إنّني من الذين يشجّعون على الحوار مع الأطفال، من أجل إقناعهم بما يُفرض عليهم، أو بما نريد توجيههم إليه، لأنّ الاقتناع يعمّق الفكرة في النفس أكثر من الضّغط. ولعلّ أهمية ذلك أنّ الولد يبدأ منذ طفولته الأولى بتحسّس استقلال شخصيته التي تقول "لا" و"نعم"، والتي تناقش ما يلقى إليها من أفكار، فتقتنع تارةً ولا تقتنع أخرى. قد يرى البعض في استخدام هذا الأسلوب أمراً سلبيّاً، لأن الطفل لا يستطيع أن يفكّر بشكل مستقلّ، وقد يتعرّض في هذا الجوّ لتجارب تفوق طاقته نتيجة ثقته بنفسه.
1- الحوار مع الطّفل
لكنّني أتصوّر أنّ باستطاعتنا أن نتفادى هذه السلبيّات عندما نحسن أسلوب الحوار مع الأطفال، بحيث يكون بمستواهم، وليس كما هو حال من يحاورون الأطفال كما لو كانوا كباراً. إنّنا نستحضر في هذا المجال القول المأثور: "من كان له صبيّ فليتصابَ له"، يعني فليحدّثه وليحاوره كما يحاور الأطفال بعضهم بعضاً، وليستخدم معه أساليب الإقناع الّتي يستخدمها الأطفال في إقناع بعضهم بعضاً، حتّى إذا وصل الحوار مع الطّفل إلى ما يُسمّى بالخطوط الحمراء، أمكن الأب أن يتدخَّل بأسلوبٍ ما لإشعار الولد بأنَّه تجاوز حدوده، مع تأكيد ضرورة أن يتحرَّك الحوار في إطار حكيم جدّاً، فمع كلِّ هذا السَّعي إلى تنمية شخصيَّة الطّفل وتشجيعه على التّفكير والحوار والاعتراض والمناقشة، لا بدَّ من أن يحسّ الطّفل بأنّه يعيش ضمن نظام مدروس داخل المنزل.
إنَّ مسألة الاحترام هذه تتعلّق بوجود فارق بين الكبار والصِّغار، لذلك، لا بدَّ لنا من أن نستخدم الأسلوب الَّذي يمنع الطِّفل من استغلال الحريَّة بشكل يسيء إليه، فالقسوة لن تمحو التمرّد، بل سترسّخه، فهي تعمِّق لدى الطّفل الإحساس بالرّفض الدّائم بسبب إحساسه بالقهر. إنَّ ردَّ الفعل السَّليم، في رأيي، يكون بمحاورة الطّفل بالأسلوب الّذي يتناسب مع قدرته على فهم الأمور ووعيها، وذلك بتبيان المصلحة الّتي تكمن وراء مطالبته بالعمل المقصود إذا كان يُعلن رفضه له، أو في تركه أمراً ما إذا كان يفعل شيئاً مضرّاً به.
إنّ ذلك هو الأسلوب الّذي يمكّننا إذا أحسنَّا استخدامه، من نزع فكرة الرَّفض من ذهن الطّفل، فضلاً عن نزعها من حياته، بينما قد يساهم ردّ الفعل القاسي في إبعاد الرَّفض عن سلوكه، لكنّه لن يتمكّن من إبعاده عن ذهنه. ودورنا بالنّسبة إلى الطّفل ليس فرض القبول عليه، ولكن إبعاد الرَّفض الدّائم عنه، كي لا يتحوَّل إلى ذهنيَّة الرَّفض في حال ازدادت قوّة الضّغط عليه.
قد نحتاج تربويّاً إلى إشعار الطّفل بوجود قضايا تتعلّق بمصيره لا يملك الحريَّة في أن يفعل أو أن يترك ما يشاء منها، ولا سيَّما في المرحلة الّتي نركِّز فيها عناصر شخصيَّته، كما نحتاج إلى إشاعة الإحساس بالأمن لديه. ولتسهيل انصياعه للأوامر، لا بدَّ من إشعاره بقوَّة موقع من يرعاه، ونفاذ إرادته، مع تأكيد احترام حريّة الطّفل الذاتيّة في الاقتناع، وذلك باستخدام الأسلوب الّذي يشعر الولد بأنّ انصياعه لأمر المربّي، أباً كان أو معلّماً، نابع من إرادته الشخصيّة، وليس من أمر صادر من فوق، بمعنى أنّ من هو فوق يقدّم الفكرة المطلوبة للولد بأسلوب يجعله يختارها.
2- حريّة الطّفل داخل المنـزل
لا شكَّ في أنَّ تربية الولد على النِّظام أمر حيويّ لمستقبله، ولكن لا بدّ لنا من أن نمنح الولد مساحةً واسعةً يلبّي فيها حاجته إلى الحريّة، ولا بدّ من أن نؤمّن له ساحةً للّعب واللّهو، ونفتح له مجال اللّهو خارج البيت، مع ملاحظة أساسيَّة، وهي أن لا يخرِّب حياته بلهوه وعبثه، لذا يفترض أن نعلمه احترام نظام البيت العام، فنطلب منه على سبيل المثال أن يرتّب سريره عندما يستيقظ من النّوم، وأن لا يقفز فوق السّرير، ففي الوقت الّذي نسمح له بالقفز واللّعب داخل الغرفة، يجب أن نوضح له الممنوعات، فنقول: اقفز على الأرض، ونحظر عليه كسر الأشياء وما إلى ذلك، كما يفترض بنا، أن نؤمّن للطّفل الألعاب التي تسهل احترامه لنظام المنزل، بحيث يستغني عن اللّعب بزجاجات العطر أو اللّوحات الفنيّة الموجودة في البيت وما إلى ذلك. ولو فرضنا أنّ الولد فعل شيئاً من ذلك، فعلينا أن لا نقسو عليه، بل أن ننبّهه بطريقة ملائمة، بحيث نشعره بذنبه.
إنّ مشكلة كثير من الأهل، هي أنهم يحبسون أولادهم في دائرة ضيّقة، ولا يتيحون لهم فرصة اللّعب في مساحة واسعة من المنزل، بحيث يتحوّل البيت إلى سجنٍ للولد يخلق في نفسه نفوراً شديداً وميلاً إلى الهرب منه، قد يعبّر عنه بتخريب الأشياء، أو بالتمرّد على الأهل تنفيساً عن شعوره بالضّيق.
3- رغبات الطّفل المادّيّة
لا بدّ للأهل من التعاطي مع رغبات الولد بشيء من الحكمة، بحيث يدرسون تلك الرغبات، فيلبّون بعضها ويمنعون بعضها الآخر، حتّى يعوّدوا الولد على أن يتحسَّس الحرمان ليشعر بحرمان الآخرين، وهذا ما يعالجه تشريع الصّوم، كما أنّ عليهم أن يدرّبوه على التعب وعلى الألم وعلى المعاناة، كي يتمكّن من مواجهة الصّعاب في المستقبل.
وأعتقد أنّ هذه الأمور التي نتحدّث عنها تشمل كلّ جوانب الحياة، لأنَّ تعوّد الولد على الحصول على كلِّ ما يحتاجه من دون جهد، لا يعني أنَّ كلَّ أمور الحياة ستكون مبذولةً أمامه بالمستوى نفسه من السّهولة، فقد يواجه هذا الولد عندما يشبّ مشاكل زوجيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو أمنيّة أو ما إلى ذلك، سيعجز حتماً عن حلّها إذا ما تعوّد على الدّلال وعلى أن لا يفكّر ولا يتعب ولا يعاني، وهو بالتّالي سوف يسقط أمام كلّ مشكلة من مشاكل الحياة.
لا بدّ للأهل من التعاطي مع رغبات الولد بشيء من الحكمة، بحيث يدرسونها، فيلبّون بعضها ويمنعون بعضها الآخر، حتّى يعوّدوا الولد على أن يتحسّس الحرمان، كما عليهم أن يدرّبوه على التّعب والألم والمعاناة، كي يتمكّن من مواجهة الصّعاب في المستقبل...
علينا أن نعطي أولادنا عاطفةً حُرِمْناها وعاطفةً عشناها، لكنَّ العاطفة تقتضي أيضاً أن نربّي أولادنا على أن يواجهوا صعوبات الحياة كي يتمكَّنوا من الثّبات أمامها، فبعض الحرمان لا يتعارض مع العاطفة، لأنّ العاطفة ليست نبضات قلب فقط، بل هي سلوك تربويّ يسعى معه الآباء إلى تجنيب أولادهم السّقوط أمام تحدّيات الحياة، سواء كانت حياتهم رخيّة أو صعبة.
قد يتعلَّم أفراد المجتمع الّذين يعيشون الصّعوبات والمشاكل، سواء كانوا صغاراً أو كباراً، التّعايش مع الضّغوط بوصفها أمراً واقعاً يستسلمون له عندما لا يملكون التخلّص منها، بينما عندما يعيش المجتمع بعض الأوضاع الاسترخائيّة، ولو من خلال الصورة التي يشاهدونها في التلفزيون، فإنّ ذلك قد يثير فيهم الإحساس بالحرمان، ويحملهم على الشّكوى، لكنّ هذا الأمر ليس قاعدةً تشمل كلّ النّاس، لا في الماضي ولا في الحاضر، فقد نجد في كلّ المجتمعات، على تنوّعها، أطفالاً يبدعون ويتفوّقون ويصبرون، باعتبار أنّ الحرمان يزيدهم عزماً على تأكيد ذاتهم ووجودهم، فيتفوَّقون على من يملكون المال، وقد نجد من يغرقون في الشّكوى على الرّغم من امتلاكهم كلّ إمكانيات الحياة.
أنا لا أعتقد أنّ الفقر سبب ضمني لسوء التّربية أو لخلق المشاكل عند الأولاد، فمن الممكن للأهل أن يعلّموا أولادهم الصّبر، وأن يحدّثوهم عن أنّ الحياة يسر وعسر، وأنّ المال ليس قيمةً بحدّ ذاته، وأن يمنحوهم الكثير من العطف والمحبّة لتعويضهم عن الحرمان المادّيّ، وأن يبحثوا لهم عن متنفّس يلهون به ويشغلهم عن واقعهم الصّعب، بالطّريقة الّتي يمكن أن تعوّض إحساسهم بالحرمان وتملأ مشاعرهم بالفرح.
وليس من الضّروريّ أن يكون الاكتفاء المادّيّ سبب مفسدة للولد في طبيعته، ولكنّ المفسدة تتأتّى عادةً من الأجواء الّتي تحيط بالأسر الغنيّة الّتي تندفع إلى الإفراط في تدليل الولد، بحيث يجد كلّ ما يحبّه ويريده، فيفقد بالتّالي الصّلابة أمام تحدّيات الحياة ومشاكلها.
4- الإعالة وآثارها
إنّ على الأب مسؤوليّة الإنفاق على الولد إلى أن يستقلّ ويعيل نفسه، وتأمين قاعدة التحرّك المادّيّ في مستقبله، ولكن هذا لا يعني أنّ على الأب أن يهيّئ لولده رصيداً مادّياً ينطلق منه هذا الأخير في تأمين مستقبله، بل ربّما يكون أمراً كهذا مخالفاً لمصلحة الولد، لأنّه سيصبح في هذه الحال اتّكالياً، فالغرض من هذه المسؤوليّة الأبويّة عن الولد في حالة حاجته إليه، أن يحضّر الأب للولد الظّروف الطبيعيّة التي تجعله يستقلّ بنفسه، ثم قد تنقلب الأدوار، فيصبح الولد مسؤولاً عن رعاية أبيه وأمّه عند كبرهما.
ومن جهة ثانية، فإن الإسلام يشجّع على الزّواج المبكر لصيانة الولد عن الانحراف من النّاحية الجنسيّة، وإعفافه في هذا الجانب. هذا من حيث المبدأ، أمَّا إذا كانت هناك بعض السلبيَّات، فلا بدَّ من ملاحظتها من قبله، والعمل على معالجتها للتّخفيف من تأثيرها في تأخير الزّواج، لأنّ مسألة إعفاف الولد، ذكراً أو أنثى، من الناحية الجنسية، تمثّل مركز الأهمية في التشريع الإسلاميّ، من حيث علاقتها بتلبية الحاجات الحيويّة للإنسان، وإبعاده عن الانحراف من هذا الجانب، نظراً إلى قوّة الغريزة الجنسيّة على حياته. وإذا كانت هناك بعض الظّروف المانعة من الزّواج المبكر، فينبغي مواجهتها بطريقة واقعيّة، من أجل الوصول إلى نتيجة إيجابيّة مادّياً ومعنويّاً مهما أمكن.
5- العدالة بين الأولاد
إن انشداد الأب أو الأمّ تجاه أحد أولادهما بشكل خاص، في حال كان هذا الولد أفضل في القيمة الدينية أو الأخلاقية أو العلمية من غيره، وإعجابهما بمن يملك صفات مميّزة من أبنائهما، هو أمر طبيعي، ولكن عليهما أن لا يعبّرا عن ذلك الإعجاب بالطريقة التي يشعر فيها الولد الآخر، لو فرضنا أنّ العائلة مؤلّفة من ولدين، بالحرمان أو بالدونية أو بالسقوط وما إلى ذلك، بحيث يتصوّر أنّ ذاك الأخ هو المسؤول عن حرمانه من الجمال والقوّة والذّكاء وما إلى ذلك، فتتولّد لديه مشاعر الحسد، وخصوصاً أنّ الأطفال يعجزون عن ردّ الأشياء إلى أسبابها الطبيعيّة، وهو ما يجب أن يقوم الأهل به. ومع ذلك، فإنّ عقدة الأبناء من الولد المميّز قد تبقى وتتفاعل، وهذا ما نقرأه في قصّة يوسف(ع): {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}[يوسف: 120].
وعلى الأهل أن يستعملوا أسلوباً حكيماً في علاج نقاط الضّعف الموجودة عند أحد الأولاد مقارنةً بالآخرين، إذا أرادوا توجيهه أو تأنيبه. لذلك، لا بدَّ من أن لا يكون ذلك أمام أخيه، بحيث يُحرج أمامه ويفقد احترامه لنفسه وما إلى ذلك.
ومن حقّ الأهل أن يؤنّبوا أولادهم على ما يلحقونه بأنفسهم من ضرر، ولكن عليهم أن يكونوا دقيقين في طريقة التّأنيب، انطلاقاً من مبدأ الرّحمة الذي يقتضي أن يختاروا الأسلوب والقول الأحسن {وقُلْ لعبادِي يَقُوْلُوْا الَّتِيْ هِيَ أَحْسَن}[الإسراء: 53]، وانطلاقاً من مسؤوليّتهم عن حماية الأولاد من المشاكل النفسيّة، بحيث لا تؤدّي القساوة إلى كسر نفس الولد أمام إخوته، إذا فرضنا أنّ الأب أسقط المخطئ أمامهم، وأخذ الباقون يضحكون منه ويقومون ببعض الحركات التي تسيء إليه.
ولكن قد يبقى التّمييز بين الأولاد قائماً في حال كان أحدهم يتميّز بقيمة أخلاقيّة أو بقيمة علميّة مثلاً، ليكون ذلك تشجيعاً للآخرين على أن يكونوا مثله في الأخلاق أو في العلم، على طريقة: "ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء".
أمّا عملية توجيه الإنسان وعملية صنعه، فهي من أكثر العمليات صعوبةً وتعقيداً في الحياة، فهناك فرق كبير بين أن يتعامل الإنسان مع جماد وأن يتعامل مع إنسان، لأنّ الإنسان يتنوّع في حالاته تبعاً لتنوّع الأوضاع والأجواء والأساليب التي يستعملها الآخرون معه، وكلّ هذا يتطلّب ممن يتصدّى للتّربية صبراً وحكمةً ووعياً.
6- التخفيف من آثار الطّلاق حال وجوده
قد يكون من حقّ الولد أن يتربّى في أسرة متماسكة، إلا أنَّ للطّلاق تأثيرات إيجابيّة في الأولاد في حال فشل زواج الوالدين وتحوّل علاقتهما إلى جحيم لا يطاق بالنّسبة إلى الأولاد، وخصصاً عندما يضرب الزّوج زوجته، أو تهرب الزوجة من زوجها، وعندما يتشاتمان ويتنازعان ويتهاجران بشكلٍ دائم وما إلى ذلك، ما يعطي الأولاد إحساساً بالاضطهاد والحيرة والتمزّق، ويضعهم في حالة طوارئ تدمّر نفسيّاتهم، وتعطيهم صورة سلبية عن الحياة والزّواج وعن الجنس الآخر، إلى درجة يتعقّد فيها الصبيّ من المرأة إذا كانت أمّه تسيء إلى أبيه، وتتعقّد البنت من الرّجل إذا كان أبوها يسيء إلى أمّها وما إلى ذلك.
وقد ذكر بعض العلماء، أنّ المجرمين هم أولاد الخلافات الزوجيّة. لذلك أراد الإسلام من الزّوجين معالجة خلافاتهما قبل الوصول إلى الطّلاق الّذي هو أبغض الحلال إلى الله، فركّز على أن يكون أساس العلاقة الزوجيّة مبنيّاً على المودّة والرّحمة، والأمن والسّكينة، وهو المناخ المثاليّ لتنشئة الأولاد. كما حصَّن الإسلام الزواج من إمكانيّة الانهيار تحت تأثير الخلافات، بقانون تحكيم العائلة {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}[النّساء: 35]، فإذا نشبت الخلافات، ولم تنفع معها كلّ الإجراءات الوقائيّة، فإنّ الطّلاق عند ذلك يكون الحالة الأسلم للزّوجين وللأولاد، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة: 229].
وتترتّب على الطّلاق الكثير من الالتزامات المادّيّة والمعنويّة تجاه الأولاد، وهي التزامات تعجز المرأة عن القيام بها. من هنا، فإنّ الإسلام أعطى حقّ الحضانة للأب، ذلك أنّ وجود الولد معها قد يعطّل إمكانيّة زواجها، أو قد يضرّ بالولد نفسه عندما يرفضه زوجها الجديد، وربما كان الهدف من ذلك التّشريع، إعطاء الولد فرصة أن ينمو نمواً طبيعيّاً، وهو ما لا يتحقّق إلا بوجود الأب الذي يمنحه الإحساس بالقوّة أو الصّلابة، وهو أمر قد لا تمنحه الأمّ له، ولا سيّما مع الفيضان العاطفيّ الّذي تعيشه تجاه ولدها، وخصوصاً عندما ينفصل عن أبيه.
إنّ الأولاد الّذين يتربّون في أحضان الأمّهات المنفصلات عن أزواجهنّ، قد يفتقرون إلى الإحساس بالتّماسك والقوّة، فيغدون شخصيّات ضعيفة أو مائعة، ولكن هذا لا يمثّل ظاهرةً عامّةً بالتّأكيد.
وفي ضوء هذا، عندما يحصل الطّلاق، وينفصل الأب عن الأم، قد يكون الحكم الشّرعيّ بالعقل البارد، أنّ الحضانة للأب بعد السّنين التي يستغني فيها الولد عن أمّه في الجانب الحياتيّ المباشر. هنا في هذه الحالة، قد تكون هناك بعض الحيثيّات التشريعيّة التي تجعل الولد في رعاية أبيه من ناحية المسؤوليّات، علماً أنّ إعطاء الأب حقّ الحضانة، يوجب عليه أن يوفّر كلّ الظّروف الملائمة التي تجعل نموّ الولد نمواً طبيعياً، إمّا من خلال جهده الذاتيّ، ولو اقتضى الأمر تقمّص شخصيّة الأب والأمّ معاً، أو بالاستعانة بزوجته الجديدة إذا ما تفاهم معها على تقمّص شخصيّة الأمّ بالنّسبة إلى ولده. وفي هذه الحال، لا يجوز له أن يحرم ولده من أمّه، وهذا هو قول الله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}[النّساء: 35].
فعلى الأب أن يترك الولد ليعيش بين أحضان والدته بين فترة وأخرى. أمّا المدّة التي يقضيها الولد عند أمه، فلا بدّ من أن تخضع لمدى حاجته إلى والدته من جهة، ومدى حاجة الأم إلى ذلك، بنحوٍ لا يضرّ بالولد ولا بالوالدة، وهو أمر لا يمكن وضع حدود قاطعة وثابتة له، بل يفترض أن يخضع لدراسة الحالة بشكلٍ منفرد لتحديد ذلك.
إنَّ الحضانة مسؤوليَّة الحاضن، سواء كان الأمّ والأب معاً في الحالة الطبيعيَّة، أو كان أحدهما في حالة الطّلاق، أو في حالة وفاة الأب أو الأم، وهي مسؤوليَّة تستدعي أن يُعطى الولد كلّ الرّعاية التي تبعده عن الضّرر، وتجلب له النّفع، والّتي تجعله ينمو في مناخ طبيعيّ يؤمّن كلّ ما يحتاجه لنمو شخصيّته بشكل طبيعيّ.
7- التخفيف من آثار تعدّد الزّوجات إن وجد
عندما تحدّث الإسلام عبر القرآن الكريم عن تعدد الزوجات، فإنه اختصر كل الشروط الإنسانية التي تخفّف من تأثيره السلبي بالعدل، فإنّنا نعرف أن التعدد بحسب طبيعته، سواء كان في الحياة الزوجية أو في أي علاقة إنسانيّة أخرى، يخلق نوعاً من الإرباك، باعتبار أن من الصّعب جداً أن يوازن الإنسان بين إنسانين تربطه بهما صلة من نمط واحد، على اختلاف خصائصهما الشخصيّة التي قد تجتذبه نحو هذه أكثر مما قد تجتذبه نحو تلك، لذلك، أراد القرآن الكريم من الإنسان في هذه الحالة أن يقف على خطّ التّوازن، ففرض العدل في النّفقة، بحيث لا تجعله الميزة التي يجدها في إحدى الزَّوجات سبباً للإجحاف بحقِّ الأخرى، والعدل في العلاقة الزوجيَّة، وهذا ما يسمّى بالقسم بين الزوجين، بأن يبيت مع إحداهما ليلة ويبيت مع الأخرى ليلة، دون أن يضطهد إحداهما على حساب الأخرى.
هذه العدالة المفروضة على الزّوج في حال التعدّد، تحفظ للأسرة تماسكها، وتؤمّن لكلّ الأطراف حاجاتهم العاطفية والمادية، وتضمن بالتّالي حماية الأولاد على الرّغم من التعدد. ونحن نلاحظ أنّ الإسلام حثّ الإنسان إذا كان لديه ولدان أو أكثر، على المساواة بينهم، حتّى في التقبيل وفي النّظرة وفي الرّعاية، كي لا يعقّد أحدهما ضدّ الآخر عندما يؤثره على أخيه، إلا إذا كان الإيثار نتيجة ميزة يريد تشجيعه على إثرائها، ويريد تشجيع الآخرين على تقليده بها. هذه العدالة هي الّتي تعطي للزّواج المتعدّد جواً طبيعياً، لا يترك أي تأثير سلبي في الأولاد.
في ضوء ذلك، يصبح من واجب هذا الأب في حال التعدّد، أن لا يفضّل أولاد إحدى الزوجات على الثانية نتيجة تفضيله لأمّهم على الأخرى، لأنّ ذلك ينافي القاعدة الإسلاميّة التي تفرض توازن العلاقة مع الأولاد، حتى لو كانوا من أمّ واحدة، وهو أمر يزداد حساسيّة في حال التعدّد. من هنا، على الأب أن يكون دقيقاً جدّاً في تحقيق المساواة بين أولاده من هذه الزّوجة وتلك، لأنّ اختلاف الأم قد يولد حساسيّة بالغة تجاه أيّ سلوك يمكن أن يفسر على أنه تفضيل وتحيز. وهكذا، فبما أنّ الإسلام شدّد على المساواة بين الزّوجات، مع أنّ الإخلال ببعض جوانب المساواة بينهنّ لا يترك تأثيره على مستوى الكارثة، فإنّه بدرجة أكثر شدّد على المساواة بين الأولاد، لأنّ الإخلال بالمساواة بين الأولاد من الزّوجتين قد يصل تأثيره إلى حدّ الكارثة، ذلك أنّ اللامساواة قد تدمّر الولد نفسيّاً، وتجعله حاقداً على أخيه، وقد تؤدّي إلى خلق مشاكل بين الزّوجتين، الأمر الذي ينعكس سلباً على الأولاد.
المصدر: "دنيا الطّفل"