والحديث عن موقف الإسلام من المسؤوليَّة، يقف بنا في مدخل القضيّة عند مشارف "فلسفيّة" نطلّ منها على قضيّة "حريّة الإنسان" في "إرادته" وعند موقف الإسلام "النظري" من هذه الحريّة؛ فهل قضى على طائفة من بنى الإنسان أن تسلك طريق الشرّ، دون أن تملك القدرة على سلوك طريق الخير أو اختياره على الأقلّ، كما قدّر لفئة أخرى أن تسير في سبيل الخير، دون أن يكون لها في سيرها هذا إرادة أو اختيار؟
هل هناك مَن يحدّد للإنسان ـ في تكوينه ـ أن يكون ضالًّا أو مهتدياً، أو أنّ أرادة الإنسان هي التي تحدّد له طريقه وتملي عليه مصيره؟
تلك هي القضيّة التي تواجهنا في مدخل البحث عن المسؤوليّة، لأنّنا نعي ارتباط "المسؤوليّة" بقضيّة "الحريّة" هذه، نظراً إلى أنَّ الإنسان الذي لا يعيش الحريّة في إرادته، ولا يملك طريق السلب والإيجاب في عمله، لا يستطيع أن يحمل مسؤوليّة شيء، لأنّه إنسان عاجز أشلّ، يفقد القدرة والحركة بطبيعة الأغلال التي تغلّ إرادته وتقيّد خطاه، فهو عندما يفعل الخطأ، فإنَّما يفعله بطريقة آليّة مجرّدة تماماً كما تدور الآلة وتنتج.. والحالة هي الحالة عندما يفعل الصّواب.
وهكذا نعي تماماً كيف ترتبط المسؤولية بالحريّة، وكيف تصبح المسؤوليَّة بدون الحريّة الداخليّة قضيّة غير ذات موضوع لدى العقل والوجدان، كما يصوّرها الشاعر القديم في قوله:
ألقاهُ في اليمّ مكتوفاً وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء
ومن هنا، أطلق الإسلام قضية "حريّة الإرادة" كقضية أساسية في مبادئه وتعاليمه، وكحقيقة واقعة في وجدان الإنسان وكيانه، قبل أن يبعث فيه الشعور بالمسؤوليّة. ولم يكتفِ الإسلام بتقرير هذه القضيّة وهذه الحقيقة كفكرة فلسفيّة مجرّدة، وإنَّما حاول أنْ يركّزها في داخل الإنسان، ويعمِّقها في وجدانه، فقرَّر في أكثر من آية وفي أكثر من حديث، أنَّ ضلال الإنسان وهداه باختياره، وأنَّ مصيره بيده.. فقد منحه الله سبحانه القوّة، وهيَّأ له أسباب القدرة ومقدِّمات العمل، ولم يتركه وحده في الطّريق يتخبَّط في ظلماتها ويتيه في مجاهلها، بل فتح عينيه على مفترق الطّريق وعلى الدّروب التي تصل به إلى الخير أو إلى الشرّ، ثمّ تركه يواجه مصيره بنفسه، ويمارس حريّته بذاته، دون جبر أو قسر أو إكراه.
وهكذا، تنبع المسؤوليّة في الإسلام، من طبيعة الحريّة التي تمثّل لنا في الآية الكريمة: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان : 3] كيف يملك الإنسان بيده أمر مصيره، فهو الذي يختار طريق الخير فيكون شاكراً ومهتدياً، وهو الذي يختار طريق الشيطان ويشرد عن طريق الله، فيكون كافراً أو ضالاً، فإرادته هي التي تقرِّر مصيره، وقدرته هي التي توجّه خطاه.
بقي علينا أن نعطي صورة إجمالية عن طبيعة هذه الحريّة، حتّى لا نلتقي بالتفويض الفلسفي.. ولا نملك صورة أروع من الحديث الذي ورد عن الإمام الصّادق (ع): "لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين".
فهي من ناحية تتّصل بـ "الجبر" من حيث ارتباط القدرة بالله، لأنّه هو منحها للإنسان، بكلّ ما يرتبط بها من مقدِّمات وأسباب، وهو القادر على سلبها عنه، ومن ناحية أخرى، تتَّصل بـ "التفويض"، لأنَّ الله بعد أن وهب الإنسان هذه القدرة، تركه لها، فلم يفرض عليه ـ في تكوينه ـ أن يعمل قدرته في جانب دون آخر، بل فوَّض إليه أمر الاختيار، فله أن يفعل وله أن يترك، دون أن يكون هناك ما يجبره على الفعل وما يقهره على الترك.
وماذا يبقى للإنسان بعد ذلك؟ إنّه يستطيع الآن أن يواجه مسؤوليَّته.
وهنا نستطيع أن نتحدَّث عن موقف الإسلام من المسؤوليّة. ونحسب أنّ بإمكاننا القول بأنَّ الإسلام وضعها في مركز القاعدة من تنظيماته وتخطيطاته.
وكدليل على ذلك، نجد أمامنا الحديث الشّريف: "كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعِيَّته".
فقد انطلقت بهذه الكلمة القاعدة الإسلاميّة للمسؤوليّة كأساس للحياة الفرديّة والاجتماعيّة في المجالين الداخلي والخارجي.
والملحوظ في هذا الحديث، أنّ المسؤوليّة هنا لم تفرض كتكليف أو إلزام ابتدائي "مفروض" من الخارج، كما يفرض أيّ تشريع قانوني، أو بالأحرى لم يرد لها أن تنبع من خارج ذات الإنسان، من سلطة تفرض عليه القيود والحدود، بل أُريدَ لها أن تنبع من داخل ذاته، من مشاعره الإنسانيّة، وأن تنطلق من أعماقه بعفويّة محبَّبة إلى النّفس.. ونلمس ذلك في الفقرة الأولى: "كُلُّكُم راعٍ..."، فإنّها توقظ في نفس الإنسان الشعور بنوعيّة الصلة التي تربطه بالآخرين الذين تتّصل إرادتهم بإرادته، وعواطفهم بعواطفه، وفكرهم بفكره.
إنَّها تحدِّد هذه الصلة بينه وبينهم، فليست هي صلة العبث واللّهو واللامبالاة، لتتمثَّل في الحياة اللاهية العابثة التي يحياها الإنسان في مجالات اللّهو والعبث، وليست صلة الكبرياء والأنانيّة والطغيان، لتتمثَّل في الحياة الظالمة التي يحياها الظالمون والطغاة في مجالات الظّلم والطّغيان.
وإنَّما هي صلة الراعي برعيّته، بكلّ ما للرّاعي من معاني الرعاية والإشراف والتّوجيه والحكمة.. وغير ذلك من المعاني التي تفرضها طبيعة هذه الصّفة إذا عاشها الإنسان في داخل ذاته شعوراً وحسّاً عميقاً بمعناها الواسع العميق، لا أداة للسّلطة والغلبة والكبرياء.
وإذا أحسّ الإنسان بهذه الصّلة التي تربطه بالآخرين حيّة في أعماقه، متّصلة بمشاعره وعواطفه، بفكره وعقله، فمن الطبيعي أن تسير حياته في هذا السّبيل.. وهنا ينطلق الشعور بالمسؤوليّة انطلاقاً عفويّاً داخل ذاته.
وبذلك نستطيع أن نعتبر الفقرة الثانية: "وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعِيَّته" نتيجة طبيعيّة للمشاعر والأحاسيس التي تثيرها الفقرة الأولى في داخل الإنسان، لأنّها من مقوّمات "الراعوية" ومستلزماتها الذاتية.. ولذا، فهي تفقد حقيقتها وذاتها عندما نفقد المسؤوليّة، لأنّها تنقلب حينئذٍ إلى صفة الإهمال واللامبالاة وغيرها من الصّفات التي قد تلتقي بأيّ معنى من المعاني.. ولكنّه لن يكون المعنى الذي يمثّل الرعاية والإشراف والتوجيه على كلّ حال.
بقي علينا أنْ نتمثَّل في الفقرة الأولى، كيف يمكن لهذا الحديث أن يفرض كلاًّ منّا راعياً؟
فقد يبدو لنا أنَّ مثل هذه الصفة التي تتّصل بداخل الذّات الإنسانيّة ـ لأنّها تلتقي، في مسؤوليّتها العمليّة بقِيَم الإسلام الروحيّة ومثله العليا ـ لن تحصل بتشريع قانوني مجرّد، أو اعتبار شرعي خاص، لأنَّ التشريع يمثّل ـ فيما يمثّل ـ القوانين والاعتبارات التي تتعلَّق بأحكام الإنسان وأقواله التي تنظّم له حياته الداخليّة والخارجيّة من الوجهة القانونيّة، ولكنّها لن تستطيع أن تجعل منه إنساناً منظَّماً، لأنَّ التنظيم الداخلي للإنسان تابع للملكات النفسيّة التي تسيطر على كيانه، وتوجّه أفعاله وأقواله، وليس للتشريع إلاَّ مهمَّة التمهيد لإيجاد هذه الملكات بالتّدريب العملي الأفضل. ومن هنا، فلا يستطيع أن يعتبر للإنسان صفة داخليّة، وإنّما يحاول أن يوجدها.
و"الراعوية" ـ كما قلنا ـ إحساس داخلي ينبع من ذات الإنسان، ومن شعوره بقضيّة أو فكرة أو مبدأ، تجاه الآخرين الذين تتّصل حياتهم بمسؤوليّته، فلا يصير الإنسان راعياً بمجرَّد أن نعتبره راعياً ما لم تكن هذه الصّفة حيّة في أعماقه ومشاعره.
تلك هي القضيّة التي تواجهنا ونحن نعيش الفقرة الأولى: "كُلُّكُم راعٍ..."
ولكنَّنا نحسب أنّ الحديث يقرِّر هنا حقيقة واقعة، أو قضيّة موضوعيّة؛ إنّه لا يريد أن يفرض "الراعوية" في حياة كلٍّ منّا ويعتبرها اعتباراً، وإنّما يريد أن يثيرها في أعماقنا، أن يوقظ فينا الشعور بالاهتمام بالآخرين، وبحياة الآخرين، وبعقيدة هؤلاء الآخرين.
فالنّداء موجّه إلى كلّ مسلم يعيش إسلامه ويحياه، ويحسّ به في داخل كيانه وفي صميم ذاته، ويتمثّله في صفائه ونقائه، في الانطلاقة الروحية التي يمنحها لمجتمعه، في الحياة الخصبة الرخيّة التي يثيرها في مجاله الحياتي العام، في الطمأنينة النفسية التي تسود كيانه وحياته.
إنَّ المسلم الّذي يعيش هذه المعاني ويتمثّلها، سوف يتمثّل في الوقت ذاته مدى ما يستطيع أن يقدّمه للنّاس من حياة رخيّة حرّة، ومدى ارتباط هذه المعاني التي يعيشها بهؤلاء النّاس، نتيجة اتّصال أهدافها بحياتهم وبواقعهم الاجتماعي والفردي.
وإذا تمثّل المسلم هذا الواقع في نفسه، وعاشه في حياته الفكرية والعاطفية، فقد تمثّل الراعوية بأعمق معانيها. وهكذا نعرف كيف يفرض الحديث الشريف كلّ مسلم راعياً.
*من كتاب "آفاق إسلاميّة".
والحديث عن موقف الإسلام من المسؤوليَّة، يقف بنا في مدخل القضيّة عند مشارف "فلسفيّة" نطلّ منها على قضيّة "حريّة الإنسان" في "إرادته" وعند موقف الإسلام "النظري" من هذه الحريّة؛ فهل قضى على طائفة من بنى الإنسان أن تسلك طريق الشرّ، دون أن تملك القدرة على سلوك طريق الخير أو اختياره على الأقلّ، كما قدّر لفئة أخرى أن تسير في سبيل الخير، دون أن يكون لها في سيرها هذا إرادة أو اختيار؟
هل هناك مَن يحدّد للإنسان ـ في تكوينه ـ أن يكون ضالًّا أو مهتدياً، أو أنّ أرادة الإنسان هي التي تحدّد له طريقه وتملي عليه مصيره؟
تلك هي القضيّة التي تواجهنا في مدخل البحث عن المسؤوليّة، لأنّنا نعي ارتباط "المسؤوليّة" بقضيّة "الحريّة" هذه، نظراً إلى أنَّ الإنسان الذي لا يعيش الحريّة في إرادته، ولا يملك طريق السلب والإيجاب في عمله، لا يستطيع أن يحمل مسؤوليّة شيء، لأنّه إنسان عاجز أشلّ، يفقد القدرة والحركة بطبيعة الأغلال التي تغلّ إرادته وتقيّد خطاه، فهو عندما يفعل الخطأ، فإنَّما يفعله بطريقة آليّة مجرّدة تماماً كما تدور الآلة وتنتج.. والحالة هي الحالة عندما يفعل الصّواب.
وهكذا نعي تماماً كيف ترتبط المسؤولية بالحريّة، وكيف تصبح المسؤوليَّة بدون الحريّة الداخليّة قضيّة غير ذات موضوع لدى العقل والوجدان، كما يصوّرها الشاعر القديم في قوله:
ألقاهُ في اليمّ مكتوفاً وقال له: إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء
ومن هنا، أطلق الإسلام قضية "حريّة الإرادة" كقضية أساسية في مبادئه وتعاليمه، وكحقيقة واقعة في وجدان الإنسان وكيانه، قبل أن يبعث فيه الشعور بالمسؤوليّة. ولم يكتفِ الإسلام بتقرير هذه القضيّة وهذه الحقيقة كفكرة فلسفيّة مجرّدة، وإنَّما حاول أنْ يركّزها في داخل الإنسان، ويعمِّقها في وجدانه، فقرَّر في أكثر من آية وفي أكثر من حديث، أنَّ ضلال الإنسان وهداه باختياره، وأنَّ مصيره بيده.. فقد منحه الله سبحانه القوّة، وهيَّأ له أسباب القدرة ومقدِّمات العمل، ولم يتركه وحده في الطّريق يتخبَّط في ظلماتها ويتيه في مجاهلها، بل فتح عينيه على مفترق الطّريق وعلى الدّروب التي تصل به إلى الخير أو إلى الشرّ، ثمّ تركه يواجه مصيره بنفسه، ويمارس حريّته بذاته، دون جبر أو قسر أو إكراه.
وهكذا، تنبع المسؤوليّة في الإسلام، من طبيعة الحريّة التي تمثّل لنا في الآية الكريمة: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}[الإنسان : 3] كيف يملك الإنسان بيده أمر مصيره، فهو الذي يختار طريق الخير فيكون شاكراً ومهتدياً، وهو الذي يختار طريق الشيطان ويشرد عن طريق الله، فيكون كافراً أو ضالاً، فإرادته هي التي تقرِّر مصيره، وقدرته هي التي توجّه خطاه.
بقي علينا أن نعطي صورة إجمالية عن طبيعة هذه الحريّة، حتّى لا نلتقي بالتفويض الفلسفي.. ولا نملك صورة أروع من الحديث الذي ورد عن الإمام الصّادق (ع): "لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين".
فهي من ناحية تتّصل بـ "الجبر" من حيث ارتباط القدرة بالله، لأنّه هو منحها للإنسان، بكلّ ما يرتبط بها من مقدِّمات وأسباب، وهو القادر على سلبها عنه، ومن ناحية أخرى، تتَّصل بـ "التفويض"، لأنَّ الله بعد أن وهب الإنسان هذه القدرة، تركه لها، فلم يفرض عليه ـ في تكوينه ـ أن يعمل قدرته في جانب دون آخر، بل فوَّض إليه أمر الاختيار، فله أن يفعل وله أن يترك، دون أن يكون هناك ما يجبره على الفعل وما يقهره على الترك.
وماذا يبقى للإنسان بعد ذلك؟ إنّه يستطيع الآن أن يواجه مسؤوليَّته.
وهنا نستطيع أن نتحدَّث عن موقف الإسلام من المسؤوليّة. ونحسب أنّ بإمكاننا القول بأنَّ الإسلام وضعها في مركز القاعدة من تنظيماته وتخطيطاته.
وكدليل على ذلك، نجد أمامنا الحديث الشّريف: "كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعِيَّته".
فقد انطلقت بهذه الكلمة القاعدة الإسلاميّة للمسؤوليّة كأساس للحياة الفرديّة والاجتماعيّة في المجالين الداخلي والخارجي.
والملحوظ في هذا الحديث، أنّ المسؤوليّة هنا لم تفرض كتكليف أو إلزام ابتدائي "مفروض" من الخارج، كما يفرض أيّ تشريع قانوني، أو بالأحرى لم يرد لها أن تنبع من خارج ذات الإنسان، من سلطة تفرض عليه القيود والحدود، بل أُريدَ لها أن تنبع من داخل ذاته، من مشاعره الإنسانيّة، وأن تنطلق من أعماقه بعفويّة محبَّبة إلى النّفس.. ونلمس ذلك في الفقرة الأولى: "كُلُّكُم راعٍ..."، فإنّها توقظ في نفس الإنسان الشعور بنوعيّة الصلة التي تربطه بالآخرين الذين تتّصل إرادتهم بإرادته، وعواطفهم بعواطفه، وفكرهم بفكره.
إنَّها تحدِّد هذه الصلة بينه وبينهم، فليست هي صلة العبث واللّهو واللامبالاة، لتتمثَّل في الحياة اللاهية العابثة التي يحياها الإنسان في مجالات اللّهو والعبث، وليست صلة الكبرياء والأنانيّة والطغيان، لتتمثَّل في الحياة الظالمة التي يحياها الظالمون والطغاة في مجالات الظّلم والطّغيان.
وإنَّما هي صلة الراعي برعيّته، بكلّ ما للرّاعي من معاني الرعاية والإشراف والتّوجيه والحكمة.. وغير ذلك من المعاني التي تفرضها طبيعة هذه الصّفة إذا عاشها الإنسان في داخل ذاته شعوراً وحسّاً عميقاً بمعناها الواسع العميق، لا أداة للسّلطة والغلبة والكبرياء.
وإذا أحسّ الإنسان بهذه الصّلة التي تربطه بالآخرين حيّة في أعماقه، متّصلة بمشاعره وعواطفه، بفكره وعقله، فمن الطبيعي أن تسير حياته في هذا السّبيل.. وهنا ينطلق الشعور بالمسؤوليّة انطلاقاً عفويّاً داخل ذاته.
وبذلك نستطيع أن نعتبر الفقرة الثانية: "وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رَعِيَّته" نتيجة طبيعيّة للمشاعر والأحاسيس التي تثيرها الفقرة الأولى في داخل الإنسان، لأنّها من مقوّمات "الراعوية" ومستلزماتها الذاتية.. ولذا، فهي تفقد حقيقتها وذاتها عندما نفقد المسؤوليّة، لأنّها تنقلب حينئذٍ إلى صفة الإهمال واللامبالاة وغيرها من الصّفات التي قد تلتقي بأيّ معنى من المعاني.. ولكنّه لن يكون المعنى الذي يمثّل الرعاية والإشراف والتوجيه على كلّ حال.
بقي علينا أنْ نتمثَّل في الفقرة الأولى، كيف يمكن لهذا الحديث أن يفرض كلاًّ منّا راعياً؟
فقد يبدو لنا أنَّ مثل هذه الصفة التي تتّصل بداخل الذّات الإنسانيّة ـ لأنّها تلتقي، في مسؤوليّتها العمليّة بقِيَم الإسلام الروحيّة ومثله العليا ـ لن تحصل بتشريع قانوني مجرّد، أو اعتبار شرعي خاص، لأنَّ التشريع يمثّل ـ فيما يمثّل ـ القوانين والاعتبارات التي تتعلَّق بأحكام الإنسان وأقواله التي تنظّم له حياته الداخليّة والخارجيّة من الوجهة القانونيّة، ولكنّها لن تستطيع أن تجعل منه إنساناً منظَّماً، لأنَّ التنظيم الداخلي للإنسان تابع للملكات النفسيّة التي تسيطر على كيانه، وتوجّه أفعاله وأقواله، وليس للتشريع إلاَّ مهمَّة التمهيد لإيجاد هذه الملكات بالتّدريب العملي الأفضل. ومن هنا، فلا يستطيع أن يعتبر للإنسان صفة داخليّة، وإنّما يحاول أن يوجدها.
و"الراعوية" ـ كما قلنا ـ إحساس داخلي ينبع من ذات الإنسان، ومن شعوره بقضيّة أو فكرة أو مبدأ، تجاه الآخرين الذين تتّصل حياتهم بمسؤوليّته، فلا يصير الإنسان راعياً بمجرَّد أن نعتبره راعياً ما لم تكن هذه الصّفة حيّة في أعماقه ومشاعره.
تلك هي القضيّة التي تواجهنا ونحن نعيش الفقرة الأولى: "كُلُّكُم راعٍ..."
ولكنَّنا نحسب أنّ الحديث يقرِّر هنا حقيقة واقعة، أو قضيّة موضوعيّة؛ إنّه لا يريد أن يفرض "الراعوية" في حياة كلٍّ منّا ويعتبرها اعتباراً، وإنّما يريد أن يثيرها في أعماقنا، أن يوقظ فينا الشعور بالاهتمام بالآخرين، وبحياة الآخرين، وبعقيدة هؤلاء الآخرين.
فالنّداء موجّه إلى كلّ مسلم يعيش إسلامه ويحياه، ويحسّ به في داخل كيانه وفي صميم ذاته، ويتمثّله في صفائه ونقائه، في الانطلاقة الروحية التي يمنحها لمجتمعه، في الحياة الخصبة الرخيّة التي يثيرها في مجاله الحياتي العام، في الطمأنينة النفسية التي تسود كيانه وحياته.
إنَّ المسلم الّذي يعيش هذه المعاني ويتمثّلها، سوف يتمثّل في الوقت ذاته مدى ما يستطيع أن يقدّمه للنّاس من حياة رخيّة حرّة، ومدى ارتباط هذه المعاني التي يعيشها بهؤلاء النّاس، نتيجة اتّصال أهدافها بحياتهم وبواقعهم الاجتماعي والفردي.
وإذا تمثّل المسلم هذا الواقع في نفسه، وعاشه في حياته الفكرية والعاطفية، فقد تمثّل الراعوية بأعمق معانيها. وهكذا نعرف كيف يفرض الحديث الشريف كلّ مسلم راعياً.
*من كتاب "آفاق إسلاميّة".