كتابات
15/01/2020

لا ولاية بين المؤمنين والكافرين

لا ولاية بين المؤمنين والكافرين

لانزال نستجلي من كتاب الله العناصر الحيويّة للإيمان في شخصية المؤمن كفرد، وفي شخصية المؤمنين كمجتمع، لأنَّ مسألة الإيمان هي مسألة كيان فكري أو ثقافي وروحي وعملي، بحيث إذا دخل في عمق شخصية الإنسان، حوّلها إلى طاقة منفتحة على الله وعلى الحياة من خلال الله سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن ليس حياديّاً وليس الإنسان اللامنتمي، بل هو الإنسان الذي يملك موقفاً في كلّ شيء، وهو الإنسان الذي يرتبط في علاقاته بالإنسان الآخر على أساس منهج، وهو الإنسان الذي يتحرك في الحياة على أساس مسؤوليّته عن إغناء الحياة، بحيث إذا فارق الحياة، فإنَّه يترك شيئاً من عقله في عقلها، ومن قلبه في قلبها، ومن طاقاته في طاقاتها.

لمن الموالاة؟!

لننطلق إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، لنجد بعض الخصائص الحيّة في واقع المؤمنين، فالإنسان المؤمن يرتبط بالمجتمع الإيماني على أساس أنَّه مجتمعه، ولا يمكن له أن يوالي أيّ مجتمع آخر لا يعيش الإيمان، بحيث يكون موقف الإنسان المؤمن مع المؤمنين في ولايته لهم، وضدّ الكافرين في الجانب السلبي في ولايته لهم، فالمؤمنون هم أولياؤه، والكافرون ليسوا أولياء له، فقد يعاشرهم وقد يعاملهم وقد يعيش معهم، ولكنّ مسألة أن يجعلهم أولياءه، تتنافى مع الإيمان، وتتنافى مع علاقته بالله سبحانه وتعالى.

لنقرأ الآيات التي تحدثت عن هذا العنوان الكبير، ثمّ ندخل في تفاصيلها، يقول تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[1]، بحيث يعتبرون الكافرين هم القيادة وهم المجتمع الذي يتعاونون معه ويتعاطفون ويتفاعلون، ويتركون مجتمع المؤمنين إمّا بطريقة سلبيّة، بمعنى أنَّهم لا يتفاعلون مع مجتمع المؤمنين، وإمَّا بطريقة مضادّة في أن يكونوا ضدّ المؤمنين، كالذين يلتزمون المناهج الفكريّة والسياسيّة والقانونيّة التي يؤكّدها الكافرون، ويبتعدون عن المناهج القانونيّة الشرعيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في العادات وفي التقاليد التي يؤكّدها المؤمنون.

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، والولاية هنا تعني كلّ الالتزام وكلّ التعاطف وكلّ التفاعل وكلّ التعاون وكلّ التحرّك مع الخطّ وفي خدمة الخطّ.

من ألوان النفاق

الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين هم منافقون، لماذا؟ لأنَّ الإيمان هو أن يكون خطّك في إيمانك هو الّذي يحدّد لك برنامج حياتك، وهو الذي يحدّد لك أولياءك وأعداءك، ذلك لأنَّ معنى أن تؤمن بأنَّ هذا هو المنهج الحقّ، فإنَّ هذا يختزن أنَّ غيره هو الباطل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[2]، {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[3].

إذاً، أنت عندما تؤمن، فمعنى ذلك أنَّ إيمانك هو الفكر الحقّ، وهو العاطفة الحقّ والشّعور الحقّ والمنهج الحقّ، فإذا كنت مؤمناً بلسانك، ولكنَّك منفتح بالولاية على الكفر خطاً ومجتمعاً، فإنَّك منافق، لأنَّك وإن كنت مؤمناً لسانيّاً، لكنَّك كافر شعوريّاً، وكافر عمليّاً، بقدر ما ترتبط بالكفر من هذا الجانب أو ذاك.

لا عزّة مع الكافرين

ثمَّ إنَّ الله سبحانه وتعالى يثير الاستفهام على طريقة الإنكار {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ}. لماذا يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين؟ هل لأنَّ الكافرين يملكون قوّة، فهم يريدون شيئاً من قوّتهم يحصلون بها على العزّة، أو لأنَّ الكافرين يملكون المال أو يملكون القوّة وما إلى ذلك؟

ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى، تقريراً للحقيقة، إنَّ أحداً من عباد الله لا يملك العزّة في نفسه، لأنَّ الله وحده هو العزيز، وكلّ عزيز يعتزّ بعزّه ويستمدّ عزّته منه {فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعاً}، من حيث {أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً}[4]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]، فليس هناك عزيز في ذاته إلَّا الله، لأنَّه ليس هناك قويّ في ذاته إلاَّ الله، فالله وحده الّذي يعطي القوّة، وهو وحده الذي يعطي العزّة.

قد تكون العزّة من خلال قوّة العزيز، وقد تكون من خلال ألطاف الله، كما ورد في الحديث: "من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"[6].

وهكذا نقرأ في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "فإنَّ الشريف من شرفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك"[7].

تهديد من الله!

ثمَّ يقول الله بعد ذلك في آية أخرى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ}. هنا يصوِّرهم الله بصورة النّفاق، ويحدّثهم عن طبيعة المسألة، وأنَّهم مخطئون في تصوّرهم أنَّهم يحصلون من الكافرين على عزّة إذا والوهم من دون المؤمنين. فلقد تحدّث سبحانه وتعالى عن القضية في إطارها الفكريّ، وبيّن لهم أنَّهم مخطئون في ذلك، وبعد أن قال لهم إنَّه منهج من مناهج النفاق، أعطى التّحذير ـ أي أنَّ هذا ممنوع تحت أيّ طائل، فأن تفضّل كافراً على مؤمن، وأن توالي كافراً وتترك موالاة المؤمن، فهذا ممنوع منعاً باتّاً، ذلك أنَّك إذا كنت مؤمناً حقّاً، فلا تتّخذ غير المؤمنين أولياء.

فالله هنا لـم يقل: (يا أيُّها النّاس)، لأنَّه أراد أن يبيّن مسؤولية المؤمنين، وليعتبر ذلك من عناصر الإيمان، فإذا كنت مؤمناً، فوالِ المؤمنين ولا توالِ الكافرين. ثمّ يأتي التّهديد: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ}، أي يبرأ الله منه، فيقطع علاقته به، ويمنع عنه لطفه ورحمته، فلا شيء بينه وبين الله.

 ولـم أجد تهديداً أو تحذيراً في القرآن من الله أبلغ من هذا، لأنَّ الله ربَّما يقول مثلاً: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}[8]، وهذا نوع من أنواع العقاب، لكنَّه سبحانه وتعالى عندما يؤكّد هذه المسألة {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ}، فإنَّ ذلك يعني أن تنقطع كلّ العلاقات بينه وبين الله.

وقد نتساءل: لماذا يعطي الله سبحانه وتعالى هذا الحجم الكبير لهذا الخطّ الانحرافي؟ إنَّ ذلك يعني أنَّ الانحراف هنا أعظم من شرب الخمر وأعظم من الزّنا وأعظم من الغيبة وأعظم من كلّ الانحرافات الأخرى، لأنَّ كلّ واحدٍ من هذه له عقاب معيَّن، أمَّا هنا، فتنقطع العلاقات بينك وبين ربِّك، لأنَّ إقامة المجتمع المؤمن في الأرض، هو لأجل أن يجسّد إرادة الله، ولينفّذ شريعته، وليحوِّل الإسلام إلى قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، وذلك متوقّف على هذا النّوع من الارتباط الإيماني للمؤمن بخطّ الإيمان، وارتباط الفرد المؤمن بمجتمع المؤمنين، إذ ما قيمة إيمان المؤمنين إذا كانوا يخضعون لقيادة الكافرين دون المؤمنين؟!

الإساءة إلى المؤمنين

وهذا ما قد نلاحظه ـ أيُّها الأحبّة ـ في بعض المؤمنين الذين قد يلتقون بتجربة إسلامية إيمانية فيها البعض من الخطأ، وفيها البعض من التعقيدات الّتي قد تكون مذهبيّة، وقد تكون شخصيّة، فيقومون بالهجمة على هذه القيادة الإيمانيّة، أو هذه السلطة الإيمانيّة، أو هذا الخطّ الإيمانيّ، ليقولوا كما قال اليهود عن المؤمنين للمشركين، عندما جاء المشركون إلى اليهود وهم يعتقدون أنَّهم أهل الكتاب الأوّل، قالوا لهم: هل نحن أهدى أم محمَّد؟! قالوا: بل أنتم، في الوقت الذي كان النبيّ (ص) يؤمن بالكتاب كلّه، وكان يؤمن بموسى وعيسى، ويصدّق لما بين يديه من التّوراة والإنجيل، وكان هؤلاء يعبدون الأصنام، ولقد حدَّثنا الله عنهم بقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[9]، بحيث دفعتهم العصبيّة والتعقيدات الذاتيّة والفئويّة إلى أن يقولوا بأنَّ المشركين الذين يعبدون الأصنام، أهدى من المؤمنين الذين يعبدون الله وحده ويؤمنون بالكتاب كلّه.

هنا ربَّما نجد بعض التّعقيدات التي تحصل لدى بعض المؤمنين من فريق إيمانيّ معيَّن يتحرَّك في موقع سلطة، أو يتحرَّك في موقع قيادة، أو يتحرَّك في موقع حركة، ليشيروا إلى الكافرين بالقول: {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}، وليتحالفوا مع الكافرين ضدَّ المؤمنين، وليوالوا الكافرين ضدّ المؤمنين، على أساس أنَّ هؤلاء فعلوا كذا أو انحرفوا في بعض الخطوط العمليّة. وذلك أمرٌ سيّئ، ولكنَّه لا يمثّل الخطر الكبير، ذلك أنَّ الانحراف في بعض المسائل الشخصيّة قد يكون سيّئاً، ولكنَّه لا يمثّل خطراً كبيراً ماحقاً، لكنَّ الانحراف عن خطِّ الإيمان وعن خطِّ الإسلام وعن خطِّ الله ورسوله، يعني الخطر الكبير على الإسلام.

لذلك، لا بُدَّ للعاملين في الخطّ الإسلامي، وللمنفتحين على الخطّ الإيمانيّ، أن يراعوا الدِّقّة في مواقفهم السياسية والاجتماعية والشخصية، وانسجامها مع الخطوط الإسلاميّة، حتى لا يفضّلوا كافراً على مسلم {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}، إلَّا أن تعيشوا في ضغوط قاسية تطبق عليكم بكلّ ثقلها وبكلّ قوّتها، بحيث لا تترك لكم مجالاً لأيّ تحرّك، ولا مجالاً لأيّ إعلان بالالتزام بهذا الخطّ أو بذاك الخطّ، ففي هذه الحال، يقول الله لا مانع من أن تتّقوا، وقد أباح الله لعمّار أن يتّقي {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[10].

التقيّة والشّيعة؟!

وفي هذا السياق، لا بُدَّ أن نعرف أنَّ مسألة التقيّة ليست مذهبيّة، ولكنَّها مسألة إنسانيّة إيمانية، لأنَّ قضية التقية هي في الحالات التي لا تملك فيها أن تعلن موقفك، لأنَّك إذا أعلنته، أسقطت حياتك أو أسقطت خطّك، وهذا هو الخطر في بعض الحالات، فقد يضحّي الإنسان بحياته عندما يعلن موقفه، ولكن ربَّما تتحوّل هذه التضحية إلى خطر على الخطّ، بحيث يكون موقفه نابعاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمسألة، بحيث تجعل للعدوّ مبرّراً لإسقاط المسيرة كلّها من خلال تلك الظروف.

فمثلاً، قد يكون هناك كمين للمجاهدين لينال من العدوّ نيلاً، ويمرّ جنديّ من جنود العدوّ يمكن لهم أن يقتلوه في الأثناء، لكنَّهم لو قتلوه، نبّهوا العدوّ إلى الكمين، فإمّا أن يقضي العدوّ على أفراد الكمين، وإمَّا أن يسقط الخطّة، في حين أنَّ باستطاعة الكمين أن يقتل كثيراً من الأعداء، وهنا يحرم على الكمين أن يقتل هذا الجنديّ، لأنَّه إذا قتله، فإنَّه يفسد الخطة كلّها، أو ربَّما يقضي على أفراد الكمين كلّهم.

إنَّ مشكلة الكثير من النّاس العاملين في سبيل الله، أنَّهم يتحركون بوحي الانفعال وبوحي الحماس، ليقول أحدهم: لا بُدَّ أن نقول كلمة الحقّ حتى لو كلّفنا ذلك قطع الأعناق! هذه مسألة من حيث دلالاتها على الإيمان وعلى التوتر الروحي جيّدة جداً، ولكن ثمة فرق بين أن تعيش مشاعرك وبين أن تؤكّد موقفك، فلربما تتحوّل مشاعرك لتكون خطراً على موقفك، لذلك عندما أكّد أهل البيت (ع) مسألة التقيّة، فإنَّهم لـم يؤكّدوها جبناً وخوفاً من ناحية ذاتيّة، ولكنَّهم أكّدوها للحفاظ على الخطّ المستقيم، لأنَّ بعض الانفعالات وبعض الأساليب الحماسيّة ربَّما تتحوّل إلى خطر على الخطّ كلّه.

لذلك نجد أنَّ أهل البيت (ع) عندما نادوا بالتقيّة، حدّدوها من "غير استفساد في الدين"، بمعنى أن لا تتحوّل التقية إلى أسلوب يوجب تضليل النّاس عن الحقيقة وإسقاط الدين في الساحات العامة، لكنَّ التقية حالة مرحليّة تحدّدها طبيعة الأخطار التي قد تترتب على الشخص، وقد تترتب على الخطّ كلّه، هنا يقول الله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.

لذا، أحببت أن أؤكّد أنَّ المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، سواء كانوا سنّة أو شيعة، قد أباح الله لهم أن يعملوا بالتقيّة أمام الظالـم وأمام الكافر، عندما لا تكون الساحة مهيّأة لإعلان الموقف بصراحة، وعندما تكون عندك خطّة وتريد حمايتها حتى تصل إلى نتائج إيجابيّة حاسمة في نهاية المطاف، وأنا أعتقد أنَّه ما من إسلاميّ في الخطّ الحركيّ، سواء كان سنيّاً أو شيعيّاً، إلّا وهو يستعمل التقيّة بأكثر مما كان الشيعة يستعملونها.

ولذلك، علينا أن نعتبر التقيَّة أسلوباً حركياً إسلامياً يمثّل المرونة في التحرّك، من أجل حماية الدين تارةً، أو من أجل حماية الخطّة الأخرى، ولا يجب أن نتراشق بالكلمات اللامسؤولة ليتّهم السنّة الشيعة بذلك، أو ليسجّلوا نقطة عليهم، لأنَّ القضيّة ليست سنيّة ولا شيعيّة، ولكنَّها قضيّة قرآنيّة.

التَّحذير من الله

ثمّ لا يكتفي الله سبحانه وتعالى بهذا الموقف الحاسم في النهي والرفض، بل يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}. وهذه الصيغة من التحذير لـم يستعملها الله إلّا مرّتين أو ثلاثاً في القرآن، أي أنَّه يقول لا تتساهلوا في الأمر، ولا تقل إنَّ لي مصلحة هنا ولا مصلحة لي هناك، لا تقل ذلك، فإنَّك تتنازل عن خطّك الإيمانيّ ضدّ المؤمنين ومع الكافرين، ولا بُدَّ أن تكون دقيقاً في ممارستك للتقيَّة إذا أردت أن تمارس التقيّة، ولا بُدَّ أن تكون دقيقاً في تأكيدك منهج الحقّ عندما تمارسه، أي أن تحذر الله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يراقبك بكلّ دقّة. فلا تستسلموا لما أنتم فيه من سعة ومن حرّيّة ومن حركة، لأنَّكم مهما بعدتـم، ومهما قربتم، فإلى الله المصير. ولذا فكّروا دائماً في هذه الحقيقة {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}[11]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[12]، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[13].

وهذا ـ أيُّها الأحبَّة ـ  ما ينبغي لنا كمؤمنين أن نتعلّمه وأن نمارسه وأن نعيشه وأن ننفتح عليه، وأن نثقِّف بعضناً بعضاً به، أنَّ اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء من دون المؤمنين، هو من المسائل التي تتّصل بسلامة الخطّ الإيماني، وتتّصل بسلامة المجتمع الإيماني، ولقد قال بعض أئمّة أهل البيت (ع)، وهو يعبّر عن الولاية بأنَّها خطّ السّير والمصير: "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعته ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ"[14]. فإنَّ النّاس يحشرون يوم القيامة من خلال نبضات قلوبهم وحركات عقولهم.

فلنهيّئ أنفسنا لذلك الموقف {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلاَّ من أتى الله بقلب سليم}[15]، من موالاة الكافرين، ومن معاداة المؤمنين.

*فكر ويقافة، السنة الثانية ـ 10 جمادى الآخرة، 1418هـ ـ 11/10/1997م. العدد:(61). 


[1] (النساء؛ 138 ـ 139).

[2] (الحج؛ 62).

[3] (البقرة؛ 257).

[4] (البقرة؛ 165)

[5] (آل عمران؛ 26).

[6] بحار الأنوار، ج68، ص179.

[7] الصّحيفة السّجاديّة، دعاه (ع) إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا.

[8] (النساء؛ 97).

[9] (النساء؛51)

[10] (النّحل؛ 106).

[11] (آل عمران؛28).

[12] (الغاشية؛ 25 ـ 26).

[13] (الرّعد؛ 40).

[14] الكافي، الكليني، ج2، ص 126.

[15] (الشعراء؛ 88 ـ 89).

لانزال نستجلي من كتاب الله العناصر الحيويّة للإيمان في شخصية المؤمن كفرد، وفي شخصية المؤمنين كمجتمع، لأنَّ مسألة الإيمان هي مسألة كيان فكري أو ثقافي وروحي وعملي، بحيث إذا دخل في عمق شخصية الإنسان، حوّلها إلى طاقة منفتحة على الله وعلى الحياة من خلال الله سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن ليس حياديّاً وليس الإنسان اللامنتمي، بل هو الإنسان الذي يملك موقفاً في كلّ شيء، وهو الإنسان الذي يرتبط في علاقاته بالإنسان الآخر على أساس منهج، وهو الإنسان الذي يتحرك في الحياة على أساس مسؤوليّته عن إغناء الحياة، بحيث إذا فارق الحياة، فإنَّه يترك شيئاً من عقله في عقلها، ومن قلبه في قلبها، ومن طاقاته في طاقاتها.

لمن الموالاة؟!

لننطلق إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، لنجد بعض الخصائص الحيّة في واقع المؤمنين، فالإنسان المؤمن يرتبط بالمجتمع الإيماني على أساس أنَّه مجتمعه، ولا يمكن له أن يوالي أيّ مجتمع آخر لا يعيش الإيمان، بحيث يكون موقف الإنسان المؤمن مع المؤمنين في ولايته لهم، وضدّ الكافرين في الجانب السلبي في ولايته لهم، فالمؤمنون هم أولياؤه، والكافرون ليسوا أولياء له، فقد يعاشرهم وقد يعاملهم وقد يعيش معهم، ولكنّ مسألة أن يجعلهم أولياءه، تتنافى مع الإيمان، وتتنافى مع علاقته بالله سبحانه وتعالى.

لنقرأ الآيات التي تحدثت عن هذا العنوان الكبير، ثمّ ندخل في تفاصيلها، يقول تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[1]، بحيث يعتبرون الكافرين هم القيادة وهم المجتمع الذي يتعاونون معه ويتعاطفون ويتفاعلون، ويتركون مجتمع المؤمنين إمّا بطريقة سلبيّة، بمعنى أنَّهم لا يتفاعلون مع مجتمع المؤمنين، وإمَّا بطريقة مضادّة في أن يكونوا ضدّ المؤمنين، كالذين يلتزمون المناهج الفكريّة والسياسيّة والقانونيّة التي يؤكّدها الكافرون، ويبتعدون عن المناهج القانونيّة الشرعيّة والسياسيّة والاجتماعيّة في العادات وفي التقاليد التي يؤكّدها المؤمنون.

{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}، والولاية هنا تعني كلّ الالتزام وكلّ التعاطف وكلّ التفاعل وكلّ التعاون وكلّ التحرّك مع الخطّ وفي خدمة الخطّ.

من ألوان النفاق

الذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين هم منافقون، لماذا؟ لأنَّ الإيمان هو أن يكون خطّك في إيمانك هو الّذي يحدّد لك برنامج حياتك، وهو الذي يحدّد لك أولياءك وأعداءك، ذلك لأنَّ معنى أن تؤمن بأنَّ هذا هو المنهج الحقّ، فإنَّ هذا يختزن أنَّ غيره هو الباطل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[2]، {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[3].

إذاً، أنت عندما تؤمن، فمعنى ذلك أنَّ إيمانك هو الفكر الحقّ، وهو العاطفة الحقّ والشّعور الحقّ والمنهج الحقّ، فإذا كنت مؤمناً بلسانك، ولكنَّك منفتح بالولاية على الكفر خطاً ومجتمعاً، فإنَّك منافق، لأنَّك وإن كنت مؤمناً لسانيّاً، لكنَّك كافر شعوريّاً، وكافر عمليّاً، بقدر ما ترتبط بالكفر من هذا الجانب أو ذاك.

لا عزّة مع الكافرين

ثمَّ إنَّ الله سبحانه وتعالى يثير الاستفهام على طريقة الإنكار {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ}. لماذا يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين؟ هل لأنَّ الكافرين يملكون قوّة، فهم يريدون شيئاً من قوّتهم يحصلون بها على العزّة، أو لأنَّ الكافرين يملكون المال أو يملكون القوّة وما إلى ذلك؟

ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى، تقريراً للحقيقة، إنَّ أحداً من عباد الله لا يملك العزّة في نفسه، لأنَّ الله وحده هو العزيز، وكلّ عزيز يعتزّ بعزّه ويستمدّ عزّته منه {فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعاً}، من حيث {أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً}[4]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[5]، فليس هناك عزيز في ذاته إلَّا الله، لأنَّه ليس هناك قويّ في ذاته إلاَّ الله، فالله وحده الّذي يعطي القوّة، وهو وحده الذي يعطي العزّة.

قد تكون العزّة من خلال قوّة العزيز، وقد تكون من خلال ألطاف الله، كما ورد في الحديث: "من أراد عزاً بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته"[6].

وهكذا نقرأ في دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): "فإنَّ الشريف من شرفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك"[7].

تهديد من الله!

ثمَّ يقول الله بعد ذلك في آية أخرى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ}. هنا يصوِّرهم الله بصورة النّفاق، ويحدّثهم عن طبيعة المسألة، وأنَّهم مخطئون في تصوّرهم أنَّهم يحصلون من الكافرين على عزّة إذا والوهم من دون المؤمنين. فلقد تحدّث سبحانه وتعالى عن القضية في إطارها الفكريّ، وبيّن لهم أنَّهم مخطئون في ذلك، وبعد أن قال لهم إنَّه منهج من مناهج النفاق، أعطى التّحذير ـ أي أنَّ هذا ممنوع تحت أيّ طائل، فأن تفضّل كافراً على مؤمن، وأن توالي كافراً وتترك موالاة المؤمن، فهذا ممنوع منعاً باتّاً، ذلك أنَّك إذا كنت مؤمناً حقّاً، فلا تتّخذ غير المؤمنين أولياء.

فالله هنا لـم يقل: (يا أيُّها النّاس)، لأنَّه أراد أن يبيّن مسؤولية المؤمنين، وليعتبر ذلك من عناصر الإيمان، فإذا كنت مؤمناً، فوالِ المؤمنين ولا توالِ الكافرين. ثمّ يأتي التّهديد: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ}، أي يبرأ الله منه، فيقطع علاقته به، ويمنع عنه لطفه ورحمته، فلا شيء بينه وبين الله.

 ولـم أجد تهديداً أو تحذيراً في القرآن من الله أبلغ من هذا، لأنَّ الله ربَّما يقول مثلاً: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}[8]، وهذا نوع من أنواع العقاب، لكنَّه سبحانه وتعالى عندما يؤكّد هذه المسألة {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ}، فإنَّ ذلك يعني أن تنقطع كلّ العلاقات بينه وبين الله.

وقد نتساءل: لماذا يعطي الله سبحانه وتعالى هذا الحجم الكبير لهذا الخطّ الانحرافي؟ إنَّ ذلك يعني أنَّ الانحراف هنا أعظم من شرب الخمر وأعظم من الزّنا وأعظم من الغيبة وأعظم من كلّ الانحرافات الأخرى، لأنَّ كلّ واحدٍ من هذه له عقاب معيَّن، أمَّا هنا، فتنقطع العلاقات بينك وبين ربِّك، لأنَّ إقامة المجتمع المؤمن في الأرض، هو لأجل أن يجسّد إرادة الله، ولينفّذ شريعته، وليحوِّل الإسلام إلى قاعدة للفكر وللعاطفة وللحياة، وذلك متوقّف على هذا النّوع من الارتباط الإيماني للمؤمن بخطّ الإيمان، وارتباط الفرد المؤمن بمجتمع المؤمنين، إذ ما قيمة إيمان المؤمنين إذا كانوا يخضعون لقيادة الكافرين دون المؤمنين؟!

الإساءة إلى المؤمنين

وهذا ما قد نلاحظه ـ أيُّها الأحبّة ـ في بعض المؤمنين الذين قد يلتقون بتجربة إسلامية إيمانية فيها البعض من الخطأ، وفيها البعض من التعقيدات الّتي قد تكون مذهبيّة، وقد تكون شخصيّة، فيقومون بالهجمة على هذه القيادة الإيمانيّة، أو هذه السلطة الإيمانيّة، أو هذا الخطّ الإيمانيّ، ليقولوا كما قال اليهود عن المؤمنين للمشركين، عندما جاء المشركون إلى اليهود وهم يعتقدون أنَّهم أهل الكتاب الأوّل، قالوا لهم: هل نحن أهدى أم محمَّد؟! قالوا: بل أنتم، في الوقت الذي كان النبيّ (ص) يؤمن بالكتاب كلّه، وكان يؤمن بموسى وعيسى، ويصدّق لما بين يديه من التّوراة والإنجيل، وكان هؤلاء يعبدون الأصنام، ولقد حدَّثنا الله عنهم بقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[9]، بحيث دفعتهم العصبيّة والتعقيدات الذاتيّة والفئويّة إلى أن يقولوا بأنَّ المشركين الذين يعبدون الأصنام، أهدى من المؤمنين الذين يعبدون الله وحده ويؤمنون بالكتاب كلّه.

هنا ربَّما نجد بعض التّعقيدات التي تحصل لدى بعض المؤمنين من فريق إيمانيّ معيَّن يتحرَّك في موقع سلطة، أو يتحرَّك في موقع قيادة، أو يتحرَّك في موقع حركة، ليشيروا إلى الكافرين بالقول: {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}، وليتحالفوا مع الكافرين ضدَّ المؤمنين، وليوالوا الكافرين ضدّ المؤمنين، على أساس أنَّ هؤلاء فعلوا كذا أو انحرفوا في بعض الخطوط العمليّة. وذلك أمرٌ سيّئ، ولكنَّه لا يمثّل الخطر الكبير، ذلك أنَّ الانحراف في بعض المسائل الشخصيّة قد يكون سيّئاً، ولكنَّه لا يمثّل خطراً كبيراً ماحقاً، لكنَّ الانحراف عن خطِّ الإيمان وعن خطِّ الإسلام وعن خطِّ الله ورسوله، يعني الخطر الكبير على الإسلام.

لذلك، لا بُدَّ للعاملين في الخطّ الإسلامي، وللمنفتحين على الخطّ الإيمانيّ، أن يراعوا الدِّقّة في مواقفهم السياسية والاجتماعية والشخصية، وانسجامها مع الخطوط الإسلاميّة، حتى لا يفضّلوا كافراً على مسلم {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}، إلَّا أن تعيشوا في ضغوط قاسية تطبق عليكم بكلّ ثقلها وبكلّ قوّتها، بحيث لا تترك لكم مجالاً لأيّ تحرّك، ولا مجالاً لأيّ إعلان بالالتزام بهذا الخطّ أو بذاك الخطّ، ففي هذه الحال، يقول الله لا مانع من أن تتّقوا، وقد أباح الله لعمّار أن يتّقي {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[10].

التقيّة والشّيعة؟!

وفي هذا السياق، لا بُدَّ أن نعرف أنَّ مسألة التقيّة ليست مذهبيّة، ولكنَّها مسألة إنسانيّة إيمانية، لأنَّ قضية التقية هي في الحالات التي لا تملك فيها أن تعلن موقفك، لأنَّك إذا أعلنته، أسقطت حياتك أو أسقطت خطّك، وهذا هو الخطر في بعض الحالات، فقد يضحّي الإنسان بحياته عندما يعلن موقفه، ولكن ربَّما تتحوّل هذه التضحية إلى خطر على الخطّ، بحيث يكون موقفه نابعاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمسألة، بحيث تجعل للعدوّ مبرّراً لإسقاط المسيرة كلّها من خلال تلك الظروف.

فمثلاً، قد يكون هناك كمين للمجاهدين لينال من العدوّ نيلاً، ويمرّ جنديّ من جنود العدوّ يمكن لهم أن يقتلوه في الأثناء، لكنَّهم لو قتلوه، نبّهوا العدوّ إلى الكمين، فإمّا أن يقضي العدوّ على أفراد الكمين، وإمَّا أن يسقط الخطّة، في حين أنَّ باستطاعة الكمين أن يقتل كثيراً من الأعداء، وهنا يحرم على الكمين أن يقتل هذا الجنديّ، لأنَّه إذا قتله، فإنَّه يفسد الخطة كلّها، أو ربَّما يقضي على أفراد الكمين كلّهم.

إنَّ مشكلة الكثير من النّاس العاملين في سبيل الله، أنَّهم يتحركون بوحي الانفعال وبوحي الحماس، ليقول أحدهم: لا بُدَّ أن نقول كلمة الحقّ حتى لو كلّفنا ذلك قطع الأعناق! هذه مسألة من حيث دلالاتها على الإيمان وعلى التوتر الروحي جيّدة جداً، ولكن ثمة فرق بين أن تعيش مشاعرك وبين أن تؤكّد موقفك، فلربما تتحوّل مشاعرك لتكون خطراً على موقفك، لذلك عندما أكّد أهل البيت (ع) مسألة التقيّة، فإنَّهم لـم يؤكّدوها جبناً وخوفاً من ناحية ذاتيّة، ولكنَّهم أكّدوها للحفاظ على الخطّ المستقيم، لأنَّ بعض الانفعالات وبعض الأساليب الحماسيّة ربَّما تتحوّل إلى خطر على الخطّ كلّه.

لذلك نجد أنَّ أهل البيت (ع) عندما نادوا بالتقيّة، حدّدوها من "غير استفساد في الدين"، بمعنى أن لا تتحوّل التقية إلى أسلوب يوجب تضليل النّاس عن الحقيقة وإسقاط الدين في الساحات العامة، لكنَّ التقية حالة مرحليّة تحدّدها طبيعة الأخطار التي قد تترتب على الشخص، وقد تترتب على الخطّ كلّه، هنا يقول الله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}.

لذا، أحببت أن أؤكّد أنَّ المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، سواء كانوا سنّة أو شيعة، قد أباح الله لهم أن يعملوا بالتقيّة أمام الظالـم وأمام الكافر، عندما لا تكون الساحة مهيّأة لإعلان الموقف بصراحة، وعندما تكون عندك خطّة وتريد حمايتها حتى تصل إلى نتائج إيجابيّة حاسمة في نهاية المطاف، وأنا أعتقد أنَّه ما من إسلاميّ في الخطّ الحركيّ، سواء كان سنيّاً أو شيعيّاً، إلّا وهو يستعمل التقيّة بأكثر مما كان الشيعة يستعملونها.

ولذلك، علينا أن نعتبر التقيَّة أسلوباً حركياً إسلامياً يمثّل المرونة في التحرّك، من أجل حماية الدين تارةً، أو من أجل حماية الخطّة الأخرى، ولا يجب أن نتراشق بالكلمات اللامسؤولة ليتّهم السنّة الشيعة بذلك، أو ليسجّلوا نقطة عليهم، لأنَّ القضيّة ليست سنيّة ولا شيعيّة، ولكنَّها قضيّة قرآنيّة.

التَّحذير من الله

ثمّ لا يكتفي الله سبحانه وتعالى بهذا الموقف الحاسم في النهي والرفض، بل يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}. وهذه الصيغة من التحذير لـم يستعملها الله إلّا مرّتين أو ثلاثاً في القرآن، أي أنَّه يقول لا تتساهلوا في الأمر، ولا تقل إنَّ لي مصلحة هنا ولا مصلحة لي هناك، لا تقل ذلك، فإنَّك تتنازل عن خطّك الإيمانيّ ضدّ المؤمنين ومع الكافرين، ولا بُدَّ أن تكون دقيقاً في ممارستك للتقيَّة إذا أردت أن تمارس التقيّة، ولا بُدَّ أن تكون دقيقاً في تأكيدك منهج الحقّ عندما تمارسه، أي أن تحذر الله، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو الّذي يراقبك بكلّ دقّة. فلا تستسلموا لما أنتم فيه من سعة ومن حرّيّة ومن حركة، لأنَّكم مهما بعدتـم، ومهما قربتم، فإلى الله المصير. ولذا فكّروا دائماً في هذه الحقيقة {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ}[11]، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[12]، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[13].

وهذا ـ أيُّها الأحبَّة ـ  ما ينبغي لنا كمؤمنين أن نتعلّمه وأن نمارسه وأن نعيشه وأن ننفتح عليه، وأن نثقِّف بعضناً بعضاً به، أنَّ اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء من دون المؤمنين، هو من المسائل التي تتّصل بسلامة الخطّ الإيماني، وتتّصل بسلامة المجتمع الإيماني، ولقد قال بعض أئمّة أهل البيت (ع)، وهو يعبّر عن الولاية بأنَّها خطّ السّير والمصير: "إذا أردت أن تعلم أنَّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبّك، وإن كان يبغض أهل طاعته ويحبّ أهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحبّ"[14]. فإنَّ النّاس يحشرون يوم القيامة من خلال نبضات قلوبهم وحركات عقولهم.

فلنهيّئ أنفسنا لذلك الموقف {يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلاَّ من أتى الله بقلب سليم}[15]، من موالاة الكافرين، ومن معاداة المؤمنين.

*فكر ويقافة، السنة الثانية ـ 10 جمادى الآخرة، 1418هـ ـ 11/10/1997م. العدد:(61). 


[1] (النساء؛ 138 ـ 139).

[2] (الحج؛ 62).

[3] (البقرة؛ 257).

[4] (البقرة؛ 165)

[5] (آل عمران؛ 26).

[6] بحار الأنوار، ج68، ص179.

[7] الصّحيفة السّجاديّة، دعاه (ع) إذا نظر إلى أصحاب الدّنيا.

[8] (النساء؛ 97).

[9] (النساء؛51)

[10] (النّحل؛ 106).

[11] (آل عمران؛28).

[12] (الغاشية؛ 25 ـ 26).

[13] (الرّعد؛ 40).

[14] الكافي، الكليني، ج2، ص 126.

[15] (الشعراء؛ 88 ـ 89).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية