كتابات
19/05/2020

بالوعي والمعرفة تفرض المرأة حضورها في المجتمع

بالوعي والمعرفة تفرض المرأة حضورها في المجتمع

يريد الله للإنسان أن يتأنسن، أن يخرج من حيوانيّته التي تتحرّك في غرائزه، إلى عقله الذي ينطلق من أجل أن يدرس الكون كلّه، ليكتشف أسرار الله في الكون، ليبدع من خلال ذلك العلم الّذي يمكن أن يطوِّر الكون ويطوِّر الحياة، ويجعلها حياة متحرّكة تنتج للإنسان كلَّ انفتاحات الإبداع، وكلَّ انفتاحات التفوّق. وأراد الله لهذا العقل الإنساني أن يكون الصِّلة بينه وبين النّاس. فالله يريد لنا أن نتحرّك بعقولنا، وعندما خلق الله لنا الغرائز، أراد للغرائز أن تتعقلن، بحيث تنظّم حركتها ولا تنطلق بالفوضى...

وقد ورد في الحديث، أنَّ الله "لمّا خلق الله العقل، قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر ـ طبعاً العقل ليس شيئاً مادّياً، ولكن هذا وارد على نحو الكناية، لتسهيل الفكرة ـ ثم قال له: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملك إلّا فيمن أحبّ، أمّا إنّي إيّاك آمر، وإياك أنهى، وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب".

حتى إنّ الله سبحانه وتعالى عندما يثيب الإنسان على عمله الصالح، فإنه يثيبه بحجم عقله، فقد يكون العقل صغيراً، فيكون ثوابه صغيراً، رغم أنّ عمله عمل كبير، وإذا كان عقله كبيراً، فإنّ الله يعطيه الثّواب الكبير، حتى لو كان عمله صغيراً.

قيمة العقل

إنَّ للعقل، أيّتها الأخوات، قيمة كبرى في طبيعة إنسانيّة الإنسان، فنحن عندما نعيش إنسانيّتنا، فإنها لا تتمثّل في أجسادنا، وإن كان للأجساد دور، ولكنها تتمثل في العقل الذي يبدع حركة الإنسان في إنسانيّته، وفي القلب الذي يخفق وينبض لينفتح على المحبّة التي تشمل كلّ الحياة... لتبدأ من محبّة الله، ومن محبّة الإنسان، ومن محبّة الحياة، لأنّ قصّة المحبّة، أنّها تجعل الإنسان إنساناً، وليست مجرَّد خفقة قلب، أو حركة غريزة، ولكنّ المحبَّة نور يشعّ في عقل الإنسان، من أجل أن يحبّ الإبداع ويحبّ الحقيقة، وفي قلب الإنسان، من أجل أن يحبّ الإنسان الآخر...

وهذا هو الذي يجمع بين الإنسان والإنسان. ونحن نقول دائماً، إنَّ علينا أن نعيش إنسانيّتنا في إنسانيّة الآخر، أن لا نعيش انغلاق الإنسانيَّة، ليعيش الإنسان في زنزانة من ذاته، ولكن أن ننفتح على الإنسان الآخر، لنرى أنَّ الإنسانيَّة تجمعنا. وقد ورد في الحديث عن النبيّ محمَّد (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". فالنّبيّ (ص) يقول لك: كن أنت الآخر، تقمّص شخصيّته، انزل إلى كلّ مشاعره وأحاسيسه، فأحبّ ما يحبّ كما لو كنت أنت، واكره ما يكره كما لو كنت أنت...

 مسؤوليّتنا حيال العقل

وعلى هذا الأساس، فإنّنا مسؤولون أن ننمّي عقولنا كما ننمّي أجسادنا، فكما أن هناك فقراً في الدّم، وضعفاً في البدن، فهناك فقر في العقل وضعف في حركته.. ولذلك، فإنّ من مسؤوليتنا إذا أردنا أن نرتفع في كلّ ما يريد الله لنا الارتفاع، أن نرتفع في بناء الحياة على الأسس التي يحبّها الله ويرضاها فيما ينفع النّاس {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}[الرّعد: 17]؛ أن نرتفع في عقولنا فنمنحها القوَّة، أن نفكّر، لأنّ التفكير هو الذي ينمّي للإنسان عقله، تماماً كما يقول العلماء، إنَّ الإنسان إذا لم يحرّك عضواً من أعضائه، فإنّ هذا العضو يضمر، وربما يفقد حيويّته...

أن نفكّر دائماً في كلّ شيء.. ليس هناك أيّ حاجز يحجزنا عن التفكير، لأنَّ الله خلق العقل حرّاً، وقال له فكّر كما تريد، ولكن تحمَّل مسؤوليَّة تفكيرك؛ كيف فكّرت، وما هي أدواتك في الفكر.. ولم يفرِّق في ذلك بين رجلٍ وامرأة. فالله أراد للمرأة أن تنمّي عقلها، كما أراد للرَّجل أن ينمّي عقله.. ليست المرأة مجرَّد جسد يتحرّك في معنى جسديّته، ولكنّها إنسان وكيان مسؤول عن أن يفجِّر طاقته العقليّة، على أساس أن تشارك في بناء الحياة. ليست القضيّة أن تنتج المرأة الحياة في ولادتها للإنسان، ولكن القضيّة هي أن تنتج الحياة في ولادتها للفكر، وفي ولادتها للإبداع.

المرأة بين العقل والجسد

لقد انطلق الإنسان من أجل أن يختصر المرأة في جسد، حتى إنَّه جعل القيمة للمرأة عند نفسها وعند الآخرين عناصر جسدها.. هل رأيتم في العالم الغربيّ، وفيما ورثناه من الشّرق، حفلة لملكات جمال العقل؟

إنَّ المسألة هي أننا أخذنا من الغرب تقليد ملكات الجمال في الجسد، حيث تعرض المرأة كلَّ مفاتنها بالطريقة الّتي لا ينفتح عليها النّاس إلا من خلال أنَّها جسد. ونحن لا نتنكَّر للجمال، فالله جميلٌ خلقَ الجمالَ ويحبُّ الجمال، ولكنّ المسألة هي أنَّ الجمال ليس للاستهلاك الغريزيّ، ولكنَّه نعمة من الله لا بدَّ للإنسان أن يعرف كيف يتعامل معها، بالطريقة التي يؤاخي فيها بين جمال الجسد وبين إنسانيّته.

لذلك، نحن أيّتها الأخوات، نريد أن يكون هناك تقليد جديد، للرّجل وللمرأة ـ لأن هناك اتجاهاً جديداً لإيجاد حالة ملك الجمال للرّجال بطريقة وبأخرى ـ أن نعمل على أساس ملك الجمال في العقل، وملكة الجمال في العقل؛ من الّذي ينتج الفكر أكثر، ومن الذي يعطي الحياة ما تغتني به أكثر، ومن الذي يرتفع إلى الله في حركة المحبّة، ليكون قريباً من الله المطلق في رحمته، والمطلق في علمه، والمطلق في قدرته؟!

هل المرأة ضعيفة العقل؟!

لقد حاولوا أن يعزلوا المرأة في مدى التّاريخ، وليس في تاريخ الشّرق فقط، حتى في الغرب، كان بعض الفلاسفة يتحدّثون هل المرأة إنسان أو ليست إنساناً! كانوا يشكّكون في إنسانيّة المرأة، ولذلك أبعدوها على أن تفكّر، فقالوا إنّ الرجل هو الذي يفكّر لها، وأبعدوها عن العلم وعن الحركة الفاعلة، وجعلوها إنساناً منفعلاً؛ منفعلاً في جسده، ومنفعلاً في حركته في الحياة، وقالوا إنّ عقل المرأة أضعف من عقل الرّجل، حتى قيل في بعض مجتمعاتنا الشرقيّة إن المرأة بربع عقل.

ولكنّ الله حدّثنا غير ذلك، فالله سبحانه وتعالى قدَّم لنا نموذج المرأة التي تملك مستوى من العقل أكثر من مستوى الرِّجال من كبار قومها. لا بدَّ أنكنّ قرأتنّ قصّة ملكة سبأ؛ هذه الملكة التي كانت تسيطر على مجتمعها كلّه، وعندما جاء الهدهد، قال إنّي وجدت امرأةً تملكهم ولها عرش عظيم.

في هذه الحالة، أراد النبيّ سليمان أن يجتذب هذه المرأة الملكة بالإيمان، حتى يؤمن قومها من خلالها، فأرسل إليها كتاباً مع الهدهد، وعندما قرأت الكتاب، جمعت كبار قومها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[النّمل: 32]. صحيح أنا ملكة، ولكن لست ملكة مستبدّة، لست ملكة تعيش من خلال ذاتيّاتها من خلال ما أملك من السلطة القاهرة {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النّمل: 29 -31]. هذا رجل يهدّدنا أنّنا إذا بقينا في هذا الموقع من الاستعلاء، فإنّه سوف يهجم علينا.. من هو سليمان؛ هل هو نبيّ، أو هو ملك؟ أعطوني الرأي، فإنّ الملكة لا بدّ أن تتّخذ قراراتها من خلال كبار قومها.

ولكنّ كبار قومها كانوا لا يملكون الفكر {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النّمل: 33]. رجعت إلى نفسها وشعرت بالوحدة، فليس هناك مستشارون، وفكّرت كيف تحلّ هذه المشكلة، كيف تحمي نفسها ومملكتها؟! {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النّمل: 34-35].

كانت تفكّر من هو هذا الرَّجل؟ وعندما تطوّرت الأمور، وجاءت إلى سليمان، وحدَّثها وحدَّثته وأقنعها بالإيمان، عند ذلك آمنت عن عقل، وآمنت عن فكر، وآمنت عن حوار، قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النّمل: 44]. فهي لم تسلم تحت تأثير قوّته، ولكنّها أسلمت معه عندما اكتشفت الحقيقة.

 وهكذا حدّثنا الله عن امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التّحريم: 11].

هذه المرأة التي لم تخضع لكلّ هذا الملك الذي لا حدود له، ولكلّ المغريات التي كانت تتقلّب فيها، ولكلّ الموقع الذي كان زوجها يعيش فيه، عندما كان يقول أنا ربّكم الأعلى، ولكنّها كانت تملك عقلاً، وتعرف أنّ كلّ هذا الوضع الذي كانت تعيشه، لا يمثّل عمق الإنسانيّة، ولا يرتفع بها إلى الله.

 وهكذا، حدّثنا القرآن عن مريم ابنة عمران، التي ارتفعت بروحها إلى الله {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران: 37].

إنّ الله حدّثنا عن هذه النماذج للمرأة التي تملك الوعي، وتملك العقل، وتملك الروحانيّة، وتملك المسؤوليّة، وتملك أن تفكّر وأن تقود كلّ الذين يقعون تحت مسؤوليّتها قيادة حسنة.

مسؤوليّة المرأة في المواجهة

وفي ضوء ذلك، أيّتها الأخوات، نحن عندما نواجه هذه التطوّرات التي تحدث في العالم، سواء كانت تطوّرات سياسيّة، أو تطوّرات أمنيّة، أو اقتصاديّة، أو ثقافيّة، نحن نريد للمرأة أن تشارك في خطّ المواجهة للتطوّرات السلبيّة التي تتحرّك من خلال المستكبرين، ليحتلّوا بلداً هنا، وليسرقوا ثروة هناك، وليسيروا في الخطوط التي تسقط فيها الشّعوب وتضطهد قضاياهم، عندما نعيش هذا الوضع العالمي الاستكباري، ولا سيَّما فيما تمثلّه الولايات المتحدة الأميركيّة في إدارتها الحاليّة هذه، التي صرّح بعض مسؤوليها أنّهم يعملون من أجل أن يكونوا قيادة العالم، أن يفرضوا علينا قيادتهم، وأن تكون أميركا إمبراطوريّة العالم، لنكون نحن كشعوب مستضعفة وكعالم ثالث على هامش سياستهم واقتصادهم وأمنهم.

 لذلك، نحن في هذه المرحلة من الزمن، لا بدّ لنا أن ندرس كيف تتحرّك أميركا في هذا الجنون الاحتلاليّ، وفي هذه الهيمنة الاقتصادية، وفي ما تضغط به على المستضعفين.. لا بدّ أن نفكّر كيف نعالج المسألة، رجالاً ونساءً.. على المرأة أن يكون لها ثقافتها السياسيّة التي تجعلها قادرة على أن تفكّر في مستقبل أمّتها، وأن تكون لها ثقافتها العلميّة التي تجعلها قادرة على أن ترتفع بأمّتها إلى الدرجات العليا في العلم. ونحن لاحظنا من التجربة، أنّ هناك في العالم كلّه ـ ولا نتحدّث عن المسلمات فحسب ـ الكثير من النساء اللاتي يملكن القدرة السياسيّة على مستوى العالم، وأنّ هناك من النساء من يملكن الدرجات العلميّة العليا التي لا تختلف فيها المرأة عن الرّجل، واللاتي يملكن القدرة على السّلطة في أكثر من بلد إسلامي أو غير إسلامي.

العلم أوّلاً

لذلك، نحن نريد لبناتنا ولنسائنا أن يقبلن على العلم، بحيث يتعلَّمن ويتفوَّقن ويصلن إلى أعلى درجات العلم، وينافسن الرّجال في ذلك كلّه.

ونحن نعرف في القرآن الكريم، أنَّ الله جعل ميزان القيمة هو العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزّمر: 9]. وورد عن عليّ بن أبي طالب (ع): "قيمة كلّ امرئ ما يحسنه".. قل لي خبرتك، أقل لك ما هي قيمتك.

{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[طه: 114]. إنَّ الإنسان كلّما وصل إلى درجة من العلم، عليه أن ينطلق إلى الأعلى فالأعلى؛ رجلاً كان أو امرأةً، لأنَّ مجتمعنا إذا استطاع أن يتكامل فيه المرأة والرّجل، في العلم والسياسة والاقتصاد، فإننا نستطيع أن نحقّق الكثير من الاكتفاء الذّاتي في بلوغ المواقع الكبرى.

لتحصيل الثّقافة السياسيّة

لذلك، أنا أقول لكنّ، كما أقول للرّجال، إنّكن تستمعن في كلّ يوم إلى الكثير من الفضائيّات أو الإذاعات، أو تقرأن كثيراً من الصحف، ولكن في الوقت نفسه، لا نجد أنّ هناك ثقافة سياسيّة، لأنّنا استهلاكيّون، نقرأ ونسمع تماماً كما نأكل الطّعام الّذي ليس فيه فيتامينات.. يعني عندما تستمعن إلى النشاط السياسيّ في العالم، وإلى التحدّيات السياسية في العالم، عندما تستمعن إلى ما يحدث في فلسطين والعراق، وإلى ما يحدث في أفغانستان أو باكستان، أو ما يحدث في قصّة الصّراع الأميركي الإيراني في الملفّ النوويّ، عليكنّ أن تفكّرن في خلفيّات ذلك، حتى تكون المرأة فيما تسمع وفيما تقرأ، كما يكون الرّجل في هذا المجال.

ولذلك، فإنَّ الحديث عن أنَّ المرأة لا بدَّ أن تتمثَّل في المجلس النيابي أو في الإدارات الكبرى، هذا لا يكفي إذا لم تكن المرأة في الموقع المتقدّم في فهمها لأوضاع بلدها، وفي صلابة موقفها باتخاذ المواقف الصّلبة. وهكذا بالنّسبة إلى الرّجل.. نحن نعرف أنّ كثيراً من الرجال الذين صاروا وزراء ونوّاباً، صاروا كذلك لأنّ لديهم مالاً، ولأنّ لديهم نسباً.

كنت أتحدّث قبل أيّام عن العقليّة الشرقيّة، أنه يكون عندنا شخص سياسي كبير أو عالم كبير، لكنّ ابنه ليس سياسيّاً وليس عالماً، ما المنطق الذي يتحدَّث فيه؟ يقولون "إنّ بيت فلان لا ينبغي أن يقفل"، ينبغي أن يحلّ ابنه مكانه.. ابن العالم، والذي ليس عنده مؤهّلات، يجب أن يكون العالم في القرية أو البلد، ابن السياسي كذلك، وخصوصاً إذا كان عنده مال، وأيضاً هذا الرّجل أو ذاك الرّجل يفرض نفسه على الأمَّة، وفي النظام الطائفيّ يفرض نفسه على الطائفة، كما في أيام الإقطاع، يقولون مات الزعيم وعاش الزعيم، وإن لم يكن يصلح للزّعامة.

علينا أن نغيِّر القيم، أن تكون المسألة أن نقدِّر فلاناً ليس لأنّه ابن فلان، بل لأنّ عنده كفاءة، ولأنه يملك مسؤوليّة.

معيار الكفاءة

ولذلك، فنحن أيضاً نريد أن نقول للمرأة، سواء كانت بنت فلان الكبير أو بنت فلان غير الكبير، إنَّ عليها أن تبني نفسها على الكفاءة، وعندما تريد أن تنطلق بالمسؤوليَّة، سواء في الإدارة أو في النيابة أو في الوزارة أو في أيّ مجال، لا بدّ أن تكون أيضاً في موضع الكفاءة، لأنّ قصّة المسؤوليّة ليست امتيازاً، بل هي تكليف ومسؤوليَّة.

وليس لمجرَّد أن يصبح شخص وزيراً أن نصفّق له، بل علينا أن ننظر؛ هل هو في موقع الوزارة أو لا؟ هل هو في موقع النّيابة أو لا؟ هناك بعض النوّاب تراه في كلّ الجلسات لا ينطق بشيء.

هناك شاعر عراقيّ يتكلّم عن بعض النوّاب في السّابق في العراق:

ونائب يملأ الكرسيّ قلت له       ماذا السّكوت تكلّم أيّها الصّنم

فأنت مثل الصّنم، لأنّك لا تشارك في إعطاء رأي أو قرار، وليس له من أمره إلا أن يعدّد أياماً ويقبض راتباً.

لذلك، في موقفنا هذا أيّتها الأخوات، نريد للمرأة أن تثق بنفسها وبربِّها، وأن تثق بطاقاتها وبقدراتها، أن لا ينكّت الرّجال ـ وأنتنّ تسمعنهم ـ أنّ النساء عندما يجتمعن في الديوانيات أو الصالونات، ليس عندهنّ حديث إلا آخر صيحات الموضة وآخر مساحيق التجميل أو ما إلى ذلك...

علينا عندما نجتمع أن نتحدّث بالسياسة، بالفكر، بالعلم، بمستقبل الأمَّة، بعلاقتنا بالله سبحانه وتعالى، بمسؤوليَّتنا أمام الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الله في القرآن لم يفرِّق بين الرَّجل والمرأة {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}[آل عمران: 195]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36].

ولذلك، ليس هناك فكرة أنّ الرجل عند الله هو أعلى من المرأة، بل القضيّة تنطلق من خلال طبيعة العمل. قد تكون المرأة أكثر عملاً من الرّجل، فتكون أقرب إلى الله، وقد يكون الرّجل أكثر عملاً، فيكون أقرب إلى الله، لأنّه ليس بين الله وبين أحد قرابة.

لذلك، عندما ندخل في شهر رمضان، الّذي هو شهر الإسلام وشهر الطّهور وشهر التّغيير وشهر التّمحيص، ننزل إلى داخل نفوسنا، لنرى ما فيها من نقاط الضّعف لنحوِّلها إلى نقاط قوَّة، وما فيها من نقاط قوَّة، فنستزيد من نقاط القوَّة في هذ المجال.

مسؤوليّة فرديّة

أيّتها الأخوات، إنَّ المسألة هي أنَّ الإنسان لا يملك إلا نفسه، يعيش في الحياة بما لديه من عناصر الشخصيَّة الفاعلة القويَّة، ويقف غداً في يوم القيامة أيضًا بنفسه. المسؤوليّة في الإسلام فرديّة، فالإنسان لا بدّ أن يبني نفسه بناءً قويّاً صالحاً فاعلاً...

لنكن في هذا العالم، وفي شعبنا، وفي أمّتنا.. لنكن فاعلين، وعلينا أن لا نكون منفعلين، حتى نستطيع أن نصنع لشعبنا الحريّة والقوَّة والاستقلال، وحتى نستطيع أن نصنع لأمَّتنا العزّة والكرامة، وحتى نستطيع أن نقول للعالم كلّه، إنّ المرأة المسلمة والمرأة المؤمنة، تماماً كما هو الرَّجل المسلم والرّجل المؤمن، يمكن له أن يصنع الحياة على صورة الخير والعدل.

هذا هو ما نفكّر فيه، أن نتحرّك لنصنع الحياة بالعقل والقلب والحركة والنّشاط: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105].

والسلام عليكنّ ورحمة الله وبركاته.

يريد الله للإنسان أن يتأنسن، أن يخرج من حيوانيّته التي تتحرّك في غرائزه، إلى عقله الذي ينطلق من أجل أن يدرس الكون كلّه، ليكتشف أسرار الله في الكون، ليبدع من خلال ذلك العلم الّذي يمكن أن يطوِّر الكون ويطوِّر الحياة، ويجعلها حياة متحرّكة تنتج للإنسان كلَّ انفتاحات الإبداع، وكلَّ انفتاحات التفوّق. وأراد الله لهذا العقل الإنساني أن يكون الصِّلة بينه وبين النّاس. فالله يريد لنا أن نتحرّك بعقولنا، وعندما خلق الله لنا الغرائز، أراد للغرائز أن تتعقلن، بحيث تنظّم حركتها ولا تنطلق بالفوضى...

وقد ورد في الحديث، أنَّ الله "لمّا خلق الله العقل، قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر ـ طبعاً العقل ليس شيئاً مادّياً، ولكن هذا وارد على نحو الكناية، لتسهيل الفكرة ـ ثم قال له: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملك إلّا فيمن أحبّ، أمّا إنّي إيّاك آمر، وإياك أنهى، وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب".

حتى إنّ الله سبحانه وتعالى عندما يثيب الإنسان على عمله الصالح، فإنه يثيبه بحجم عقله، فقد يكون العقل صغيراً، فيكون ثوابه صغيراً، رغم أنّ عمله عمل كبير، وإذا كان عقله كبيراً، فإنّ الله يعطيه الثّواب الكبير، حتى لو كان عمله صغيراً.

قيمة العقل

إنَّ للعقل، أيّتها الأخوات، قيمة كبرى في طبيعة إنسانيّة الإنسان، فنحن عندما نعيش إنسانيّتنا، فإنها لا تتمثّل في أجسادنا، وإن كان للأجساد دور، ولكنها تتمثل في العقل الذي يبدع حركة الإنسان في إنسانيّته، وفي القلب الذي يخفق وينبض لينفتح على المحبّة التي تشمل كلّ الحياة... لتبدأ من محبّة الله، ومن محبّة الإنسان، ومن محبّة الحياة، لأنّ قصّة المحبّة، أنّها تجعل الإنسان إنساناً، وليست مجرَّد خفقة قلب، أو حركة غريزة، ولكنّ المحبَّة نور يشعّ في عقل الإنسان، من أجل أن يحبّ الإبداع ويحبّ الحقيقة، وفي قلب الإنسان، من أجل أن يحبّ الإنسان الآخر...

وهذا هو الذي يجمع بين الإنسان والإنسان. ونحن نقول دائماً، إنَّ علينا أن نعيش إنسانيّتنا في إنسانيّة الآخر، أن لا نعيش انغلاق الإنسانيَّة، ليعيش الإنسان في زنزانة من ذاته، ولكن أن ننفتح على الإنسان الآخر، لنرى أنَّ الإنسانيَّة تجمعنا. وقد ورد في الحديث عن النبيّ محمَّد (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه". فالنّبيّ (ص) يقول لك: كن أنت الآخر، تقمّص شخصيّته، انزل إلى كلّ مشاعره وأحاسيسه، فأحبّ ما يحبّ كما لو كنت أنت، واكره ما يكره كما لو كنت أنت...

 مسؤوليّتنا حيال العقل

وعلى هذا الأساس، فإنّنا مسؤولون أن ننمّي عقولنا كما ننمّي أجسادنا، فكما أن هناك فقراً في الدّم، وضعفاً في البدن، فهناك فقر في العقل وضعف في حركته.. ولذلك، فإنّ من مسؤوليتنا إذا أردنا أن نرتفع في كلّ ما يريد الله لنا الارتفاع، أن نرتفع في بناء الحياة على الأسس التي يحبّها الله ويرضاها فيما ينفع النّاس {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}[الرّعد: 17]؛ أن نرتفع في عقولنا فنمنحها القوَّة، أن نفكّر، لأنّ التفكير هو الذي ينمّي للإنسان عقله، تماماً كما يقول العلماء، إنَّ الإنسان إذا لم يحرّك عضواً من أعضائه، فإنّ هذا العضو يضمر، وربما يفقد حيويّته...

أن نفكّر دائماً في كلّ شيء.. ليس هناك أيّ حاجز يحجزنا عن التفكير، لأنَّ الله خلق العقل حرّاً، وقال له فكّر كما تريد، ولكن تحمَّل مسؤوليَّة تفكيرك؛ كيف فكّرت، وما هي أدواتك في الفكر.. ولم يفرِّق في ذلك بين رجلٍ وامرأة. فالله أراد للمرأة أن تنمّي عقلها، كما أراد للرَّجل أن ينمّي عقله.. ليست المرأة مجرَّد جسد يتحرّك في معنى جسديّته، ولكنّها إنسان وكيان مسؤول عن أن يفجِّر طاقته العقليّة، على أساس أن تشارك في بناء الحياة. ليست القضيّة أن تنتج المرأة الحياة في ولادتها للإنسان، ولكن القضيّة هي أن تنتج الحياة في ولادتها للفكر، وفي ولادتها للإبداع.

المرأة بين العقل والجسد

لقد انطلق الإنسان من أجل أن يختصر المرأة في جسد، حتى إنَّه جعل القيمة للمرأة عند نفسها وعند الآخرين عناصر جسدها.. هل رأيتم في العالم الغربيّ، وفيما ورثناه من الشّرق، حفلة لملكات جمال العقل؟

إنَّ المسألة هي أننا أخذنا من الغرب تقليد ملكات الجمال في الجسد، حيث تعرض المرأة كلَّ مفاتنها بالطريقة الّتي لا ينفتح عليها النّاس إلا من خلال أنَّها جسد. ونحن لا نتنكَّر للجمال، فالله جميلٌ خلقَ الجمالَ ويحبُّ الجمال، ولكنّ المسألة هي أنَّ الجمال ليس للاستهلاك الغريزيّ، ولكنَّه نعمة من الله لا بدَّ للإنسان أن يعرف كيف يتعامل معها، بالطريقة التي يؤاخي فيها بين جمال الجسد وبين إنسانيّته.

لذلك، نحن أيّتها الأخوات، نريد أن يكون هناك تقليد جديد، للرّجل وللمرأة ـ لأن هناك اتجاهاً جديداً لإيجاد حالة ملك الجمال للرّجال بطريقة وبأخرى ـ أن نعمل على أساس ملك الجمال في العقل، وملكة الجمال في العقل؛ من الّذي ينتج الفكر أكثر، ومن الذي يعطي الحياة ما تغتني به أكثر، ومن الذي يرتفع إلى الله في حركة المحبّة، ليكون قريباً من الله المطلق في رحمته، والمطلق في علمه، والمطلق في قدرته؟!

هل المرأة ضعيفة العقل؟!

لقد حاولوا أن يعزلوا المرأة في مدى التّاريخ، وليس في تاريخ الشّرق فقط، حتى في الغرب، كان بعض الفلاسفة يتحدّثون هل المرأة إنسان أو ليست إنساناً! كانوا يشكّكون في إنسانيّة المرأة، ولذلك أبعدوها على أن تفكّر، فقالوا إنّ الرجل هو الذي يفكّر لها، وأبعدوها عن العلم وعن الحركة الفاعلة، وجعلوها إنساناً منفعلاً؛ منفعلاً في جسده، ومنفعلاً في حركته في الحياة، وقالوا إنّ عقل المرأة أضعف من عقل الرّجل، حتى قيل في بعض مجتمعاتنا الشرقيّة إن المرأة بربع عقل.

ولكنّ الله حدّثنا غير ذلك، فالله سبحانه وتعالى قدَّم لنا نموذج المرأة التي تملك مستوى من العقل أكثر من مستوى الرِّجال من كبار قومها. لا بدَّ أنكنّ قرأتنّ قصّة ملكة سبأ؛ هذه الملكة التي كانت تسيطر على مجتمعها كلّه، وعندما جاء الهدهد، قال إنّي وجدت امرأةً تملكهم ولها عرش عظيم.

في هذه الحالة، أراد النبيّ سليمان أن يجتذب هذه المرأة الملكة بالإيمان، حتى يؤمن قومها من خلالها، فأرسل إليها كتاباً مع الهدهد، وعندما قرأت الكتاب، جمعت كبار قومها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}[النّمل: 32]. صحيح أنا ملكة، ولكن لست ملكة مستبدّة، لست ملكة تعيش من خلال ذاتيّاتها من خلال ما أملك من السلطة القاهرة {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النّمل: 29 -31]. هذا رجل يهدّدنا أنّنا إذا بقينا في هذا الموقع من الاستعلاء، فإنّه سوف يهجم علينا.. من هو سليمان؛ هل هو نبيّ، أو هو ملك؟ أعطوني الرأي، فإنّ الملكة لا بدّ أن تتّخذ قراراتها من خلال كبار قومها.

ولكنّ كبار قومها كانوا لا يملكون الفكر {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النّمل: 33]. رجعت إلى نفسها وشعرت بالوحدة، فليس هناك مستشارون، وفكّرت كيف تحلّ هذه المشكلة، كيف تحمي نفسها ومملكتها؟! {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ* وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النّمل: 34-35].

كانت تفكّر من هو هذا الرَّجل؟ وعندما تطوّرت الأمور، وجاءت إلى سليمان، وحدَّثها وحدَّثته وأقنعها بالإيمان، عند ذلك آمنت عن عقل، وآمنت عن فكر، وآمنت عن حوار، قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النّمل: 44]. فهي لم تسلم تحت تأثير قوّته، ولكنّها أسلمت معه عندما اكتشفت الحقيقة.

 وهكذا حدّثنا الله عن امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التّحريم: 11].

هذه المرأة التي لم تخضع لكلّ هذا الملك الذي لا حدود له، ولكلّ المغريات التي كانت تتقلّب فيها، ولكلّ الموقع الذي كان زوجها يعيش فيه، عندما كان يقول أنا ربّكم الأعلى، ولكنّها كانت تملك عقلاً، وتعرف أنّ كلّ هذا الوضع الذي كانت تعيشه، لا يمثّل عمق الإنسانيّة، ولا يرتفع بها إلى الله.

 وهكذا، حدّثنا القرآن عن مريم ابنة عمران، التي ارتفعت بروحها إلى الله {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران: 37].

إنّ الله حدّثنا عن هذه النماذج للمرأة التي تملك الوعي، وتملك العقل، وتملك الروحانيّة، وتملك المسؤوليّة، وتملك أن تفكّر وأن تقود كلّ الذين يقعون تحت مسؤوليّتها قيادة حسنة.

مسؤوليّة المرأة في المواجهة

وفي ضوء ذلك، أيّتها الأخوات، نحن عندما نواجه هذه التطوّرات التي تحدث في العالم، سواء كانت تطوّرات سياسيّة، أو تطوّرات أمنيّة، أو اقتصاديّة، أو ثقافيّة، نحن نريد للمرأة أن تشارك في خطّ المواجهة للتطوّرات السلبيّة التي تتحرّك من خلال المستكبرين، ليحتلّوا بلداً هنا، وليسرقوا ثروة هناك، وليسيروا في الخطوط التي تسقط فيها الشّعوب وتضطهد قضاياهم، عندما نعيش هذا الوضع العالمي الاستكباري، ولا سيَّما فيما تمثلّه الولايات المتحدة الأميركيّة في إدارتها الحاليّة هذه، التي صرّح بعض مسؤوليها أنّهم يعملون من أجل أن يكونوا قيادة العالم، أن يفرضوا علينا قيادتهم، وأن تكون أميركا إمبراطوريّة العالم، لنكون نحن كشعوب مستضعفة وكعالم ثالث على هامش سياستهم واقتصادهم وأمنهم.

 لذلك، نحن في هذه المرحلة من الزمن، لا بدّ لنا أن ندرس كيف تتحرّك أميركا في هذا الجنون الاحتلاليّ، وفي هذه الهيمنة الاقتصادية، وفي ما تضغط به على المستضعفين.. لا بدّ أن نفكّر كيف نعالج المسألة، رجالاً ونساءً.. على المرأة أن يكون لها ثقافتها السياسيّة التي تجعلها قادرة على أن تفكّر في مستقبل أمّتها، وأن تكون لها ثقافتها العلميّة التي تجعلها قادرة على أن ترتفع بأمّتها إلى الدرجات العليا في العلم. ونحن لاحظنا من التجربة، أنّ هناك في العالم كلّه ـ ولا نتحدّث عن المسلمات فحسب ـ الكثير من النساء اللاتي يملكن القدرة السياسيّة على مستوى العالم، وأنّ هناك من النساء من يملكن الدرجات العلميّة العليا التي لا تختلف فيها المرأة عن الرّجل، واللاتي يملكن القدرة على السّلطة في أكثر من بلد إسلامي أو غير إسلامي.

العلم أوّلاً

لذلك، نحن نريد لبناتنا ولنسائنا أن يقبلن على العلم، بحيث يتعلَّمن ويتفوَّقن ويصلن إلى أعلى درجات العلم، وينافسن الرّجال في ذلك كلّه.

ونحن نعرف في القرآن الكريم، أنَّ الله جعل ميزان القيمة هو العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[الزّمر: 9]. وورد عن عليّ بن أبي طالب (ع): "قيمة كلّ امرئ ما يحسنه".. قل لي خبرتك، أقل لك ما هي قيمتك.

{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[طه: 114]. إنَّ الإنسان كلّما وصل إلى درجة من العلم، عليه أن ينطلق إلى الأعلى فالأعلى؛ رجلاً كان أو امرأةً، لأنَّ مجتمعنا إذا استطاع أن يتكامل فيه المرأة والرّجل، في العلم والسياسة والاقتصاد، فإننا نستطيع أن نحقّق الكثير من الاكتفاء الذّاتي في بلوغ المواقع الكبرى.

لتحصيل الثّقافة السياسيّة

لذلك، أنا أقول لكنّ، كما أقول للرّجال، إنّكن تستمعن في كلّ يوم إلى الكثير من الفضائيّات أو الإذاعات، أو تقرأن كثيراً من الصحف، ولكن في الوقت نفسه، لا نجد أنّ هناك ثقافة سياسيّة، لأنّنا استهلاكيّون، نقرأ ونسمع تماماً كما نأكل الطّعام الّذي ليس فيه فيتامينات.. يعني عندما تستمعن إلى النشاط السياسيّ في العالم، وإلى التحدّيات السياسية في العالم، عندما تستمعن إلى ما يحدث في فلسطين والعراق، وإلى ما يحدث في أفغانستان أو باكستان، أو ما يحدث في قصّة الصّراع الأميركي الإيراني في الملفّ النوويّ، عليكنّ أن تفكّرن في خلفيّات ذلك، حتى تكون المرأة فيما تسمع وفيما تقرأ، كما يكون الرّجل في هذا المجال.

ولذلك، فإنَّ الحديث عن أنَّ المرأة لا بدَّ أن تتمثَّل في المجلس النيابي أو في الإدارات الكبرى، هذا لا يكفي إذا لم تكن المرأة في الموقع المتقدّم في فهمها لأوضاع بلدها، وفي صلابة موقفها باتخاذ المواقف الصّلبة. وهكذا بالنّسبة إلى الرّجل.. نحن نعرف أنّ كثيراً من الرجال الذين صاروا وزراء ونوّاباً، صاروا كذلك لأنّ لديهم مالاً، ولأنّ لديهم نسباً.

كنت أتحدّث قبل أيّام عن العقليّة الشرقيّة، أنه يكون عندنا شخص سياسي كبير أو عالم كبير، لكنّ ابنه ليس سياسيّاً وليس عالماً، ما المنطق الذي يتحدَّث فيه؟ يقولون "إنّ بيت فلان لا ينبغي أن يقفل"، ينبغي أن يحلّ ابنه مكانه.. ابن العالم، والذي ليس عنده مؤهّلات، يجب أن يكون العالم في القرية أو البلد، ابن السياسي كذلك، وخصوصاً إذا كان عنده مال، وأيضاً هذا الرّجل أو ذاك الرّجل يفرض نفسه على الأمَّة، وفي النظام الطائفيّ يفرض نفسه على الطائفة، كما في أيام الإقطاع، يقولون مات الزعيم وعاش الزعيم، وإن لم يكن يصلح للزّعامة.

علينا أن نغيِّر القيم، أن تكون المسألة أن نقدِّر فلاناً ليس لأنّه ابن فلان، بل لأنّ عنده كفاءة، ولأنه يملك مسؤوليّة.

معيار الكفاءة

ولذلك، فنحن أيضاً نريد أن نقول للمرأة، سواء كانت بنت فلان الكبير أو بنت فلان غير الكبير، إنَّ عليها أن تبني نفسها على الكفاءة، وعندما تريد أن تنطلق بالمسؤوليَّة، سواء في الإدارة أو في النيابة أو في الوزارة أو في أيّ مجال، لا بدّ أن تكون أيضاً في موضع الكفاءة، لأنّ قصّة المسؤوليّة ليست امتيازاً، بل هي تكليف ومسؤوليَّة.

وليس لمجرَّد أن يصبح شخص وزيراً أن نصفّق له، بل علينا أن ننظر؛ هل هو في موقع الوزارة أو لا؟ هل هو في موقع النّيابة أو لا؟ هناك بعض النوّاب تراه في كلّ الجلسات لا ينطق بشيء.

هناك شاعر عراقيّ يتكلّم عن بعض النوّاب في السّابق في العراق:

ونائب يملأ الكرسيّ قلت له       ماذا السّكوت تكلّم أيّها الصّنم

فأنت مثل الصّنم، لأنّك لا تشارك في إعطاء رأي أو قرار، وليس له من أمره إلا أن يعدّد أياماً ويقبض راتباً.

لذلك، في موقفنا هذا أيّتها الأخوات، نريد للمرأة أن تثق بنفسها وبربِّها، وأن تثق بطاقاتها وبقدراتها، أن لا ينكّت الرّجال ـ وأنتنّ تسمعنهم ـ أنّ النساء عندما يجتمعن في الديوانيات أو الصالونات، ليس عندهنّ حديث إلا آخر صيحات الموضة وآخر مساحيق التجميل أو ما إلى ذلك...

علينا عندما نجتمع أن نتحدّث بالسياسة، بالفكر، بالعلم، بمستقبل الأمَّة، بعلاقتنا بالله سبحانه وتعالى، بمسؤوليَّتنا أمام الله سبحانه وتعالى، لأنَّ الله في القرآن لم يفرِّق بين الرَّجل والمرأة {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى}[آل عمران: 195]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: 36].

ولذلك، ليس هناك فكرة أنّ الرجل عند الله هو أعلى من المرأة، بل القضيّة تنطلق من خلال طبيعة العمل. قد تكون المرأة أكثر عملاً من الرّجل، فتكون أقرب إلى الله، وقد يكون الرّجل أكثر عملاً، فيكون أقرب إلى الله، لأنّه ليس بين الله وبين أحد قرابة.

لذلك، عندما ندخل في شهر رمضان، الّذي هو شهر الإسلام وشهر الطّهور وشهر التّغيير وشهر التّمحيص، ننزل إلى داخل نفوسنا، لنرى ما فيها من نقاط الضّعف لنحوِّلها إلى نقاط قوَّة، وما فيها من نقاط قوَّة، فنستزيد من نقاط القوَّة في هذ المجال.

مسؤوليّة فرديّة

أيّتها الأخوات، إنَّ المسألة هي أنَّ الإنسان لا يملك إلا نفسه، يعيش في الحياة بما لديه من عناصر الشخصيَّة الفاعلة القويَّة، ويقف غداً في يوم القيامة أيضًا بنفسه. المسؤوليّة في الإسلام فرديّة، فالإنسان لا بدّ أن يبني نفسه بناءً قويّاً صالحاً فاعلاً...

لنكن في هذا العالم، وفي شعبنا، وفي أمّتنا.. لنكن فاعلين، وعلينا أن لا نكون منفعلين، حتى نستطيع أن نصنع لشعبنا الحريّة والقوَّة والاستقلال، وحتى نستطيع أن نصنع لأمَّتنا العزّة والكرامة، وحتى نستطيع أن نقول للعالم كلّه، إنّ المرأة المسلمة والمرأة المؤمنة، تماماً كما هو الرَّجل المسلم والرّجل المؤمن، يمكن له أن يصنع الحياة على صورة الخير والعدل.

هذا هو ما نفكّر فيه، أن نتحرّك لنصنع الحياة بالعقل والقلب والحركة والنّشاط: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التّوبة: 105].

والسلام عليكنّ ورحمة الله وبركاته.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية