في إجابته عن سؤالٍ حول معنى الحريَّة وأبعادها وضوابطها، أجاب سماحة العلامة
المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله (رض):
"لا بدَّ من حوارٍ دائمٍ متنوِّع الأبعاد حول الحريّة، حتّى نستطيع أن نحمي الحياة
من بعض الحريّات.
بالحريّة نبدع، وبالحريّة نعطي، وبالحريّة نطوِّر الحياة ونُغني إنسانيَّتنا.
إنَّ هناك أبعاداً للحريَّة، فأنت عندما تفكِّر وتتحسَّس وتهفو وتتألَّم وتشتاق،
هذا الجوّ الذي تعيشه، لا يمكن أن يفرض عليك أحدٌ قيوده، لأنَّ ذلك هو أنت، هو
إنسانيّتك، هو فكرُك، وهو إحساسُك، ولذلك، فإنَّك تستطيع أن تفكِّر في كلّ شيء،
وتتحدَّث عن كلّ شيء.
ولكن عندما نريد أن نواجه مسألة الحريّة في حركة الكلمة المعلنة، أو المتحرِّكة، أو
في نطاق الحركة الحرّة للإنسان، في هذا المجال، فإنّ هناك سؤالاً لا بدَّ أن نسأله
لأنفسنا دائماً: هل هناك حريّةٌ مطلقة للحياة، وللإنسان في الحياة؟ هل للإنسان أن
يلهوَ كيفما كان، ويعبث كيفما كان، ويُحطِّم أيّ شيء كان، ويمتهن أيّ مشاعر وأيّ
أحاسيس؟
إنَّنا نقول: إنّ النّاس كلّهم، حتّى دعاة الحريّة يقولون: إنَّ الحريّة شيء
والفوضى شيءٌ آخر.
وإنَّني أتساءل محاكاةً لهذا السؤال: مَنْ الذي يُحدِّد هذا الشيء حريّة أو فوضى؟
ما هو أساس أن تكون فوضوياً أو حرّاً؟ قد يُقال لك لا بدَّ أن تكون منظَّماً في
عائلتك، وإنَّ عليك أن تراعي الجوّ العائلي، فلا تجعل حريّتك تُسيء إلى نظام
العائلة، أو نظام المجتمع، لا تجعل حريّتك تسيء إلى حياتك بأن تقتل حياتك، لا تمارس
حريّتك في أن تكون نصيراً للذين يدمِّرون بلدَك.. مَنْ الذي يحدِّد أنَّ هذا دمار،
أو أنَّ هذا بناء؟ مَنِ الذي يحدِّد أنّ هذا فوضى، أو أنَّ هذا نظام؟ ومَنِ الذي
يمكن أن يُوجِد الضّوابط؟
قصّة الحريّة في ضوابطها، قصّةٌ تتحرَّك في كلّ تاريخ الإنسان، إنَّ تاريخ الإنسان
كلّه في كلّ معاركه في مسألة الحريّة، فلسفياً واجتماعياً وسياسياً وما إلى ذلك، إنّ
كلّ هذا التاريخ يختصر المعركة فيما هي الحدود التي تفصل بين الحريّة والفوضى.
ولذلك، من الصعب جداً أن تجعل هناك خطّاً مطلقاً يفصل بينهما، ومن الصعب أن تجعل
هناك سلطة معيّنة تفصل بينهما، هذه السلطة قد تكون المجتمع، أو الخطوط الفكريّة
التي يلتزمها الناس، وقد تكون المقدَّسات التي تختزنها مشاعرُ الناس، بحيث يكون
اقتحامك لها اقتحاماً لمشاعر الناس.
إنّني لا أريد أن أتحدَّث عن ضوابط جاهزة للحريَّة، ولكنّني أقول: لا بدَّ من حوارٍ
دائم متنوّع الأبعاد حول الحريّة، حتّى نستطيع أن نحمي الحياة من بعض الحريّات،
ونحمي الحريّات من بعض ما يمكن أن تتحرَّك به بعض الجهات في الحياة، أو بعض الأوضاع..
قد يكون هذا كلاماً غير محدَّد.. ولكن ماذا نصنع إذا كانت الحريّة نسبيّة وليست
مطلقة، والنسبيّ يخضع دائماً للأجواء التي تحيط به تماماً كما هي نسبة وجودنا.
نحن نعيش الحريّة، لكن هل نملك حريّة أن ننتفض على أجسادِنا؟ هل نملك حريّة أن
نتجاوز حياتنا، بمعنى أن نتجاوز عناصر الحياة؟ إنَّ هناك شيئاً في حركة الإنسان
فيما ترتبط به قضيّة الحياة، تماماً كما هي الأشياء التي تعيش في تكوين الوجود فيما
ترتبط به حركة الوجود.. وهذه حركة طوعيّة يحدّدها الإنسان ليضبط حياته، وتلك حركة
جبريّة انطلق بها الكون في كلّ عناصر وجوده.
لذلك، لا أجدُ هناك جواباً محدَّداً يرضي الفضول، ولكنّني أقول: الأصلُ في الإنسان
أن يكون حرّاً؛ بالحريّة نبدع، وبالحريّة نعطي، وبالحريّة نطوِّر الحياة، وبالحريّة
نُغني إنسانيَّتنا. ولكنّ السؤال الكبير: أيّة حريّة هي التي تغني، وأيّة حريّة هي
التي تُفقر؟ هل الحريّة قيمةٌ فوق القِيَم؟ أم الحريّة قيمة في داخل القِيَم؟
هذا سؤال لا بدَّ للناس أن يثيروه في كلّ زمان ومكان".
*من كتاب "للإنسان والحياة".