أدلّة النّفي
اتّضح ممّا سلف، أنّه ليس في الكتاب ما يدلّ على ثبوت الولاية التكوينية للأنبياء
والأولياء؛ بل ربّما نجد الدّليل على نفيها، من خلال الآيات التي تدلّ على أنّ
النبيّ لا يملك شيئاً من ذلك كلّه، وأنّ مهمّته الأولى والأخيرة هي الرسالة في
حركتها في الإبلاغ والتّبشير والإنذار وهداية النّاس إلى سُبُل السلام في الطريق
إلى الله؛ بل إنَّ القرآن يؤكّد وجود عناصر الضّعف البشريّ في ذات الرسول، ولكن
بالمستوى الذي لا ينافي العصمة. وإليك بعض الآيات القرآنية النافية للولاية
التكوينية.
1 - الرّسول البشر
نقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِالله وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً}[الإسراء: 90-93]. فنحن نلاحظ أنّ
النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يتحدّث، من خلال ما ذكرته الآية، عن رفضه
للمعجزات الاقتراحيّة التي يوجّهها الناس الكافرون إلى الأنبياء كوسيلةٍ للتحدّي
والتعجيز ممّا يرفضه الأنبياء؛ لأنّ مهمة النبيّ ليست إشغال نفسه بتنفيذ هذه
الطلبات التي لا معنى لها بعد إقامة الحجّة عليهم من قِبَله؛ بل تحدّث عن أنّ ذلك
لا يدخل في مهمّته الرساليّة، كما أنّه لا يملك هذه القدرة باعتبار بشريّته التي
تختزن في داخلها الضّعف البشريّ.
وإذا كان بعض الناس يتحدّثون عن أنّ القائلين بالولاية التكوينيّة يؤكّدون أنّ
النبيّ لا يختزن في مضمون بشريّته أيّة قدرة ذاتيّة؛ بل إنّ الله هو الذي يمنحه ذلك،
فهو لا يمتلك ذلك ذاتيّاً، ولكنَّه يمتلكه من خلال تمليك الله له ذلك، والآية تنفي
الأوَّل وليس الثاني؛ فإنّنا نجيب بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنّما
كان يتحدّث عن الواقع الفعليّ الذي تمثّله طاقته في دوره، ونفي الفعليّة معناه أنّ
الله لم يملّكه ذلك. أجل، إنّ الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركيّة الرسالة في الناس،
ولم يعطه الطاقة – حتى بإذنه – لمثل هذه الطلبات الصعبة.
2- إنّما الآيات عند الله
ومن الآيات القرآنيّة الدالّة على عدم امتلاك النبيّ طاقةً أو قدرةً تمكّنه من
التصرّف في الكائنات: قوله تعالى في أكثر من آية: {إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ الله}،
فإنّه ظاهر في أنّ أمر الآيات والمعاجز هو بيد الله، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه
وآله وسلّم) لا يملك من أمرها شيئاً، قال سبحانه: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ
عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ الله وَإِنَّمَا
أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ}[العنكبوت: 50].
وقد نستوحي من بعض الآيات المتقدّمة ومن غيرها، أنَّ المعجزة الوحيدة للنبيّ محمد (صلى
الله عليه وآله وسلّم) هي القرآن الكريم، وذلك في مقابل ما يُنقل عن قيام النبيّ
بمعجزةٍ أخرى، كانشقاق القمر، بحيث لو كانت منه، لكانت أكثر استجابةً للتحدّي الذي
واجهه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) من قِبَل المشركين، كما أنّها أكثر صعوبةً
من هذه الاقتراحات.
وقد تحدَّث المشركون عن هذه المسألة – وهي عدم قيام النبيّ محمد (صلى الله عليه
وآله وسلّم) بالمعجزة المماثلة لما قام به الأنبياء السّابقون – وذلك في قوله تعالى:
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ
عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[الأنعام: 37]،
وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن
رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرّعد: 7]. فقد يظهر من
هذه الآية، أنّ إنزال الآيات ليس أمراً ضرورياً للنبوّة، إلّا في حالات التحدّي
الكبير الذي يهدّد حركتها في ساحة الصراع والمواجهة، ولذلك لم ينزل الله على النبيّ
آية (معجزة)، لأنّ التحدّي لم يصل إلى هذه المرتبة الحاسمة. وفي قوله تعالى دلالة
على ذلك أيضاً: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ
بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا
وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً}[الإسراء: 59]. وظاهرها نفي الإرسال
بالآيات (المعجزات)، بالرغم من أنّها كانت مطلباً مُلِحّاً للمشركين، كما جاء في
آيةٍ أخرى في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن
جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ الله وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}[الأنعام: 109]، فإنّ المسألة
لم تكن في مستوى الضّرورة، ولم تكن في واقع الحاجة للمهمّة الرساليّة.
3- الضعف البشريّ للأنبياء
ونلتقي في آياتٍ أخرى ببعض مظاهر الضعف البشريّ الفعليّ للأنبياء، وذلك كما في قصّة
موسى الذي خرج من المدينة خائفاً يترقّب، وكان يعيش الخوف من قتل فرعون وقومه له: {وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ}[الشعراء: 14]، والخوف في ساحة التحدّي مع
السّحرة: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ
أَنتَ الْأَعْلَى}[طه : 67-68]. ونجد ذلك في قصّة إبراهيم عندما دخل عليه الملائكة:
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ}[الذاريات: 28]. ونلاحظ ذلك فيما
أمر الله به نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تقديم نفسه للناس: {قُل لاَّ
أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}[الأنعام: 50]، وقد ورد هذا المضمون
في سورة هود في آية: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ
إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ}[هود: 31]، فإنّ هذه الآية ظاهرة في تأكيد
بشريّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وبأنّ كلّ ما لديه إنّما هو من الله
سبحانه وتعالى، يمنحه إيّاه بقدر حاجة الرّسالة إليه في حركتها في الحياة.
وثمّة إشارة في الآية إلى أنّ الغيب الذي قد يعلم الله به نبيّه، إنّما ينزل عليه
بطريق الوحي، كما جاء التّصريح به في آيةٍ أخرى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ
نُوحِيهِ إِلَيكَ}[آل عمران: 44]. وقد جاء في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ
لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ
إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف: 188]، وهذه الآية تدلّ
على نفي الفعلية في وجود الطّاقة التي تدفع عن الإنسان الشرّ وتجلب له الخير، بحيث
إنّها تأتي تدريجياً بمشيئة الله، لا بنحو خلق الطّاقة في الكيان البشريّ ليتحرّك
من خلالها إراديّاً. ويؤكّد ذلك أنّه يتحدّث عن الواقع الذي كان يصيبه بالسّوء
بمختلف ألوانه، أو يمنع عنه الكثير من الخير؛ فكأنّه يريد الإيحاء بأنّ ذلك لا
يتّصل بدوره؛ لأنّ دوره هو البشارة والإنذار لقوم يؤمنون، وهو ما لا يحتاج فيه إلى
علم الغيب، إلا بما يرتبط بحركة الرّسالة في تاريخ الرّسالات في الأمم السّابقة.
وهذا ممّا يوحيه الله إليه في القرآن الكريم من أنباء الغيب، في التّاريخ الذي لا
يعلمه هو ولا قومه.
خلاصة
ومن خلال هذا الحديث الطّويل– في تعليقنا على مسألة الرسول البشر، والضعف البشري
للأنبياء، وعلم الغيب – نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينيّة
للأنبياء وللأئمة؛ لأنّ الدّليل لم يدلّ عليه؛ بل الدّليل قد يدلّ على العدم. نعم،
يبقى أنّ الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحدّيات الكفر بالمعجزات عند
الحاجة إليها؛ ولكنّ ذلك معنى آخر غير معنى الولاية التكوينية التي يجري الحديث
حولها؛ والله العالم.
الأولياء والوساطة في الفيض
وهناك جانبٌ آخر يتّصل بشكل أو بآخر بقضيّة الولاية التكوينية، وهو الاعتقاد أنّ
الأولياء والأنبياء وسائط الفيض وأولياء النّعم، من خلال فكرةٍ مفادُها: أنّ الله
لا يفيض النعم على عباده بشكل مباشر؛ بل إنّ هؤلاء المقرّبين إليه، هم الذين ينطلق
الفيض على العباد من خلالهم، فهم الوسائط بين الله والنّاس، في الرّزق والعافية
والحياة ونحو ذلك؛ الأمر الذي جعل البعض يتوجّهون إليهم بشكل مباشر في الدّعاء
ليرزقوهم وليمنحوهم الشّفاء.
أمّا الذين يناقشون هذا الخطّ الفكريّ البعيد من صفاء العقيدة التوحيديّة، فيقولون
بأنّ الله أراد لأوليائه أن يكونوا القادة الّذين يعملون على هداية الناس وإرشادهم
إلى خطّ التوحيد الخالص، والإيمان باليوم الآخر، كما أراد لهم أن يدعوا النّاس إلى
الأخذ في حياتهم بأسباب الهداية التّشريعية من خلال ما يوحي به الله إلى أنبيائه،
بما يقرّب العباد إلى الله، ويبعدهم عن مواقع سخطه، ويحقّق لهم الأمن والاستقرار في
كلّ مجالات الحياة. كما أنَّه تعالى منح أولياءه من الأنبياء والأئمَّة الشَّفاعة
في المهمّات التي يتطلّبها العباد، فيكرّمهم الله بالاستجابة لطلباتهم في رعاية بعض
الحاجات لعباده، ما يجعل دور هؤلاء الأولياء دور المتوسّلين بالله، الدّاعين إليه
من خلال الموقع الذي منحهم إيّاه.
وأمَّا الحديث عن كون الأنبياء والأولياء وسطاء في الفيض، فهو حديثٌ مخالفٌ لظواهر
آيات القرآن؛ لأنّها تتحدَّث عن إفاضة الله النعمة على عباده، وعن الرّزق الذي
ينزله عليهم، وعن العافية التي يسبغها عليهم، وعن الهداية التي يلقيها في عقولهم،
والتي ظاهرها أن لا توسّط لأحد فيها بينه وبين عباده؛ بل يتحقَّق الفيض الإلهيّ في
كلّ الأمور بالوسائل الطبيعيّة التي أودعها في الحياة بشكلٍ مباشر، فلا دخل لأحد من
عباده، مهما كانوا قريبين منه، في عمليّة الإفاضة. وإليك بعض الآيات القرآنيّة التي
تؤكّد الفكرة، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا
خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص: 75]. فهذه
الآية واضحة الدلالة على أنَّ الله تعالى قد خلق الخلق بيديه، وهو كناية عن مباشرته
للخلق دون وسائط من غيره؛ لأنَّ من المعلوم تنزّهه تعالى عن كلّ عوارض الجسميّة.
وهكذا، فإنَّ ظاهر غير واحدة من الآيات القرآنيّة، أنّه تعالى هو الذي يباشر الخلق
والرّزق وإنزال الغيث وغير ذلك من الظّواهر التكوينيّة، وتجاوز هذا الظّاهر يحتاج
إلى دليلٍ وهو مفقود.
وقال تعالى في آيةٍ أخرى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله قُلْ
أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً
وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي
الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ
فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ}[الرّعد: 16].
وقال سبحانه أيضاً: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ
أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف:
12].
وفي آيةٍ أخرى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:
34].
ونقرأ أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ
الْعَالَمِينَ}[الأعراف: 54]، إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكّد الفيض المباشر بما
ينفي الوسائط إلّا الوسائط التكوينيّة.
وفي ضوء ذلك، فإنّنا نرفض محاولات تأويل القرآن الكريم أو إخضاعه، في ظواهره
البيّنة الواضحة، لبعض التعقيدات الفلسفيّة التي أثارها البعض في تفكيرهم الفلسفيّ
التجريديّ.
روايات الفيض
وعليه، فما قد يذكره هؤلاء لتأكيد نظريّة الوساطة في الفيض من الروايات الواردة
بلسان: "بكم فتح الله وبكم يختم، وبكم ينزل الغيب وبكم يمسك السّماء أن تقع على
الأرض إلّا بإذنه، وبكم ينفّس الهمّ..."، أو الحديث القدسيّ المعروف على الألسن، "لولاك
لما خلقت الأفلاك"، ومنها الروايات الواردة بعنوان: "لولا الحجّة لساخت الأرض
بأهلها"، بتقريب أنّ حياة العالَم مرتبطة بحياة الإمام والحجّة المعصوم، ولولاه
لفَنِيَ العالَم وانتهى، ونحو ذلك التوقيع الشريف المعروف عن الإمام صاحب الزمان: "وأمّا
وجه الانتفاع بي في غيبتي، فكالانتفاع بالشَّمس إذا غيّبها عن الأبصار السّحاب،
وإني لأمانٌ لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمانٌ لأهل السّماء"، وعن الإمام الباقر
(ع): "لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منَّا، لساخت بأهلها، ولعذّبهم الله بأشدّ
عذابه، إنّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجّةً في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض،
لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض مادمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن
يهلكهم ثم لا يمهلهم ولا ينظرهم، ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله ما
يشاء وأحبّ"، وأمثال هذه الروايات الواردة بهذا المضمون...
إنّ ما يذكره هؤلاء، نعلّق عليه، بأنّ هذه الروايات – وبصرف النّظر عن ضعف السّند
في بعضها، وعن أنّها أخبار آحاد، فلا تصلح للاحتجاج بها على هذه المسألة العقائديّة
التي تتطلّب أدلّةً تفيد اليقين أو الاطمئنان على أقلّ تقدير، إنّما هي على وزان
قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}[الأنفال: 33]، فإنّ الله
رفع العذاب عن أمّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بسبب كونه فيهم وموجوداً معهم،
وهذا لا يدلّ إلّا على مدى الرحمة الإلهيّة التي اختصّ بها هذه الأمّة، ولا يثبت
شيئاً زائداً للمعصوم إلّا كونه سبباً لهذا الفيض الإلهيّ العميم، لا بأنّه واسطة
في الفيض.
وخلاصة الفكرة: إنّ دراستنا للقرآن الذي هو الأساس في العقيدة وفي مسألة المعجزة،
لا يوحي بشيءٍ ممّا تكلّف به المحلّلون تجريديّاً من دون دليلٍ على المضمون؛ بل هو
مجرّد تحليلٍ يؤكّد حال الإمكان الذّاتيّ الذي لا يقتصر التّفسير عليه.
*من كتاب "نظرة إسلاميّة حول الولاية التكوينيّة".