحي من ذلك، أنّ من الأمور التي تحقّق للهجرة الطيّبة الهادفة نتائجها الإيجابية ومعانيها الخيّرة، الرّعاية التي يجد فيها المهاجرون الطمأنينة والاستقرار والانفتاح على مستقبل كبير، كما هو الحال في موقف الأنصار من المهاجرين، فأعانوهم على أن يشاركوا في بناء المجتمع الإسلامي الجديد، وفي حماية الإسلام من التحدّيات، الأمر الذي أفسح المجال للتفاعل بين القادمين والمقيمين في الهدف الواحد والمستقبل المشترك.
السّابقون إلى الإيمان
ثمّ يحدِّثنا الله تعالى عن الجيل الآخر، كيف هي مشاعره واحساساته تجاه الجيل الذي سبقه؟ وكيف هي مشاعره تجاه المؤمنين؟ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ}، فقد آمنوا بك قبلنا، وعبدوك قبلنا، وانفتحوا عليك قبلنا، وهم الذي ثبّتوا الأرض من تحت أقدامنا عندما ركّزوا القاعدة الإسلامية في هذه الأرض، فنشأنا بفضلهم مسلمين لأنّ الأجواء كانت إسلامية، ولذلك تراهم يستغفرون لهم {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، لا تجعلنا ـ يا ربّنا ـ نحقد على المؤمنين، مهما كانت الخلافات بيننا، سواء اختلفنا في أمور شخصيّة، أو في أمور ماليّة، أو في بعض الأفكار التي يختلف الناس فيها باجتهاداتهم.. لا تجعلنا نحقد على المؤمنين، لأنَّ المؤمن لا يحقد على المؤمن، بل إنَّ المؤمن يحبّ المؤمن {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، وأخوَّة الإيمان فوق كلّ أخوَّة. {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر: 10]، فارأف بنا وارحمنا. وهذه الآية ـ أيّها الأحبّة ـ تعطينا الخطّ الأخلاقيّ القرآنيّ في علاقة المسلمين ببعضهم البعض، فهي علاقة حبّ بحبّ، وليست علاقة حقد بحقد. وقد علّمنا إمامنا أمير المؤمنين(ع) أن نحصد الشّرّ من صدورنا بقوله: "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك". فليكن قلبك واسعاً رحباً مفتوحاً بالحبّ على النّاس الآخرين، فإنَّ ذلك سوف يقتلع الحقد من الآخرين.
ونستوحي من ذلك، أنّ الجيل الجديد يقدِّر للجيل القديم فضله وسابقته في الإسلام، ويجد في امتداد مسيرته امتداداً لها، من خلال الأخوّة التي تمتدّ في الزّمن بقدر امتداد الخطّ في الحركة، فلا صراع بين الجيلين، بل هناك تكامل بينهما، ليكمل الآخر ما بدأه الأوّل، أو يصحّح ما أخطأ فيه، لا أن يهدم ما بناه ويقوِّض ما شيّده.
أيّها الأحبّة: إنّ مشكلتنا في مجتمعاتنا الإسلامية، أنّنا نزرع الحقد في العقول والقلوب، ونزرعه ضدّ المسلم إذا اختلفنا معه مذهبيّاً أو فقهيًّاً أو كلاميّاً أو حزبيّاً أو سياسيّاً أو مرجعيّاً، وهذا ليس كلّه إسلاماً {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، إذا اختلفوا في أيّ أمر من أمور الحياة. وعليّ(ع) هو إمامنا في ذلك كلّه، فعندما كان يحارب معاوية، سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشّام، فوقف خطيباً، وقال لهم: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم"، فالسبّ لا يعطي نتيجة، ولا يقنع السَّائر في خطِّ الباطل بالحقّ، وهو يعقِّد الإنسان الآخر ويزيده عقدة وعصبيَّة، فهناك أشياء قد تختلفون معهم فيها، وهناك انحرافات عند هؤلاء، فلو تحدَّثتم عن ذلك "وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول" من السبّ والشّتم "وأبلغ في العذر"، فمن يسمعكم وأنتم تشيرون إلى انحرافهم، فقد يجد لكم العذر في قتالكم لهم، "فقلتم مكان سبِّكم إيَّاهم: اللَّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به".
إنَّ خطَّ الإسلام هو خطّ الحبّ لله ولرسوله وللمسلمين. أحبب الّذي تلتقي معه لتتعاون معه، وأحبب الّذي تختلف معه لتهديه إلى سواء السّبيل، وذلك هو قلب رسول الله(ص): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التّوبة: 128]. والحمد لله ربِّ العالمين.
* فكر وثقافة، ج7، المحاضرة 17، بتاريخ: 29/7/ 2000م.