إنّ من المفيد جداً للعمل، التركيز على مسؤولية القيادات العامة للعمل الديني
الإسلامي ـ بشكل عام ـ في التأكيد على العاملين في تقديم التقارير المفصّلة عن
أعمالها وأساليبها ونتائجها، وطريق الوصول إليها، وطبيعة الظروف الموضوعية التي
عاشت فيها وانطلقت منها، ونوعية المؤثرات الذاتية التي أثرت فيها وانفعلت بها،
لتستطيع مثل هذه التقارير التي تمثل تجربة حية في طريق العمل، أن تقدّم لمن يأتي
بعدهم بعض النّور الذي يهديهم ويأخذ بيدهم نحو حلّ المشكلة في المستقبل، كما تستطيع
أيضاً تعريف القائمين على العمل بأخطاء العمل ومجالاته وتطلّعاته نحو الغد،
ليتمكّنوا ـ في ضوء هذا ـ من التّخطيط للمستقبل، على أساس فهم الواقع الموضوعي
للعمل جملةً وتفصيلاً.
وقد تتعرّف إلى قيمة هذه المعرفة بصورة واضحة، إذا عرفنا أثر إغفالها في الأخطاء
الكبيرة التي يقع فيها بعض العاملين عند انطلاقه في العمل في منطقة سار فيها داعية
من قبله، حيث ينتهي به الأمر إلى إهدار تجربة الفكرة، لا مرحلة ثانية من مراحلها
وحلقة موصولة بغيرها من حلقات السّلسلة.
ومن الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى سوء فهم للواقع، أو الوقوف دائماً في أوّل الطّريق،
فإن معنى بداية العمل من جديد، وإغفال التجارب الأولى، هو الرجوع إلى أول الطريق في
كلّ منطلق لعامل جديد.
ولتوضيح ذلك، نطرح مثال المبلّغين والمرشدين الذين ترسلهم المراجع الدينيّة العليا،
إلى بعض المناطق لإرشاد الناس وهدايتهم إلى الدّين الحقّ، وتعليمهم أحكام الله
وتعاليمه من الحلال والحرام، فقد يكون هناك مرشد آخر عاش تجربة سابقة في تلك
المنطقة، وقضى شطراً من عمره فيها، فانطبع العمل بطابعه الفكري والروحي وتأثّر
بأسلوبه العملي، وخضع لعوامل التغيير المرتبطة بتجاربه المتعدّدة في الوعظ والإرشاد
والإصلاح، الأمر الّذي يجعل أجواء العمل مرتبطةً بأجواء هذه التّجربة، باعتباره
رائداً للتّجربة الأولى.
وفي مثل هذه الحالة، قد يكون من بديهيّات سلامة العمل، أن نحتفظ بمثل هذه التّجربة
ونطّلع عليها، وندرسها لنختار الدّاعية الذي ينسجم أسلوبه مع أسلوب سلفه، ليكون
عمله امتداداً لعمل صاحبه فيما إذا كانت التَّجربة ناجحة، أما في حالة فشل التجربة،
فيفيدنا الاطّلاع عليها معرفة بأسباب الفشل، ما يجعلنا أكثر قدرةً على تلافي
الأخطاء السابقة، وتجنب أسبابها، باختيار إنسان تتوفر فيه عوامل النجاح وأجواء
تتهيّأ فيها مقومات العمل.
ونحسب أن مثل هذا الاتجاه في العمل، يوفر علينا الكثير من الأخطاء والكثير من
المراحل التي تذهب هدراً، عندما نظلّ في عملية التراجع إلى أول الطريق.
التّخطيط للعمل
وإذا كنّا نؤكّد حفظ تجارب الآخرين للاستفادة منها في حركة العمل، في امتداد الزّمن،
فربما يكون من المفيد جداً، أن نؤكّد قضيّةً أخرى أكثر ارتباطاً بنجاح العمل، وأشدّ
التصاقاً بحيويّته، وهي قضيّة "التّخطيط للعمل".
فقد أصبح من القضايا الواضحة، أنَّ مسألة التّخطيط لأيّ عمل من الأعمال، توفّر على
العاملين كثيراً من الجهود الضّائعة، وتجعلهم أكثر قدرةً على التّركيز في احتياجات
كلّ مرحلة من مراحل العمل على استقلالها، لأنَّ التّخطيط يفرض فهم كلّ مرحلة من
المراحل، وطبيعة مشاكلها الخاصّة، ونوعيّة الأشخاص الّذين يمكن استخدامهم في هذا
السَّبيل، والاختصاصات الّتي يحتاج إليها في هذا المجال، وعلاقة كلّ مرحلة بالمراحل
السّابقة عليها، والمراحل اللاحقة لها، من أجل المحافظة على الرّوابط العضويّة
بينها في جميع الأعمال.
فقد لا يكفي للإنسان، من أجل أن يتقدَّم في عمل ما، أن يؤمن به ويتحمَّس له ويندفع
نحوه، لأنَّ ذلك سوف يدفعه إلى الهوّة في بعض الأحيان، بل يجب عليه أن يعرف في أيّة
مرحلة من مراحل العمل، أين تقوده خطاه، وما هي نتائج المسير.
فقد تكون الخطّة في بعض المراحل تقتضي عملاً ثقافياً، بينما تستدعي في مراحل أخرى
عملاً سياسياً، وربما في مرحلة أخرى عملاً خيرياً... وهكذا، فإذا خلطنا بين كلّ هذه
الأعمال في مرحلة واحدة، فمن الطّبيعيّ أن نستسلم لفوضى الأساليب وفوضى النّتائج.
ولعلّ من أوّليات التخطيط للعمل الديني الإسلامي، أن نضع لكلّ بلدٍ ومنطقة، دورها
المعيّن في العمل الإسلامي العام، بحيث يكون هذا الدّور مرتبطاً بالخطّة العامَّة
للعمل، في المجالات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، لئلّا يكون العمل في منطقةٍ
ما، مناقضاً ـ في نتائجه ـ للعمل في منطقةٍ أخرى، الأمر الّذي يقتضي إهدار الكثير
من الطّاقات، وتجميعاً لكثير من المشاكل، نظراً إلى اختلاف المناطق في طبيعة
التيّارات التي تعيش فيها، وتؤثّر فيها وتؤثّر في اتجاهها، ونوع التّأثيرات الّتي
تمسّ العمل الدّينيّ بوجهه العام.
فقد تكون بعض المناطق خاضعةً لتيّارات ترتبط بالمشاكل والنزاعات الداخليّة للفكرة،
بينما تكون المناطق الأخرى واقعةً تحت تأثير مشاكل واختلافات خارجيّة تؤثّر في
سلامة الفكرة وانطلاقها، وربما نلتقي بنوعيّة ثالثة، تلتقي فيها المشاكل الداخليّة
بالمشاكل الخارجيّة، ما يقتضي منّا تفهمّاً لطبيعة كلّ منطقة على استقلالها،
لنستطيع الفصل بين خطوطها المتشابكة، والتّوفيق بين مشاكلها المتعدِّدة، لئلّا نقع
في الخلط بين ظروف القضيّة من الدّاخل، وظروفها من الخارج.
وقد يكون من فوائد التّخطيط، أنّه يقتضي منّا الوقوف طويلاً عند نهاية كلّ مرحلة من
مراحل الخطّة، لنستردّ أنفاسنا قليلاً، ولنتعرّف نتائج العمل في تلك المرحلة، ومدى
انسجام الخطّ النظريّ للمرحلة، مع الخطّة التنفيذيّة للعمل، ومناقشة موضوع الأرباح
والخسائر في ذلك كلّه، لنضمن للعمل سلامته في المراحل التّالية، لأنّ أقلّ خطأ في
أيّة مرحلة من المراحل، سوف يؤثّر في المراحل الّتي تليه، كنتيجةٍ للتّرابط العضويّ
بين المراحل، وستكون النّتيجة عكسيّةً إذا أغفلنا ذلك كلّه وخلطنا بين المراحل، فإنَّ
ذلك يقتضينا الخلط بين الأخطاء من دون أن نعرف موقع أيّ خطأ، ومركز أيّ انحراف، ما
يوجب تشابكاً في الأخطاء، وضياعاً لمعالم المشكلة، وبالتّالي، بداية الانهيار
والانحلال.
وقد يكون من نتائج التّخطيط، أن يعرف كلّ إنسان دوره في العمل حسب قابليّته
وفاعليّته، فلا يأخذ إنسان دور صاحبه، لأنَّ ذلك يقتضي إضاعة الجهود وإهدار
الطَّاقات، عندما نوجِّهها إلى غير مجالها، أو نطلب منها عملاً لا تملك أدوات نجاحه،
وبالتَّالي، إضاعة العمل نفسه، عندما لا تتهيَّأ له مجالات النّجاح وأجواؤه، وذلك
كما لو أخذ الفقيه دور السياسيّ، وقام الأديب بمهمة المفتي، وانطلق المحامي في عمل
المهندس، وحاول كلّ إنسان من هؤلاء أو غيرهم أن يقوم بغير الدّور الّذي تقتضيه
طبيعة ثقافته ونوعيّة اختصاصه.
ولست أقصد من هذا التحديد، تحديد الإنسان وحصره في نطاق ضيّق، فلا أحاول من هذا أن
أبعد الفقيه عن معرفة السياسة، أو نترك الأديب بعيداً من فهم الفقه، وإنما أقصد من
هذا، أن نستفيد من كلّ إنسان في مجال اختصاصه الّذي يمتاز به، أيّاً كان ذلك المجال،
لأنّه يكون في تلك الحالة أقدر على إتقان دوره، وإنجاح عمله، وأبعد عن الخطأ في
أسلوبه وغايته.
وبكلمة واحدة: إنَّ سلامة العمل، أسلوباً وغايةً، تقتضي منّا المزيد من فهم العمل،
ولن نستطيع فهمه إذا لم نتمكَّن من معرفة خطواته ومراحله، ولن يكون ذلك إلا
بالتّخطيط المرتكز على فهم الواقع وفهم الهدف.
من كتاب "خطوات على طريق الإسلام"، ص 25-29.