تمثّل مفردات الخطاب القرآنيَّة نماذج للفكرة العامَّة، ورغم أنَّ الآيات كانت تنزل في مناسبات خاصَّة، إلا أنَّها لا تنحصر في خصوصيّتها بالشّخص أو الزّمن أو المكان، بل إنَّها تنطلق في عناصرها الحيويّة التي تتجاوز كلّ هذه الخصوصيّات. فمثلاً، عندما ندرس مسألة «الإفك»، والتي كانت تعبّر عن مشكلة عاشها النبيّ (ص) بعد اتهام إحدى زوجاته بالزّنا من قبل بعض النّاس، فقد نلاحظ أنَّها قضيّة خاصّة، لأنَّها قضيّة النبيّ في بيته وزوجته، ولكنَّه تحدّث عن الإفك وعن اتهام المحصنات، فتجاوز المسألة الخاصّة ليقدّمها كنموذج للكلام اللامسؤول الذي يمكن أن يوجّهه إنسان ضدّ أيّ رجل أو امرأة في ما لا يملك عليه أيّ حجّة، ليشير من ثمّ إلى أسلوب مواجهة هذه الإشاعات والتحفّظ في إثارتها.
وهكذا نجد أنَّ القرآن الكريم أثار قضيّة زوجة النبيّ (ص)، وهو ما يدفعنا إلى القول أنْ ليس هناك أيّ مورد من الموارد يمكن حصره في مناسبته الخاصّة أو في خصوصيّاته الجزئيّة.
وحتى عندما نسمع قول الله سبحانه وتعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}[النّور: 63]، فإنَّنا نسنوحي منه أنَّها ليست مسألة مختصّة بالنبيّ، بل تتجاوزه إلى كلّ موقع قياديّ لا بُدَّ أن يمارس النّاس في إطاره أسلوباً يوحي بالاحترام، بما يمكن أن يحقّق نتائج إيجابيّة للعلاقة بين القائد والنّاس الآخرين.
ولا شكّ أنَّ هذا النّوع من الاستقراء للقضايا الّتي أثارها القرآن في خطابه، يسمح لنا بأن نفهم ما أورده الإمام الباقر (ع): "ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم، ثم مات أولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السّماوات والأرض"، ما يدلّ على أنَّ القرآن يملك حركيّةً في مدى الزّمن وواقع المجتمعات.
وفي هذا السِّياق، فإنَّ من الطبيعيّ أنَّ كلّ كتاب، حتّى لو كان كتاباً ربّانياً، يخاطب النّاس الذين ينزل عليهم بما يفهمونه. فمثلاً، حين نقرأ هذه الآية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}[الأنفال:60]، نتوقّف عند مسألة إعداد القوّة في ساحات الصّراع العسكري التي تحقّق حالة إسقاط عنفوان العدوّ. والحديث عن الخيل هنا باعتباره المظهر الحيّ لآلة القوّة المتحركة التي تساعد على الإمساك بالعدوّ واللّحاق به، لكنَّنا نتجاوز هذه الخصوصيّة التي فرضتها طبيعة حركة القوَّة في الواقع بقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال: 60]، فنفهم أنَّ الخيل ليس لها خصوصيّة، وأنَّ هذه القوّة الآليّة أو آليّة القوّة، لا تمثل شيئاً في المطلق، بل تمثل الوسيلة لخلق الرعب في نفس العدوّ، حتى يتم إسقاطه نفسياً قبل إسقاطه عسكرياً. لذلك، نستطيع أن نفهم أنَّ الخاصّ يمثّل إحدى مفردات العام، وأنَّه لا يحصر العام في دائرته.
إنَّ الحياة يحكمها الخاصّ والعام، وهناك سننٌ تاريخيّة وقوانين كونيّة، والخصوصيات هنا تمثّل كيفيّة تجسّد العام في الواقع، والعام يوجد من خلال خصوصيّات نفرزها إلى قسمين: الأولى خصوصيّات تولد وتموت لأنَّه ليس لها مماثل، والثانية خصوصيات تولد وتعطي النموذج، فتصير عامّاً إلى جانب العام.
لذلك، نقول في هذا المجال، إنَّ هذه الخصوصية تارةً يمثّلها «أبو جهل» أو «أبو سفيان»، وهي الخصوصية من جهة الأشخاص التي تموت، لكنَّها من جهة أخرى تستمرّ حيّة، فذهنية «أبو جهل» مستمرّة في الزمن، لأنّها تمثّل ذهنية التمرد واللاحوار والعقدة النفسية والكبرياء.
إذاً، ليس معنى سحب العام من النموذج أن يتمّ التنكّر للخاصّ، فالعام لا يستطيع أن يكون إلّا خاصّاً، والمنهجيّة المطلوبة هي أن نأخذ المبدأ ونترك الحالة التي تموت. وبعبارة أخرى، أن نأخذ من الواقع ما يبقى ويتحرّك مع الزّمن ويتمظهر في أكثر من شكل ونترك ما يموت. والقرآن يؤكّد هذا المعنى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134] {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: 2].
*من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".

تمثّل مفردات الخطاب القرآنيَّة نماذج للفكرة العامَّة، ورغم أنَّ الآيات كانت تنزل في مناسبات خاصَّة، إلا أنَّها لا تنحصر في خصوصيّتها بالشّخص أو الزّمن أو المكان، بل إنَّها تنطلق في عناصرها الحيويّة التي تتجاوز كلّ هذه الخصوصيّات. فمثلاً، عندما ندرس مسألة «الإفك»، والتي كانت تعبّر عن مشكلة عاشها النبيّ (ص) بعد اتهام إحدى زوجاته بالزّنا من قبل بعض النّاس، فقد نلاحظ أنَّها قضيّة خاصّة، لأنَّها قضيّة النبيّ في بيته وزوجته، ولكنَّه تحدّث عن الإفك وعن اتهام المحصنات، فتجاوز المسألة الخاصّة ليقدّمها كنموذج للكلام اللامسؤول الذي يمكن أن يوجّهه إنسان ضدّ أيّ رجل أو امرأة في ما لا يملك عليه أيّ حجّة، ليشير من ثمّ إلى أسلوب مواجهة هذه الإشاعات والتحفّظ في إثارتها.
وهكذا نجد أنَّ القرآن الكريم أثار قضيّة زوجة النبيّ (ص)، وهو ما يدفعنا إلى القول أنْ ليس هناك أيّ مورد من الموارد يمكن حصره في مناسبته الخاصّة أو في خصوصيّاته الجزئيّة.
وحتى عندما نسمع قول الله سبحانه وتعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}[النّور: 63]، فإنَّنا نسنوحي منه أنَّها ليست مسألة مختصّة بالنبيّ، بل تتجاوزه إلى كلّ موقع قياديّ لا بُدَّ أن يمارس النّاس في إطاره أسلوباً يوحي بالاحترام، بما يمكن أن يحقّق نتائج إيجابيّة للعلاقة بين القائد والنّاس الآخرين.
ولا شكّ أنَّ هذا النّوع من الاستقراء للقضايا الّتي أثارها القرآن في خطابه، يسمح لنا بأن نفهم ما أورده الإمام الباقر (ع): "ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم، ثم مات أولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السّماوات والأرض"، ما يدلّ على أنَّ القرآن يملك حركيّةً في مدى الزّمن وواقع المجتمعات.
وفي هذا السِّياق، فإنَّ من الطبيعيّ أنَّ كلّ كتاب، حتّى لو كان كتاباً ربّانياً، يخاطب النّاس الذين ينزل عليهم بما يفهمونه. فمثلاً، حين نقرأ هذه الآية: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}[الأنفال:60]، نتوقّف عند مسألة إعداد القوّة في ساحات الصّراع العسكري التي تحقّق حالة إسقاط عنفوان العدوّ. والحديث عن الخيل هنا باعتباره المظهر الحيّ لآلة القوّة المتحركة التي تساعد على الإمساك بالعدوّ واللّحاق به، لكنَّنا نتجاوز هذه الخصوصيّة التي فرضتها طبيعة حركة القوَّة في الواقع بقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال: 60]، فنفهم أنَّ الخيل ليس لها خصوصيّة، وأنَّ هذه القوّة الآليّة أو آليّة القوّة، لا تمثل شيئاً في المطلق، بل تمثل الوسيلة لخلق الرعب في نفس العدوّ، حتى يتم إسقاطه نفسياً قبل إسقاطه عسكرياً. لذلك، نستطيع أن نفهم أنَّ الخاصّ يمثّل إحدى مفردات العام، وأنَّه لا يحصر العام في دائرته.
إنَّ الحياة يحكمها الخاصّ والعام، وهناك سننٌ تاريخيّة وقوانين كونيّة، والخصوصيات هنا تمثّل كيفيّة تجسّد العام في الواقع، والعام يوجد من خلال خصوصيّات نفرزها إلى قسمين: الأولى خصوصيّات تولد وتموت لأنَّه ليس لها مماثل، والثانية خصوصيات تولد وتعطي النموذج، فتصير عامّاً إلى جانب العام.
لذلك، نقول في هذا المجال، إنَّ هذه الخصوصية تارةً يمثّلها «أبو جهل» أو «أبو سفيان»، وهي الخصوصية من جهة الأشخاص التي تموت، لكنَّها من جهة أخرى تستمرّ حيّة، فذهنية «أبو جهل» مستمرّة في الزمن، لأنّها تمثّل ذهنية التمرد واللاحوار والعقدة النفسية والكبرياء.
إذاً، ليس معنى سحب العام من النموذج أن يتمّ التنكّر للخاصّ، فالعام لا يستطيع أن يكون إلّا خاصّاً، والمنهجيّة المطلوبة هي أن نأخذ المبدأ ونترك الحالة التي تموت. وبعبارة أخرى، أن نأخذ من الواقع ما يبقى ويتحرّك مع الزّمن ويتمظهر في أكثر من شكل ونترك ما يموت. والقرآن يؤكّد هذا المعنى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134] {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: 2].
*من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".