كتابات
10/03/2020

الفرق بين المتشائمين والمتفائلين

الفرق بين المتشائمين والمتفائلين

{وإِذ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَوماً اللهُ مُهلكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعذِرَةً إلَى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ}[الأعراف: 164].

في هذه الآية الكريمة، حوار قصير خاطف بين نموذجين من النّاس، حول الموقف الذي ينبغي اتّباعه إزاء بعض الناس الذين يمتدّون في الانحراف عملاً وفكراً إلى درجة قصوى، بحيث يخيَّل لمن يراقب أوضاعهم وأعمالهم، أنّ محاولة هدايتهم يائسة، فقد خاب الأمل من هؤلاء، ووقفوا بعيداً بعيداً عن رحمة الله وغفرانه، فلا مجال ـ بعد ذلك ـ لأيّة تجربة يخوضها العاملون من أجل إصلاحهم وإرجاعهم إلى الله.

ويقف بعض العاملين في سبيل الله أمام هذه الظاهرة موقفاً رساليّاً، لشعورهم الأصيل بأنّ مهمّتهم الأصيلة هي السّماح لعوامل الخير في التحرّك، في غمار الأكداس الهائلة من الشرّ التي تحجَّرت بفعل الزمن، فأصبحت حاجزاً ضخماً يسدّ الطريق أمام ظهور عوامل الخير الراقدة في الأعماق، فيقف العاملون إزاءها، بالموعظة تارةً، وبالعنف أخرى، أملاً في انهيار الحاجز الصخري من الداخل الذي يمثّل قوّة الخير، ومن الخارج الذي يهيِّئ الجو للحركة والاندفاع.

والهدف ـ كما يرى هؤلاء ـ أن يظلّ الأمل متحركاً في الحياة، كي تبقى ولا تتجمّد في الطريق إلى الموت. ففي الظلمة، تطلّ خيوط النور، تتحرّك من النجوم تارةً، ومن القمر أخرى، ومن أحلام الفجر التي تدغدغ أجفان الكون آخر اللّيل، وتستمرّ خيوط النّور في الحركة، وتتّسع، ويطلع فجر يومٍ جديد.

وفي ظلمات الشّكّ التي تزرع نفس الإنسان وفكره، تظلّ خطوات اليقين تقطع الطريق نحو الفكر النيّر الذي يغمر النفس بالشّعاع الهادئ حتى الطمأنينة والهدوء.

وفي غياب الضّلال، يبرز الهدى حُلُماً قريباً وادعاً لذيذاً، كمثل الشلَّال المتدفّق من أعماق الينبوع.

إنّ ذلك كلّه يجعل الأمل بالخير وبالنّور والهدى، حقيقةً من الحقائق التي بنيت عليها الحياة، تعرض نفسها في أكثر من مجال.

وعلى خطى الأمل والواقعيّة، يتحرّك الدعاة والمصلحون في سبيل القضايا الكبيرة، في حركةٍ رساليّة تتطلّع إلى القمم، بالرّغم من كلّ العقبات والصعوبات التي تعترض سبيل المتحرّكين على السفح في طريقهم إلى القمّة.

أمّا إذا كانت القضيّة قضيّة المسافة الروحيّة والنفسيّة التي قطعوها وهم يبتعدون عن الله، أو قضيّة الجسور التي نسفوها بينهم وبين الله، فلم يعد لديهم جسر يربط بين الضفّتين؛ ضفة الدنيا حيث يقفون ويتخبّطون، وضفّة الآخرة حيث تفيض ألطاف الله على عباده خيراً ومغفرة ورضواناً.

أمّا إذا كانت القضية قضية علاقتهم بالله، فما أسهل الأمر وما أهونه! فقد أعدّ الله الجسور للتائبين في كلّ وقت وفي كل مرحلة، تقرّبهم إليه، وتربطهم به، وتوفّر عليهم العودة إلى بدايات الطريق، كما حدَّثنا سبحانه في أكثر من آية، عندما دعا المذنبين إليه، وعرَّفهم أنهم مهما ابتعدوا، فهو قريب إليهم، يستمع إليهم وإلى نجواهم وابتهالاتهم في كلّ حين.

قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعَانِ فَليَستَجِيبُواْ لِي وَليُؤمِنُواْ بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ}[البقرة: 186].

{قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا علَى أَنفُسِهِم لاَ تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً...}[الزّمر: 53].

تلك هي قاعدة الأمل في مسيرة الحياة العمليّة للدعاة إلى الله، عندما يواصلون الدعوة مع المذنبين والمنحرفين للرجوع إلى الله، فهي تلتقي بالأمل بطبيعة الأشياء في الحياة من جهة، وبرحمة الله الواسعة الممتدّة إلى ما لا نهاية من جهة أخرى.

ولا بدّ للدّاعية أن يفهم أن دعوته لا تقتصر في نتائجها على الوصول إلى النّتائج العمليّة لدى الناس فحسب، بل تتمثّل في هدف يشمل العمل كلّه ويطبعه بطابعه، وهو المعذرة إلى الله، وإقامة الحجّة على الناس، حتى يرى الله أننا قد بذلنا كلّ جهد في هذا السّبيل، وأننا قد أعذرنا إليه في كلّ عمل، وفي كلّ دعوة.

لقد أرادت الآية في هذا الحوار الخاطف، أن تقول لنا ذلك كلّه، أو توحي إلينا به، ليظلّ الإيمان بالتجربة الرائدة المستمرة المتكرّرة هو سبيلنا إلى الحياة، وإلى العمل في سبيل الله، وليختفي المخذلون واليائسون والمستسلمون من طريق العمل؛ هؤلاء الذين يبحثون عن أوهام الظلام في حقائق النور، ليشحنوا به دعوات الانهزاميّة، بدلاً من أن يبحثوا عن لمعات النور في أحداث الظلام، ليبعثوا التفاؤل في قلوب المتشائمين، والأمن والأمل في حياة الخائفين واليائسين.

وبهذا يتّضح لنا الفارق بين الشخصيّتين، المتفائلة والمتشائمة.

فالأولى هي التي تحدّد خطواتها في الحياة من خلال تفجير إمكاناتها، واستنزاف كلّ قطرة للحياة في داخلها، لاستثمارها في زراعة مساحة جديدة من مساحات الأمل الواقعي، وبالتالي، اعتبار التجربة العميقة أساساً للحكم وللعذر، والابتعاد عن التجارب السطحية التي لا تكلّف الإنسان إلا نظرة بلهاء على مظاهر الواقع الذي قد يخفي الكثير مما لا يظهر على السّطح.

أما الثانية، فهي التي تريد أن تنتهي من القضيّة سريعاً، فتخضع للظواهر السطحيّة التي لا تبشّر بالامتداد الواقعي للأمل، وبذلك يصبح اليأس أقرب نقطة إلى الهروب والتبرير في مجال الحياة العمليّة.

إنه الفرق بين الذين ينظرون إلى السطح عند اكتشاف الينابيع، فيظلون يعيشون الحياة في أوهام السّراب؛ وبين الذين ينفذون إلى الأعماق بأنظارهم وبممارساتهم العمليّة، فترتوي قلوبهم وعيونهم ووجداناتهم، ويملؤون الحياة ـ من خلال ذلك ـ بالريّ والخصب والحياة. إنّه الجوّ القرآني الرائع النابض بالحياة، نلتقيه في هذه الآية وفي كلّ الآيات، لنعيش فيه كلّ ذلك، في صورة لا تتّسع ملامحها لمساحاتٍ كبيرة من الخطوط، ولكنّها تتدفّق في أعماقها ومعطياتها بالكثير الكثير من الينابيع الصافية الطاهرة التي تنساب حبّاً وحياة وقوة وسلاماً.

*من كتاب الحوار في القرآن.

{وإِذ قَالَت أُمَّةٌ مِنهُم لِمَ تَعِظُونَ قَوماً اللهُ مُهلكُهُم أَو مُعَذِّبُهُم عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعذِرَةً إلَى رَبِّكُم وَلَعَلَّهُم يَتَّقُونَ}[الأعراف: 164].

في هذه الآية الكريمة، حوار قصير خاطف بين نموذجين من النّاس، حول الموقف الذي ينبغي اتّباعه إزاء بعض الناس الذين يمتدّون في الانحراف عملاً وفكراً إلى درجة قصوى، بحيث يخيَّل لمن يراقب أوضاعهم وأعمالهم، أنّ محاولة هدايتهم يائسة، فقد خاب الأمل من هؤلاء، ووقفوا بعيداً بعيداً عن رحمة الله وغفرانه، فلا مجال ـ بعد ذلك ـ لأيّة تجربة يخوضها العاملون من أجل إصلاحهم وإرجاعهم إلى الله.

ويقف بعض العاملين في سبيل الله أمام هذه الظاهرة موقفاً رساليّاً، لشعورهم الأصيل بأنّ مهمّتهم الأصيلة هي السّماح لعوامل الخير في التحرّك، في غمار الأكداس الهائلة من الشرّ التي تحجَّرت بفعل الزمن، فأصبحت حاجزاً ضخماً يسدّ الطريق أمام ظهور عوامل الخير الراقدة في الأعماق، فيقف العاملون إزاءها، بالموعظة تارةً، وبالعنف أخرى، أملاً في انهيار الحاجز الصخري من الداخل الذي يمثّل قوّة الخير، ومن الخارج الذي يهيِّئ الجو للحركة والاندفاع.

والهدف ـ كما يرى هؤلاء ـ أن يظلّ الأمل متحركاً في الحياة، كي تبقى ولا تتجمّد في الطريق إلى الموت. ففي الظلمة، تطلّ خيوط النور، تتحرّك من النجوم تارةً، ومن القمر أخرى، ومن أحلام الفجر التي تدغدغ أجفان الكون آخر اللّيل، وتستمرّ خيوط النّور في الحركة، وتتّسع، ويطلع فجر يومٍ جديد.

وفي ظلمات الشّكّ التي تزرع نفس الإنسان وفكره، تظلّ خطوات اليقين تقطع الطريق نحو الفكر النيّر الذي يغمر النفس بالشّعاع الهادئ حتى الطمأنينة والهدوء.

وفي غياب الضّلال، يبرز الهدى حُلُماً قريباً وادعاً لذيذاً، كمثل الشلَّال المتدفّق من أعماق الينبوع.

إنّ ذلك كلّه يجعل الأمل بالخير وبالنّور والهدى، حقيقةً من الحقائق التي بنيت عليها الحياة، تعرض نفسها في أكثر من مجال.

وعلى خطى الأمل والواقعيّة، يتحرّك الدعاة والمصلحون في سبيل القضايا الكبيرة، في حركةٍ رساليّة تتطلّع إلى القمم، بالرّغم من كلّ العقبات والصعوبات التي تعترض سبيل المتحرّكين على السفح في طريقهم إلى القمّة.

أمّا إذا كانت القضيّة قضيّة المسافة الروحيّة والنفسيّة التي قطعوها وهم يبتعدون عن الله، أو قضيّة الجسور التي نسفوها بينهم وبين الله، فلم يعد لديهم جسر يربط بين الضفّتين؛ ضفة الدنيا حيث يقفون ويتخبّطون، وضفّة الآخرة حيث تفيض ألطاف الله على عباده خيراً ومغفرة ورضواناً.

أمّا إذا كانت القضية قضية علاقتهم بالله، فما أسهل الأمر وما أهونه! فقد أعدّ الله الجسور للتائبين في كلّ وقت وفي كل مرحلة، تقرّبهم إليه، وتربطهم به، وتوفّر عليهم العودة إلى بدايات الطريق، كما حدَّثنا سبحانه في أكثر من آية، عندما دعا المذنبين إليه، وعرَّفهم أنهم مهما ابتعدوا، فهو قريب إليهم، يستمع إليهم وإلى نجواهم وابتهالاتهم في كلّ حين.

قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إِذَا دعَانِ فَليَستَجِيبُواْ لِي وَليُؤمِنُواْ بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ}[البقرة: 186].

{قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا علَى أَنفُسِهِم لاَ تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً...}[الزّمر: 53].

تلك هي قاعدة الأمل في مسيرة الحياة العمليّة للدعاة إلى الله، عندما يواصلون الدعوة مع المذنبين والمنحرفين للرجوع إلى الله، فهي تلتقي بالأمل بطبيعة الأشياء في الحياة من جهة، وبرحمة الله الواسعة الممتدّة إلى ما لا نهاية من جهة أخرى.

ولا بدّ للدّاعية أن يفهم أن دعوته لا تقتصر في نتائجها على الوصول إلى النّتائج العمليّة لدى الناس فحسب، بل تتمثّل في هدف يشمل العمل كلّه ويطبعه بطابعه، وهو المعذرة إلى الله، وإقامة الحجّة على الناس، حتى يرى الله أننا قد بذلنا كلّ جهد في هذا السّبيل، وأننا قد أعذرنا إليه في كلّ عمل، وفي كلّ دعوة.

لقد أرادت الآية في هذا الحوار الخاطف، أن تقول لنا ذلك كلّه، أو توحي إلينا به، ليظلّ الإيمان بالتجربة الرائدة المستمرة المتكرّرة هو سبيلنا إلى الحياة، وإلى العمل في سبيل الله، وليختفي المخذلون واليائسون والمستسلمون من طريق العمل؛ هؤلاء الذين يبحثون عن أوهام الظلام في حقائق النور، ليشحنوا به دعوات الانهزاميّة، بدلاً من أن يبحثوا عن لمعات النور في أحداث الظلام، ليبعثوا التفاؤل في قلوب المتشائمين، والأمن والأمل في حياة الخائفين واليائسين.

وبهذا يتّضح لنا الفارق بين الشخصيّتين، المتفائلة والمتشائمة.

فالأولى هي التي تحدّد خطواتها في الحياة من خلال تفجير إمكاناتها، واستنزاف كلّ قطرة للحياة في داخلها، لاستثمارها في زراعة مساحة جديدة من مساحات الأمل الواقعي، وبالتالي، اعتبار التجربة العميقة أساساً للحكم وللعذر، والابتعاد عن التجارب السطحية التي لا تكلّف الإنسان إلا نظرة بلهاء على مظاهر الواقع الذي قد يخفي الكثير مما لا يظهر على السّطح.

أما الثانية، فهي التي تريد أن تنتهي من القضيّة سريعاً، فتخضع للظواهر السطحيّة التي لا تبشّر بالامتداد الواقعي للأمل، وبذلك يصبح اليأس أقرب نقطة إلى الهروب والتبرير في مجال الحياة العمليّة.

إنه الفرق بين الذين ينظرون إلى السطح عند اكتشاف الينابيع، فيظلون يعيشون الحياة في أوهام السّراب؛ وبين الذين ينفذون إلى الأعماق بأنظارهم وبممارساتهم العمليّة، فترتوي قلوبهم وعيونهم ووجداناتهم، ويملؤون الحياة ـ من خلال ذلك ـ بالريّ والخصب والحياة. إنّه الجوّ القرآني الرائع النابض بالحياة، نلتقيه في هذه الآية وفي كلّ الآيات، لنعيش فيه كلّ ذلك، في صورة لا تتّسع ملامحها لمساحاتٍ كبيرة من الخطوط، ولكنّها تتدفّق في أعماقها ومعطياتها بالكثير الكثير من الينابيع الصافية الطاهرة التي تنساب حبّاً وحياة وقوة وسلاماً.

*من كتاب الحوار في القرآن.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية