كتابات
10/10/2017

حديث عليّ(ع) عن الفتنة

حديث عليّ(ع) عن الفتنة

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

وفي هذا اللّقاء، نستمرّ مع الإمام عليّ(ع) في نهج بلاغته، لنلتقط عدّة نصوص تمثّل بعض المفاهيم التي تعيش في واقعنا العام والخاصّ، والتي حاول الإمام(ع) أن يوضّحها، حتى يعرف الناس خطوطها وملامحها.

كيف تحدث الفتنة؟!

والمفهوم الأوّل الذي سنتناوله هو مفهوم (الفتنة)، فكيف تحدث الفتنة في المجتمع؟

إنَّ الإنسان بطبعه يرفض الباطل عندما يراه باطلاً بشكل داخلي، ويقبل الحقّ عندما يراه حقّاً بشكل واضح. فمن أين تأتي الفتنة؟ سواء كانت فتنة تحمل عناوين دينيَّة، أو عناوين سياسيّة أو اجتماعيّة أو أمنيّة؟ وكيف يندفع الناس للسير وراءها والسقوط في نتائجها السلبية؟

إنَّ الإمام عليّاً(ع) يحاول أن يحلّل ذلك، فيقول: "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبع"، بحيث يتحرّك في إشعالها أهل الأهواء، ليحوّلوا أهواءهم إلى أمنيات وشعارات وخطوط في المواقع الاجتماعيّة والسياسيّة، "وأحكام تبتدع"، فتنطلق البدعة التي تتبنّى أحكاماً لم يشرّعها الله ورسوله، فتأخذ معنى الجدّة في أذهان الناس، ومن عادة الناس أنّهم يحبّون الجديد، حتى لو كان في خطّ الانحراف.

"يخالف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجال رجالاً"، فيدفع الرّجال الرّجال ليحرّكوهم نحو إشعالها وتأجيجها على غير دين الله، "فلو أنَّ الباطل خلص من مزاج الحقّ، لم يخف على المرتادين". والمرتادون هم الطّالبون للحقيقة. "ولو أنَّ الحقَّ خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث". والضّغث هو قبضة من حشيش يختلط فيها الرّطب مع اليابس، "فيمزجان، فهناك يستولي الشّيطان على أوليائه، وينجو الّذين سبقت لهم من الله الحسنى".

إنَّ الإمام(ع) يريد أن يؤكّد في هذا النصّ، أنّ الذين يصنعون الفتنة ويحرّكونها، يحاولون أن يمزجوا بين الحقّ والباطل، فيعطوا الكلمة أو الحركة أو الخطّ شيئاً من الحقّ وشيئاً من الباطل، فيمزجوا بينهما، حتى يرى الناس في شعارات الفتنة بعض الحقّ فيتبعوها على هذا الأساس، وقليلاً ما يدقّق الناس ليفحصوا مفردات الحقّ في عناوين الفتنة ومفردات الباطل. وبهذا تتحرّك الفتنة، وهذا ما عاشه الكثير من الناس في الماضي والحاضر.

فتنة رفع المصاحف

فنحن نقرأ في واقعه (صفين)، أنّ الحرب كانت إلى جانب الإمام عليّ(ع)، وكان النصر له، ولكن كان هناك في جهاز معاوية من حاول أن يثير الفتنة في صفوف جيش الإمام عليّ(ع)، فاقترح مسألة رفع المصاحف، وتحدَّثوا مع الناس بقولهم: مَن لثغور الإسلام؟ والثّغور ليست همّاً وإنّما ذريعة، ولذلك قالوا: تعالوا إلى كتاب الله ليحكم بيننا وبينكم. وهنا أراد معاوية أن يتفادى الهزيمة بوضع الخطّة على أساس رفع المصاحف، ودعوة النّاس إلى تحكيم كتاب الله. والإمام عليّ(ع) يقول لهم إنَّ القوم لا يرتبطون بأيِّ رباطٍ بكتاب الله عزَّ وجلَّ، ولكنَّ عنوان الحقّ هذا استطاع أن يسيطر على وجدان النَّاس هناك، حتى فرضوا على عليّ(ع) أن يوقف الحرب، وأن يستدعي (الأشتر) الذي كان قد وصل إلى أبواب مصر.

فالخطَّة هي خطَّة باطل، ولكنَّها أعطيت عنوان الحقِّ فتلبَّست بلبوسه. ومن هنا، نجد أنَّ الكثير من النّاس قد يدفعون بالكثير من الأفكار المنحرفة من خلال عناوين جذَّابة. فنلاحظ مثلاً، أنَّ الذين أحبّوا عليّاً(ع) والأئمَّة من أهل بيته(ع) قد اندفع اليهم قسم من الناس أدخلوا في هذا الخطّ الكثير من حالات الغلوّ باسم محبّه أهل البيت والدّفاع عنهم وما إلى ذلك، حتى قال عليّ(ع): "هلك فيّ إثنان؛ محبّ غال، ومبغض قال"، لأنّ الأئمّة(ع) كانوا لا يريدون للمسلمين أن يزيدوا أيَّ شيء في العقيدة، بحيث يدخل الغلوّ في عقيدتهم.

إنّها فتنة، ولكنَّها فتنة أخذت عنوان الحقّ، فلقد مزج الباطل بالحقّ إلى درجة انطلائه على النّاس، فإذا أراد إنسان أن يقف ضدَّ هذا الباطل أو ذاك، ليفرز بين حقيقة الحقّ وبطلان الباطل، لوَّحوا له بالحقّ واتهموه بأنّه يقف ضدّه. والفتن عندما تنطلق، فإنها تصنع حالة من الجنون الشعوري، بحيث لا تجد من يستمع إلى وجهة نظر أو رأي أو حوار هنا وحوار هناك. لكنّ العناوين التي تستعمل لإيجاد عنصر من عناصر الإثارة، هي التي جعلت الذهنيّة لا تفكّر في المسألة في إطارها الشرعيّ، بقدر ما تفكّر فيها في إطارها العرفيّ، حتى يثار الناس ضد الذي يحاول أن يضع الحقّ في نصابه ويخلّصه من مزاج الباطل.

لذلك، فإن الإمام(ع) عندما يقول: "إنّ الباطل لو خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين"، فلأنّهم يشخّصونه جيّداً، فلا يلتبس عليهم، "ولو أنَّ الحقَّ خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين". ولكان كلّ النّاس أتباعه، ولكن عندما يؤخذ شيء من الحقّ وشيء من الباطل، فهناك تكون الفتنة.

دراسة الفتنة

فماذا يريد الإمام عليّ(ع) أن يقول لنا من خلال هذا التّحليل؟ فدوره(ع) ليس دور المحلّل فقط، بل هو دور الرّائد والموجّه والنّاصح والدّاعية والرّسالي، فهو يريد أن يقول عندما تكون هناك فتنة ادرسوها، سواء كانت سياسيّة تنطلق من بعض الشّعارات السياسيّة البرّاقة التي تهدف إلى خدمة بعض الخطوط التي ليست في مصلحة الشّعب، أو فتنة اجتماعية تحاول أن تعطي عناوين كبيرة في المجتمع من قبيل وحدة المجتمع، وما إلى ذلك من عناوين يراد بها تغطية بعض الأمور التي تسيء إلى الواقع الاجتماعي.

وهكذا الأمر بالنّسبة إلى الفتن الدينيّة، وما أكثرها! وخصوصاً مع اختلاف المذاهب الإسلاميّة، وتباين الخطوط في المذهب الواحد، التي تجعل بعض المسلمين - كما هو الحال اليوم - يكفّرون بعضهم بعضاً باسم الحفاظ على الدين، وهم لا يميّزون بين الكفر والإيمان، أو يضلّلون بعضهم بعضاً، وهم لا يفهمون خطَّ الهدى من خطِّ الضّلال، انطلاقاً من العناوين الكبيرة التي تخفي في داخلها عصبيّات مذهبيّة أو طائفيّة أو شخصيّة أو مرجعيّة وما إلى ذلك.

فعندما ندرس هذه الفتن في مجتمعنا، ونحن الشرقيّين والمسلمين بشكل خاصّ، نتحرّك مع الفتنة بنحو جنونيّ، من  دون وعي ولا تفكير في منشئها وعواقبها. والإمام(ع) يقول لنا، إنّكم عندما تواجهون أيّ فتنة، لا تنفعلوا بها ولا تنجذبوا إليها، ولا تلهبكم شعاراتها، ولكن ادرسوها: ادرسوا عناصرها.. كيف يتحدَّث أصحابها؟ وادرسوا عناصر الشخصيّة لدى أصحابها؛ هل هم من الأشخاص الّذين يؤتمنون على الدين والسياسة والاجتماع، أو أنّهم أشخاص لا أمانة لهم في ذلك كلّه؟! حاولوا أن تواجهوا الفتنة بعقلانيّة، والعقلانيّة تقتضي أن تحسب حسابات دقيقة في كلّ الخطوط التي تتحرّك بها الفتنة، فإذا عرفتها، واستطعت أن تميّز الحقّ فيها من الباطل، استطعت حينئذٍ أن تحدّد موقفك لتعرف طبيعتها جيّداً.

وهذا يحتاج - أيّها الأحبّة - إلى أن نربّي أنفسنا على أساس الموضوعية لا الانفعالية - فمشكلتنا هي أنّنا انفعاليّون في البيت وفي السّوق وفي النادي وفي أماكن العمل وفي الواقع الاجتماعي والسياسي. ونحن انفعاليّون لأنّنا عصبيّون، ولذلك نحتاج إلى نوع من العقلانيّة بأن نفكّر بالعقل البارد، لأنَّ مشكلة العقل الحارّ هي أنَّ الحرارة تحجبه بأبخرتها، فلا يعود يرى شيئاً، والعقل الحارّ محجوب بأبخرة العصبيّات والانفعالات والحساسيّات، فلا يفهم شيئاً. لذلك ندعو دائماً إلى التفكير بالعقل البارد الذي يتحرّك على أساس معادلات رياضيّة، كما في (1+1=2). ولكن في العصبيّة والانفعال، تنقلب المسألة، فيصبح (1+1=5) أليس الكثير من الناس يفكّرون بهذه الطريقة؟!

إنّ الإمام عليّاً(ع)، عاش الفتن، وكان ضحيّتها، وواجهها في زمن رسول الله(ص) عندما كان الإسلام يواجه الفتن الكبرى، وواجهها بعد رسول الله(ص)، وكان ينتقل من واقع تحرّكه الفتنة إلى واقع تسقطه الفتنة، وكان ضحيّة كلّ تلك الفتن، ولذلك وقف ليتحدَّث بكلّ مرارة، لأنّه كان يعرف الحقيقة جيّداً، وكان يقول للذين لا يملكون وضوح الرّؤية للأشياء: "قد يرى الحوَّل القلَّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين". فهل نكون عقلانيّين أو نبقى انفعاليّين؟

إنّ العالم اليوم عالم عقل؛ عقل يخطِّط للسياسة، وآخر يخطِّط للأخلاق، وعقل يخطِّط للاجتماع، وعقل يخطِّط للأمن. فالآخرون يخطّطون، ونحن نصرخ ونهتف وننفعل، فكيف يمكن أن تتمّ المعادلة، والبون بين التّخطيط والصراخ شاسع جداً؟!

فتنة التّحكيم

وهناك كلمة أخرى قالها الإمام عليّ(ع) انطلقت من خلال فتنة التحكيم، فلقد ضُغط عليه(ع) بقبول التحكيم بعد رفع المصاحف، وحاول أن يوجِّه القوم الوجهة الصّحيحة فلم يقبلوا، ورأى أنّه لو استمرّ على رفضه، لانطلقت الفتنة في الجيش وانهزم من دون حرب. وهذا ما كان يريده معاوية ويخطِّط له، لذلك اقترح(ع) شخصاً ليكون الطّرف الذي يمثّله فلم يقبل، فكانت النتيجة أنّهم فرضوا شخصاً آخر لم يكن يمتاز بالرّؤية الواضحة والحكمة والعمق المطلوب في مثل هذه الأمور، ولذلك تغلَّب عليه الطّرف الآخر. وعندما واجه الإمام(ع) المتحمّسين لقبول التّحكيم، قالوا له لقد اخطأنا وكفرنا عندما حكَّمنا الرجال في دين الله، وهم (الخوارج)، وأرادوا منه أن يعترف أنّه هو أيضاً أخطأ وكفر، وأن يتوب من كفره. فأيّ مأساة هي هذه؟!

 وانفصلوا عن الجيش وقالوا: "لا حكم إلّا لله". وهذه هي الفتنة التي تتمخّض عن الشّعارات المغلّفة، فمن الذي يمكن أن ينكر هذا الشِّعار {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44]، {... الظَّالِمُونَ} [المائدة: 54]، {... الْفَاسِقُونَ}[المائدة: 46]؟!

ولقد علَّق الإمام عليّ(ع) على ذلك، وقال لهم لا تنظروا إلى طبيعة الشِّعار، ولكن ادرسوا ما هو الهدف الّذي يقصده طارحو الشِّعار، وكيف يفكّر الّذين يطرحون الشِّعار في الخطوط التي تتحرَّك في داخل السَّاحة؟ فلا يكفي أن تأخذ الشِّعار بالعنوان الكبير، فلا بدَّ من أن تنفذ إلى داخله لتتعمَّق في مراميه. ولذا قال(ع): "كلمة حقٍّ يراد بها باطل". وليس أروع من هذه الكلمة في تشخيص الفتنة والتّلاعب بالعناوين، فلا يكفي أن تكون الكلمة حقّاً لتزحف نحوها ولتؤيّدها ولتتفاعل معها، بل لا بدَّ لك من أن تعرف من أين انطلقت هذه الكلمة التي هي كلمة حقّ؟ ومن أيّ فهم تحرّكت؟ وإلى أيّ هدف تريد أن تصل؟

نعم "لا حكم إلّا لله"، فمن ينكر أنَّ الحكم لله؟ ومن يقول بالحكم لغيره؟ "ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة الا لله". فهناك فرق بين الحكم بمعنى التَّشريع والمنهج، وبين الإمرة بمعنى إدارة شؤون النّاس. فالله سبحانه وتعالى يحكم ولا رادَّ لحكمه، بمعنى أنّه ينزل على نبيّه ما يريده من الناس مما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، ولكن من الّذي يقود الحكم الشرعيّ في حركة واقع النظام الاجتماعي والسياسي والأمني؟ فلا بدَّ من أمير يقوم بهذه المهمّة، ولذلك، فالقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لله}، لا يعالج المشكلة، بل على العكس، يعقِّدها، فقد طلبوا من الحكمين أن يحكِّما كتاب الله وسنّة نبيّه، ولكنَّهما انحرفا عنهما. فنحن لا نرفض حكم الله، لكن الذي قرّر تحمّل المسؤوليّة في التحكيم لم يتحمَّلها، فالمجتمع بدون قائد يتحوَّل إلى فوضى، لأنّه ليس هناك من يضبط للنّاس أهواءهم ومصالحهم، ويركّز حركتهم باتجاه الحقّ والعدل.

يقول(ع): "ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا لله"، أيّ أنهم يتصوَّرون أنّ الله تعالى هو الذي يمارس الحكم بنفسه على النّاس مباشرة، وأن ليس هناك حاكم من البشر، حتى ولو كان هذا الحاكم مفوَّضاً من قبل الله سبحانه وتعالى، ولكنّ الإمام عليّاً(ع) صحَّح لهم المفهوم، فقال: "وإنَّه لا بدَّ للنَّاس من أمير برٍّ أو فاجر". فالإمام(ع) يركّز على حفظ النظام مما يجمع عليه الفقهاء، ولذلك، فإنّ الكثير من الأمور التي لم يرد في وجوبها نصّ، يجب الإتيان بها لعلاقتها بحفظ النظام. فلا بدّ إذاً من حاكم يدير الأمور، لأنَّ طبيعة المجتمع تحتاج إلى قيادة من أجل تنظيمه، وقد تكون القيادة صالحةً وقد تكون فاسدة، لكن لا بدَّ منها. "يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ فيها الأجل، ويجمع به الفيء، أو يقاتل به العدوّ، وتأمن به السّبل، ويؤخذ به للضَّعيف من القويّ، حتى يستريح برّ، أو يستراح من فاجر". فلا يمكن أن نقول: لا إمرة إلّا لله، بحيث نرفض أن يدير أمير من البشر أمور النّاس، في حين أنّها من واقع طبيعة النّظام العام الذي يراد له أن يوازن حياة النّاس.

وفي رواية أخرى، أنّه لمّا سمع تحكيمهم، قال: "حكم الله أنتظر فيكم"، لأنّكم انحرفتم عن الخطّ، فلا بدَّ من أن أنزّل فيكم حكمه لترتدعوا. "أمَّا الإمرة البرّة، فيعمل فيها التقيّ، وأمَّا الإمرة الفاجرة، فيتمتَّع فيها الشّقيّ، إلى أن تنقطع مدَّته وتدركه منيّته".

كلمات حقّ يراد بها باطل

ومن خلال هذه الكلمة أيضاً، نأخذ الفكرة التالية: لقد ذهب الخوارج في التأريخ ولاقوا وجه ربّهم، ولم يبق منهم إلّا القليل القليل في عصرنا الحاضر، ولكن تبقى كلمة عليّ(ع) حيّة خالدة: "كلمة حقّ يراد بها باطل". فالكثير من الناس قد يطلقون كلمة الحقّ ليزحف الناس وراءهم، ولكنّ الإمام(ع) يدعونا إلى دراسة هؤلاء الذين يقولون كلمة الحقّ ونقف عندها، لنعرف كيف يفهمونها؟ وكيف يتصوّرونها؟ وما هو الهدف الذي يقصدونه من إطلاقها؟ فلا ننظر إلى كلمة الحقّ ونقف عندها، بل إلى الهدف الذي يقصده مطلقوها من خلال طرحها على بساط الواقع. وهذا يتطلَّب وعياً كبيراً بأن تفهم شخصية صاحب الكلمة، وأن تفهم الخطّ الذي يتحرّك فيه، وأن تفهم طبيعة الواقع الّذي تعيش فيه، والهدف الذي تسعى اليه. وهذا تلخّصه كلمة أن يكون للمجتمع وعي يفهم به خلفيّات الأمور، ولا يقتصر على ظواهرها، وأن يفهم نهاياتها ولا يقف عند بداياتها. ومشكلتنا أنّنا نتعلّق بالبدايات ونعمى عن النّهايات، وأنّنا ننظر إلى السّطح دائماً ولا ننظر في العمق. وهناك تعبير دارج يقول: "اِقرأ الممحي". فلا بدّ لنا في الكثير من الحالات من أن لا نقرأ الكلمات المكتوبة، بل أن نعمد إلى قراءة الممحي، لأنَّ الحقيقة قد تكون فيه. وهناك تعبير يدلّ على هذا المعنى أيضاً، فيقال: "فلان يقرأ ما بين السّطور"، أي يقرأ الفراغات التي بين السّطور، لأنّ الحقيقة ربّما تكمن هناك، ولأنَّ المستكبرين والظّالمين والمنحرفين يضعون عادةً خططهم الخبيثة بين السّطور.

وهناك كلمة لعليّ بن أبي طالب(ع).. وعليّ(ع) هنا، في كلماته الخالدة التي هي في دورها تماثل ضربة (مرحب) وضربة (عمرو بن عبد ودّ العامري)، فتلك الضربة أدّت مسؤوليتها في التأريخ، وهي ضربة عظيمة حفظت الإسلام، لكنّ هذه الكلمات تمثّل الضّربة الفكرية للباطل، والضربة الروحيّة لصالح الحقّ، فإنّها تبقى ما بقي الحقّ والباطل، وما بقي الإنسان في مدى الدَّهر.

فإذا كنتم من أتباع عليّ(ع)، وعليّ ليس عنده إلّا الإسلام، فأدخلوا عليّاً(ع) في عقولكم، ومن خلالها، أدخلوه في قلوبكم، حتى لا يظلّ مجرد خفقة قلب، وإنّما حركة عقل أيضاً، فعليّ(ع) كان عقلاً كما لا عقل مثل عقله بعد رسول الله(ص). فلنكن ممن ينفتحون على هذا العقل، لننير عقولنا بنور عقله الّذي أنار الكون كلّه.

الموقف من الفتنة

فحينما يتحدَّث الإمام عليّ(ع) عن موقع الإنسان في الفتنة، فإنّه يعني بها الفتنة التي تفسَّر بتفسيرين: فهي إمَّا صراع بين أهل الباطل، كما نلاحظ ذلك الآن في الكثير من المعسكرات والمحاور الدّوليّة وغير الدوليَّة، أو هي صراع لا يعرف فيه وجه الحقّ من الباطل، فقد يكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل، ولكن هناك حالة ضبابيّة يصعب فيها الفرز.

فالإمام عليّ(ع) يقول إنّه عندما تحدث فتنة، وأنت تعيش في ساحة يتحرّك فيها الصّراع، ويحتدم بين باطلين أو بين فريقين لا يعرف لأيّهما الحقّ، فكيف يكون موقفك؟ يقول(ع) واعظاً: "كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب"(8). وابن اللّبون هو ابن الناقة إذا استكمل سنتين، فلا يمكن أن تركبه، لأنّ ظهره ضعيف لا يتحمَّل الركوب، ولا يمكن أن تحلب ضرعه لأنّه صغير، ولأنّه ولد لا ضرع له، فلا تدعنّ أحداً من أصحاب الفتنة يتّخذ منك مطيّة، أو يستفيد منك كما يستفيد الإنسان من حليب النّاقة، أي كن في أجواء الفتنة حياديّاً.

ونحاول هنا التوسّع في هذه الكلمة، إذ كيف يمكن للإنسان في الواقع أن يكون حيادياً؟ إنَّ الإمام عليّاً(ع) يعالج القضيَّة من حيث المبدأ، ولكن في بعض الحالات، قد يتنازع اثنان من أهل الباطل، وتكون قوّة أحدهما أخطر على الحقّ من الآخر. ففي بعض الحالات، يتطلّب الأمر أن لا تدخل في المعركة لتكون مع هذا ضدّ ذاك كقضيّة تؤمن بها، ولكن حاول أن تتحرّك بالطريقة التي تضعف فيها الأخطر، وأمَّا إذا استطعت أن تسقطهما جميعاً، وكلاهما باطل، فهذا أمر حسن. وأمَّا إذا لم تستطع إسقاطهما، فعليك أن تضعف الأخطر على مصالح الأمَّة.

أمَّا إذا كانت المعركة بين فريق حقّ وفريق باطل، وبين ظالم ومظلوم، فلا حياد، بل عليك أن تكون مع فريق الحقّ ضدّ الباطل، ومع فريق المظلوم ضدّ الظالم، وهذه هي نصيحة الإمام عليّ(ع) لولديه الحسن(ع) والحسين(ع): "كونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً"، ومن الطبيعي أنَّ هذه المسألة تفرض عليك أن تعلن موقفك مع المظلوم ضدّ الظّالم، لأنَّ "السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس".

مشكلة الحياديّين

وقد تحدّث الإمام عليّ(ع) عن الحياديين الذين وقفوا على الحياد بينه وبين معاوية، فقال: "إنّهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"، لأنّهم منعوا الحقَّ قوّتهم، وأنت عندما تمنع الحقّ قوّتك وتخذله، فإنك تكون قد أضعت الحقّ ونصرت الباطل نصراً سلبيّاً. فهناك طريقتان لنصر الباطل: فإمَّا أن تحارب معه، وإمَّا أن لا تحارب مع الحقّ، لأنَّ الحقّ إنمّا يكون قوياً بمشاركة المؤمنين في نصرته والدفاع عنه، فإذا انفصلوا عنه أضعفوه، وعند ذلك يقوى الباطل بضعف الحقّ. ولهذا نقول دائماً إنَّ الأكثرية الصّامتة تتحمّل المسؤوليّة لأنّها هي التي تخذل الحقّ. وهذا ما ينبغي لنا أن نواجهه عندما نواجه القضايا الكبرى للأمَّة، كقضيّة (إسرائيل) الّتي تمثّل سرطاناً في جسم الأمّة العربيّة والإسلاميّة كلّها. فعندما تقف الأكثرية الإسلامية والأكثرية العربية الصّامتة موقفاً سلبياً لا تشارك في أيّ شيء، فإنّ معنى ذلك أنّ (إسرائيل) تقوى بضعفنا، فهي ليست قويّة بالمستوى الذي تمثّل الدّولة التي لا تقهر، ولقد رأينا كيف قهرها - في حجم المعركة الدّائرة - المجاهدون المؤمنون في لبنان. ولكن عندما تسكت أكثرية المسلمين وأكثرية العرب، فمن الطبيعي أن يكون الكيان الصّهيوني قوياً بقوّته وبقوّة الغرب الذي يمدّه بأشكال الدّعم، حتى إنَّ أميركا تعتبر أنَّ الأمن الصّهيوني هو أمن أميركي.

 فعندما نكون أمّة، فلا بدَّ من أن نتحرّك جميعاً في قضايا الأمَّة، ولا مجال هناك للحياد، فالمحايد الّذي يملك أن يتحرّك في أيّ موقع ولا يتحرّك، هو خائن يخون أمّته وقضيته. ومشكلتنا فيمن يرون ظلامة هذا وظلامة ذاك، أنّهم لا يقفون مع المظلوم، فالأكثريّة عندنا -مع الأسف، ولست في موقع اتهام أحد - على طريقة ذاك الّذي حضر معركة صفّين، فكان يصلّي خلف عليّ(ع)، ويتغدّى مع معاوية، وعندما تنطلق المعركة يجلس على التلّ، وينقل عنه أنّه قال: "الصّلاة خلف عليّ أقوم، والطّعام عند معاوية أدسم، والجلوس على التلّ أسلم". فكم هم الجالسون على التلّ؟ والّذين يحبّون الطّعام الدّسم؟ وقد يصلّون الصّلاة الأقوم ولكن من دون روح، ذلك أنّ قيمة الصّلاة في انّها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

أيّها الأحبّة: هذا هو كلام عليّ(ع)، وكما سمعتم، فإنّه كلام يدخل في عمق نسيجنا الثّقافي والاجتماعي والسياسي والأمني، فهل تريدون أن تـكونـوا مع عــليّ(ع)؟ فإنَّ عليّاً(ع) هنا، في هذه الكلمات المضيئة. ولو أنَّ عليّاً(ع) بكلّ هذا الحقّ الصّلب الذي جاء به، والذي يمكن أن يخسرنا الكثير من شهواتنا ومطامعنا ومواقفنا، ويقف ضدّ الكثير من عصبياتنا وحساسياتنا، لو أنّه رشّح للانتخابات - على سبيل الفرض - فكم من الأصوات سوف يحصل؟! لا تظنّوا أنَّ النّاس سوف تصوّت لصالحه، وقد عبّر هو(ع) عن ذلك: "ما ترك لي الحقّ من صاحب". والذين لم يحبّوا الحقّ في ذلك الوقت، لا يحبّونـه الآن، والذين لم يروا عــلم عــليّ(ع) وبطولته وإخلاصه وعظمته بعد رسول الله(ص)، سوف لا يرونها الآن. فنحن مع عليّ(ع) لأنّه في التأريخ، ولا نقبل أن يزورنا في واقعنا، فضلاً عن أن يحيا بيننا، لأنّه سوف يخلق لنا الكثير من المشاكل، كما قد يخلق لنا المشاكل الكثيرون ممن يسيرون في خطّ عليّ(ع)، ونحن نرجمهم بالحجارة، بحجارة عصبيّاتنا وجهلنا وتخلّفنا وشهواتنا.

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي             واخشعي إنّني ذكرت عــليــــــّا

 والحمد لله ربِّ العالمين.

*فكر وثقافة، ج7، المحاضرة 26، بتاريخ: 29/7/2000م.

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وصحبه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.

وفي هذا اللّقاء، نستمرّ مع الإمام عليّ(ع) في نهج بلاغته، لنلتقط عدّة نصوص تمثّل بعض المفاهيم التي تعيش في واقعنا العام والخاصّ، والتي حاول الإمام(ع) أن يوضّحها، حتى يعرف الناس خطوطها وملامحها.

كيف تحدث الفتنة؟!

والمفهوم الأوّل الذي سنتناوله هو مفهوم (الفتنة)، فكيف تحدث الفتنة في المجتمع؟

إنَّ الإنسان بطبعه يرفض الباطل عندما يراه باطلاً بشكل داخلي، ويقبل الحقّ عندما يراه حقّاً بشكل واضح. فمن أين تأتي الفتنة؟ سواء كانت فتنة تحمل عناوين دينيَّة، أو عناوين سياسيّة أو اجتماعيّة أو أمنيّة؟ وكيف يندفع الناس للسير وراءها والسقوط في نتائجها السلبية؟

إنَّ الإمام عليّاً(ع) يحاول أن يحلّل ذلك، فيقول: "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتَّبع"، بحيث يتحرّك في إشعالها أهل الأهواء، ليحوّلوا أهواءهم إلى أمنيات وشعارات وخطوط في المواقع الاجتماعيّة والسياسيّة، "وأحكام تبتدع"، فتنطلق البدعة التي تتبنّى أحكاماً لم يشرّعها الله ورسوله، فتأخذ معنى الجدّة في أذهان الناس، ومن عادة الناس أنّهم يحبّون الجديد، حتى لو كان في خطّ الانحراف.

"يخالف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجال رجالاً"، فيدفع الرّجال الرّجال ليحرّكوهم نحو إشعالها وتأجيجها على غير دين الله، "فلو أنَّ الباطل خلص من مزاج الحقّ، لم يخف على المرتادين". والمرتادون هم الطّالبون للحقيقة. "ولو أنَّ الحقَّ خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث". والضّغث هو قبضة من حشيش يختلط فيها الرّطب مع اليابس، "فيمزجان، فهناك يستولي الشّيطان على أوليائه، وينجو الّذين سبقت لهم من الله الحسنى".

إنَّ الإمام(ع) يريد أن يؤكّد في هذا النصّ، أنّ الذين يصنعون الفتنة ويحرّكونها، يحاولون أن يمزجوا بين الحقّ والباطل، فيعطوا الكلمة أو الحركة أو الخطّ شيئاً من الحقّ وشيئاً من الباطل، فيمزجوا بينهما، حتى يرى الناس في شعارات الفتنة بعض الحقّ فيتبعوها على هذا الأساس، وقليلاً ما يدقّق الناس ليفحصوا مفردات الحقّ في عناوين الفتنة ومفردات الباطل. وبهذا تتحرّك الفتنة، وهذا ما عاشه الكثير من الناس في الماضي والحاضر.

فتنة رفع المصاحف

فنحن نقرأ في واقعه (صفين)، أنّ الحرب كانت إلى جانب الإمام عليّ(ع)، وكان النصر له، ولكن كان هناك في جهاز معاوية من حاول أن يثير الفتنة في صفوف جيش الإمام عليّ(ع)، فاقترح مسألة رفع المصاحف، وتحدَّثوا مع الناس بقولهم: مَن لثغور الإسلام؟ والثّغور ليست همّاً وإنّما ذريعة، ولذلك قالوا: تعالوا إلى كتاب الله ليحكم بيننا وبينكم. وهنا أراد معاوية أن يتفادى الهزيمة بوضع الخطّة على أساس رفع المصاحف، ودعوة النّاس إلى تحكيم كتاب الله. والإمام عليّ(ع) يقول لهم إنَّ القوم لا يرتبطون بأيِّ رباطٍ بكتاب الله عزَّ وجلَّ، ولكنَّ عنوان الحقّ هذا استطاع أن يسيطر على وجدان النَّاس هناك، حتى فرضوا على عليّ(ع) أن يوقف الحرب، وأن يستدعي (الأشتر) الذي كان قد وصل إلى أبواب مصر.

فالخطَّة هي خطَّة باطل، ولكنَّها أعطيت عنوان الحقِّ فتلبَّست بلبوسه. ومن هنا، نجد أنَّ الكثير من النّاس قد يدفعون بالكثير من الأفكار المنحرفة من خلال عناوين جذَّابة. فنلاحظ مثلاً، أنَّ الذين أحبّوا عليّاً(ع) والأئمَّة من أهل بيته(ع) قد اندفع اليهم قسم من الناس أدخلوا في هذا الخطّ الكثير من حالات الغلوّ باسم محبّه أهل البيت والدّفاع عنهم وما إلى ذلك، حتى قال عليّ(ع): "هلك فيّ إثنان؛ محبّ غال، ومبغض قال"، لأنّ الأئمّة(ع) كانوا لا يريدون للمسلمين أن يزيدوا أيَّ شيء في العقيدة، بحيث يدخل الغلوّ في عقيدتهم.

إنّها فتنة، ولكنَّها فتنة أخذت عنوان الحقّ، فلقد مزج الباطل بالحقّ إلى درجة انطلائه على النّاس، فإذا أراد إنسان أن يقف ضدَّ هذا الباطل أو ذاك، ليفرز بين حقيقة الحقّ وبطلان الباطل، لوَّحوا له بالحقّ واتهموه بأنّه يقف ضدّه. والفتن عندما تنطلق، فإنها تصنع حالة من الجنون الشعوري، بحيث لا تجد من يستمع إلى وجهة نظر أو رأي أو حوار هنا وحوار هناك. لكنّ العناوين التي تستعمل لإيجاد عنصر من عناصر الإثارة، هي التي جعلت الذهنيّة لا تفكّر في المسألة في إطارها الشرعيّ، بقدر ما تفكّر فيها في إطارها العرفيّ، حتى يثار الناس ضد الذي يحاول أن يضع الحقّ في نصابه ويخلّصه من مزاج الباطل.

لذلك، فإن الإمام(ع) عندما يقول: "إنّ الباطل لو خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين"، فلأنّهم يشخّصونه جيّداً، فلا يلتبس عليهم، "ولو أنَّ الحقَّ خلص من لبس الباطل، انقطعت عنه ألسن المعاندين". ولكان كلّ النّاس أتباعه، ولكن عندما يؤخذ شيء من الحقّ وشيء من الباطل، فهناك تكون الفتنة.

دراسة الفتنة

فماذا يريد الإمام عليّ(ع) أن يقول لنا من خلال هذا التّحليل؟ فدوره(ع) ليس دور المحلّل فقط، بل هو دور الرّائد والموجّه والنّاصح والدّاعية والرّسالي، فهو يريد أن يقول عندما تكون هناك فتنة ادرسوها، سواء كانت سياسيّة تنطلق من بعض الشّعارات السياسيّة البرّاقة التي تهدف إلى خدمة بعض الخطوط التي ليست في مصلحة الشّعب، أو فتنة اجتماعية تحاول أن تعطي عناوين كبيرة في المجتمع من قبيل وحدة المجتمع، وما إلى ذلك من عناوين يراد بها تغطية بعض الأمور التي تسيء إلى الواقع الاجتماعي.

وهكذا الأمر بالنّسبة إلى الفتن الدينيّة، وما أكثرها! وخصوصاً مع اختلاف المذاهب الإسلاميّة، وتباين الخطوط في المذهب الواحد، التي تجعل بعض المسلمين - كما هو الحال اليوم - يكفّرون بعضهم بعضاً باسم الحفاظ على الدين، وهم لا يميّزون بين الكفر والإيمان، أو يضلّلون بعضهم بعضاً، وهم لا يفهمون خطَّ الهدى من خطِّ الضّلال، انطلاقاً من العناوين الكبيرة التي تخفي في داخلها عصبيّات مذهبيّة أو طائفيّة أو شخصيّة أو مرجعيّة وما إلى ذلك.

فعندما ندرس هذه الفتن في مجتمعنا، ونحن الشرقيّين والمسلمين بشكل خاصّ، نتحرّك مع الفتنة بنحو جنونيّ، من  دون وعي ولا تفكير في منشئها وعواقبها. والإمام(ع) يقول لنا، إنّكم عندما تواجهون أيّ فتنة، لا تنفعلوا بها ولا تنجذبوا إليها، ولا تلهبكم شعاراتها، ولكن ادرسوها: ادرسوا عناصرها.. كيف يتحدَّث أصحابها؟ وادرسوا عناصر الشخصيّة لدى أصحابها؛ هل هم من الأشخاص الّذين يؤتمنون على الدين والسياسة والاجتماع، أو أنّهم أشخاص لا أمانة لهم في ذلك كلّه؟! حاولوا أن تواجهوا الفتنة بعقلانيّة، والعقلانيّة تقتضي أن تحسب حسابات دقيقة في كلّ الخطوط التي تتحرّك بها الفتنة، فإذا عرفتها، واستطعت أن تميّز الحقّ فيها من الباطل، استطعت حينئذٍ أن تحدّد موقفك لتعرف طبيعتها جيّداً.

وهذا يحتاج - أيّها الأحبّة - إلى أن نربّي أنفسنا على أساس الموضوعية لا الانفعالية - فمشكلتنا هي أنّنا انفعاليّون في البيت وفي السّوق وفي النادي وفي أماكن العمل وفي الواقع الاجتماعي والسياسي. ونحن انفعاليّون لأنّنا عصبيّون، ولذلك نحتاج إلى نوع من العقلانيّة بأن نفكّر بالعقل البارد، لأنَّ مشكلة العقل الحارّ هي أنَّ الحرارة تحجبه بأبخرتها، فلا يعود يرى شيئاً، والعقل الحارّ محجوب بأبخرة العصبيّات والانفعالات والحساسيّات، فلا يفهم شيئاً. لذلك ندعو دائماً إلى التفكير بالعقل البارد الذي يتحرّك على أساس معادلات رياضيّة، كما في (1+1=2). ولكن في العصبيّة والانفعال، تنقلب المسألة، فيصبح (1+1=5) أليس الكثير من الناس يفكّرون بهذه الطريقة؟!

إنّ الإمام عليّاً(ع)، عاش الفتن، وكان ضحيّتها، وواجهها في زمن رسول الله(ص) عندما كان الإسلام يواجه الفتن الكبرى، وواجهها بعد رسول الله(ص)، وكان ينتقل من واقع تحرّكه الفتنة إلى واقع تسقطه الفتنة، وكان ضحيّة كلّ تلك الفتن، ولذلك وقف ليتحدَّث بكلّ مرارة، لأنّه كان يعرف الحقيقة جيّداً، وكان يقول للذين لا يملكون وضوح الرّؤية للأشياء: "قد يرى الحوَّل القلَّب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين". فهل نكون عقلانيّين أو نبقى انفعاليّين؟

إنّ العالم اليوم عالم عقل؛ عقل يخطِّط للسياسة، وآخر يخطِّط للأخلاق، وعقل يخطِّط للاجتماع، وعقل يخطِّط للأمن. فالآخرون يخطّطون، ونحن نصرخ ونهتف وننفعل، فكيف يمكن أن تتمّ المعادلة، والبون بين التّخطيط والصراخ شاسع جداً؟!

فتنة التّحكيم

وهناك كلمة أخرى قالها الإمام عليّ(ع) انطلقت من خلال فتنة التحكيم، فلقد ضُغط عليه(ع) بقبول التحكيم بعد رفع المصاحف، وحاول أن يوجِّه القوم الوجهة الصّحيحة فلم يقبلوا، ورأى أنّه لو استمرّ على رفضه، لانطلقت الفتنة في الجيش وانهزم من دون حرب. وهذا ما كان يريده معاوية ويخطِّط له، لذلك اقترح(ع) شخصاً ليكون الطّرف الذي يمثّله فلم يقبل، فكانت النتيجة أنّهم فرضوا شخصاً آخر لم يكن يمتاز بالرّؤية الواضحة والحكمة والعمق المطلوب في مثل هذه الأمور، ولذلك تغلَّب عليه الطّرف الآخر. وعندما واجه الإمام(ع) المتحمّسين لقبول التّحكيم، قالوا له لقد اخطأنا وكفرنا عندما حكَّمنا الرجال في دين الله، وهم (الخوارج)، وأرادوا منه أن يعترف أنّه هو أيضاً أخطأ وكفر، وأن يتوب من كفره. فأيّ مأساة هي هذه؟!

 وانفصلوا عن الجيش وقالوا: "لا حكم إلّا لله". وهذه هي الفتنة التي تتمخّض عن الشّعارات المغلّفة، فمن الذي يمكن أن ينكر هذا الشِّعار {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة: 44]، {... الظَّالِمُونَ} [المائدة: 54]، {... الْفَاسِقُونَ}[المائدة: 46]؟!

ولقد علَّق الإمام عليّ(ع) على ذلك، وقال لهم لا تنظروا إلى طبيعة الشِّعار، ولكن ادرسوا ما هو الهدف الّذي يقصده طارحو الشِّعار، وكيف يفكّر الّذين يطرحون الشِّعار في الخطوط التي تتحرَّك في داخل السَّاحة؟ فلا يكفي أن تأخذ الشِّعار بالعنوان الكبير، فلا بدَّ من أن تنفذ إلى داخله لتتعمَّق في مراميه. ولذا قال(ع): "كلمة حقٍّ يراد بها باطل". وليس أروع من هذه الكلمة في تشخيص الفتنة والتّلاعب بالعناوين، فلا يكفي أن تكون الكلمة حقّاً لتزحف نحوها ولتؤيّدها ولتتفاعل معها، بل لا بدَّ لك من أن تعرف من أين انطلقت هذه الكلمة التي هي كلمة حقّ؟ ومن أيّ فهم تحرّكت؟ وإلى أيّ هدف تريد أن تصل؟

نعم "لا حكم إلّا لله"، فمن ينكر أنَّ الحكم لله؟ ومن يقول بالحكم لغيره؟ "ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة الا لله". فهناك فرق بين الحكم بمعنى التَّشريع والمنهج، وبين الإمرة بمعنى إدارة شؤون النّاس. فالله سبحانه وتعالى يحكم ولا رادَّ لحكمه، بمعنى أنّه ينزل على نبيّه ما يريده من الناس مما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، ولكن من الّذي يقود الحكم الشرعيّ في حركة واقع النظام الاجتماعي والسياسي والأمني؟ فلا بدَّ من أمير يقوم بهذه المهمّة، ولذلك، فالقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لله}، لا يعالج المشكلة، بل على العكس، يعقِّدها، فقد طلبوا من الحكمين أن يحكِّما كتاب الله وسنّة نبيّه، ولكنَّهما انحرفا عنهما. فنحن لا نرفض حكم الله، لكن الذي قرّر تحمّل المسؤوليّة في التحكيم لم يتحمَّلها، فالمجتمع بدون قائد يتحوَّل إلى فوضى، لأنّه ليس هناك من يضبط للنّاس أهواءهم ومصالحهم، ويركّز حركتهم باتجاه الحقّ والعدل.

يقول(ع): "ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا لله"، أيّ أنهم يتصوَّرون أنّ الله تعالى هو الذي يمارس الحكم بنفسه على النّاس مباشرة، وأن ليس هناك حاكم من البشر، حتى ولو كان هذا الحاكم مفوَّضاً من قبل الله سبحانه وتعالى، ولكنّ الإمام عليّاً(ع) صحَّح لهم المفهوم، فقال: "وإنَّه لا بدَّ للنَّاس من أمير برٍّ أو فاجر". فالإمام(ع) يركّز على حفظ النظام مما يجمع عليه الفقهاء، ولذلك، فإنّ الكثير من الأمور التي لم يرد في وجوبها نصّ، يجب الإتيان بها لعلاقتها بحفظ النظام. فلا بدّ إذاً من حاكم يدير الأمور، لأنَّ طبيعة المجتمع تحتاج إلى قيادة من أجل تنظيمه، وقد تكون القيادة صالحةً وقد تكون فاسدة، لكن لا بدَّ منها. "يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ فيها الأجل، ويجمع به الفيء، أو يقاتل به العدوّ، وتأمن به السّبل، ويؤخذ به للضَّعيف من القويّ، حتى يستريح برّ، أو يستراح من فاجر". فلا يمكن أن نقول: لا إمرة إلّا لله، بحيث نرفض أن يدير أمير من البشر أمور النّاس، في حين أنّها من واقع طبيعة النّظام العام الذي يراد له أن يوازن حياة النّاس.

وفي رواية أخرى، أنّه لمّا سمع تحكيمهم، قال: "حكم الله أنتظر فيكم"، لأنّكم انحرفتم عن الخطّ، فلا بدَّ من أن أنزّل فيكم حكمه لترتدعوا. "أمَّا الإمرة البرّة، فيعمل فيها التقيّ، وأمَّا الإمرة الفاجرة، فيتمتَّع فيها الشّقيّ، إلى أن تنقطع مدَّته وتدركه منيّته".

كلمات حقّ يراد بها باطل

ومن خلال هذه الكلمة أيضاً، نأخذ الفكرة التالية: لقد ذهب الخوارج في التأريخ ولاقوا وجه ربّهم، ولم يبق منهم إلّا القليل القليل في عصرنا الحاضر، ولكن تبقى كلمة عليّ(ع) حيّة خالدة: "كلمة حقّ يراد بها باطل". فالكثير من الناس قد يطلقون كلمة الحقّ ليزحف الناس وراءهم، ولكنّ الإمام(ع) يدعونا إلى دراسة هؤلاء الذين يقولون كلمة الحقّ ونقف عندها، لنعرف كيف يفهمونها؟ وكيف يتصوّرونها؟ وما هو الهدف الذي يقصدونه من إطلاقها؟ فلا ننظر إلى كلمة الحقّ ونقف عندها، بل إلى الهدف الذي يقصده مطلقوها من خلال طرحها على بساط الواقع. وهذا يتطلَّب وعياً كبيراً بأن تفهم شخصية صاحب الكلمة، وأن تفهم الخطّ الذي يتحرّك فيه، وأن تفهم طبيعة الواقع الّذي تعيش فيه، والهدف الذي تسعى اليه. وهذا تلخّصه كلمة أن يكون للمجتمع وعي يفهم به خلفيّات الأمور، ولا يقتصر على ظواهرها، وأن يفهم نهاياتها ولا يقف عند بداياتها. ومشكلتنا أنّنا نتعلّق بالبدايات ونعمى عن النّهايات، وأنّنا ننظر إلى السّطح دائماً ولا ننظر في العمق. وهناك تعبير دارج يقول: "اِقرأ الممحي". فلا بدّ لنا في الكثير من الحالات من أن لا نقرأ الكلمات المكتوبة، بل أن نعمد إلى قراءة الممحي، لأنَّ الحقيقة قد تكون فيه. وهناك تعبير يدلّ على هذا المعنى أيضاً، فيقال: "فلان يقرأ ما بين السّطور"، أي يقرأ الفراغات التي بين السّطور، لأنّ الحقيقة ربّما تكمن هناك، ولأنَّ المستكبرين والظّالمين والمنحرفين يضعون عادةً خططهم الخبيثة بين السّطور.

وهناك كلمة لعليّ بن أبي طالب(ع).. وعليّ(ع) هنا، في كلماته الخالدة التي هي في دورها تماثل ضربة (مرحب) وضربة (عمرو بن عبد ودّ العامري)، فتلك الضربة أدّت مسؤوليتها في التأريخ، وهي ضربة عظيمة حفظت الإسلام، لكنّ هذه الكلمات تمثّل الضّربة الفكرية للباطل، والضربة الروحيّة لصالح الحقّ، فإنّها تبقى ما بقي الحقّ والباطل، وما بقي الإنسان في مدى الدَّهر.

فإذا كنتم من أتباع عليّ(ع)، وعليّ ليس عنده إلّا الإسلام، فأدخلوا عليّاً(ع) في عقولكم، ومن خلالها، أدخلوه في قلوبكم، حتى لا يظلّ مجرد خفقة قلب، وإنّما حركة عقل أيضاً، فعليّ(ع) كان عقلاً كما لا عقل مثل عقله بعد رسول الله(ص). فلنكن ممن ينفتحون على هذا العقل، لننير عقولنا بنور عقله الّذي أنار الكون كلّه.

الموقف من الفتنة

فحينما يتحدَّث الإمام عليّ(ع) عن موقع الإنسان في الفتنة، فإنّه يعني بها الفتنة التي تفسَّر بتفسيرين: فهي إمَّا صراع بين أهل الباطل، كما نلاحظ ذلك الآن في الكثير من المعسكرات والمحاور الدّوليّة وغير الدوليَّة، أو هي صراع لا يعرف فيه وجه الحقّ من الباطل، فقد يكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل، ولكن هناك حالة ضبابيّة يصعب فيها الفرز.

فالإمام عليّ(ع) يقول إنّه عندما تحدث فتنة، وأنت تعيش في ساحة يتحرّك فيها الصّراع، ويحتدم بين باطلين أو بين فريقين لا يعرف لأيّهما الحقّ، فكيف يكون موقفك؟ يقول(ع) واعظاً: "كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب"(8). وابن اللّبون هو ابن الناقة إذا استكمل سنتين، فلا يمكن أن تركبه، لأنّ ظهره ضعيف لا يتحمَّل الركوب، ولا يمكن أن تحلب ضرعه لأنّه صغير، ولأنّه ولد لا ضرع له، فلا تدعنّ أحداً من أصحاب الفتنة يتّخذ منك مطيّة، أو يستفيد منك كما يستفيد الإنسان من حليب النّاقة، أي كن في أجواء الفتنة حياديّاً.

ونحاول هنا التوسّع في هذه الكلمة، إذ كيف يمكن للإنسان في الواقع أن يكون حيادياً؟ إنَّ الإمام عليّاً(ع) يعالج القضيَّة من حيث المبدأ، ولكن في بعض الحالات، قد يتنازع اثنان من أهل الباطل، وتكون قوّة أحدهما أخطر على الحقّ من الآخر. ففي بعض الحالات، يتطلّب الأمر أن لا تدخل في المعركة لتكون مع هذا ضدّ ذاك كقضيّة تؤمن بها، ولكن حاول أن تتحرّك بالطريقة التي تضعف فيها الأخطر، وأمَّا إذا استطعت أن تسقطهما جميعاً، وكلاهما باطل، فهذا أمر حسن. وأمَّا إذا لم تستطع إسقاطهما، فعليك أن تضعف الأخطر على مصالح الأمَّة.

أمَّا إذا كانت المعركة بين فريق حقّ وفريق باطل، وبين ظالم ومظلوم، فلا حياد، بل عليك أن تكون مع فريق الحقّ ضدّ الباطل، ومع فريق المظلوم ضدّ الظالم، وهذه هي نصيحة الإمام عليّ(ع) لولديه الحسن(ع) والحسين(ع): "كونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً"، ومن الطبيعي أنَّ هذه المسألة تفرض عليك أن تعلن موقفك مع المظلوم ضدّ الظّالم، لأنَّ "السّاكت عن الحقّ شيطان أخرس".

مشكلة الحياديّين

وقد تحدّث الإمام عليّ(ع) عن الحياديين الذين وقفوا على الحياد بينه وبين معاوية، فقال: "إنّهم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"، لأنّهم منعوا الحقَّ قوّتهم، وأنت عندما تمنع الحقّ قوّتك وتخذله، فإنك تكون قد أضعت الحقّ ونصرت الباطل نصراً سلبيّاً. فهناك طريقتان لنصر الباطل: فإمَّا أن تحارب معه، وإمَّا أن لا تحارب مع الحقّ، لأنَّ الحقّ إنمّا يكون قوياً بمشاركة المؤمنين في نصرته والدفاع عنه، فإذا انفصلوا عنه أضعفوه، وعند ذلك يقوى الباطل بضعف الحقّ. ولهذا نقول دائماً إنَّ الأكثرية الصّامتة تتحمّل المسؤوليّة لأنّها هي التي تخذل الحقّ. وهذا ما ينبغي لنا أن نواجهه عندما نواجه القضايا الكبرى للأمَّة، كقضيّة (إسرائيل) الّتي تمثّل سرطاناً في جسم الأمّة العربيّة والإسلاميّة كلّها. فعندما تقف الأكثرية الإسلامية والأكثرية العربية الصّامتة موقفاً سلبياً لا تشارك في أيّ شيء، فإنّ معنى ذلك أنّ (إسرائيل) تقوى بضعفنا، فهي ليست قويّة بالمستوى الذي تمثّل الدّولة التي لا تقهر، ولقد رأينا كيف قهرها - في حجم المعركة الدّائرة - المجاهدون المؤمنون في لبنان. ولكن عندما تسكت أكثرية المسلمين وأكثرية العرب، فمن الطبيعي أن يكون الكيان الصّهيوني قوياً بقوّته وبقوّة الغرب الذي يمدّه بأشكال الدّعم، حتى إنَّ أميركا تعتبر أنَّ الأمن الصّهيوني هو أمن أميركي.

 فعندما نكون أمّة، فلا بدَّ من أن نتحرّك جميعاً في قضايا الأمَّة، ولا مجال هناك للحياد، فالمحايد الّذي يملك أن يتحرّك في أيّ موقع ولا يتحرّك، هو خائن يخون أمّته وقضيته. ومشكلتنا فيمن يرون ظلامة هذا وظلامة ذاك، أنّهم لا يقفون مع المظلوم، فالأكثريّة عندنا -مع الأسف، ولست في موقع اتهام أحد - على طريقة ذاك الّذي حضر معركة صفّين، فكان يصلّي خلف عليّ(ع)، ويتغدّى مع معاوية، وعندما تنطلق المعركة يجلس على التلّ، وينقل عنه أنّه قال: "الصّلاة خلف عليّ أقوم، والطّعام عند معاوية أدسم، والجلوس على التلّ أسلم". فكم هم الجالسون على التلّ؟ والّذين يحبّون الطّعام الدّسم؟ وقد يصلّون الصّلاة الأقوم ولكن من دون روح، ذلك أنّ قيمة الصّلاة في انّها تنهى عن الفحشاء والمنكر.

أيّها الأحبّة: هذا هو كلام عليّ(ع)، وكما سمعتم، فإنّه كلام يدخل في عمق نسيجنا الثّقافي والاجتماعي والسياسي والأمني، فهل تريدون أن تـكونـوا مع عــليّ(ع)؟ فإنَّ عليّاً(ع) هنا، في هذه الكلمات المضيئة. ولو أنَّ عليّاً(ع) بكلّ هذا الحقّ الصّلب الذي جاء به، والذي يمكن أن يخسرنا الكثير من شهواتنا ومطامعنا ومواقفنا، ويقف ضدّ الكثير من عصبياتنا وحساسياتنا، لو أنّه رشّح للانتخابات - على سبيل الفرض - فكم من الأصوات سوف يحصل؟! لا تظنّوا أنَّ النّاس سوف تصوّت لصالحه، وقد عبّر هو(ع) عن ذلك: "ما ترك لي الحقّ من صاحب". والذين لم يحبّوا الحقّ في ذلك الوقت، لا يحبّونـه الآن، والذين لم يروا عــلم عــليّ(ع) وبطولته وإخلاصه وعظمته بعد رسول الله(ص)، سوف لا يرونها الآن. فنحن مع عليّ(ع) لأنّه في التأريخ، ولا نقبل أن يزورنا في واقعنا، فضلاً عن أن يحيا بيننا، لأنّه سوف يخلق لنا الكثير من المشاكل، كما قد يخلق لنا المشاكل الكثيرون ممن يسيرون في خطّ عليّ(ع)، ونحن نرجمهم بالحجارة، بحجارة عصبيّاتنا وجهلنا وتخلّفنا وشهواتنا.

يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي             واخشعي إنّني ذكرت عــليــــــّا

 والحمد لله ربِّ العالمين.

*فكر وثقافة، ج7، المحاضرة 26، بتاريخ: 29/7/2000م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية