تحميل الكتاب
إذا قدِّر لنا أن نعبّر عن الأزمة التي يعانيها واقع السّلوك في حياة الإنسان المسلم تعبيراً دقيقاً، لن نجد أفضل من التَّعبير عنها بأنها (أزمة أخلاق)، لأنّها تلتقي بالواقع الذي يتمثَّل لدى الإنسان المحافظ، في أسلوبه الخاصّ الذي يتبعه في التزاماته الدينيَّة، كما تلتقي بالمظهر المنحلّ لدى الإنسان المتحلّل من قيود الدين والتزاماته.
وربما نجد في مضمون التعبير، التفسير المعقول للوضع النفسي المتجمِّد الذي تعيشه المجتمعات الإسلاميَّة في داخل ذاتها، المتمثِّل في طبيعة العلاقات الذاتيَّة والاجتماعيَّة فيما بين أفرادها، التي تمثّل – بدلاً من ذلك - انفصالاً وانفصاماً يلفت النظر.
وقد لا نعدم الكثيرين من خصوم الإسلام الذين يحاولون أن يجعلوا من هذا الواقع المتفكّك للمجتمع المسلم شاهداً على عدم إمكان اعتبار الحسّ الديني، أو العقيدة الدينيّة، مبدأ وحدة، ومنطلق لقاء، في أي مجتمع من المجتمعات.
وربما نجد في الصورة التي نأخذها من فهم هذه الأزمة، والتعرف إلى أبعادها، بعض الحديث الذي نستطيع أن نقدّمه لأولئك الذين يحاولون أن يلصقوا بالإسلام تهمة الدّين الذي لا يقدّم للإنسان – فيما يقدّم من عطاء - التربية الروحية التي تخلق عنده مناعة الروح، فيما تشعر به، وفيما تنفعل به تجاه الآخرين، لأن الإسلام في نظر هؤلاء، لا يمثّل إلا قانوناً مجرّداً يهتمّ بتنظيم علاقات الإنسان من الخارج، دون أن يهتمَّ أو يلتفت إلى الداخل.
أزمة الإنسان المسلم
وهكذا نجد في أزمة الإنسان المسلم الأخلاقية، مجالاً كبيراً للحديث عن طبيعة الإسلام من حيث الصفة القانونية التي تتمثل في واقعه التشريعي الضخم، ومن حيث القيم والمفاهيم الأخلاقية والروحية التي تتمثل في الخط العام الذي ترتكز عليه النظرة الإسلامية العامة للكون والحياة.
وإذا استطعنا أن نصل بالحديث إلى غاية معقولة، فربما نجد في نهاية المطاف، البون الشاسع بين واقع الإسلام تشريعاً وقانوناً، وبين واقع المسلمين أخلاقاً وحياة.
الإسلام قانون وشريعة
إنّ أدنى نظرة إلى الدين الإسلامي تعرّفنا حقيقة الواقع التشريعي له، الذي يحاول أن يجمع حياة الناس وينظّمها في إطار قانوني متين، تنتظم به أمورهم، وتطمئنّ إليه خطواتهم، فلا تنحرف ولا تزلّ ولا تزيغ.
ومن هنا، نجد أنه لم يغفل أي جانب من جوانب الحياة التي تحتاج إلى تشريع أو تخطيط إلا ووضع لها شريعة، وسن لها قانوناً، فكانت العبادات التي تصل العبد بربه، وتبلور صلته بالحياة وبالناس، وكانت المعاملات التي تنظم علاقاته المالية والاجتماعية والسياسية... وغير ذلك مما يمسّ حياة الناس ويجمع أمورهم، كل ذلك في إطار قانوني يرسم الشريعة، ثم يخط لها قواعدها العامة التي تستوعب تطور الحياة وتقدّمها، لتكفل لها نهجها الإسلامي في مدى الحياة الطويل.
وقد نلمح هذه الصورة التي نتمثلها للدين من حيث هو شريعة وقانون، في اعتماده الوسائل التي يعتمدها القانون في صيانة كرامته، والحفاظ على تنفيذه، فكانت القوانين الجزئية والجنائية، سبيل الدين للحدّ من جموح المنحرفين والمجرمين الذين لا يسكنون إلى عقيدة تردعهم، أو أخلاق تصدّهم، انطلاقاً من الطبيعة الإنسانية التي تتطامن وتتراجع أمام الترغيب والترهيب.
وعلى ضوء هذه الصورة التي قدّمناها، نستطيع أن نجد الجواب المعقول لأولئك الذين يجرّدون الدين من مهمّة قيادة الحياة في سيرها نحو أهدافها النظامية والتشريعية، لأنّ هذه الصفة لا يمكن أن تنطبق على الواقع الديني للإسلام، فإنّ شريعته لم تنفصل عن جانب العقيدة فيه، كما أنها لم تكن متأخّرة عن بداية انطلاقه في الحياة، بل كانت تسير معه جنباً إلى جنب... فكانت العقيدة منطلق التشريع وقاعدته، تمدّه بالحياة، وتشدّه بالقوّة، وكان التشريع امتداداً للعقيدة، يحمي حدودها، ويوسّع مداها.
ولذا، كان الإسلام في نظر قادة التّشريع فيه عقيدة وعملاً، إيماناً بالجوانح، وعملاً بالجوارح، وكانت الاستقامة على الطريق السوي للإسلام التشريعي، مظهر الصدق للإيمان، ولصحة العقيدة عند الإنسان المسلم والسمة الحية للشخصية الإسلامية المتزنة.
قاعدة التشريع في الإسلام
وإذا كان الدين الإسلامي يمثّل في حياتنا دور الشريعة والقانون، الّذي تريد السماء للأرض أن تسير عليه، وتعتمده أساساً لتنظيم شؤونها وتركيز حياتها، فقد نجد من الخير والإخلاص لحديثنا، أن نبحث القاعدة التي ترتكز عليها هذه الشّريعة، ويعتمد عليها القانون.
هل هناك هدف أعلى يستهدفه الدين في شريعته؟
وإذا قدِّر لنا أن نضع أيدينا على هذا الهدف، نتعرّف حقيقته، فقد يبرز أمامنا سؤال آخر عن المقياس الذي نقيس به إطاعة الإنسان المسلم لله، وانسجامه مع دينه وعقيدته الإسلاميّة.
فهل نستطيع أن نجعل مجرّد التّطبيق الحرفي للشّريعة مقياساً لتلك الطاعة وذلك الانسجام، دون أن نبحث عمّا وراءه، أو أنّ القضيّة لا تقتصر على مجرد التطبيق، بل تتعداه، فلكي يحقق الإنسان المسلم الانسجام الكامل بين التزاماته الدينية وعقيدته، وبين عمله، لا بدّ له من أن يعيش الأهداف والمثل العليا التي انطلقت منها الشّريعة وارتكز عليها القانون.
الجواب عن السّؤال الأوّل: يجدر بنا أن نتساءل قبل كلّ شيء، عن طبيعة الهدف الذي تستهدفه المبادئ والتّشريعات، دينية كانت أو غير دينية، من وراء دعوتها الملحّة إلى اتّباعها وتنفيذها.
لا شكّ أنّ الهدف الأكبر من ذلك هو تحقيق القيم والمفاهيم التي تحملها في داخلها، وتجسيدها واقعاً حيّاً في حياة الآخرين.
فالأديان تحاول في دعوتها السماوية، أن توصل الخلق إلى مرضاة الله وطاعته، وتأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية والخير والحقّ، فيما ترسم من تشريع، وفيما تخطّط من مناهج وتعاليم.
ولذا، فهي تحاول أن توفّق بين متطلّبات الروح ومتطلّبات الجسد، وتوازن بين مسؤوليّة الفرد ومسؤولية الجماعة، فلا يطغى مطلب على مطلب، ولا يميل جانب على آخر، لأن ذلك هو سبيل تحقيق الخير الروحي والمادي للإنسان في نظر الدين.
أمّا المبادئ الأخرى التي ترتكز على المادة وتنكر الرّوح، فهي تحاول الانطلاق من الواقع المادّي للحياة والإنسان، لتعالج مشاكله على أساس الارتفاع بهذا الواقع للوصول به إلى المستوى الذي تأمله للحياة الإنسانية، تاركة كلّ جانب من الجوانب الأخرى، لأنها في نظرها مجرّد وهم أو خيال.
وإذا كانت القضيّة ترتكز على ذلك، فمن الطبيعيّ أن تكون التشريعات المنطلقة من هذه الخطّين صورة حيّة للقاعدة الفكرية التي ينطلق منها التّشريع، إذ لو لم تسر القضيّة على هذا المنهج، لفقدت مبرّرات وجودها، وانفصلت عمّا يمدّها بالقوّة والحياة.
وعلى هدى هذه الحقيقة، نستطيع أن نقول إننا لا نعقل للتّطبيق الحرفي للتشريع المجرّد من الروح، أيّ معنى فيما يتعلق بانسجام الإنسان مع عقيدته ودينه، فقد لا يكفي في كون الإنسان مسلماً، أن يطبّق الإسلام تطبيقاً مجرَّداً، ما لم تكن روحه عامرة بالقيم والمفاهيم الإسلاميّة، كما لا يمكن أن يكون الإنسان اشتراكيّاً لمجرّد تطبيقه القوانين الاشتراكية بدقّة وإذعان، ما لم تكن منسجمةً مع المفاهيم الاشتراكية في مشاعرها والتزاماتها.
إنّ الإسلام أو الدين بشكل عامّ، يمثّل مجموعة القيم والمفاهيم التي ارتكزت عليها شريعته، فلا يمكن للإنسان الذي أقفرت روحه من تلك القيم، أن يكون مسلماً أو متديّناً، وإن التزم بشريعة الإسلام حرفيّاً.
تلك هي صورة القضيّة على الإجمال.
دور الأخلاق
أمّا دور الإسلام وموقفه من كلّ ذلك، فنستطيع تعرّفه من خلال الأحاديث التي عرضت للأساس الذي انطلقت منه الدّعوة الإسلاميّة، كما في الحديث النبوي الشريف المشهور: "إنَّما بُعِثْتُ لأتمّم مكارم الأخلاق".
فقد نفهم من هذا الحديث الشَّريف، أنَّ القضيَّة التي يحاول الإسلام أن يثيرها في الحياة كقاعدةٍ لبناء المجتمع الأفضل، هي قضيَّة "مكارم الأخلاق"، فهي القضيَّة التي يمكن لها أن تبني ضمير الفرد من أجل أن يكون إنساناً حيّاً طاهراً، يتفاعل مع مشاعر الآخرين ويعيش آلامهم، وهي القضيّة التي تستطيع أن تجعل من عقليّة الجماعة عقليّة توجّه وتعمل، دون طغيان أو أثرة، وهي في الوقت ذاته، قضية الحياة الكبرى، التي تجعل من عمر الإنسان في الدنيا رحلة سعيدة مثمرة في دروب الله.
وإذا كانت الأخلاق هي قاعدة الإسلام في بناء المجتمع الإسلاميّ الأفضل، كما يوحي به الحديث الشَّريف، فمن الطبيعيّ أن ترتكز تشريعاته على هذه القاعدة، وتنطلق من هذا الأساس، الأمر الذي يجعل من القوانين الإسلاميّة صورةً حيّةً للنموذج الأكمل للأخلاق الإسلاميّة، ومرآة صادقة للحياة التي يريد الإسلام إيجادها للمجتمع.
ولذا، فإنّ باستطاعتنا أن نقرّر قيمة أيّ تشريع ينسب إلى الإسلام، بقدر قربه من الأخلاق الإسلامية وبعده عنها، إذ لا يمكن للتشريع أن ينفصل عن قاعدته أو يبتعد عنها.
وكما يصلح ذلك مقياساً للتشريع نفسه، فبإمكاننا أن نجعل منه مقياساً نقيس به مدى "إسلاميّة الفرد" وتمثّله للشخصية الإسلامية التي يراد للمسلم أن يتصف بها، فقد لا يكفي في المسلم أن يطبّق التشريع بحرفيّته، ما لم يكن داخله تجسيداً حيّاً لقيم التشريع ومفاهيمه.
وكما هي الحال في الفرد، كذلك في المجتمع، فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الّذي تبرز في أجوائه وخطواته وحركاته تعاليم الإسلام وقيمه، قبل أن تبرز فيه طقوسه وعاداته وتقاليده.
ذلك هو بعض ما نستوحيه من هذا الحديث الشَّريف في طبيعة الصلة القائمة بين الأخلاق والشّريعة في وعي الإسلام، فهي صلة القاعدة والبناء، أو السبب والمسبّب، والعلة والمعلول... إلى غير ذلك من التعابير التي تربط الشّيء بمصدره، وترجع الأشياء إلى أصلها.
علاقة الأخلاق بالتشريع
ومتى كان العنصر الأخلاقيّ يمثل دور الأصالة في سير التشريع الإسلاميّ، فلا بدّ له من أن يكون شاملاً، يستوعب كلّ جوانب الحياة الفردية والاجتماعية الّتي يتّسع لها التشريع، ففي مجال التشريع الاقتصاديّ، لا بدّ من أن تكون هناك (أخلاق اقتصاديّة)، وإلى جانب ذلك، لا بدّ من أن تكون لنا في مجال التشريع السياسي (أخلاق سياسية)، لا تختلف في قليل أو كثير عن الخط الأخلاقي العام الذي يرتكز عليه الإسلام.
وبكلمة واحدة، إنّ العنصر الأخلاقي لا يمثّل جانباً من جوانب الدين أو التشريع الديني في الإسلام، وإنما يمثّل المنطق الذي ينطلق منه التشريع، والقاعدة التي يرتكز عليها ويمتدّ بامتدادها.
ومن هنا، كان من الخطأ البيّن أن نعتبر جوانب التّشريع الإسلامي ذات أقسام عدّة، نحسب الجانب الأخلاقيّ واحداً منها، في مقابل بقيّة الجوانب الأخرى من سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة.
صورة الأزمة الأخلاقيّة
ومادام الإسلام قانوناً وشريعةً تستمدّ حيويّتها من (مكارم الأخلاق)، وليس قانوناً مجرّداً لا يرتكز على شيء، الأمر الذي يجعل من الأخلاق عنصراً حيوياً للشخصية الإسلامية، كما قدّمنا، فقد نستطيع على ضوء ذلك، أن نفهم صورة الأزمة التي نعانيها في مجتمعنا المسلم، وكيف تتمثّل فيه كأزمة أخلاقيّة.
فلو قدِّر لنا أن نتطلّع إلى هذا المجتمع تطلّعاً واعياً، وندرسه دراسة شاملة تتمثّل أفراده في مدى التزامهم بالإسلام كقانون وابتعادهم عنه، لرأينا أفراده ينقسمون إلى قسمين:
الأوَّل: القسم المتديّن المحافظ، ويتمثّل بالفئة التي تحاول جهد طاقتها أن تطبِّق شريعة الإسلام وقانونه على حياتها الخاصّة، فتراها تمارس العبادات ممارسةً دقيقةً، فتحافظ على صومها وصلاتها وحجِّها وصدقاتها، وغير ذلك، كما أنّها تحاول جاهدة اجتناب المحرَّمات التي نهى الله عنها، كشرب الخمر والزنا وقتل النفس المحترمة والكذب وغيرها.
الثاني: القسم المتحلّل المتفلّت من قيود الدين وتعاليمه، ويتمثل في الفئة التي تنظر إلى الدين نظرة اللامبالاة.
فهو لا يمثّل عندها شيئاً ذاتياً يقيّدها ويوجّه خطواتها، وإنما يمثّل عندها شعوراً عاطفياً يرتبط بالعقيدة التي نشأت في جوّ عاطفي صرف، ولم يقدَّر لها التربية الصالحة التي تركّزها على أساس متين.
وهذه الفئة بحكم هذه اللامبالاة، لا تلتزم بالواجبات، وإنما تمارسها، في حال ممارستها، على أساس مناسبة معيّنة أو ظرف خاصّ، كما أنها قد تترك المحرَّمات بفعل رادع خارجي أو جهة عاطفيّة.
هذان هما القسمان اللّذان يمثّلان القسم الأكبر من أفراد مجتمعنا المسلم، ويعيشان في الوقت ذاته أزمة الأخلاق في داخله.
وقد يبدو غريباً أن نعتبر الفئة الأولى مصدر أزمة أخلاقيّة، فقد يدخل في الظن منافاة ذلك لما قدّمناه من ارتكاز التشريع على أساس الأخلاق، الأمر الذي يجعل من تطبيق التشريع في حياة الإنسان تجسيداً للقيم الأخلاقية الإسلامية، نظرا ًإلى أنّ القوانين الشرعيّة تعتبر من وجهة النظر هذه، وسيلة من وسائل التربية الأخلاقية في المجتمع.
ولكن علينا أن نفرّق بين نموذجين من الناس ممن يتقيّد بأحكام الدين وشرائعه.
فهناك فئة من الناس تفهم التَّشريع مجرَّد إطاعة حرفيّة للأوامر والنواهي، فالمهمّ عندها، على حدِّ تعبير البعض، هو الخروج من العهدة، وبراءة الذمّة، لئلا تعاقَب فيما لو قدِّر لها أن تترك هذه الواجبات... فالقضية عندها تنتهي بانتهاء العمل، دون أن يكون للأثر الداخلي أو الخارجي أيّة قيمة في حسابها.
فالمهمّ في إطاعة قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، أن يؤدِّي الإنسان صلاته بتمام أجزائها وشرائطها. أمّا أهداف الصلاة، أمّا غاياتها، فهو أمر خارج عن التّكليف، فلا يجب القيام به.
والمهمّ في الزّكاة أن يخرجها كاملةً غير منقوصة، ويسلّمها إلى أصحابها دون تأخير، لأنّ في ذلك ضمانة له من العقاب، وليس من المهمّ بعد ذلك أن لا تؤدِّى الزكاة أيّ هدف له داخل ذاته، أو داخل مجتمعه، بل ليس من المهمّ أن يحاول اتّباع بعض السّبل التي تسوّغها الشّريعة من وجهة قانونيّة للهروب من دفع الزّكاة بالهروب من موجباتها.
وهكذا يتمثّل هذا الواقع في المحرَّمات، فقد تجد شخصاً يبتعد عن الرّبا في معاملته، ولكنه يمثّل في أخلاقه ونفسيّته، أخلاق المرابي ونفسيّته، في وحشيّة القسوة وأثرة الذات، ولذا فهو يعمل على استغلال الآخرين، والتّلاعب بآلامهم ومشاعرهم، دون عاطفة أو إشفاق.
وقد يلجأ في الوقت ذاته إلى كثير من أساليب اللّفّ والدوران، للحصول على نتيجة الرّبا بطرق قانونيّة منظّمة.
كما قد تجد إنساناً لا يمارس الزّنا، ولكنّه يحمل في داخله روحيّة الزاني وأخلاقه، فهو لا يتركه لعفّة ذاتيّة، وإنما يجتنب عنه لرادع قانونيّ، ولذا، فهو يتحيّن الطرق القانونية لإرواء جشعه الغريزي ووحشيّته الجنسيّة.
إنّ هذه الفئة قد تكون إسلاميّة من الوجهة القانونية المجرّدة للإسلام، إذا أردنا أن نجرّده من الوجهة الأخلاقيّة التي يرتكز عليها، ولكنها في الجانب الآخر ليست إسلامية من وجهة القيم والأخلاق، لأنّ مثل هذه الأعمال التي تمارسها هذه الفئة، قد تسقط عنها العقاب، لأنّه تابع للمخالفة القانونيّة المفقودة هنا، ولكنَّها لا تقرّبها من الله، لأنَّ القربى إليه تعالى لا تكون إلا بالرّوح الصافية المطمئنَّة التي تعيش العفَّة والطهارة في داخلها، وتتمثّل الخير والإيمان في روحها دون تكلّف أو تصنّع، وتصدر عنها أعمالها بعفويّة محبّبة.
وقد نستطيع أن نفهم ذلك من بعض الأحاديث الشّريفة التي تحاول الإشارة إلى بعض القيم الأخلاقيّة الكامنة في التّشريع، كما في الحديث المأثور: "من لم تمنعه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً".
فقد نفهم من هذا الحديث، أن مثل هذه الصلاة المجرَّدة عن أهدافها، من أسباب البعد عن الله، لأنها لا تمثّل في ذاتها العبادة الداخليّة للإنسان، وإنما تمثّل صورة خالية من أيّ روح وأيّ معنى.
وقد نفهم من ذلك، أنه لكي يكون الإنسان مسلماً، لا بدّ له من أن يعيش عباداته في داخله، ويتمثّلها في نفسه تمثّلاً وجدانياً ينساب في مشاعره انسياب الروح في الجسد والدم في العروق.
وهناك فئة من الناس قدِّر لها أن تعيش جواً تربوياً إسلامياً خالصاً، يعرّفها روحية الإسلام من خلال قانونه، ويبصّرها بأهدافه من خلال دراسة وسائله، ويدلّها على غاياته قبل أن يخطو بها في دروبه.
إنّ هذه الفئة قد عاشت الإسلام في روحيّة القانون، في الوقت الذي لم تبعد عن خطوطه القانونيّة شعرة واحدة.
إنها هي التمثيل الوحيد الحيّ للشخصية الإسلامية التي يريد لها الإسلام أن تحيا في مجتمعه، وهي الجماعة الإسلاميّة التي يريد لها الإسلام أن تقود خطى الحياة في حركة نحو المجتمع الأفضل.
هذان هما النموذجان اللّذان يتمثّل بهما القسم المتديّن المحافظ، وقد يكون كلّ منهما مخلصاً في عمله، لأنّه لم يقدَّر له أن يعرف القضية إلا من ذلك الجانب.
ولكنَّ ذلك لا يمنعنا من أن نقرِّر أنَّ الفئة الأولى قد شاركت مشاركة فعّالة في الأزمة الأخلاقية، لأنها أخذت الإسلام جسداً بلا روح، فأساءت إليه من حيث تريد أو لا تريد.
ومن المؤسف أن نفتقد الفئة الثّانية في مجتمعنا المسلم، حتى لا نجد منها فرداً بين آلاف... وهذا ما يفسّر لنا افتقاد الصورة الحيّة للإنسان المسلم الذي يعيش الإسلام روحاً وحياةً في مجتمعنا المعاصر.
وهذا ما يفسّر لنا المشكلة التي نعيشها مع جيلنا المعاصر، عندما يهرب من الدّين محتجّاً بالصّور الدينيّة المألوفة للأشخاص المحافظين الذين لا يعيشون روحيّة الإسلام وقيمه، وإن كانوا يتمثّلونه طاعة قانونيّة مجرّدة، فهم يفتقدون في نفوسهم معاني الحبّ والرّحمة والحنان والتسامح، وإن كانوا يطبّقون القوانين التي ارتكزت على هذه المعاني، وهم يفتقدون المرونة النفسيّة والاجتماعيّة التي يستطيعون معها أن يتفاعلوا مع مجتمعهم ويؤثروا فيه... ومن هنا، كان المجتمع في واد وهم في واد.
وأخيراً، أحسب أنه لم يبق عندنا شكّ فيما قلناه في بداية الحديث، أن الواقع الإسلامي يعاني في هذا الوقت أزمة أخلاق، دون فرق بين الفئة المحافظة وبين الفئة المتحلّلة من قيود الدين والتزاماته.
أقدّم هذا الحديث جواباً إلى بعض القرّاء الكرام، الذي أغفل اسمه، حين كتب لي يقول عن هؤلاء المحافظين:
"قد نراهم يقومون بتأدية الصّوم والصّلاة والزكاة والخمس والحجّ من جهة، لكنهم يقومون بما هو محرَّم من جهة ثانية، إذ يتقاضون الرّبا، فكيف نوفِّق بين هذا وذاك؟".
يا قارئي الكريم:
أرجو أن أكون نجحت في رسم الصورة الحيّة لهؤلاء، ممن يرتكبون المحرَّمات أو ما يشبه المحرَّمات من زاوية أخلاقيّة.
أمّا الحلّ لهذه المشكلة، فقد تتّفق معي في أنّ مجالها ليس هذا الحديث الخاطف، لأنّ القضيّة ليست مرتبطة بالصّورة، وإنما هي مرتبطة بالجذور والأعماق، حيث الحكم الذي لا يمثّل أيّ صورة إسلامية للحياة، وحيث التيارات الضالة والكافرة التي تطغى علينا من كلّ جانب ومكان.
إنها قضية جذور المجتمع الحاضر وأعماقه، فلا بدّ لنا من أن نبدأ الحلّ في دروب الواقع، في مجال الحياة، حيث الجهاد والكفاح، من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، كلمة الحقّ، وإزهاق كلمة الشيطان، كلمة الباطل.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
* صدر في النّجف من ضمن سلسلة (في مرحلة البناء)، بتاريخ 16 نيسان 1966م.