إنّ للحديث النّبويّ من علوّ الشّأن وجلالة القدر ما لا يختلف فيه اثنان، ولا
يحتاج في إثباته إلى برهان، إذ هو الدّعامة الثّانية - بعد الذّكر الحكيم - للدين
والشريعة والحكم والأخلاق.
وهذه المنزلة الرّفيعة تقتضي المزيد من الاهتمام بالمنقول عنه، ودراسته وتمحيصه
بأفضل نحوٍ، حتّى يتميَّز الصّحيح عن السّقيم، والمعقول عن غيره، وموافق الكتاب عن
مخالفه.
وذلك لِما دقَّ رسول الله جرس الإنذار وقال: "من كذب عليَّ متعمِّداً، فليتبوّأ
مقعده من النّار". وذلك يعرب عن أنَّ الرَّسول كان يعلم بإذن الله أنَّ أعداء دين
الإسلام وسماسرة الحديث سيكذبون عليه، ويضعون الحديث على لسانه.
وقد صدق الخُبر الخبرَ؛ حيث وضع الوضّاعون أحاديث على لسانه، وبثّوها بين صفوف
المسلمين بأساليب مختلفة، فصار تمييز الصحيح عن غيره أمراً بعيد المنال.
وقد كان لمنع كتابة الحديث وتحديثه ما يزيد على قرن، مضاعفات جمّة؛ أهمّها انتهاز
الوضّاعين لوضع الحديث وجعله ونشره بين المسلمين، فلمَّا وقف المحدّثون على مدى
الخسارة الّتي مُني بها الحديث، أخذوا بتقييد وضبط كلِّ ما دبَّ وهبَّ بحرص شديد،
سواء وافق العقل أم خالفه، وافق الكتاب أم خالفه، إلى حدّ تجاوزت منزلة الحديث،
الكتاب العزيز، ويُعلم ذلك من الأُصول الّتي اتّخذها أهل الحديث مقياساً لأخذ
الحديث وجمعه، فقالوا:
١. إنّ السنَّة لا تُنسخ بالقرآن، ولكنَّ السنَّة تَنسَخ القرآن وتقضي عليه،
والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها.
٢. إنّ القرآن أحوج إلى السنّة، من السنّة إلى القرآن.
٣. إنَّ القول بعرض الأحاديث على الكتاب، قول وضعه الزّنادقة.
والّذي يُعرب عن كثرة الموضوعات، اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم الصّحاح
والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة، والصّفح عن ذلك الهوش الهائش. قد أتى أبو داود في
سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث، وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث.
ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار، ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستّين حديثاً،
اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث.
وفي صحيح مسلم أربعة الآف حديث أُصول، دون المكرَّرات، صنّفها من ثلاثمائة ألف.
وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة
وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث، وكتب أحمد بن الفرات (المتوفَّى ٢٥٨هـ)
ألف ألف وخمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد
وغيرها.
ثم إنّ الإمام أحمد بن حنبل (١٦٤ - ٢٤١هـ) قد كتب رسالة بيّن فيها عقائد أهل الحديث
تحت بنود خاصّة.
قال في مقدّمته: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنّة المتمسّكين بعروقها،
المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
إلى يومنا هذا، وأدركتُ من أدركت من علماء الحجاز والشام عليها؛ فمن خالف شيئاً من
هذه المذاهب، أو طغى فيها أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة وزائل
عن مذهب السنَّة وسبيل الحقّ. ثم شرع في بيان الأُصول.
كما كتب أبو الحسين محمد بن عبد الرّحمن الملطي الشافعي (المتوفّى٣٧٧هـ) عقائد أهل
الحديث في كتابه المعروف بـ (التنبيه والرَّدّ)، وقد سرد الإمام الأشعري عقيدة أهل
الحديث في كتابيه: الإبانة ومقالات الإسلاميّين، ولعلّ ما كتبه أحسن تناولاً ممّا
كُتب قبلَه...
وقد قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله:
السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البَرّ والفاجر، ومن ولّي الخلافة فأجمع الناس
ورضوا به، ومن غلبهم بالسّيف وسُمّي أمير المؤمنين. والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم
القيامة، البَرّ والفاجر. وإقامة الحدود إلى الأئمّة، وليس لأحد أن يطعن عليهم
وينازعهم. ودفع الصّدقات إليهم جائز، من دفعها إليهم أجزأت عنه، برّاً كان أو فاجراً.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف كلّ من ولّي، جائزة إقامته، ومن أعادها، فهو مبتدع تارك
للآثار مخالف للسنّة.
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين، وكان الناس قد اجتمعوا عليه، وأقرّوا له
بالخلافة بأيّ وجه من الوجوه، أكان بالرّضا أو بالغلبة، فقد شقَّ الخارج عصا
المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فإن مات
الخارج عليه، مات ميتة جاهليّة.
وأين هذه العقيدة ممّا نقله السبط الشّهيد، أبو الشهداء، الحسين بن عليّ، عن جدِّه
(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حينما خطب أصحابه وأصحاب الحرّ، قائد جيش عبيد الله
بن زياد آنذاك، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمّ قال: أيّها الناس: إنَّ رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله وسلَّم) قال: "من رأى سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً
لعهد الله، مخالفاً لسنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم
يُغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنَّ هؤلاء قد
لزموا طاعة الشّيطان، وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود،
واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرَّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر".
كان أصحاب الحديث، قبل تصدّر أحمد بن حنبل لمنصَّة الإمامة في مجال العقائد، على
فِرَق وشيع، والأُصول الّتي كتبها الإمام ووحّدهم على تلك الأُصول، لم تكن مورد
قبول القدامى منهم، وقد أخذت هذه الأُصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع في
أيّام المتوكّل لصالح الإمام أحمد.
والشاهد على ذلك، أنّ جلال الدين السيوطي في كتابه (تدريب الراوي)، يذكر الفرق
المختلفة لأصحاب الحديث الّذين لم يكونوا على وتيرة واحدة كما صاروا كذلك بعد
الإمام أحمد، بل كان أصحاب الحديث بين:
مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان، وأنّه لا تَضرُّ معه معصية، كما لا تنفع
مع الكفر طاعة. ونقدّم إليك بعض أسمائهم؛ من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه،
نظراء:
1 - إبراهيم بن طهمان. 2 - أيوب بن عائذ الطائي. 3 - ذر بن عبد الله المرهبي. 4 -
شبابة بن سوار. 5 - عبد الحميد بن عبد الرحمن. 6 - أبو يحيى الحماني. 7 - عبد
المجيد بن عبد العزيز. 8 - ابن أبي رواد. 9 - عثمان بن غياث البصري. 10 - عمر بن ذر.
11 - عمر بن مرة. 12 - محمد بن حازم. 13 - أبو معاوية الضرير. 14 - ورقاء بن عمر
اليشكري. 15 - يحيى بن صالح الوحاظي. 16 - يونس بن بكير.
إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم ومعاصيهم إلى أنفسهم، ولا يسند فعلهم إلى الله
سبحانه، نظراء:
1 - ثور بن زيد المدني. 2 - ثور بن يزيد الحمصي. 3 - حسان بن عطية المحاربي. 4 -
الحسن بن ذكوان. 5 - داود بن الحصين 6 - زكريا بن إسحاق. 7 - سالم بن عجلان. 8 -
سلام بن مسكين. 9 - سيف بن سلمان المكي. 10 - شبل بن عباد. 11 - شريك بن أبي نمر.
12 - صالح بن كيسان. 13 - عبد الله بن عمرو. 14 - أبو معمر عبد الله بن أبي لبيد.
15 - عبد الله بن أبي نجيح. 16 - عبد الأعلى بن عبد الأعلى. 17 - عبد الرحمن بن
إسحاق المدني. 18 - عبد الوارث بن سعيد الثوري. 19 - عطاء بن أبي ميمونة. 20 -
العلاء بن الحارث. 21 - عمرو بن زائدة. 22 - عمران بن مسلم القصير. 23 - عمير بن
هاني. 24 - عوف الأعرابي. 25 - كهمس بن المنهال. 26 - محمد بن سواء البصري. 27 -
هارون بن موسى الأعور النحوي. 28 - هشام الدستوائي. 29 - وهب بن منبه. 30 - يحيى بن
حمزة الحضرمي.
إلى جهمي ينفي كلَّ صفة لله سبحانه، ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه، نظير: بشر بن السري.
إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم، ويتبرأ منه ومن عثمان ومن طلحة
والزبير وأُم المؤمنين عائشة ومعاوية وغيرهم، نظراء:
1 - عكرمة مولى ابن عباس.
2 - الوليد بن كثير.
إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث والقدم، وإنّه مخلوق أو
غير مخلوق، نظير: علي بن هشام.
إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمة الجور ولا يباشره بنفسه، نظير: عمران بن حطان.
إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء؛ الذين قضى عليهم الدّهر وعلى آرائهم ومذاهبهم،
بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمَّة الإمامة في العقائد.
فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأُصول الّتي استخرجها أحمد، وجعل الكلّ كتلة واحدة،
بعد ما كانوا على سُبل شتّى.
*من كتاب "المذاهب الإسلاميّة".