من أهمّ ما يحرص عليه القادة في الجيوش، أن يكون الروح في جندهم قويّاً عالياً، وأن يدرموا عن أنفسهم وعمَّن تحت قيادتهم، عوامل الوهن النفسيّة التي من شأنها أن تزلزل القلوب، وتضعضع القوى، فإنّ الغلب لا يرجع إلى القوة الحسيّة فحسب، وإنما يرجع قبل ذلك إلى الثّبات والقوّة المعنويّة.
وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى ذلك في مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}، {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَالله مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ}.
ينهانا الله عزّ وجلّ عن أسباب الانهيار والهزيمة الرّاجعة إلى تسلّط الوهن والحزن على قلوبنا، وامتلائنا بهيبة القوم والخوف منهم، واستعظام ملاقاتهم، والتّقصير في تتبّعهم وابتغائهم، والتأثّر بما يصيبنا من الآلام والمشاقّ والصّعاب، وينبئنا جلّ شأنه أنّنا أعلى منهم بما في قلوبنا من الإيمان، وأنّ الله معنا ولن يضيّع أعمالنا، وأنّنا نرجو منه النصر مطمئنّين إلى وعده، واثقين من حسن العاقبة إذا صبرنا وأخلصنا.
أمّا عدوّنا، فإنهم لا يؤمنون كما نؤمن، ولا يرجون من الله ما نرجو، وليسوا في منزلتنا قرباً من الله، وعلوّاً بالحقّ والإيمان، وهم مع ذلك، يألمون كما نألم، ويحتملون من مرارة الحرب وصعابها مثل ما نحتمل. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ هذا الأصل، وهو تثبيت قلوب المؤمنين في آيات أخرى، منها قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
يبيِّن الله لنا أنّه ما جعل إمداد المؤمنين بالملائكة إلا بشرى لهم بأنهم مؤيّدون من الله، فإنّ الإمداد لا يكون إلا من المولى والنَّصير، فالله مولاهم وناصرهم، ولا شكَّ أنّ إقرار هذا المعنى في قلوبهم، يملأهم إيماناً بالنصر، ويبعث فيهم من القوّة ومضاء العزيمة، ما يكون سبباً مباشراً في الفتح والغلب، ولذلك اتّبع الله ما ذكره من أنّ ذلك بشرى لهم، بأنَّ هذا أيضاً تطمين لقلوبهم، وليعلموا أنَّ النَّصر في الحقيقة ليس بمجرَّد الإعداد والتجهيز، ولكن بقوّة من الله تعالى يهبها أولياءه ويملأ بها قلوبهم، ويشدّ بها عزائمهم، وهي هذه القوّة المعنويّة التي يشعر معها المجاهد الحقّ في سبيل الحقّ أنّه أثبت قدماً، وأقوى قلباً، وأمضى عزماً، وأنه هو المنتصر مهما أجلب عليه عدوّه بخيله ورجله.
ثم تبيِّن لنا الآيات، أنَّ من تدبير الله للمؤمنين ولطفه بهم، ما أكرمهم به، حيث ألقى عليهم النّعاس أمنةً منه، فلمّا رأوا أنهم ناموا ليلهم قريري العيون، مطمئنّي القلوب، زاد ذلك في شعورهم بالقوّة والأمن، ثم زادوا أمناً وقوّةً وثباتاً بالماء الذي أنزله الله عليهم، فكان أمارة على الرّضا والتيسير، وكان وسيلة إلى التّطهير الحسي والمعنوي، وإلى إذهاب رجز الشّيطان، وإلى الرّبط على القلوب وتثبيت الأقدام، وإن جيشاً يتوافر له من وسائل التثبيت والتأييد الإلهي ما توافر لهذا الجيش، لمزوّد بأعظم قوّة معنوية.
وفي مقابل ذلك، يذكر حال عدوّهم، وإلقاءه في قلوبهم الرّعب بما يرون من آثار الرّضا الإلهيّ عن المؤمنين، وآثار الغضب الإلهي على الكافرين، وقد ذكر هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَان}، وتلك سنّة إلهيّة في كلّ مكابر جاحد للحقّ، يبدو شديد القوّة، عظيم الجلد، وقلبه في الحقيقة واه ضعيف، لأنّه خال مما يتظاهر به، غير ممتلئ بوجوب الثّبات عليه، ولذلك يكون خواراً متضعضعاً يفرّ من أول وهلة، ويداخله الرّعب والخوف الشّديد إذا وجد أمامه مؤمناً ثابتاً مصمّماً على منازلته. وهذا هو المعنى الّذي نصر الله به المؤمنين الأوَّلين، فقد كانوا يحاربون عن عقيدة وإيمان، وكانت ظواهرهم في ذلك وبواطنهم سواء، أمّا أعداؤهم، فكانوا مشركين بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وكانوا يعرفون الحقّ كما يعرفون أبناءهم، ولكنّهم إنما حاربوا في سبيل السلطان واستبقاء الجاه والمنزلة، أنفةً من أن يتسلّط عليهم أصحاب هذا الدّين، وهم السادة الأقوياء ذوو الأحساب والأنساب. وشتّان بين من يقاتل مخلصاً، يحفّزه قلبه، ويدفعه إيمانه، ومن يقاتل وهو يعلم أنّه مبطل متجنّ لا يدفعه إلا الشّيطان! وقد كان المشرك لا يجرؤ في غزوات المؤمنين الأوّلين على الوقوف في وجه المؤمن، إذ كان يخيَّل إليه أنّه يلقى أسداً فاغراً فاه يوشك أن يلتهمه، وما رأى إلا قوَّة الإيمان، وعزمة التصميم.
ترى، هل حافظ المسلمون على هذه المنزلة، وحرصوا على أن يكونوا في العالم هم الأمَّة الواثقة بنفسها، المعتدَّة بما عندها، المطمئنّة إلى أنّ الله مولاها، وأنّ وعده الحقّ؟
هل حرصوا على أن يقرّوا في نفوس أعدائهم أنهم ينظرون إليهم نظرة المحقّ إلى المبطل، نظرة الواثق بقوّته وعزيمته إلى من يراه ضعيفاً نازلاً عنه، غير أهلٍ لمجاراته ومساماته؟
يؤسفني أن أقرّر أن الأمر صار إلى العكس، فأصبحنا نرى المسلمين وقد وهنت عزائمم، وانحطّت قواهم المعنويّة، وصاروا ينظرون إلى أعدائهم والظّالمين لهم نظرةً ملؤها الإعجاب والإكبار، وإلى أنفسهم وقادتهم وأعمالهم وسائر أحوالهم نظرةً ملؤها الاستخفاف والاستهانة. أمَّا أعداء المسلمين، فقد صاروا هم الأعزَّة، وهم أهل الاعتداد بأنفسهم، والثِّقة بما عندهم، والنظر إلى المسلمين كأمّة متخلّفة ضئيلة محتاجة إليهم في مادياتها ومعنويّاتها، وأنها لا تصبر على حربهم، ولا تقدر على أن تقف في سبيلهم، وأنهم حين يجودون عليها بشيء من أموالهم أو أفكارهم، فإنما يلبّون داعي الإنسانيّة، ويحرصون على أن يكونوا أهل فضل وبرّ، والله يعلم إنهم لطامعون محتالون، لا يريدون إلا تسخيرنا، واستلاب ثرواتنا وجهودنا، وقد عرفوا أنّه لا بدّ لهم قبل ذلك من استلاب نفوسنا وقلوبنا، وأن يخدعونا عن عقولنا، وعمّا لا يحبّون أن نعتزّ به من إيمان ثابت، وعمل صالح.
إنّ المسلمين في حرب زبون مع أعدائهم، لن تضع أوزارها مادام هؤلاء الأعداء قادرين على موالاتها وإمدادها، ومن الخير للمسلمين أن يتيقّنوا ويتنبّهوا إلى أنّ من أهمّ أسلحة هذه الحرب، حرص أعدائهم على أن يقرّوا في نفوسهم أنهم أمّة ضعيفة ضئيلة، وأنّ دينها وشريعتها وأخلاقها ليست صالحةً لهذا العصر الذي تبدَّلت فيه الدنيا، وتغيَّرت مثلها ونظمها. إنهم واثقون بأنَّ ذلك يهدّمنا ويقوّض كياننا، ويبعث فينا الوهن، ويجعلنا ندور في فلكهم، ونتبع آثارهم، ونخدم أغراضهم. ومن عجب أنَّ بعض رجالنا المثقَّفين ثقافات غربيَّة، قد خدعوا بذلك، فتراهم، مثلاً، ينادون بإبعاد الدّين عن مجال الحكم والتَّعامل، وأخذ الأمَّة بالنّظم الحديثة، والقوانين الوضعيَّة، كما يفعل الأوربيّون، ويقولون إنَّ الدّين لله، فلنقصره على المسائل الرّوحيّة، ولننتفع به في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق، وكفى.
ويرجع السَّبب في انخداعهم بهذه الفكرة الخاطئة إلى جهلهم بالشَّريعة الإسلاميّة، وعدم معرفتهم بما فيها من كفالة للحياة السَّعيدة على أتمّ وجه وأكمل حال.
لقد أصلح الله بهذا الدّين حال قومٍ كانوا يعيشون في ظلمات الجهل والشِّرك، وتتفشَّى فيهم أقبح العادات، وأسوأ الأوهام والخرافات، أنقذهم الله به من هذه الظّلمات المتراكمة، وأخذ بأيديهم إلى مدارك السّموّ والكمال الإنساني في كلّ ناحية من نواحي الحياة، حتى كانوا مثلاً في العالمين، وعجباً في الأوَّلين والآخرين.
كانوا قادة العالم إلى كلِّ خير، ودعاته إلى كلِّ صلاح وإصلاح، كانوا أعزّاء بعزّة الإيمان، أقوياء بالتَّضامن والتَّكافل على إحقاق الحقّ، وإقامة العدل، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، كانت لهم هيبة تملأ صدور النَّاس في الشَّرق والغرب، فلم يكن أحد يفكِّر في مقاومتهم أو الوقوف في وجه دعوتهم، فضلاً عن أن يفكِّر أحد في غزوهم في عقر دارهم، ومحاولة استغلال مرافقهم، والاستيلاء على ما منحهم الله من ثروات، ملأوا طباق الأرض علماً وحكمةً وعدلاً وأمناً واستقامةً ورشاداً، حتى كانت الشعوب في كلّ بلد من بلاد الله تحنّ إلى حكمهم وعدلهم، وتتمنّى أن تساس بسياستهم، ولم يعرف في تاريخ البشر أمّة نبغت في مثل تلك الفترة القصيرة التي نبغوا فيها، ولم يعهد في تاريخ الفكر الإنسانيّ أمّة وصلت بعلمها وأفكارها ومثلها وقضاياها إلى شغل أفكار العالم على هذا النّحو الّذي وصلت إليه الأمّة الإسلاميّة.
فإذا أردنا أن نسلك الطريق الواضح المستقيم إلى خلاصها وصلاحنا وقوّتنا وعزّتنا، فلنؤمن بما آتانا الله من دين وشريعة، ولننزع من رؤوس مثقّفينا وبعض قادتنا وزعمائنا هذه الفكرة الباطلة، فكرة الزَّعم بأنّ هذا الدّين كغيره من الأديان لا شأن له بالحياة، ولا خير في جعله أساساً للنّظام والسياسة في الأمم، علينا أن ننتزع هذه الفكرة بكلّ قوّة من رؤوس معتنقيها، فإنها أخطر فكرة على المسلمين، وأخبث دعوة استطاع أعداء الإسلام أن يدخلوها على مثقّفيهم وزعمائهم، ولا يكون نزعها إلا بالعلم الصّحيح، وبيان ما في الإسلام من خير وسموّ وجمال، والرجوع إلى المصادر الأولى التي تمتاز بالصّفاء واليسر والوضوح، فنقدّمها للعقول غذاءً، وننشئ أمثالها مما يتّفق وطبيعة العصر الذي نعيش فيه، فالنّاس بحاجة إلى أن نقنعهم بأسلوبهم، وأن نشرح لهم ما عندنا بالقول الواضح والبرهان المستقيم.
وعلى أهل العلم الديني تقع التّبعة إذا فرّطوا، وعلى أهل الحكم وأصحاب السلطان يكون الإثم إذا لم يؤدوا واجبهم في رعاية هذه الأمانة، وتيسير السّبيل لأدائها كاملة.
إنَّ كلَّ إصلاح لا يقوم على أساس تقوية الرّوح الدّيني في الأمّة، لا بقاء له ولا خير فيه، واذا قلت الرّوح الدّيني، فإنما أريد الأخذ العملي بالشّريعة عن إيمان وثقة، لا أن نكتفي بما ينصّ عليه الدّستور، من أنّ دين الدّولة هو الإسلام، ثم نكون في أكثر أحوالنا وأفعالنا وتشريعاتنا وأخلاقنا على خلاف ما يأمر به الإسلام وينهى عنه الإسلام.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ الله يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
*من مجلّة "رسالة الإسلام"، العدد 12.