يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال: 27].
في الإسلام، لا بدّ للإنسان المسلم أن يبني شخصيّته على الوفاء بكلّ التزاماته، سواء كانت هذه الالتزامات التزامات مع الله في إيمانه به واعتقاده بربوبيته ووحدانيته، وفي طاعته وعبادته وإخلاصه له سبحانه، أو في التزاماته مع الرسول (ص) في طاعته مما أوكل الله تعالى إليه الأمر في تبيانه للنّاس وتوجيههم إليه، وفي التزامات الإنسان في كلِّ ما يلتزمه مع الناس، وفي القضايا الكبرى التي تمسّ وطنه وأمّته، بحيث يبني الإنسان شخصيّته على أن يحترم التزامه، وعلى أن يحترم قضاياه وكلمته، لأنّ هذا هو معنى احترام الإنسان لنفسه، لأنّ القضيّة هي أنّك إذا التزمت بشيء ولم تفِ به، فإنّ معنى ذلك أنك تحتقر نفسك، لأنّك لم تفِ لها التزامها.
كيف يحترم الإنسان نفسه؟ أن تحترم نفسك، أن تكون منسجماً مع كلِّ ما تؤمن به، ومع كلّ ما تلتزمه في نفسك؛ مع الله والرّسول ومع الحياة، لأنّ التزامات الإنسان هي معنى إنسانيته ونفسه، التزاماتك هي أنت، لأنها تمثّل قرارك في موقفك وعلاقتك وفي كل شيء، فمن لم يفِ بالتزاماته، فهو لم يحترم نفسه؛ هكذا يجب أن نفهم المسألة.
وقضية الالتزام مع الله ومع الرّسول، هي بأن تكون مسلماً، وأن تسير على خطّ الإسلام، فعندما تقول وأنت تؤكّد إسلامك: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله"، إنّ هاتين الشهادتين تعبّران عن أنّك تلتزم بأنّ الله وحده هو الإله الذي يُطاع ويُعبد، وأنّ الرسول (ص) هو الذي أرسله الله إليك ليبلّغك وحيه ويعلّمك شريعته، وليوجّهك إلى كلّ ما فيه صلاح دينك ودنياك. فالشّهادة هي عبارة عن مطابقة اللسان للقلب، فلا انفصال بين الكلمة والفكر والقلب. لذلك، فإنّ الشّهادتين عندما تقرّ بهما وتنطق بهما، فإنهما التزام أمام الله والرّسول، بأنك لن تنحرف عن هذا الخطّ ولن تخون هذه الشّهادة.
لذلك، فإنّ كلّ من يلتزم في خطه الفكري والعملي خطاً غير خطّ الإسلام الذي أوحى به الله وجاء به الرّسول، هو خائن لله وللرّسول، هذه نقطة يجب أن نتفهمها. هناك من يقول إنني مسلم، ولكنّه يلتزم بالتزامات وتيارات تختلف مع الإسلام في قواعدها الفكريّة، وهذا مما لا يصحّ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران: 85]، فإذا كنت تريد أن تصبح ماركسياً أو ماسونياً، فلا تقل إني مسلم.
لذلك، كل من يلتزم التزاماً غير الإسلام فهو خائن لله وللرّسول، لأنه خان ما يعتقده وما يقرّ به. وهكذا، عندما تترك الصلاة والصوم والحج وما أمر الله به من العبادات، أو تترك ما فرضه الله عليك من التزامات ماليّة، فأنت خائن لالتزاماتك الإسلاميّة، لأنّ الله تعالى أمرك بذلك ولم تفعله، أو نهاك عنه وأنت تعمله، مثل بعض المسلمين الذين يغتابون ويزنون ويكذبون ويؤيّدون الظالمين، فإنهم خائنون لما التزموا به، لأنّ الإسلام التزام بالقلب واللّسان والعمل، وهذا ما عبّر عنه الإمام الباقر (ع): "خيانة الله والرّسول معصيتهما ـ بأن تترك ما أمراك به، وأن تفعل ما نهياك عنه ـ وأمّا خيانة الأمانة، فكلّ إنسان مأمون على ما افترض الله عليه" في كلّ التزاماتك. فالمعصية هي نوع من الخيانة العمليّة لله وللرسول، والتزام مبدأ آخر غير الإسلام، هو خيانة لأصل مبدأ الالتزام الإسلامي.
والله تعالى أمر الإنسان المسلم أن لا يخون أرض المسلمين، فلا يسلّط العدوّ عليها، فكل من يتجسّس لحساب المحتلّ ليمكّنه من أرضه أو من أمّته وشعبه، أو ليمكّنه من اقتصاده وأمنه وسياسته، فهو خائن لله وللرّسول، لأنّ الله والرّسول لا يريدان للإنسان أن يخون أرضه التي هي مركز عزّته وموقعه وموقع إسلامه، ولذلك قال عليّ (ع): "اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم". لهذا، فإن كلّ الذين يتعاملون مع قوات الاحتلال التي تعمل للسّيطرة على الأمّة في مقدّراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، هم خائنون لله وللرّسول، ولا سيّما أولئك الذين يتجسّسون لحساب المخابرات الصهيونيّة أو الأمريكيّة أو الأوروبيّة أو أيّ بلد يعادي واقع المسلمين والمستضعفين.
وهناك نقطة لا بدّ أن نفهمها من خلال القرآن الكريم، وهي أنه لا يجوز لنا أن ندافع عن أيّ خائن، سواء كان قريباً لنا أو بعيداً عنا، فالله تعالى يقول وهو يخاطب رسول الله (ص) ويخاطبنا من خلاله: {وَلَا تُجَادِلْ ـ لا تدافع ـ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}[النّساء: 107]، فقرابتك لله وللرّسول ولدينك ولمبدئك وأمّتك، أقوى من قرابتك لإنسان خائن هنا وهناك.
وقد ورد في كلام الرسول (ص) التحذير من عدّة أشياء، يقول (ص): "أربع لا تدخل بيتاً واحدة منهنّ إلا خَرِب ـ إن عاجلاً أو آجلاً ـولم يُعمَّر بالبَرَكة: الخيانة، والسّرقة، وشرب الخمر، والزّنى"، ويقول (ص): "ليس منا من خان الأمانة"، وفي حديث له (ص): "ليس منا من خان مسلماً في أهله وماله"، سواء خيانة العرض أو العدوان على أهله أو ماله.
وقد ورد عن الرسول (ص): "المكر والخديعة والخيانة في النّار"، ويقول (ص): "لا تخن من خانك تكن مثله"، قد تواجه من خانك، فتأخذ حقَّك منه، أمّا أن تخونه لأنّه خانك، فهذا ما يجعلك مثله. وفي حديث الإمام عليّ (ع): "جانبوا الخيانة، فإنها مجانِبة الإسلام"، فمن يلتزم خطّ الخيانة في حياته، يكن بعيداً عن الإسلام. ويقول (ع): "رأس النفاق الخيانة"، ويقول (ع): "من استهان بالأمانة، وقع في الخيانة".
وهناك نوع من الخيانة، وهي خيانة السرّ، فالسرّ أمانة، وقد ورد: "المجالس بالأمانة، وليس لأحد أن يحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلّا بإذنه"، ويقول النبيّ (ص): "إفشاء سرّ أخيك خيانة فاجتنب ذلك".
وهناك نقطة أخرى، وهي أن لا تكون أميناً للخونة فتساعدهم، يقول الإمام الجواد (ع): "كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة".
وهناك خيانة العلم، فلا بدّ لك عندما تريد أن تعطي العلم للنَّاس، أن تكون أميناً على هذا العلم، لتعطيهم علم الحقّ لا الباطل، فلا تغشّهم في ذلك، وقد ورد: "تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه، أشدّ من خيانته في ماله"، لأن المال يأتي ويذهب، أمّا عندما يعطيك فكرة على أساس أنها الحقّ وهي الباطل، وعلى أساس أنها العلم وهي الجهل، فإنّه يخرّب حياتك، لأنّك سوف تتحرّك من خلال ما أعطاك. يقول الإمام عليّ (ع): "أعظم الخيانة خيانة الأمة"، ويقول (ع): "شرّ الرّجال التجّار الخونة".
وهكذا تتنوّع الخيانة في كلّ مواردها، سواء في خيانة الودائع والأموال والعرض والسياسة والاقتصاد والأمن. لذلك، أن تكون مؤمناً، أن تكون وفيّاً في كلّ التزاماتك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
*من خطب الجمعة الدينيّة - العام 2005.