قد يلاحظ الفقيه الباحث عن أحكام الله في الحياة، أنَّ ثبات النصّ الّذي هو حقيقة حاسمة في مصدره القرآني أو النبويّ القطعيّ، لا يعني ثبات الاجتهاد في فهم عناصر النصّ، لأنَّ اجتهاد المجتهد لا يمثِّل الحقيقة الحاسمة، بل يمثِّل رأي المجتهد في ما يملكه من عناصر الفهم للنّصوص، فيبقى في مستوى الشرعيّة، حتى يأتي هناك رأي أكثر صواباً وأقرب إلى الواقع من وجهة النّظر الجديدة. وهكذا يبقى للبحث عن الحقيقة موقعٌ في خطِّ الاجتهاد الخاضع للظّنون أكثر مما هو خاضع لليقين. ثم إنّ مسألة تغير الحاجات، قد تختزن في داخلها تغيّر الموضوعات، فيتبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات، وقد تفرض اختلاف الظّروف والشّروط التي تحيط بالموضوع، اختلاف بعض خصوصيّات الحكم تبعاً لذلك، كما هو الشّأن في العناوين الأوليّة والعناوين الثّانوية التي تختلف الأحكام باختلافها. وربما تكون المسألة أنَّ تغيّر الحاجات لا يمثّل التّغيير في العناوين الكبيرة للحكم الشّرعيّ.
فضلاً عن أنّ هناك إمكانات كبيرة للاجتهاد في معالجة كثير من المشاكل والأوضاع المستحدثة، لاستنباط أحكام شرعيّة، استناداً إلى المرونة الحيوية للقواعد الاجتهادية، في ما توحي به النصوص المتنوعة في مواجهة كلّ جديد.
وإذا كان بعض النصوص قد عالج مفردات الواقع الاقتصادي في المجتمع الرعوي والزراعي، فإنّ هناك قواعد عامة تنفتح على المجتمع الصناعي في كلّ مفرداته، على مستوى العلاقات الاقتصادية، في قضايا الإنتاج والتوزيع، وهذا ما نلاحظه في حركة الاجتهاد الفقهي التي واكبت كل التطوّرات الأخيرة، فاستنبطت لكلّ واقعة حكماً شرعياً، فلا فراغ في الساحة الفقهية فيما يمكن أن يقف فيه المسلم على مسألة من المسائل.
لقد تحرَّكت ذهنيّة التنمية في المسائل الفقهية في مواجهة كلّ المتغيّرات على صعيد المشاكل الإنسانية في الواقع المعاصر المتطوِّر، وانطلقت في اتجاه الواقع العملي، لتواكب حركة التنمية الاقتصادية على صعيد التجربة الإسلامية الاجتهادية.
التحرر من الحاجات والقيود
هذا في الإطار العام، أمّا في الإطار التفصيلي الخاصّ، فإننا نجد في مفردات الشريعة الكثير من التشريعات التي تدعو إلى العمل المنفتح على كلّ حاجات الحياة، فتعتبر العمل المادّي عبادةً وجهاداً وانطلاقةً في مواقع رضا الله ومحبّته، كما ترى في البطالة والكسل والضّجر أخلاقاً سلبيةً يبغضها الله، وتتحدّث عن عمليّة صنع القوة في كلِّ المجالات التي تنفتح على الحرّيات بكلِّ ألوانها وأشكالها، في المواقع السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تتحرَّر حاجات الإنسان من سيطرة الآخرين، على أساس سياسة الاستقلال والاكتفاء الذّاتي، وتلتفت إلى الزَّمن، لتوحي بأنه يمثِّل مسؤوليَّة الإنسان في إنتاج العمل الخيّر الّذي يبني الحياة على أساس القوَّة الفرديّة والاجتماعية للذَّات وللأمّة، في حركة تصاعدية تجعل الزمن المستقبل خيراً من الماضي، والعمل التالي خيراً من العمل الأوَّل، «من استوى يوماه فهو مغبون»، «اِعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً»، ليتوازن الإنسان في الحياة بين خطّ العمل كما لو كان خالداً، وخطّ المسؤولية كما لو كان ينتظر الموت غداً، بحيث يبقى العمل المتحرّك قضيّة الإنسان في الحياة، ومسؤوليّة الحياة في الإنسان.
إنَّ الدّراسة الدقيقة الشاملة المقارنة للشّريعة الإسلاميّة، توحي للباحثين بأنَّ الإسلام في شريعته، يمثِّل الخطِّ الأصيل الّذي يمنح الفرص الكثيرة لمعالجة كلّ قضايا التنمية في جميع المجالات، ليجعل من الإنسان إنسان الله الذي يجسِّد إرادة الله في الكون، فيعمل على تنميته بما يحقّق للحياة نموّها وازدهارها، وللإنسان تقدّمه وتطوّره، لأنَّ الإنسان هو العنصر الأساس في حركة الشريعة التي جاءت لخدمة الإنسان في مسؤوليّته في إدارة الحياة على الصّورة التي يرضاها الله.
ولكنّ المشكلة هي في التخلّف الذي يعيشه بعض الدّارسين للإسلام، حين ينظرون إلى جوانب أو جزئيات أو ظواهر بعض النصوص والأحكام، ما يبعد البحث عن الوصول إلى إعطاء الصّورة الكاملة الصّحيحة المتوازنة.
ويبقى الحديث عن اليوم الآخر، عندما يقوم الناس لربِّ العالمين، ليجسِّد أعلى مواقف الذهنيّة المسؤولة، التي لا يقتصر سعيها على تحصيل الجزاء في الدّنيا، بل تتجاوزه سعياً لملاقاة الجزاء في الآخرة، ولا شكّ في أنّ الإيمان بيوم الجزاء، يدفع الإنسان إلى تحمّل مسؤوليّاته، ويفجّر طاقاته وطاقات الحياة، بما ينفع النّاس في كلّ المجالات، ليتلقّى جزاءه الكبير عند الله.
إنَّ المسؤوليّة الشّاملة المتحركة التي تمثّل - في بُعدها الإسلاميّ - معنى الأمانة في حياة الإنسان، تدفعه إلى الانطلاق في حالة طوارئ منفتحة على كلّ حاجات الحياة وقضاياها، وعلى كلِّ طاقات الإنسان وثرواته، ليتحرّك بها نحو العمل المجدي المتنوّع الذي يبني للحياة قوَّتها في خطِّ الله، ويحقّق للإنسان أهدافه في الحصول على رضا الله، استجابةً للنّداء الإلهيّ الشّامل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}[التّوبة: 105].
*من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، ص 60-62.
قد يلاحظ الفقيه الباحث عن أحكام الله في الحياة، أنَّ ثبات النصّ الّذي هو حقيقة حاسمة في مصدره القرآني أو النبويّ القطعيّ، لا يعني ثبات الاجتهاد في فهم عناصر النصّ، لأنَّ اجتهاد المجتهد لا يمثِّل الحقيقة الحاسمة، بل يمثِّل رأي المجتهد في ما يملكه من عناصر الفهم للنّصوص، فيبقى في مستوى الشرعيّة، حتى يأتي هناك رأي أكثر صواباً وأقرب إلى الواقع من وجهة النّظر الجديدة. وهكذا يبقى للبحث عن الحقيقة موقعٌ في خطِّ الاجتهاد الخاضع للظّنون أكثر مما هو خاضع لليقين. ثم إنّ مسألة تغير الحاجات، قد تختزن في داخلها تغيّر الموضوعات، فيتبدّل الحكم بتبدّل الموضوعات، وقد تفرض اختلاف الظّروف والشّروط التي تحيط بالموضوع، اختلاف بعض خصوصيّات الحكم تبعاً لذلك، كما هو الشّأن في العناوين الأوليّة والعناوين الثّانوية التي تختلف الأحكام باختلافها. وربما تكون المسألة أنَّ تغيّر الحاجات لا يمثّل التّغيير في العناوين الكبيرة للحكم الشّرعيّ.
فضلاً عن أنّ هناك إمكانات كبيرة للاجتهاد في معالجة كثير من المشاكل والأوضاع المستحدثة، لاستنباط أحكام شرعيّة، استناداً إلى المرونة الحيوية للقواعد الاجتهادية، في ما توحي به النصوص المتنوعة في مواجهة كلّ جديد.
وإذا كان بعض النصوص قد عالج مفردات الواقع الاقتصادي في المجتمع الرعوي والزراعي، فإنّ هناك قواعد عامة تنفتح على المجتمع الصناعي في كلّ مفرداته، على مستوى العلاقات الاقتصادية، في قضايا الإنتاج والتوزيع، وهذا ما نلاحظه في حركة الاجتهاد الفقهي التي واكبت كل التطوّرات الأخيرة، فاستنبطت لكلّ واقعة حكماً شرعياً، فلا فراغ في الساحة الفقهية فيما يمكن أن يقف فيه المسلم على مسألة من المسائل.
لقد تحرَّكت ذهنيّة التنمية في المسائل الفقهية في مواجهة كلّ المتغيّرات على صعيد المشاكل الإنسانية في الواقع المعاصر المتطوِّر، وانطلقت في اتجاه الواقع العملي، لتواكب حركة التنمية الاقتصادية على صعيد التجربة الإسلامية الاجتهادية.
التحرر من الحاجات والقيود
هذا في الإطار العام، أمّا في الإطار التفصيلي الخاصّ، فإننا نجد في مفردات الشريعة الكثير من التشريعات التي تدعو إلى العمل المنفتح على كلّ حاجات الحياة، فتعتبر العمل المادّي عبادةً وجهاداً وانطلاقةً في مواقع رضا الله ومحبّته، كما ترى في البطالة والكسل والضّجر أخلاقاً سلبيةً يبغضها الله، وتتحدّث عن عمليّة صنع القوة في كلِّ المجالات التي تنفتح على الحرّيات بكلِّ ألوانها وأشكالها، في المواقع السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تتحرَّر حاجات الإنسان من سيطرة الآخرين، على أساس سياسة الاستقلال والاكتفاء الذّاتي، وتلتفت إلى الزَّمن، لتوحي بأنه يمثِّل مسؤوليَّة الإنسان في إنتاج العمل الخيّر الّذي يبني الحياة على أساس القوَّة الفرديّة والاجتماعية للذَّات وللأمّة، في حركة تصاعدية تجعل الزمن المستقبل خيراً من الماضي، والعمل التالي خيراً من العمل الأوَّل، «من استوى يوماه فهو مغبون»، «اِعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً»، ليتوازن الإنسان في الحياة بين خطّ العمل كما لو كان خالداً، وخطّ المسؤولية كما لو كان ينتظر الموت غداً، بحيث يبقى العمل المتحرّك قضيّة الإنسان في الحياة، ومسؤوليّة الحياة في الإنسان.
إنَّ الدّراسة الدقيقة الشاملة المقارنة للشّريعة الإسلاميّة، توحي للباحثين بأنَّ الإسلام في شريعته، يمثِّل الخطِّ الأصيل الّذي يمنح الفرص الكثيرة لمعالجة كلّ قضايا التنمية في جميع المجالات، ليجعل من الإنسان إنسان الله الذي يجسِّد إرادة الله في الكون، فيعمل على تنميته بما يحقّق للحياة نموّها وازدهارها، وللإنسان تقدّمه وتطوّره، لأنَّ الإنسان هو العنصر الأساس في حركة الشريعة التي جاءت لخدمة الإنسان في مسؤوليّته في إدارة الحياة على الصّورة التي يرضاها الله.
ولكنّ المشكلة هي في التخلّف الذي يعيشه بعض الدّارسين للإسلام، حين ينظرون إلى جوانب أو جزئيات أو ظواهر بعض النصوص والأحكام، ما يبعد البحث عن الوصول إلى إعطاء الصّورة الكاملة الصّحيحة المتوازنة.
ويبقى الحديث عن اليوم الآخر، عندما يقوم الناس لربِّ العالمين، ليجسِّد أعلى مواقف الذهنيّة المسؤولة، التي لا يقتصر سعيها على تحصيل الجزاء في الدّنيا، بل تتجاوزه سعياً لملاقاة الجزاء في الآخرة، ولا شكّ في أنّ الإيمان بيوم الجزاء، يدفع الإنسان إلى تحمّل مسؤوليّاته، ويفجّر طاقاته وطاقات الحياة، بما ينفع النّاس في كلّ المجالات، ليتلقّى جزاءه الكبير عند الله.
إنَّ المسؤوليّة الشّاملة المتحركة التي تمثّل - في بُعدها الإسلاميّ - معنى الأمانة في حياة الإنسان، تدفعه إلى الانطلاق في حالة طوارئ منفتحة على كلّ حاجات الحياة وقضاياها، وعلى كلِّ طاقات الإنسان وثرواته، ليتحرّك بها نحو العمل المجدي المتنوّع الذي يبني للحياة قوَّتها في خطِّ الله، ويحقّق للإنسان أهدافه في الحصول على رضا الله، استجابةً للنّداء الإلهيّ الشّامل: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}[التّوبة: 105].
*من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل"، ص 60-62.