كتابات
16/03/2020

ما هو دور إبليس مع الإنسان؟

ما هو دور إبليس مع الإنسان؟

ما هو دور إبليس أمام الإنسان؟ هل يمثّل القوّة الطاغية التي تشلّ إرادة الإنسان وتحيط به من بين يديه ومن خلفه، حتى لا تترك له مجالاً للسير في خط الطاعة والانسجام مع إرادة الله؟

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نفهم تسليط الله له على الإنسان، وكيف ينسجم ذلك مع عدالة الله الذي يتوعّد الإنسان على المعصية بالعذاب، في الوقت الذي يسلّط عليه الشيطان الذي يجبره على المعصية؟

قد تكون هذه الصورة هي الصورة المألوفة لدى الكثير من أفراد الطبقات الشعبية، التي تحاول في كثيرٍ من أوضاعها المنحرفة إلقاء المسؤوليّة على الشيطان، وتبرئ نفسها من مسؤولية الانحراف، باعتبار خضوعها الطبيعي لأساليب الشيطان وخطواته. ولكن الصورة القرآنية هي غير ذلك.

فليس للشيطان إلا أن يحاول الإضلال بالوسوسة تارة، وبإثارة الوعود الكاذبة والتمنيات المعسولة، وخلق الأجواء المغرية أخرى.

أمّا الإنسان، فإنه يملك، أمام ذلك، العقل الواعي الذي يميز بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والرسالات السماوية التي تفتح للإنسان سبل معرفة ما يسلكه من طرق تؤدّي إلى الله، والإرادة القويّة التي تساعده على تحديد المواقف واستقامة الخطى على الصّراط المستقيم. وهذا ما يجعل الصّراع بين الشيطان والإنسان صراعاً متكافئاً، يملك فيه الإنسان الاختيار بين أن يريد أو لا يريد، فيلتقي فيه بكلّ النوازع الشرّيرة، وبكلّ الأجواء المغرية، وبكل الوسوسات الشيطانيّة... فيصارعها بعقله وإيمانه وإرادته، ليقف منها موقف القويّ القادر الذي لا يستسلم ولا ينهار أمام كلّ عوامل الضعف والانهيار.

وقد أثار القرآن أمامنا ـ في تصويره لشخصيَّة الشيطان ودوره في إضلال الإنسان ـ الشعور بقوَّة الإنسان المؤمن على مواجهة كلّ قوى الشرّ، بما يملك من عقل وإيمان، إذا استعمل تلك القوى في عملية الصراع. أمّا الذين يخضعون له، فليس بسبب ضعف ذاتي، بل بسبب تجميد القوى التي يملكونها وتعطيلها عن الحركة والامتداد، ومواجهتهم له دون سلاح، فيقعون صرعى أحابيله ومخطّطاته.

وعلى ضوء ذلك كلّه، نعرف كيف يكون خلود الشيطان مع الإنسان ـ الذي يملك كلّ الأسلحة القوية في الصراع ـ علامةً على الثقة بالإنسان؟ ليختار مصيره على أساسٍ من إرادته وقدرته، لا على أساس من الجبريّة والقهر الذي يجعله ريشة تتقاذفها الأقدار مع الرياح إلى مكان سحيق؛ إنّه الفرق بين الذي ينفعل بالأحداث ويخضع لها، وبين الذي يصنع قدره ويُخضع الأحداث لإرادته واختياره.

ونقف مع هذه النماذج القرآنية التي توحي لنا بهذا الدّور المميّز للإنسان مع الشيطان في أكثر من صورة:

{إن يَدعُونَ من دُونِهِ إلا إناثاً وَإِن يَدعُونَ إلاَّ شَيطاناً مَّرِيدا* لَّعنَهُ اللهُ وَقالَ لأَتَّخِذَنَّ مِن عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفرُوضاً* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلأمُرَنَّهُم فَلَيُبتِكُنَّ آذَانَ الأنعَامِ وَلأمُرَنَّهُ فَليُغَيّرُنَّ خَلقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَانَ وَليّا مِن دُونِ اللهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَاناً مُّبِيناً* يَعدُهُم وَيُمنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُم الشَّيطَانُ إلاَّ غُرُور}(النساء: 117-120).

{قَالَ أرءَيتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمتَ عَليَّ لَئِن أَخَّرتَنِ إلَى يَومِ القِيامَةِ لأَحتَنِكَنَّ ذُرِيَّتَهُ إلاَّ قَلِيلاً* قَالَ اذهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنهُم فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُم جَزاءً مَّوفُوراً* واستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخيلِكَ وَرِجلِكَ وَشَارِكهُم في الأموالِ والأولادِ وَعِدهُم وَمَا يَعدهُمُ الشَّيطَانُ إلاَّ غُرُوراً* إنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَليهِم سُلطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: 62-65).

{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرنِي إلى يَومِ يُبعَثُونَ* قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ* إلى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ* قَالَ رَبِّ بِما أغوَيتَنِي لأزَينَنَّ لَهُم في الأرضِ وَلأُغوِيَنَّهُم أجمَعِينَ* إلاَّ عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُستَقِيم* إنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر: 36-42).

{قَالَ فَبِمَا أَغوَيتَني لأَقعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُستَقِيمَ* ثُمَّ لأَتِينَّهُم مِن بَينِ أيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أيمَانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُم شَكِرِينَ* قَال اخرُج مِنها مَذءُوماً مَّدحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنهُم لأَملأنَّ مِنكُم أجمَعِينَ} (الأعراف: 16-18).

{وَقَال الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمرُ إنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُم فَأَخلَفُتُكم وَمَا كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أنفُسَكُم مّا أَنا بِمُصِرِخِكُم وَمَا أنتُم بِمُصِرِخيَّ إنِّي كَفَرتُ بِمَا أشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ إنَّ الظّالِمِينَ لهُمْ عذابٌ أليمٌ} (إبراهيم: 22).

إننا نلاحظ، من خلال هذه الآيات في حوار الشيطان مع الله، أنّه يعلن عن عزمه الانحراف بهم عن الخطّ المستقيم، وذلك بالإحاطة بهم من كلّ جانب، وتمنيتهم بالوعود المعسولة الكاذبة، في ما ينتظرهم من خير إذا انحرفوا عن الله. ويمنحه الله ما يريد من ذلك، ولكنّه يحذّره من الاستغراق في أوهامه وأحلامه، فهو لا يملك السّلطة المباشرة على الإضلال، فلا يستطيع إضلال من يريد الهدى ويعمل في سبيله، ولا يقدر على إغواء من يريد الرّشد ويسير على هداه، بل كلّ ما يستطيعه أن يُمنّي ويغري ويضغط ويوسوس، فيتبعه كلّ من يعيش للأماني والإغراءات، وينحني أمام الضغوط المتنوّعة من دون مقاومة. وهذا ما يعترف به الشيطان أمام الناس الذين ضلّوا بسببه، عندما يقف في يوم القيامة ليواجه حساب المسؤوليّة، فيتخلّص مما يريدون أن يحمِّلوه منها، بالإعلان لهم بأنّ دوره هو الإيحاء والدّعوة والوسوسة، دون أن يكون له سبيل إلى الإرادة التي تصنع الأعمال بشكل مباشر. وبهذا نعرف كيف تبتعد القضيّة عن أن تكون انحرافاً عن خطّ العدالة في تكوين الإنسان وتحريكه، وتبقى في إطارها الطّبيعي الذي أراده الله، وهي أن تكون سبيلاً من سبل إثارة الصّراع داخل الإنسان، ليختار طريقه من موقع الإرادة، لا من موقع القهر والإجبار. وهذا ما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى:

{وَلَقَد صَدَّقَ عَلَيهِم إبلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المؤمِنِينَ* ومَا كَانَ لَهُ مِن سُلطَان إلاَّ لِنَعلَمَ من يُؤمِنُ بالآخِرَةِ مِمَّن هُوَ مِنهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كل شَيءٍ حَفِيظٌ}(سبأ:20-21).

ولعلّ الصورة تتضح أكثر إذا تابعنا الآيات الكثيرة التي تعمل على إثارة الإنسان ودعوته إلى أن يتّخذ من الشيطان موقف العداوة، الذي لا مهادنة منه ولا مجاملة، وتوجيهه إلى امتلاك تقرير مصيره بعيداً من تسويلات الشيطان وتهويلاته.

{فَإذَا قَرَأتَ القُرآن فَاستَعِذ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ* إنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ* إنَّما سُلطانه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ والَّذِينَ هُم بِهِ مُشرِكُونَ} (النحل: 98-100).

{إنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أصحَابِ السَّعِيرٌ} (فاطر: 6).

{وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللهِ إنَّهُ سَميعٌ عَلِيمٌ* إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مِّبصِرُونَ* وَإخوَانُهُم يَمُدُّونَهُم فِي الغيِّ ثُمَّ لاَ يُقصِرُونَ} (الأعراف: 200-202).

وقد لاحظنا ـ ونحن نتابع أجواء الحوار الذي نقله لنا القرآن، في حوار الشّيطان مع الله ـ كيف يقف هذا المخلوق من الإنسان، موقف الحاقد الّذي يريد أن ينتقم ويدمّر الإنسان ويعمل على الإساءة إلى المكانة الرّفيعة التي وضعه الله فيها، كردّ فعل على إبعاد الله له عن ساحة رحمته؛ ما يجعلنا لا نجد أيّ ظلّ للفكرة المزعومة التي تتحدّث عن عنصر المأساة في ذاته المؤمنة الموحّدة، التي لا ترضى بديلاً من عبادة الله، بل نجد، مكانها، صورة الكائن الذي يخضع لأنانيته المرضية، سواء في رفضه لأوامر الله، أو في مواقفه الخاضعة لردود الفعل الذاتيّة، دون نظرٍ إلى نتائجها السيّئة على مصيره في الدنيا والآخرة.

*من كتاب "الحوار في القرآن".

ما هو دور إبليس أمام الإنسان؟ هل يمثّل القوّة الطاغية التي تشلّ إرادة الإنسان وتحيط به من بين يديه ومن خلفه، حتى لا تترك له مجالاً للسير في خط الطاعة والانسجام مع إرادة الله؟

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نفهم تسليط الله له على الإنسان، وكيف ينسجم ذلك مع عدالة الله الذي يتوعّد الإنسان على المعصية بالعذاب، في الوقت الذي يسلّط عليه الشيطان الذي يجبره على المعصية؟

قد تكون هذه الصورة هي الصورة المألوفة لدى الكثير من أفراد الطبقات الشعبية، التي تحاول في كثيرٍ من أوضاعها المنحرفة إلقاء المسؤوليّة على الشيطان، وتبرئ نفسها من مسؤولية الانحراف، باعتبار خضوعها الطبيعي لأساليب الشيطان وخطواته. ولكن الصورة القرآنية هي غير ذلك.

فليس للشيطان إلا أن يحاول الإضلال بالوسوسة تارة، وبإثارة الوعود الكاذبة والتمنيات المعسولة، وخلق الأجواء المغرية أخرى.

أمّا الإنسان، فإنه يملك، أمام ذلك، العقل الواعي الذي يميز بين الخير والشر، والصلاح والفساد، والرسالات السماوية التي تفتح للإنسان سبل معرفة ما يسلكه من طرق تؤدّي إلى الله، والإرادة القويّة التي تساعده على تحديد المواقف واستقامة الخطى على الصّراط المستقيم. وهذا ما يجعل الصّراع بين الشيطان والإنسان صراعاً متكافئاً، يملك فيه الإنسان الاختيار بين أن يريد أو لا يريد، فيلتقي فيه بكلّ النوازع الشرّيرة، وبكلّ الأجواء المغرية، وبكل الوسوسات الشيطانيّة... فيصارعها بعقله وإيمانه وإرادته، ليقف منها موقف القويّ القادر الذي لا يستسلم ولا ينهار أمام كلّ عوامل الضعف والانهيار.

وقد أثار القرآن أمامنا ـ في تصويره لشخصيَّة الشيطان ودوره في إضلال الإنسان ـ الشعور بقوَّة الإنسان المؤمن على مواجهة كلّ قوى الشرّ، بما يملك من عقل وإيمان، إذا استعمل تلك القوى في عملية الصراع. أمّا الذين يخضعون له، فليس بسبب ضعف ذاتي، بل بسبب تجميد القوى التي يملكونها وتعطيلها عن الحركة والامتداد، ومواجهتهم له دون سلاح، فيقعون صرعى أحابيله ومخطّطاته.

وعلى ضوء ذلك كلّه، نعرف كيف يكون خلود الشيطان مع الإنسان ـ الذي يملك كلّ الأسلحة القوية في الصراع ـ علامةً على الثقة بالإنسان؟ ليختار مصيره على أساسٍ من إرادته وقدرته، لا على أساس من الجبريّة والقهر الذي يجعله ريشة تتقاذفها الأقدار مع الرياح إلى مكان سحيق؛ إنّه الفرق بين الذي ينفعل بالأحداث ويخضع لها، وبين الذي يصنع قدره ويُخضع الأحداث لإرادته واختياره.

ونقف مع هذه النماذج القرآنية التي توحي لنا بهذا الدّور المميّز للإنسان مع الشيطان في أكثر من صورة:

{إن يَدعُونَ من دُونِهِ إلا إناثاً وَإِن يَدعُونَ إلاَّ شَيطاناً مَّرِيدا* لَّعنَهُ اللهُ وَقالَ لأَتَّخِذَنَّ مِن عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفرُوضاً* وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلأمُرَنَّهُم فَلَيُبتِكُنَّ آذَانَ الأنعَامِ وَلأمُرَنَّهُ فَليُغَيّرُنَّ خَلقَ اللهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيطَانَ وَليّا مِن دُونِ اللهِ فَقَد خَسِرَ خُسرَاناً مُّبِيناً* يَعدُهُم وَيُمنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُم الشَّيطَانُ إلاَّ غُرُور}(النساء: 117-120).

{قَالَ أرءَيتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمتَ عَليَّ لَئِن أَخَّرتَنِ إلَى يَومِ القِيامَةِ لأَحتَنِكَنَّ ذُرِيَّتَهُ إلاَّ قَلِيلاً* قَالَ اذهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنهُم فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُم جَزاءً مَّوفُوراً* واستَفزِز مَنِ استَطَعتَ مِنهُم بِصَوتِكَ وَأَجلِب عَلَيهِم بِخيلِكَ وَرِجلِكَ وَشَارِكهُم في الأموالِ والأولادِ وَعِدهُم وَمَا يَعدهُمُ الشَّيطَانُ إلاَّ غُرُوراً* إنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَليهِم سُلطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: 62-65).

{قَالَ رَبِّ فَأَنظِرنِي إلى يَومِ يُبعَثُونَ* قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ* إلى يَومِ الوَقتِ المَعلُومِ* قَالَ رَبِّ بِما أغوَيتَنِي لأزَينَنَّ لَهُم في الأرضِ وَلأُغوِيَنَّهُم أجمَعِينَ* إلاَّ عِبَادَكَ مِنهُمُ المُخلَصِينَ* قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُستَقِيم* إنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر: 36-42).

{قَالَ فَبِمَا أَغوَيتَني لأَقعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُستَقِيمَ* ثُمَّ لأَتِينَّهُم مِن بَينِ أيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أيمَانِهِم وَعَن شَمائِلِهِم وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُم شَكِرِينَ* قَال اخرُج مِنها مَذءُوماً مَّدحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنهُم لأَملأنَّ مِنكُم أجمَعِينَ} (الأعراف: 16-18).

{وَقَال الشَّيطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمرُ إنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُم فَأَخلَفُتُكم وَمَا كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إلاَّ أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أنفُسَكُم مّا أَنا بِمُصِرِخِكُم وَمَا أنتُم بِمُصِرِخيَّ إنِّي كَفَرتُ بِمَا أشرَكتُمُونِ مِن قَبلُ إنَّ الظّالِمِينَ لهُمْ عذابٌ أليمٌ} (إبراهيم: 22).

إننا نلاحظ، من خلال هذه الآيات في حوار الشيطان مع الله، أنّه يعلن عن عزمه الانحراف بهم عن الخطّ المستقيم، وذلك بالإحاطة بهم من كلّ جانب، وتمنيتهم بالوعود المعسولة الكاذبة، في ما ينتظرهم من خير إذا انحرفوا عن الله. ويمنحه الله ما يريد من ذلك، ولكنّه يحذّره من الاستغراق في أوهامه وأحلامه، فهو لا يملك السّلطة المباشرة على الإضلال، فلا يستطيع إضلال من يريد الهدى ويعمل في سبيله، ولا يقدر على إغواء من يريد الرّشد ويسير على هداه، بل كلّ ما يستطيعه أن يُمنّي ويغري ويضغط ويوسوس، فيتبعه كلّ من يعيش للأماني والإغراءات، وينحني أمام الضغوط المتنوّعة من دون مقاومة. وهذا ما يعترف به الشيطان أمام الناس الذين ضلّوا بسببه، عندما يقف في يوم القيامة ليواجه حساب المسؤوليّة، فيتخلّص مما يريدون أن يحمِّلوه منها، بالإعلان لهم بأنّ دوره هو الإيحاء والدّعوة والوسوسة، دون أن يكون له سبيل إلى الإرادة التي تصنع الأعمال بشكل مباشر. وبهذا نعرف كيف تبتعد القضيّة عن أن تكون انحرافاً عن خطّ العدالة في تكوين الإنسان وتحريكه، وتبقى في إطارها الطّبيعي الذي أراده الله، وهي أن تكون سبيلاً من سبل إثارة الصّراع داخل الإنسان، ليختار طريقه من موقع الإرادة، لا من موقع القهر والإجبار. وهذا ما توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى:

{وَلَقَد صَدَّقَ عَلَيهِم إبلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلاَّ فَرِيقاً مِنَ المؤمِنِينَ* ومَا كَانَ لَهُ مِن سُلطَان إلاَّ لِنَعلَمَ من يُؤمِنُ بالآخِرَةِ مِمَّن هُوَ مِنهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كل شَيءٍ حَفِيظٌ}(سبأ:20-21).

ولعلّ الصورة تتضح أكثر إذا تابعنا الآيات الكثيرة التي تعمل على إثارة الإنسان ودعوته إلى أن يتّخذ من الشيطان موقف العداوة، الذي لا مهادنة منه ولا مجاملة، وتوجيهه إلى امتلاك تقرير مصيره بعيداً من تسويلات الشيطان وتهويلاته.

{فَإذَا قَرَأتَ القُرآن فَاستَعِذ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ* إنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُونَ* إنَّما سُلطانه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّونَهُ والَّذِينَ هُم بِهِ مُشرِكُونَ} (النحل: 98-100).

{إنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أصحَابِ السَّعِيرٌ} (فاطر: 6).

{وَإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطَانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللهِ إنَّهُ سَميعٌ عَلِيمٌ* إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مِّبصِرُونَ* وَإخوَانُهُم يَمُدُّونَهُم فِي الغيِّ ثُمَّ لاَ يُقصِرُونَ} (الأعراف: 200-202).

وقد لاحظنا ـ ونحن نتابع أجواء الحوار الذي نقله لنا القرآن، في حوار الشّيطان مع الله ـ كيف يقف هذا المخلوق من الإنسان، موقف الحاقد الّذي يريد أن ينتقم ويدمّر الإنسان ويعمل على الإساءة إلى المكانة الرّفيعة التي وضعه الله فيها، كردّ فعل على إبعاد الله له عن ساحة رحمته؛ ما يجعلنا لا نجد أيّ ظلّ للفكرة المزعومة التي تتحدّث عن عنصر المأساة في ذاته المؤمنة الموحّدة، التي لا ترضى بديلاً من عبادة الله، بل نجد، مكانها، صورة الكائن الذي يخضع لأنانيته المرضية، سواء في رفضه لأوامر الله، أو في مواقفه الخاضعة لردود الفعل الذاتيّة، دون نظرٍ إلى نتائجها السيّئة على مصيره في الدنيا والآخرة.

*من كتاب "الحوار في القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية