ووقف على عليّ بن الحسين رجل فشتمه، فلم يكلّمه، فلما انصرف، قال لجلسائه: قد
سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه.
فقالوا له: نفعل، وقد كنّا نحبّ أن تقول له ونقول، فمشى وهو يقول: {وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فلمّا بلغ
منزله، وناداه، خرج إليه متوثّباً للشرّ، فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): "يا
أخي، إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً قلتَ وقلتَ، فإنْ كنت قد قلت ما فيّ، فأنا أستغفر
الله منه، وإنْ كنتَ قلت ما ليس فيّ، غفر الله لك"، فقبّل الرجل ما بين عينيه وقال:
بل قلتُ فيك ما ليسَ فيك وأنا أحقُّ به.
أيّها الأحبّة، نحن بحاجة إلى مثل هذا العقل البارد الذي ينطلق من قيمة روحيّة
إنسانيّة لا تحمل للآخرين الحقد حتى ولو أساؤوا إليها، بل تعيش في مستوى القيمة
الأريحيّة الرائعة، كما فعل كلّ هؤلاء، ولا سيّما مع مروان بن الحكم ومع ذلك الوالي.
وهنالك رجل رأي النبيّ محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام، فقال له إنّك
عندما سيطرت على مشركي مكة قلت: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ولكن ماذا فعل هؤلاء في أهلك؟ أرشده النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ حسب
الرواية ـــ إلى شاعر نظم مضمون القيمة الروحيّة في سلوك النبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) الأخلاقي مع مشركي مكّة، مقارناً بسلوك بني أميّة مع أهل البيت (عليهم
السلام) في هذه الأبيات:
ملكنا فكان العفوُ منّا سجيّةً فلمّا ملكتم سالَ بالدّمِ أبطحُ
وحلّلتمُ قتلَ الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوتُ بيننا وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ
إنّها الأخلاق الإسلامية ـــ أيها الأحبّة ـــ فالإمام انطلق من خلال أنّه الصورة
الصادقة للإنسان المسلم الذي يسمع قول الله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى}، ويسمع قول الله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فالمؤمن لا يحقد، بل إنّه يحبّ لأعدائه أن يهتدوا، كما
نقل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يبكي في عاشوراء، وقيل له لِمَ تبكي؟ قال
أبكي لهؤلاء الذين يعذّبهم الله بسببي، لأنّهم أقدموا على قتلي.. كان قلبه يفيض
رحمةً وحناناً وخوفاً على هؤلاء الّذين جاؤوا يقاتلونه.
هذا هو السموّ الأخلاقي ـــ أيّها الأحبّة ـــ فالأخلاق في الإسلام ليست تجاريّة،
الأخلاق ليست تبادل منفعة أن تصلني فأصلك، ولكن كما قال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم): "ثلاثُ خصالٍ من مكارم الأخلاق: تعطي مَنْ حَرَمَك، وتصل مَنْ قَطَعَك،
وتعفو عمّن ظَلَمَك".
أن تكون أخلاقك فعلاً نابعة من ذاتك، ومن عمق القيمة الأخلاقية في نفسك، لا أن تكون
ردّ فعل للآخرين، وهذا ما جسّده الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) في دعاء (مكارم
الأخلاق)؛ هذا الدعاء الوثيقة الإسلاميّة التي يعيش فيها الإنسان كلّ الخطوط
الأخلاقيّة التي ترفع مستوى إنسانيّة الإنسان: "وسددّني لأنْ أُعارِضَ مَنْ غشَّني
بالنصح، وأجزيَ مَن هجرني بالبرِّ، وأُثيب مَن حرمني بالبذل، وأُكافئ مَن قطعني
بالصلة، وأُخالف مَن اغتابني إلى حُسنِ الذكر، وأن أشكُرَ الحسنة وأُغضيَ عن
السيّئة".
*من كتاب النّدوة، ج 2.
ووقف على عليّ بن الحسين رجل فشتمه، فلم يكلّمه، فلما انصرف، قال لجلسائه: قد
سمعتم ما قال هذا الرّجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردّي عليه.
فقالوا له: نفعل، وقد كنّا نحبّ أن تقول له ونقول، فمشى وهو يقول: {وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فلمّا بلغ
منزله، وناداه، خرج إليه متوثّباً للشرّ، فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): "يا
أخي، إنّك كنت قد وقفت عليّ آنفاً قلتَ وقلتَ، فإنْ كنت قد قلت ما فيّ، فأنا أستغفر
الله منه، وإنْ كنتَ قلت ما ليس فيّ، غفر الله لك"، فقبّل الرجل ما بين عينيه وقال:
بل قلتُ فيك ما ليسَ فيك وأنا أحقُّ به.
أيّها الأحبّة، نحن بحاجة إلى مثل هذا العقل البارد الذي ينطلق من قيمة روحيّة
إنسانيّة لا تحمل للآخرين الحقد حتى ولو أساؤوا إليها، بل تعيش في مستوى القيمة
الأريحيّة الرائعة، كما فعل كلّ هؤلاء، ولا سيّما مع مروان بن الحكم ومع ذلك الوالي.
وهنالك رجل رأي النبيّ محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام، فقال له إنّك
عندما سيطرت على مشركي مكة قلت: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ولكن ماذا فعل هؤلاء في أهلك؟ أرشده النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـــ حسب
الرواية ـــ إلى شاعر نظم مضمون القيمة الروحيّة في سلوك النبيّ (صلّى الله عليه
وآله وسلّم) الأخلاقي مع مشركي مكّة، مقارناً بسلوك بني أميّة مع أهل البيت (عليهم
السلام) في هذه الأبيات:
ملكنا فكان العفوُ منّا سجيّةً فلمّا ملكتم سالَ بالدّمِ أبطحُ
وحلّلتمُ قتلَ الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوتُ بيننا وكلُّ إناء بالذي فيه ينضحُ
إنّها الأخلاق الإسلامية ـــ أيها الأحبّة ـــ فالإمام انطلق من خلال أنّه الصورة
الصادقة للإنسان المسلم الذي يسمع قول الله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى}، ويسمع قول الله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ
كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فالمؤمن لا يحقد، بل إنّه يحبّ لأعدائه أن يهتدوا، كما
نقل أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان يبكي في عاشوراء، وقيل له لِمَ تبكي؟ قال
أبكي لهؤلاء الذين يعذّبهم الله بسببي، لأنّهم أقدموا على قتلي.. كان قلبه يفيض
رحمةً وحناناً وخوفاً على هؤلاء الّذين جاؤوا يقاتلونه.
هذا هو السموّ الأخلاقي ـــ أيّها الأحبّة ـــ فالأخلاق في الإسلام ليست تجاريّة،
الأخلاق ليست تبادل منفعة أن تصلني فأصلك، ولكن كما قال رسول الله (صلّى الله عليه
وآله وسلّم): "ثلاثُ خصالٍ من مكارم الأخلاق: تعطي مَنْ حَرَمَك، وتصل مَنْ قَطَعَك،
وتعفو عمّن ظَلَمَك".
أن تكون أخلاقك فعلاً نابعة من ذاتك، ومن عمق القيمة الأخلاقية في نفسك، لا أن تكون
ردّ فعل للآخرين، وهذا ما جسّده الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) في دعاء (مكارم
الأخلاق)؛ هذا الدعاء الوثيقة الإسلاميّة التي يعيش فيها الإنسان كلّ الخطوط
الأخلاقيّة التي ترفع مستوى إنسانيّة الإنسان: "وسددّني لأنْ أُعارِضَ مَنْ غشَّني
بالنصح، وأجزيَ مَن هجرني بالبرِّ، وأُثيب مَن حرمني بالبذل، وأُكافئ مَن قطعني
بالصلة، وأُخالف مَن اغتابني إلى حُسنِ الذكر، وأن أشكُرَ الحسنة وأُغضيَ عن
السيّئة".
*من كتاب النّدوة، ج 2.