كتابات
05/03/2020

نظرة الإسلام إلى التَّشاؤم والتّطيّر

نظرة الإسلام إلى التَّشاؤم والتّطيّر

كيف ننظر إلى الحياة من حولنا في الحاضر والمستقبل، من خلال ما قد يتمثَّل أمامنا من بعض الظواهر والمظاهر أو الأشياء التي قد توحي إلينا بالتشاؤم، بحيث نقبل على الحياة من خلال هذه النّوافذ المظلمة، لنتصوّر أنّ هناك ظلاماً وخسارةً وموتاً وما إلى ذلك؟ وربما نلتقي في حياتنا بالمظاهر أو الظواهر أو الأشياء الطيّبة التي توحي لنا بالتّفاؤل وانتصار الطيّب من النّتائج، فكيف ينظر الإسلام إلى ذلك كلّه؟

ممّ كان العرب يتطيّرون؟!

لقد كان العرب، وربما أغلب الأمم، يتطيّرون أو يتشاءمون بالغراب، فإذا رأوا غراباً وهم على أهبة السّفر، عدلوا عن السفر، وكانوا يتشاءمون بالأيّام، فكانوا لا يسافرون في آخر أربعاء من الشّهر، لأنهّم يعتبرون أنّ فيها النّحس كلّه والشّؤم كلّه.

وكانوا يتشاءمون بالأشخاص الّذين يأتون إليهم في عمليَّة إصلاح وإنذار، وكان التّشاؤم بهذا الشّيء أو ذاك هو الطابع الذي يطبع تقاليدهم العمليّة في الحياة، وكانت هذه النظرة المتشائمة تحجزهم عن الكثير من مشاريعهم، وقد امتدّت إلينا في الواقع الإسلامي، من خلال أحاديث تحدّد أيّاماً نحسات قد يعبِّر عنها بـ(الكوامل)، فلا يتزوَّج الإنسان في هذا اليوم، ولا يبدأ سفراً ولا يشتري داراً ولا ينتقل  إلى دار أخرى، لأنَّ هذا اليوم نحس، وهذا اليوم لا بركة فيه، وهكذا. وهناك اتجاه ـ في بعض الرّوايات ـ إلى التّشاؤم بالكواكب، فمثلاً، إذا كانت الشّمس في برج العقرب، فإنَّه ينبغي للإنسان أن لا يتزوَّج أو أن لا ينتقل إلى دار أخرى وما أشبه ذلك.

التطيّر في القرآن

فهذا الخطّ من السّير يعيش في الذهنيّة ويتحرّك في الواقع، ولكن عندما نقرأ تراثنا من القرآن الكريم والأحاديث النبويّة وما ورد عن أئمّة أهل البيت (ع)، وحديثهم كما قال الإمام الصّادق (ع)، هو حديث رسول الله (ص)، بحيث نستطيع أن ننسب كلّ حديث قاله إمام من أئمَّة أهل البيت (ع) إلى رسول الله (ص).

إنّنا عندما ندرس هذه الأحاديث، نجد أنهّا تنفي المبدأ نفياً تامّاً، بحيث إنّ التفاصيل، سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، تتحدَّد صحتها أو عدمها من خلال هذا المبدأ العام.

فنحن نقرأ في القرآن الكريم، كيف كان النّاس يتشاءمون حين يلتقون بالدعاة إلى الله، لأنهّم يعتبرونهم مظهر شؤم، باعتبار أنّهم جاؤوا من أجل أن يربكوا ما هم عليه من عقائد كافرة أو مشركة، وكأنّهم يرون أنّ هذا اللّقاء سوف ينذر بالسّوء فيما يستقبلون من الأيّام {قالوا إنَّا تطيَّرنا بكُم}.

والتطيّر هو عبارة عن التشاؤم، حيث كانوا يتشاءمون بالطّير، ولذلك أخذ التّشاؤم اسم التطيّر، فكانوا يستدلّون بحادث من الحوادث على أساس أنّهم يرتقبون وقوع الشّرّ من خلال هذا الحادث {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}[يس؛ 18- 19].

وجواب الدّعاة إلى الله، هو أنهّم لا يمثّلون التّشاؤم، وإنمّا يمثّلون الخير، ويعملون على فتح عقول النّاس وقلوبهم على الله، وعلى سعادة الدّنيا والآخرة، ولكنّ الشّؤم هو عند هؤلاء الّذين يتّهمونهم، فالشّرك والضّلال والانحراف يمثّل أوضح مصاديق الشّؤم، لأنّها تقود الإنسان إلى النّار، وتدفعه إلى التعرض لغضب الله سبحانه وتعالى.

{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللهِ}[النّمل؛ 47]. فالله هو الذي يعذّب، وهو الّذي يبتلي، ولذلك نحن نتحرّك معكم على أساس أن نقودكم إلى الخير، ولكنّكم عندما تواجهوننا بالرّفض والجحود والنّكران، فسوف تجدون طائركم عند الله فيما يمكن أن يحصل لكم من شؤم بفعل عذاب الله.

التطيّر في الرّوايات

في هذه الأجواء، نتوقّف عند بعض الكلمات الواردة عن النبيّ (ص) في هذا الشّأن، سواء في أحاديث أهل السنّة "كنز العمال"، أو في أحاديثنا: "من ردّته الطّيرة عن حاجته، فقد أشرك"[1]. وقال أيضاً: "من خرج يريد سفراً فرجع من طير"، أي من حالة الشّؤم، "فقد كفر بما أنزل على محمّد (ص)"[2]. وجاء أيضاً: "ليس منّا من تطيّر أو تُطيّر له"[3].

وعلى ضوء هذه الأحاديث المرويَّة عن النبيّ (ص)، نريد أن نفهم كيف تكون الطيرة شركاً؟ فربما كانت المسألة أنَّ الإنسان عندما يواجه شيئاً يوحي بالشؤم، فكأنّه يعتقد أنّ الشؤم هو نتيجة هذا الشّيء الذي يكون سبباً لهذا الشّؤم، فالغراب ينتج الشّؤم، بحيث يشعر الإنسان بأنَّه السَّبب الفاعل لما يتشاءم به، وبهذا تلتقي هذه الفكرة بالشِّرك، باعتبار أنَّ الفكرة الإيمانيَّة تتلخَّص في أنّ الله وحده هو صانع ما في الكون كلّه، إمَّا بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، فهو مسبِّب الأسباب، وكلّ شيء في الكون يصدر عنه، وليس هناك في الكون أيّ موجود، سواء كان بشراً أو حيواناً أو كوكباً أو أيّ شيء آخر، يستقلّ بظاهرة من الظّواهر، بل إنَّ الجميع يمثّلون الوسائل والأدوات الّتي أودع الله فيها سرّ الأشياء، كما هو السَّبب بالنّسبة إلى المسبّب.

فالإنسان الذي يختزن في نفسه أنَّ هذا الحيوان أو أنَّ هذا الزّمن أو هذا الكوكب يُنتِج من خلال عناصره الذاتيَّة الشّؤم، بمعنى أن يكون هو العنصر الفاعل، فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، لأنَّه أبعد المسألة عن الله، واستغرق في هذه الحالة، بحيث كان يختزن في داخل نفسه ـ بطريقة شعورية أو لا شعورية ـ أنّه إذا واجه غراباً، فإنّ هذا الغراب يوحي إليه بالشّؤم، وأنّ الله سبحانه وتعالى لن يغيّر من أمره شيئاً، ولن يخرجه من هذا العسر، تماماً كما هو اليأس {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف؛ 87]، باعتبار أنَّ اليأس من روح الله، يعني أنَّك لا تؤمن بقدرة الله على أن يخرج لك الأمل من قلب الواقع الّذي يوحي إليك باليأس.

فالمتطيّر المتشائم من أيّ ظاهرة، يرى أنّ ما يقبل عليه هو الشّؤم، وأنّ أحداً لا يغيّر ذلك، فكأنّه يرى أنَّ الله لا يغيّر ذلك، وهذا هو الشِّرك بالله سبحانه وتعالى، فكأنَّ الإنسان أو الحيوان أو الكوكب يصنع شيئاً لا يستطيع الله أن يصنعه، فهو خالق من جهة، والله خالق من جهة، فكما أعطى هذا الحديث الشّريف الخطّ العام في الفكرة، أعطى التّطبيق أيضاً: "من خرج يريد سفراً فرجع من طير، فقد كفر بما أنزل على محمّد (ص)"، باعتبار أنّ بعض ما نؤمن به من العقائد في الأشخاص والأشياء، يختزن الشّرك، من دون أن تنتبه إلى ذلك.

لذا، لا بدّ للإنسان أن يعيش التوحيد بكلّ عمقه وصفاته، بحيث يشعر بأنَّه ليس هناك إلّا الله، وكلّ من عدا الله فإنَّه يتحرّك بمشيئة الله وإرادته في الخلق والحركة، من خلال القوانين والسّنن التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون.

معالجة التطيّر

لكنّنا نجد أنّ النبيّ (ص) يريد للإنسان أن يتحرّك بالاتجاه المعاكس، حيث يقول: "إذا تطيّرت فامض"[4]، أي إذا حدث التّشاؤم من خلال بعض الظواهر، فحاول أن تقتحم ما تتشاءم منه، وقد ورد إكمالاً لهذا: "كفّارة الطيرة التوكّل"[5]. فعليك عندما تتطيَّر وتتشاءم، أن لا تتجمَّد أمام الخوف والحذر، ولكن حاول أن تكسر هذا الطّوق النفسّي، وهذه الخرافة الجاهليّة، بأن تتحرّك ولا تتوقّف. ومن الطبيعي أنّ الحركة لا تعني عدم الحذر، فالمنهج الإسلامي التّربوي يريد للإنسان أن لا يتجمّد عند بعض الأشياء التي تصادفه ممّا قد يسيء إلى حركته.

وقد لاحظنا ـ في خطّ البرنامج المذكور ـ كلمة للإمام عليّ (ع) قال: "إذا هبت أمراً فقع فيه"، أي إذا تخوَّفت من أمر وتهيّبت الدّخول فيه من دون أن تكون لك حجّة تحدِّد لك النتائج الإيجابيّة أو السلبيّة بشكل حاسم، وكنت فريسة القلق الذي يأخذك فيه احتمال من هنا أو هناك، فاقتحم ولا تتوقّف. فلماذا ذلك؟ يقول الإمام عليّ (ع): "فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه"[6]. فهذه الحيرة والقلق الذي تعيشه أمام هذا الشَّيء، ينتج وضعاً سلبيّاً على مستوى حركتك في الحياة أكثر من الشّيء الذي تخاف أن تقع فيه، لأنَّ القلق عندما يُشكّل طابع الشخصيّة، فإنَّه يدمّر حياة النَّاس كلَّها، باعتبار أنَّه يجعلك واقفاً في بدايات الطريق، تجترّ مخاوفك، ولا تتحرَّك في أيّ اتجاه، إذ ما من طريق من الطّرق إلّا وهناك احتمالات تثير خوفك فيه.

ولذلك، على الإنسان لا يتجمَّد إلّا عندما يلتقي بالمعطيات التي تقول له إنَّ ما تقدم عليه فيه خطر محقَّق. أمَّا عندما يعيش الإنسان في الهواجس والمخاوف والاحتمالات التجريديّة، فإنَّه يتحوَّل إلى إنسان متجمّد أمام الهواجس، ولا يستطيع أن ينطلق في الاتجاه الحركيّ الذي يخدم حياته.

وفي الحديث: "إنَّ النبيّ (ص) كان يحبّ الفأل"[7]، أي أنّه كان يحبّ الأشياء التي تفتح أمامه أبواب انتظار الخير، لأنَّ ذلك هو الذي يجعل الإنسان ينفتح على الجانب المشرق من الحياة، وهو الّذي ينفتح بالإنسان على حيويَّة الحركة فيما يستهدفه من أهداف. وكما قلنا، ليس معنى ذلك أن لا تكون حذراً، فثمّة فرق بين أن تكون جامداً لا تتحرّك، وبين أن تكون حذراً وأنت تتحرَّك، ومن الطبيعيّ أنّ الحذر الذي لا يشلّ الموقف والإرادة، هو حالة طبيعيَّة واقعيَّة في كلّ ما يتحرّك فيه الإنسان، حتى لو كانت المعطيات تقول لك إنَّه ليست هناك مشكلة، ولا سيّما أنّ المشكلة قد لا تظهر لك الآن، ولكن قد تأتي ـ فيما تستقبل ـ بشكل طارئ، ولذلك لا بدَّ أن تكون حذراً متحرّكاً في آن معاً.

وكان (ع) يأمر من رأى شيئاً ـ والفعل (يأمر) هنا غير يطلب، أي أنّ في الأمر صفة الإلزام ـ يكرهه ويتطيّر منه، أن يقول: "اللَّهمَّ لا يؤتي الخير إلا أنت، ولا يدفع السيِّئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك"[8].

 بهذا التّوجيه التعليميّ التّربوي النبويّ، يقول للإنسان المتشائم، إنّك إذا استغرقت في تشاؤمك من خلال هذه المعطيات التي تثير التشاؤم عندك، فلا بدّ أن تلجأ إلى ربِِّك، فهو الرّحمن الرّحيم القادر على أن يجعل من بعد العسر يسراً، وهو القائل: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}[الطّلاق: 2] حيث لا مخرج {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطّلاق: 3].

ومعنى ذلك، ليس فقط أن تلقي ما يثير في قلبك الخوف من النتائج السلبيّة، بل حتى لو سدَّت كلّ الوسائل والدّروب، فإنّ الله قادر على أن يفتح لك الأبواب، لأنّه مبوّب الأبواب، وهو الذي يملك السّيطرة على الأبواب المغلقة، فهناك باب مغلق وباب مفتوح، وأنتم تتجمّدون أمام الباب المغلق، وتندفعون أمام الباب المفتوح، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يتساوى عنده كلّ شيء، لأنّه هو الذي يشيّئ الأشياء، وهو الذي أعطى كلّ شيء خلقه، وأعطى كلّ شيء حركته وحيويّته ونظامه. لذلك، قل يا ربّ أريد أن تعطيني الخير، وأنا لا أثق بكلّ سبب من أسباب الخير إلا إذا أعطيته رعايتك، لأنّ الخير يكون نتيجة شيء خلقته، ولكنّك أنت من وراء ذلك.

أن يقول: "اللَّهمَّ لا يؤتي الخير إلا أنت، ولا يدفع السيِّئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك"، فربما أواجه بعض السّوء فيما أستقبل من أمر، ولكنّي أعرف أنّك أنت الذي تدفع السّوء، وإنّي أثق بك يا ربّ، ومع ذلك، فلا حول لي ولا قوّة إلا بك، فأعطني يا ربّ الحول والقوَّة في كلّ ما أخاف منه، وكلّ ما أرجوه. 

الطيرة كحالة نفسيَّة

وهناك حديث عن الإمام الصّادق (ع)، يفسِّر لنا التطيّر كحالة ربمّا تثقل عليك إذا استغرقت فيها، وربّما تبتعد عنك وتهوّن عليك الأمر إذا هوَّنتها، وعندما تعتبرها لا شيء، فلن يكون هناك شيء، فكأنَّك تركّز المسألة من خلال حالتك النفسيّة أمام مواقع التّشاؤم، حيث يقول (ع): "الطّيرة على ما تجعلهاـ فالأمر إليك، لأنّه لا واقع للطّيرة، وليست شيئاً يملك أن يُنتج أيّ شيء، بل هي مجرّد تهاويل ومخاوف تعيش في ذهنك ـ إن هوّنتها تهوّنت، وإن شدّدتها تشدَّدت، وإن لم تجعلها شيئا ًـ  أي أعرضت عنها وانطلقت كما لو يكن هناك شيء ـلم تكن شيئاً"[9]. فالتطيّر والتّشاؤم في كلّ مظاهره الواقعيّة في حياتك ليس شيئاً، فلا تجعله شيئاً.

وقد ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت (ع) في (الخصال) للصّدوق، بإسناده عن محمد بن أحمد الدقّاق: "كتبت إلى أبي الحسن الثّاني ـ الإمام الهادي (ع) ـ أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور"، أي الأربعاء التي لا تدور في الشّهر نفسه، والمراد الأربعاء الأخيرة من الشّهر. "فكتب (ع): من خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافاً على أهل الطّيرةـ أي متحدّياً الذين يتطيّرون من الخروج والسّفر في هذا اليوم، باعتبار أنّه تحدّى أهل التطيّر الذين يوحون إلى النّاس بالتشاؤم من هذا اليوم، يكون قد أقدم على أمر يرضاه الله ـ وقي من كلّ آفة، وعوفي من كلّ عاهة"[10]، أي قلب الموضوع من السَّلب إلى الإيجاب، لأنَّ الله يثيب من يفعل ذلك على تحدّيه لأهل التطيّر.

ونفهم من كلمة الإمام الصّادق (ع)، أنَّ التطيّر بأجمعه هو أمر ليس شرعيّاً ولا إسلاميّاً.

"وكتب إليه مرّة أخرى عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور، فكتب إليه: "من احتجم يوم الأربعاء لا تدور خلافاً على أهل الطيرة، عوفي من كلّ آفة، ووقي من كلّ عاهة، ولم تخضرّ محاجمه"[11]، أي لم تتأثّر مواقع الحجامة في جسمه سلبيّاً.

الحثّ على التّفاؤل

وفي الجانب المقابل، عن النبيّ (ص): "نعم الشّيء الفأل، الكلمة الحسنة يسمعها أحدكم"[12] فيتفاءل بها للمستقبل. وعن الإمام عليّ (ع) قال: "تفاءل بالخير تنجح"[13]. وعنه (ع): "الفأل حقّ والطيرة ليست بحقّ"[14].

لا تستسلموا للتّشاؤم

وهذا هو بعض الحديث عن هذين العنوانين اللّذين يمكن أن يتركا تأثيرهما السلبي والإيجابي في حركتنا في الحياة، فيما يريدنا الله أن نكون متفائلين من خلال دراستنا للواقع، واكتشافنا المعطيات المشرقة داخل هذا الواقع من جهة، وانفتاحنا على الله في ابتهالنا إليه، بأن يهيّئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يدفع عنّا كلّ سوء، ويجلب إلينا كلّ خير، ليتحرّك الإنسان في الواقع من خلال دراسته للمعطيات التي عنده من جهة، والّتي ترتكز على إيمانه من جهة أخرى، متخلّصاً بذلك من حالة التشاؤم، فلا يعقد نفسه على أنَّ الشؤم آت لا محالة، وأنّ الشّرّ آت لا محالة، وأنّه لا يمكن أن يتغيّر، لأنَّ هذا التفكير يختزن معنى الكفر ومعنى الشّرك، ويجمّد حركيّة الإنسان.

فعلينا ونحن نؤمن بالله، أن نحدّق دائماً بالشَّمس، بل حتى إذا حدَّقنا بالظلام، فإنّ علينا أن نتطلّع إلى نقاط النّور التي تمثّلها الكواكب التي تقول لنا إنَّ بعد الظلام نوراً وفجراً، فلا تستسلموا للأحاسيس السلبيّة المنطلقة في الظلام {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}[الطّلاق؛ 7]. فانفتحوا على الله وقولوا، كما جاء في بعض الأحاديث: "اللّهمّ لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك"[15]. اللّهمّ عليك توكّلنا، وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوَّة إلا بك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله ربّ العالمين.

* فكر وثقافة، العدد 122، 26 ذو القعدة 1419هـ/ الموافق: 13 آذار 1999م.


[1] مسند أحمد، ج2، ص220.

[2]  كنز العمال، المتقي الهندي، ج10، ص114.

[3] مجمع الزّوائد، الهيثمي، ج5، ص117.

[4] بحار الأنوار، ج 74، ص 152.

[5] الكافي، ج8، ص 198.

[6] نهج البلاغة، ج4، ص42.

[7] بحار الأنوار، ج92، ص2.

[8] بحار الأنوار، ج92، ص 2.

[9] الكافي، ج8، ص 197.

[10] بحار الأنوار، ج56، ص44.

[11] بحار الأنوار، ج56، ص44.

[12] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص 2348.

[13] ميزان الحكمة، ج3، ص 2348.

[14] نهج البلاغة، خطب الإمام (ع)، ص 546.

[15] مسند أحمد، ج2، ص220.

كيف ننظر إلى الحياة من حولنا في الحاضر والمستقبل، من خلال ما قد يتمثَّل أمامنا من بعض الظواهر والمظاهر أو الأشياء التي قد توحي إلينا بالتشاؤم، بحيث نقبل على الحياة من خلال هذه النّوافذ المظلمة، لنتصوّر أنّ هناك ظلاماً وخسارةً وموتاً وما إلى ذلك؟ وربما نلتقي في حياتنا بالمظاهر أو الظواهر أو الأشياء الطيّبة التي توحي لنا بالتّفاؤل وانتصار الطيّب من النّتائج، فكيف ينظر الإسلام إلى ذلك كلّه؟

ممّ كان العرب يتطيّرون؟!

لقد كان العرب، وربما أغلب الأمم، يتطيّرون أو يتشاءمون بالغراب، فإذا رأوا غراباً وهم على أهبة السّفر، عدلوا عن السفر، وكانوا يتشاءمون بالأيّام، فكانوا لا يسافرون في آخر أربعاء من الشّهر، لأنهّم يعتبرون أنّ فيها النّحس كلّه والشّؤم كلّه.

وكانوا يتشاءمون بالأشخاص الّذين يأتون إليهم في عمليَّة إصلاح وإنذار، وكان التّشاؤم بهذا الشّيء أو ذاك هو الطابع الذي يطبع تقاليدهم العمليّة في الحياة، وكانت هذه النظرة المتشائمة تحجزهم عن الكثير من مشاريعهم، وقد امتدّت إلينا في الواقع الإسلامي، من خلال أحاديث تحدّد أيّاماً نحسات قد يعبِّر عنها بـ(الكوامل)، فلا يتزوَّج الإنسان في هذا اليوم، ولا يبدأ سفراً ولا يشتري داراً ولا ينتقل  إلى دار أخرى، لأنَّ هذا اليوم نحس، وهذا اليوم لا بركة فيه، وهكذا. وهناك اتجاه ـ في بعض الرّوايات ـ إلى التّشاؤم بالكواكب، فمثلاً، إذا كانت الشّمس في برج العقرب، فإنَّه ينبغي للإنسان أن لا يتزوَّج أو أن لا ينتقل إلى دار أخرى وما أشبه ذلك.

التطيّر في القرآن

فهذا الخطّ من السّير يعيش في الذهنيّة ويتحرّك في الواقع، ولكن عندما نقرأ تراثنا من القرآن الكريم والأحاديث النبويّة وما ورد عن أئمّة أهل البيت (ع)، وحديثهم كما قال الإمام الصّادق (ع)، هو حديث رسول الله (ص)، بحيث نستطيع أن ننسب كلّ حديث قاله إمام من أئمَّة أهل البيت (ع) إلى رسول الله (ص).

إنّنا عندما ندرس هذه الأحاديث، نجد أنهّا تنفي المبدأ نفياً تامّاً، بحيث إنّ التفاصيل، سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة، تتحدَّد صحتها أو عدمها من خلال هذا المبدأ العام.

فنحن نقرأ في القرآن الكريم، كيف كان النّاس يتشاءمون حين يلتقون بالدعاة إلى الله، لأنهّم يعتبرونهم مظهر شؤم، باعتبار أنّهم جاؤوا من أجل أن يربكوا ما هم عليه من عقائد كافرة أو مشركة، وكأنّهم يرون أنّ هذا اللّقاء سوف ينذر بالسّوء فيما يستقبلون من الأيّام {قالوا إنَّا تطيَّرنا بكُم}.

والتطيّر هو عبارة عن التشاؤم، حيث كانوا يتشاءمون بالطّير، ولذلك أخذ التّشاؤم اسم التطيّر، فكانوا يستدلّون بحادث من الحوادث على أساس أنّهم يرتقبون وقوع الشّرّ من خلال هذا الحادث {لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}[يس؛ 18- 19].

وجواب الدّعاة إلى الله، هو أنهّم لا يمثّلون التّشاؤم، وإنمّا يمثّلون الخير، ويعملون على فتح عقول النّاس وقلوبهم على الله، وعلى سعادة الدّنيا والآخرة، ولكنّ الشّؤم هو عند هؤلاء الّذين يتّهمونهم، فالشّرك والضّلال والانحراف يمثّل أوضح مصاديق الشّؤم، لأنّها تقود الإنسان إلى النّار، وتدفعه إلى التعرض لغضب الله سبحانه وتعالى.

{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللهِ}[النّمل؛ 47]. فالله هو الذي يعذّب، وهو الّذي يبتلي، ولذلك نحن نتحرّك معكم على أساس أن نقودكم إلى الخير، ولكنّكم عندما تواجهوننا بالرّفض والجحود والنّكران، فسوف تجدون طائركم عند الله فيما يمكن أن يحصل لكم من شؤم بفعل عذاب الله.

التطيّر في الرّوايات

في هذه الأجواء، نتوقّف عند بعض الكلمات الواردة عن النبيّ (ص) في هذا الشّأن، سواء في أحاديث أهل السنّة "كنز العمال"، أو في أحاديثنا: "من ردّته الطّيرة عن حاجته، فقد أشرك"[1]. وقال أيضاً: "من خرج يريد سفراً فرجع من طير"، أي من حالة الشّؤم، "فقد كفر بما أنزل على محمّد (ص)"[2]. وجاء أيضاً: "ليس منّا من تطيّر أو تُطيّر له"[3].

وعلى ضوء هذه الأحاديث المرويَّة عن النبيّ (ص)، نريد أن نفهم كيف تكون الطيرة شركاً؟ فربما كانت المسألة أنَّ الإنسان عندما يواجه شيئاً يوحي بالشؤم، فكأنّه يعتقد أنّ الشؤم هو نتيجة هذا الشّيء الذي يكون سبباً لهذا الشّؤم، فالغراب ينتج الشّؤم، بحيث يشعر الإنسان بأنَّه السَّبب الفاعل لما يتشاءم به، وبهذا تلتقي هذه الفكرة بالشِّرك، باعتبار أنَّ الفكرة الإيمانيَّة تتلخَّص في أنّ الله وحده هو صانع ما في الكون كلّه، إمَّا بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، فهو مسبِّب الأسباب، وكلّ شيء في الكون يصدر عنه، وليس هناك في الكون أيّ موجود، سواء كان بشراً أو حيواناً أو كوكباً أو أيّ شيء آخر، يستقلّ بظاهرة من الظّواهر، بل إنَّ الجميع يمثّلون الوسائل والأدوات الّتي أودع الله فيها سرّ الأشياء، كما هو السَّبب بالنّسبة إلى المسبّب.

فالإنسان الذي يختزن في نفسه أنَّ هذا الحيوان أو أنَّ هذا الزّمن أو هذا الكوكب يُنتِج من خلال عناصره الذاتيَّة الشّؤم، بمعنى أن يكون هو العنصر الفاعل، فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، لأنَّه أبعد المسألة عن الله، واستغرق في هذه الحالة، بحيث كان يختزن في داخل نفسه ـ بطريقة شعورية أو لا شعورية ـ أنّه إذا واجه غراباً، فإنّ هذا الغراب يوحي إليه بالشّؤم، وأنّ الله سبحانه وتعالى لن يغيّر من أمره شيئاً، ولن يخرجه من هذا العسر، تماماً كما هو اليأس {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف؛ 87]، باعتبار أنَّ اليأس من روح الله، يعني أنَّك لا تؤمن بقدرة الله على أن يخرج لك الأمل من قلب الواقع الّذي يوحي إليك باليأس.

فالمتطيّر المتشائم من أيّ ظاهرة، يرى أنّ ما يقبل عليه هو الشّؤم، وأنّ أحداً لا يغيّر ذلك، فكأنّه يرى أنَّ الله لا يغيّر ذلك، وهذا هو الشِّرك بالله سبحانه وتعالى، فكأنَّ الإنسان أو الحيوان أو الكوكب يصنع شيئاً لا يستطيع الله أن يصنعه، فهو خالق من جهة، والله خالق من جهة، فكما أعطى هذا الحديث الشّريف الخطّ العام في الفكرة، أعطى التّطبيق أيضاً: "من خرج يريد سفراً فرجع من طير، فقد كفر بما أنزل على محمّد (ص)"، باعتبار أنّ بعض ما نؤمن به من العقائد في الأشخاص والأشياء، يختزن الشّرك، من دون أن تنتبه إلى ذلك.

لذا، لا بدّ للإنسان أن يعيش التوحيد بكلّ عمقه وصفاته، بحيث يشعر بأنَّه ليس هناك إلّا الله، وكلّ من عدا الله فإنَّه يتحرّك بمشيئة الله وإرادته في الخلق والحركة، من خلال القوانين والسّنن التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون.

معالجة التطيّر

لكنّنا نجد أنّ النبيّ (ص) يريد للإنسان أن يتحرّك بالاتجاه المعاكس، حيث يقول: "إذا تطيّرت فامض"[4]، أي إذا حدث التّشاؤم من خلال بعض الظواهر، فحاول أن تقتحم ما تتشاءم منه، وقد ورد إكمالاً لهذا: "كفّارة الطيرة التوكّل"[5]. فعليك عندما تتطيَّر وتتشاءم، أن لا تتجمَّد أمام الخوف والحذر، ولكن حاول أن تكسر هذا الطّوق النفسّي، وهذه الخرافة الجاهليّة، بأن تتحرّك ولا تتوقّف. ومن الطبيعي أنّ الحركة لا تعني عدم الحذر، فالمنهج الإسلامي التّربوي يريد للإنسان أن لا يتجمّد عند بعض الأشياء التي تصادفه ممّا قد يسيء إلى حركته.

وقد لاحظنا ـ في خطّ البرنامج المذكور ـ كلمة للإمام عليّ (ع) قال: "إذا هبت أمراً فقع فيه"، أي إذا تخوَّفت من أمر وتهيّبت الدّخول فيه من دون أن تكون لك حجّة تحدِّد لك النتائج الإيجابيّة أو السلبيّة بشكل حاسم، وكنت فريسة القلق الذي يأخذك فيه احتمال من هنا أو هناك، فاقتحم ولا تتوقّف. فلماذا ذلك؟ يقول الإمام عليّ (ع): "فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه"[6]. فهذه الحيرة والقلق الذي تعيشه أمام هذا الشَّيء، ينتج وضعاً سلبيّاً على مستوى حركتك في الحياة أكثر من الشّيء الذي تخاف أن تقع فيه، لأنَّ القلق عندما يُشكّل طابع الشخصيّة، فإنَّه يدمّر حياة النَّاس كلَّها، باعتبار أنَّه يجعلك واقفاً في بدايات الطريق، تجترّ مخاوفك، ولا تتحرَّك في أيّ اتجاه، إذ ما من طريق من الطّرق إلّا وهناك احتمالات تثير خوفك فيه.

ولذلك، على الإنسان لا يتجمَّد إلّا عندما يلتقي بالمعطيات التي تقول له إنَّ ما تقدم عليه فيه خطر محقَّق. أمَّا عندما يعيش الإنسان في الهواجس والمخاوف والاحتمالات التجريديّة، فإنَّه يتحوَّل إلى إنسان متجمّد أمام الهواجس، ولا يستطيع أن ينطلق في الاتجاه الحركيّ الذي يخدم حياته.

وفي الحديث: "إنَّ النبيّ (ص) كان يحبّ الفأل"[7]، أي أنّه كان يحبّ الأشياء التي تفتح أمامه أبواب انتظار الخير، لأنَّ ذلك هو الذي يجعل الإنسان ينفتح على الجانب المشرق من الحياة، وهو الّذي ينفتح بالإنسان على حيويَّة الحركة فيما يستهدفه من أهداف. وكما قلنا، ليس معنى ذلك أن لا تكون حذراً، فثمّة فرق بين أن تكون جامداً لا تتحرّك، وبين أن تكون حذراً وأنت تتحرَّك، ومن الطبيعيّ أنّ الحذر الذي لا يشلّ الموقف والإرادة، هو حالة طبيعيَّة واقعيَّة في كلّ ما يتحرّك فيه الإنسان، حتى لو كانت المعطيات تقول لك إنَّه ليست هناك مشكلة، ولا سيّما أنّ المشكلة قد لا تظهر لك الآن، ولكن قد تأتي ـ فيما تستقبل ـ بشكل طارئ، ولذلك لا بدَّ أن تكون حذراً متحرّكاً في آن معاً.

وكان (ع) يأمر من رأى شيئاً ـ والفعل (يأمر) هنا غير يطلب، أي أنّ في الأمر صفة الإلزام ـ يكرهه ويتطيّر منه، أن يقول: "اللَّهمَّ لا يؤتي الخير إلا أنت، ولا يدفع السيِّئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك"[8].

 بهذا التّوجيه التعليميّ التّربوي النبويّ، يقول للإنسان المتشائم، إنّك إذا استغرقت في تشاؤمك من خلال هذه المعطيات التي تثير التشاؤم عندك، فلا بدّ أن تلجأ إلى ربِِّك، فهو الرّحمن الرّحيم القادر على أن يجعل من بعد العسر يسراً، وهو القائل: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً}[الطّلاق: 2] حيث لا مخرج {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطّلاق: 3].

ومعنى ذلك، ليس فقط أن تلقي ما يثير في قلبك الخوف من النتائج السلبيّة، بل حتى لو سدَّت كلّ الوسائل والدّروب، فإنّ الله قادر على أن يفتح لك الأبواب، لأنّه مبوّب الأبواب، وهو الذي يملك السّيطرة على الأبواب المغلقة، فهناك باب مغلق وباب مفتوح، وأنتم تتجمّدون أمام الباب المغلق، وتندفعون أمام الباب المفتوح، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى يتساوى عنده كلّ شيء، لأنّه هو الذي يشيّئ الأشياء، وهو الذي أعطى كلّ شيء خلقه، وأعطى كلّ شيء حركته وحيويّته ونظامه. لذلك، قل يا ربّ أريد أن تعطيني الخير، وأنا لا أثق بكلّ سبب من أسباب الخير إلا إذا أعطيته رعايتك، لأنّ الخير يكون نتيجة شيء خلقته، ولكنّك أنت من وراء ذلك.

أن يقول: "اللَّهمَّ لا يؤتي الخير إلا أنت، ولا يدفع السيِّئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك"، فربما أواجه بعض السّوء فيما أستقبل من أمر، ولكنّي أعرف أنّك أنت الذي تدفع السّوء، وإنّي أثق بك يا ربّ، ومع ذلك، فلا حول لي ولا قوّة إلا بك، فأعطني يا ربّ الحول والقوَّة في كلّ ما أخاف منه، وكلّ ما أرجوه. 

الطيرة كحالة نفسيَّة

وهناك حديث عن الإمام الصّادق (ع)، يفسِّر لنا التطيّر كحالة ربمّا تثقل عليك إذا استغرقت فيها، وربّما تبتعد عنك وتهوّن عليك الأمر إذا هوَّنتها، وعندما تعتبرها لا شيء، فلن يكون هناك شيء، فكأنَّك تركّز المسألة من خلال حالتك النفسيّة أمام مواقع التّشاؤم، حيث يقول (ع): "الطّيرة على ما تجعلهاـ فالأمر إليك، لأنّه لا واقع للطّيرة، وليست شيئاً يملك أن يُنتج أيّ شيء، بل هي مجرّد تهاويل ومخاوف تعيش في ذهنك ـ إن هوّنتها تهوّنت، وإن شدّدتها تشدَّدت، وإن لم تجعلها شيئا ًـ  أي أعرضت عنها وانطلقت كما لو يكن هناك شيء ـلم تكن شيئاً"[9]. فالتطيّر والتّشاؤم في كلّ مظاهره الواقعيّة في حياتك ليس شيئاً، فلا تجعله شيئاً.

وقد ورد في أحاديث أئمّة أهل البيت (ع) في (الخصال) للصّدوق، بإسناده عن محمد بن أحمد الدقّاق: "كتبت إلى أبي الحسن الثّاني ـ الإمام الهادي (ع) ـ أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور"، أي الأربعاء التي لا تدور في الشّهر نفسه، والمراد الأربعاء الأخيرة من الشّهر. "فكتب (ع): من خرج يوم الأربعاء لا يدور خلافاً على أهل الطّيرةـ أي متحدّياً الذين يتطيّرون من الخروج والسّفر في هذا اليوم، باعتبار أنّه تحدّى أهل التطيّر الذين يوحون إلى النّاس بالتشاؤم من هذا اليوم، يكون قد أقدم على أمر يرضاه الله ـ وقي من كلّ آفة، وعوفي من كلّ عاهة"[10]، أي قلب الموضوع من السَّلب إلى الإيجاب، لأنَّ الله يثيب من يفعل ذلك على تحدّيه لأهل التطيّر.

ونفهم من كلمة الإمام الصّادق (ع)، أنَّ التطيّر بأجمعه هو أمر ليس شرعيّاً ولا إسلاميّاً.

"وكتب إليه مرّة أخرى عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور، فكتب إليه: "من احتجم يوم الأربعاء لا تدور خلافاً على أهل الطيرة، عوفي من كلّ آفة، ووقي من كلّ عاهة، ولم تخضرّ محاجمه"[11]، أي لم تتأثّر مواقع الحجامة في جسمه سلبيّاً.

الحثّ على التّفاؤل

وفي الجانب المقابل، عن النبيّ (ص): "نعم الشّيء الفأل، الكلمة الحسنة يسمعها أحدكم"[12] فيتفاءل بها للمستقبل. وعن الإمام عليّ (ع) قال: "تفاءل بالخير تنجح"[13]. وعنه (ع): "الفأل حقّ والطيرة ليست بحقّ"[14].

لا تستسلموا للتّشاؤم

وهذا هو بعض الحديث عن هذين العنوانين اللّذين يمكن أن يتركا تأثيرهما السلبي والإيجابي في حركتنا في الحياة، فيما يريدنا الله أن نكون متفائلين من خلال دراستنا للواقع، واكتشافنا المعطيات المشرقة داخل هذا الواقع من جهة، وانفتاحنا على الله في ابتهالنا إليه، بأن يهيّئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يدفع عنّا كلّ سوء، ويجلب إلينا كلّ خير، ليتحرّك الإنسان في الواقع من خلال دراسته للمعطيات التي عنده من جهة، والّتي ترتكز على إيمانه من جهة أخرى، متخلّصاً بذلك من حالة التشاؤم، فلا يعقد نفسه على أنَّ الشؤم آت لا محالة، وأنّ الشّرّ آت لا محالة، وأنّه لا يمكن أن يتغيّر، لأنَّ هذا التفكير يختزن معنى الكفر ومعنى الشّرك، ويجمّد حركيّة الإنسان.

فعلينا ونحن نؤمن بالله، أن نحدّق دائماً بالشَّمس، بل حتى إذا حدَّقنا بالظلام، فإنّ علينا أن نتطلّع إلى نقاط النّور التي تمثّلها الكواكب التي تقول لنا إنَّ بعد الظلام نوراً وفجراً، فلا تستسلموا للأحاسيس السلبيّة المنطلقة في الظلام {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}[الطّلاق؛ 7]. فانفتحوا على الله وقولوا، كما جاء في بعض الأحاديث: "اللّهمّ لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك"[15]. اللّهمّ عليك توكّلنا، وإليك أنبنا وإليك المصير، ولا حول ولا قوَّة إلا بك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله ربّ العالمين.

* فكر وثقافة، العدد 122، 26 ذو القعدة 1419هـ/ الموافق: 13 آذار 1999م.


[1] مسند أحمد، ج2، ص220.

[2]  كنز العمال، المتقي الهندي، ج10، ص114.

[3] مجمع الزّوائد، الهيثمي، ج5، ص117.

[4] بحار الأنوار، ج 74، ص 152.

[5] الكافي، ج8، ص 198.

[6] نهج البلاغة، ج4، ص42.

[7] بحار الأنوار، ج92، ص2.

[8] بحار الأنوار، ج92، ص 2.

[9] الكافي، ج8، ص 197.

[10] بحار الأنوار، ج56، ص44.

[11] بحار الأنوار، ج56، ص44.

[12] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص 2348.

[13] ميزان الحكمة، ج3، ص 2348.

[14] نهج البلاغة، خطب الإمام (ع)، ص 546.

[15] مسند أحمد، ج2، ص220.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية