كتابات
04/11/2013

الإنسان بين الانحراف والاستقامة

الإنسان بين الانحراف والاستقامة

تحدّث الله تعالى عن هؤلاء الّذين ضلوا وأضلّوا بقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فهم يحملون أثقال الخطايا الّتي ارتكبوها في السّير في خطّ الشّرك وخطّ الكفر والتمرّد على الله، وهم أضلّوا غيرهم بالوسائل الّتي استعملوها معهم، مستغلّين الكثير من الظّروف المحيطة بهؤلاء النّاس من المستضعفين. { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}[1]، أي ساء ما يحملون من الأثقال؛ أثقال السيّئات الّتي تثقل مصيرهم يوم القيامة، لأنهم كانوا من الكافرين ومن المشركين، وبنوا عقائدهم على أساس الشّرك وعلى أساس الكفر مما لا قاعدة له ولا أساس، لأنّ الكفر لا ينطلق من قاعدة ثابتة في حياة الإنسان وفي الواقع، بل إنَّه لا ينطلق من أيّ أساس فكريّ يمكن للإنسان أن يعتمد عليه، فالله يقول إنَّ هؤلاء بنوا بنياناً لم يرتكز على أساس قويّ، وعلى جذور عميقة في الأرض، لذلك سقط السّقف عليهم، لأنّ السقف إذا لم يكن مرتكزاً على أساس، فمن الطّبيعيّ أنّ أيّة هزَّة تحصل، ستهدّم السقف وكلَّ ما يحيط به.

سقوط الكفر

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ}، قواعد الأسس الّتي يرتكز عليها البناء {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}[2]، فإمّا أن يعذّبهم في الدّنيا كما كان يعذّب الأمم السّابقة، وإمّا أن يعذبهم في الآخرة، { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}، أين هؤلاء الّذين كنتم تعبدونهم من دوني، وتطيعونهم في معصيتي، وكنتم تختلفون مع النّاس الآخرين في جدالكم معهم حول هؤلاء الشّركاء، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}[3]، فالّذين كفروا بالله سبحانه وتعالى، وكفروا بتوحيده وانحرفوا عنه، فإنَّهم لا يجدون في يوم القيامة مرتكزاً يمكن أن يرتكزوا عليه ليأملوا بالنَّجاة أو بالنَّعيم، بل المسألة بالعكس {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، وهنا محلّ الشَّاهد، أنّهم ظلموا أنفسهم بواسطة الكفر والشِّرك والانحراف عن الخطّ المستقيم، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ}، أي استسلموا {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}، فهم عندما واجهوا الحساب أمام الله سبحانه وتعالى، لم يلتفتوا إلى أنّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[4]، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[5]، لم يلتفتوا إلى ذلك، وظنُّوا أنهم يملكون أن يتبرّأوا مما هم فيه أمام الله، كما كانوا يحاولون التّبرئة في الدّنيا عندما يقفون أمام الحاكم أو القاضي.

{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}، كنّا أناساً طيّبين وصالحين ومؤمنين، ولكنّ الله يجيبهم: {بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[6]، فإذا غاب عن النّاس سرّكم وجهركم، فإنّ الله لا يغيب عنه أيّ شيء {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[7]، وفي ذلك إشارة إلى أنّ الكثيرين من النَّاس الّذين ينكرون الحقّ ويجحدونه، ينطلقون من حالة كبرياء نفسيَّة تمنعهم من أن يخضعوا لمن يحدِّثهم ويدعوهم إلى الحقّ، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}[8]، فهم على يقين مما يسمعونه من رسالات الأنبياء أو من النّاس الّذين يهدون إلى الحقّ، ولكنّهم من خلال الكبرياء الّتي تجعلهم يعيشون انتفاخ الشخصيّة ينكرون ذلك.

ولذلك، فإنَّ التكبّر قد يكون له مشكلتان؛ المشكلة الأولى، هي ما يعيشه الإنسان مع النّاس الّذين يعاشرهم ويعاشرونه، ويتعامل معهم ويتعاملون معه، حيث يدفعه التكبّر والشّعور بالعلوّ على النّاس إلى أن يسيء معاملتهم، وإلى أن يحتقرهم ولا يتواضع لهم. والمشكلة الثّانية، هي أنّ التكبّر يمنعه من أن يرضخ للحقّ، أيّ أنّ الإنسان يمكن أن يحمل فكرة أو يرث فكرة معيّنة من خلال الآباء والأجداد، وتأتي أنت من أجل أن تقدّم له الأدلّة على خطئه في هذه الفكرة أو في الطّريق الّذي يسير فيه، فحتّى لو كانت الفكرة مقنعة، فهو ليس مستعدّاً لأن يقتنع، لا من جهة أنَّ الفكرة لا تقنعه، أو أنَّ الدّليل لا يقنعه، ولكن لأنّ التكبّر يمنعه من أن يرضخ للحقّ. ولذلك ركّز الله تعالى على أنّ هذه النّتائج السلبيّة الّتي تحيط بمصيرهم، إنّما انطلقت من خلال تكبّرهم {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.

تكريم المؤمنين

وهناك فريق آخر، وهم الواعون الّذين انفتحوا على الحقيقة، والّذين عرفوا الله سبحانه وتعالى، وتأمّلوا في ما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسله من الآيات والبيّنات، فآمنوا بالله، وساروا في خطّ التّقوى، {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً}، كلّ ما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسله هو الخير كلّه، والخير في الفكر الّذي يتمثّل في ما يريدنا الله تعالى أن نعتقده ونؤمن به، والخير في الشّريعة الّتي أرادنا الله تعالى أن نسير عليها، والخير في العلاقات والمعاملات والمناهج الّتي أرادنا الله تعالى لنا أن نأخذ بها.

إنَّ الله هو الخير كلّه، ولا يمكن أن ينزل على عباده من خلال رحمته ومن خلال لطفه، إلا الخير الّذي إذا أخذ النّاس به، عاشوا في الخير كلّه في الدّنيا وفي نتائجه في الآخرة، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، فالله سبحانه وتعالى يعطي المحسنين الّذين يسيرون في خطّ الإحسان لأنفسهم، والإحسان لله، يعطيهم حسنة، وهي تعبير عن الكرامة الّتي يكرّمهم الله بها، والنِّعم الّتي يغدقها عليهم، والألطاف الّتي يفيضها سبحانه وتعالى عليهم، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، خير من الدّنيا وما فيها، لأنّها دار الخلود ودار النّعيم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}[9]، لأنّ الآخرة إنّما هي للمتّقين الّذين آمنوا بالله وعرفوا مقام ربّهم، وساروا في خطّ ما أمرهم الله به ففعلوه، وما نهاهم عنه فتركوه، {جنَّاتُ عَدْنٍ}، هذه هي دار المتّقين، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ}، فليس هناك شيء يشتهيه الإنسان ويحبّه إلاّ ويمنحه إيّاه الله في تلك الدّار، لأنّ تلك الدّار ليس فيها حرمان، وليس فيها أيّ شيء يحمل الإنسان على منعه منه، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ}[10] على أساس التّقوى وعلى أساس عملهم، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ}، فهؤلاء تتوفّاهم الملائكة طيّبين، باعتبار أنهم كانوا طيّبين في إيمانهم، وطيّبين في أعمالهم، وطيّبين في مشاعرهم وأحاسيسهم، وما تختزنه شخصيّاتهم من الطّيبة لكلِّ من حولهم، ولكلّ الحياة الّتي لا يعطونها إلاّ كلّ شيء طيّب، ولا يعطونها أيّ شيء خبيث، {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ}، تتلقَّاهم الملائكة، ويسلّمون عليهم مرحّبين بهم {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[11].

ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن أولئك الّذين ظلموا أنفسهم، ماذا يريد هؤلاء؟ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، دفعهم الكبرياء للقول للرّسل إنّه إذا فرضنا أنّكم صادقون، فلينزل الله العذاب، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[12]، لأنّ الله تعالى أعطاهم كلّ عناصر الهداية، وكلّ عناصر الرّشاد، ولكنّهم أهملوا ذلك { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}، لأنّ الإنسان إذا زرع، لا بدَّ من أن يحصد ما زرع؛ فإذا زرع الشّرّ، فلا بدَّ من أن يحصد الشّرّ، وإذا زرع الخير، فلا بدّ من أن يحصد الخير.

{وَحَاقَ بِهِم} أي حلّ بهم، {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[13] مما كانوا يواجهون به الأنبياء من السّخرية والاستهزاء.

*  محاضرة، بتاريخ: 5/5/1425 هـ  / الموافق 22/6/2004  م


[1] ـ[النّحل: 25].

[2] ـ[النحل : 26].

[3] ـ[النحل: 27].

[4] ـ [غافر: 19].

[5] ـ[المجادلة: 7].

[6] ـ[النّحل: 28].

[7] ـ[النّحل: 29].

[8] ـ[النّمل: 14].

[9] ـ[النّحل: 30].

[10] ـ [النّحل: 31].

[11] ـ[النّحل: 32].

[12] ـ[النّحل: 33].

[13] ـ [النّحل: 34].

تحدّث الله تعالى عن هؤلاء الّذين ضلوا وأضلّوا بقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فهم يحملون أثقال الخطايا الّتي ارتكبوها في السّير في خطّ الشّرك وخطّ الكفر والتمرّد على الله، وهم أضلّوا غيرهم بالوسائل الّتي استعملوها معهم، مستغلّين الكثير من الظّروف المحيطة بهؤلاء النّاس من المستضعفين. { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}[1]، أي ساء ما يحملون من الأثقال؛ أثقال السيّئات الّتي تثقل مصيرهم يوم القيامة، لأنهم كانوا من الكافرين ومن المشركين، وبنوا عقائدهم على أساس الشّرك وعلى أساس الكفر مما لا قاعدة له ولا أساس، لأنّ الكفر لا ينطلق من قاعدة ثابتة في حياة الإنسان وفي الواقع، بل إنَّه لا ينطلق من أيّ أساس فكريّ يمكن للإنسان أن يعتمد عليه، فالله يقول إنَّ هؤلاء بنوا بنياناً لم يرتكز على أساس قويّ، وعلى جذور عميقة في الأرض، لذلك سقط السّقف عليهم، لأنّ السقف إذا لم يكن مرتكزاً على أساس، فمن الطّبيعيّ أنّ أيّة هزَّة تحصل، ستهدّم السقف وكلَّ ما يحيط به.

سقوط الكفر

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ}، قواعد الأسس الّتي يرتكز عليها البناء {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}[2]، فإمّا أن يعذّبهم في الدّنيا كما كان يعذّب الأمم السّابقة، وإمّا أن يعذبهم في الآخرة، { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}، أين هؤلاء الّذين كنتم تعبدونهم من دوني، وتطيعونهم في معصيتي، وكنتم تختلفون مع النّاس الآخرين في جدالكم معهم حول هؤلاء الشّركاء، {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}[3]، فالّذين كفروا بالله سبحانه وتعالى، وكفروا بتوحيده وانحرفوا عنه، فإنَّهم لا يجدون في يوم القيامة مرتكزاً يمكن أن يرتكزوا عليه ليأملوا بالنَّجاة أو بالنَّعيم، بل المسألة بالعكس {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، وهنا محلّ الشَّاهد، أنّهم ظلموا أنفسهم بواسطة الكفر والشِّرك والانحراف عن الخطّ المستقيم، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ}، أي استسلموا {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}، فهم عندما واجهوا الحساب أمام الله سبحانه وتعالى، لم يلتفتوا إلى أنّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[4]، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[5]، لم يلتفتوا إلى ذلك، وظنُّوا أنهم يملكون أن يتبرّأوا مما هم فيه أمام الله، كما كانوا يحاولون التّبرئة في الدّنيا عندما يقفون أمام الحاكم أو القاضي.

{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ}، كنّا أناساً طيّبين وصالحين ومؤمنين، ولكنّ الله يجيبهم: {بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[6]، فإذا غاب عن النّاس سرّكم وجهركم، فإنّ الله لا يغيب عنه أيّ شيء {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}[7]، وفي ذلك إشارة إلى أنّ الكثيرين من النَّاس الّذين ينكرون الحقّ ويجحدونه، ينطلقون من حالة كبرياء نفسيَّة تمنعهم من أن يخضعوا لمن يحدِّثهم ويدعوهم إلى الحقّ، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}[8]، فهم على يقين مما يسمعونه من رسالات الأنبياء أو من النّاس الّذين يهدون إلى الحقّ، ولكنّهم من خلال الكبرياء الّتي تجعلهم يعيشون انتفاخ الشخصيّة ينكرون ذلك.

ولذلك، فإنَّ التكبّر قد يكون له مشكلتان؛ المشكلة الأولى، هي ما يعيشه الإنسان مع النّاس الّذين يعاشرهم ويعاشرونه، ويتعامل معهم ويتعاملون معه، حيث يدفعه التكبّر والشّعور بالعلوّ على النّاس إلى أن يسيء معاملتهم، وإلى أن يحتقرهم ولا يتواضع لهم. والمشكلة الثّانية، هي أنّ التكبّر يمنعه من أن يرضخ للحقّ، أيّ أنّ الإنسان يمكن أن يحمل فكرة أو يرث فكرة معيّنة من خلال الآباء والأجداد، وتأتي أنت من أجل أن تقدّم له الأدلّة على خطئه في هذه الفكرة أو في الطّريق الّذي يسير فيه، فحتّى لو كانت الفكرة مقنعة، فهو ليس مستعدّاً لأن يقتنع، لا من جهة أنَّ الفكرة لا تقنعه، أو أنَّ الدّليل لا يقنعه، ولكن لأنّ التكبّر يمنعه من أن يرضخ للحقّ. ولذلك ركّز الله تعالى على أنّ هذه النّتائج السلبيّة الّتي تحيط بمصيرهم، إنّما انطلقت من خلال تكبّرهم {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}.

تكريم المؤمنين

وهناك فريق آخر، وهم الواعون الّذين انفتحوا على الحقيقة، والّذين عرفوا الله سبحانه وتعالى، وتأمّلوا في ما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسله من الآيات والبيّنات، فآمنوا بالله، وساروا في خطّ التّقوى، {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً}، كلّ ما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسله هو الخير كلّه، والخير في الفكر الّذي يتمثّل في ما يريدنا الله تعالى أن نعتقده ونؤمن به، والخير في الشّريعة الّتي أرادنا الله تعالى أن نسير عليها، والخير في العلاقات والمعاملات والمناهج الّتي أرادنا الله تعالى لنا أن نأخذ بها.

إنَّ الله هو الخير كلّه، ولا يمكن أن ينزل على عباده من خلال رحمته ومن خلال لطفه، إلا الخير الّذي إذا أخذ النّاس به، عاشوا في الخير كلّه في الدّنيا وفي نتائجه في الآخرة، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}، فالله سبحانه وتعالى يعطي المحسنين الّذين يسيرون في خطّ الإحسان لأنفسهم، والإحسان لله، يعطيهم حسنة، وهي تعبير عن الكرامة الّتي يكرّمهم الله بها، والنِّعم الّتي يغدقها عليهم، والألطاف الّتي يفيضها سبحانه وتعالى عليهم، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، خير من الدّنيا وما فيها، لأنّها دار الخلود ودار النّعيم، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}[9]، لأنّ الآخرة إنّما هي للمتّقين الّذين آمنوا بالله وعرفوا مقام ربّهم، وساروا في خطّ ما أمرهم الله به ففعلوه، وما نهاهم عنه فتركوه، {جنَّاتُ عَدْنٍ}، هذه هي دار المتّقين، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ}، فليس هناك شيء يشتهيه الإنسان ويحبّه إلاّ ويمنحه إيّاه الله في تلك الدّار، لأنّ تلك الدّار ليس فيها حرمان، وليس فيها أيّ شيء يحمل الإنسان على منعه منه، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ}[10] على أساس التّقوى وعلى أساس عملهم، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ}، فهؤلاء تتوفّاهم الملائكة طيّبين، باعتبار أنهم كانوا طيّبين في إيمانهم، وطيّبين في أعمالهم، وطيّبين في مشاعرهم وأحاسيسهم، وما تختزنه شخصيّاتهم من الطّيبة لكلِّ من حولهم، ولكلّ الحياة الّتي لا يعطونها إلاّ كلّ شيء طيّب، ولا يعطونها أيّ شيء خبيث، {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ}، تتلقَّاهم الملائكة، ويسلّمون عليهم مرحّبين بهم {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[11].

ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يتحدَّث عن أولئك الّذين ظلموا أنفسهم، ماذا يريد هؤلاء؟ {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}، دفعهم الكبرياء للقول للرّسل إنّه إذا فرضنا أنّكم صادقون، فلينزل الله العذاب، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[12]، لأنّ الله تعالى أعطاهم كلّ عناصر الهداية، وكلّ عناصر الرّشاد، ولكنّهم أهملوا ذلك { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ}، لأنّ الإنسان إذا زرع، لا بدَّ من أن يحصد ما زرع؛ فإذا زرع الشّرّ، فلا بدَّ من أن يحصد الشّرّ، وإذا زرع الخير، فلا بدّ من أن يحصد الخير.

{وَحَاقَ بِهِم} أي حلّ بهم، {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[13] مما كانوا يواجهون به الأنبياء من السّخرية والاستهزاء.

*  محاضرة، بتاريخ: 5/5/1425 هـ  / الموافق 22/6/2004  م


[1] ـ[النّحل: 25].

[2] ـ[النحل : 26].

[3] ـ[النحل: 27].

[4] ـ [غافر: 19].

[5] ـ[المجادلة: 7].

[6] ـ[النّحل: 28].

[7] ـ[النّحل: 29].

[8] ـ[النّمل: 14].

[9] ـ[النّحل: 30].

[10] ـ [النّحل: 31].

[11] ـ[النّحل: 32].

[12] ـ[النّحل: 33].

[13] ـ [النّحل: 34].

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية