1- من حين عودته – في أوائل الستينات - من الدراسة في النجف الأشرف إلى بيروت حاملاً علمه، وثقافته، وهمَّته، واهتمامه، وخدمته لأهله ومواطنيه، ومن أيَّام (أسرة التآخي) قبل ما يقرب من ستة عقود من الآن، حمل السيّد فضل الله (رحمه الله) مع العلم والمعرفة أسلوبَه الحركيّ في توظيف العلم، ليكون عاملاً ثقافيّاً محرّضاً ومحرّكاً للساحة الَّتي كانت تعيش الرتابة التقليديّة في الفكر والتعاطي، لم تكن مهمّته مجرَّدَ ضخّ معلومات في الآذان والأذهان، أراد لحزمة العلم والثقافة والفكر عموماً أن تكون في خدمة الحياة والانسان، ومن عوامل يقظته ونهضته.
2- أخذ المفكّر، والعالِم، والمرجع الحركيّ السيّد محمَّد حسين فضل الله (أعلى الله مقامه) على نفسه من بواكير عمله مع الناس بمبدأ الانفتاحِ على النَّاس؛ إنهم محيطه الَّذي يسبحُ فيه، وفضاؤه الَّذي به يحلّق. ومن قبل أن تولد (ندوةُ السبت)، لم تكن جلساته البيتيّة المتنقّلة (السَّهرات الثقافيّة)، و(جلسات أسرة التَّآخي) ثمَّ (ندوة الثلاثاء)، إلى تفسير القرآن في (مسجد الإمام الرضا)، أحاديَّة الجانب، فالأسلوب (الفضل اللَّهي) طريقٌ سالكةٌ باتجاهين: يُسمع النَّاسَ ما يُريد لهم سماعه وتعلّمه والتثقّف به، والاستماع إليهم فيما يمطرونه به من أسئلتهم في شتَّى شؤون الحياة الشخصيّة ومشاكلها، والعباديَّة والثقافيَّة والسياسيّة.
3- استطاع السيد فضل الله - من مطلع وعيه لمسؤوليَّته كعالم - أن يجمع بين أسلوبين أو صيغتين: (أسلوب الدّيوانيات)، وهي ملتقى أهل العلم والأدب والثقافة، ومن يحبّ مجالسَ العلم ويرتادها، في صالةٍ خاصّة ببيت العالِم تسمّى بـ ( الديوانيّة) - من الديوان، وهو قاعة الاستقبال - والَّتي في غالبها نخبويّة تقتصر على الخاصّة، مما يمكن أن نطلق عليهم (الفضاء المغلق) أو المحدود..
لكنَّ السيّد لم يكتفِ بالانتقال إلى (الفضاء المفتوح) في اللّقاء بعامّة النَّاس، ومن مختلف المشارب والمستويات في ندوات جماهيريّة، وإنَّما أجرى تعديلاً على لقاء الديوانيَّات نفسه، فصالة بيته الَّتي يلتقي فيها بالخاصّة وبالعامّة، قاعة لقاءات بينيّة، يتناوب في الدخول عليه كلّ مستفتٍ، أو صاحب مسألة، أو طالب رأي، أو حامل مقترح، أو مراجع في هذا الشَّأن أو ذاك، إضافةً إلى لقاء أيّ وفد من الوفود بأيّ عنوان من العناوين.
4- حينما تزوره في صالة الانتظار، تنظر في وجوه القوم، فترى السياسي الإداري، والأستاذ الجامعي، وتاجر السوق، والإنسان العادي، غير أنَّ السيّد تنبّه من وقت مبكر أن ليس بمقدور كلّ النَّاس أن يقصدوه في بيته لينتفعوا بعلمه أو مشورته، أو الحصول على جواب لمسألة، أو مساعدة لحلّ مشكلة، فابتكر غرفة الاستقبال الصَّغيرة الملحقة بالمسجد التي يستقبل فيها كلَّ سائل على حدة، فيجيبه على قدر سؤاله، ليتاح لغيره السؤال، وبذلك ألغى الفكرة أو النظرة التي انتقدها في بعض كتبه الحركيّة، من أنَّ العالم بمثابة الشجرة تهزه فتساقط ثمرَها، أو كالطَّبيب الذي يجلس في عيادته ليعالج مرضاه، فكان يتأسَّى بجدّه رسول الله (ص) (الطَّبيبَ الدَّوّار بطبّه)، يذهب إلى حيث الحاجة إليه، وإلى لقاء النَّاس مباشرةً، حيث يتاح لهم محاورته والاستفهام منه.
5- اتخذت (ندوة السَّبت) هذا المنحى في التعاطي مع المريدين: نصفُها للمحاضرة (الوجبة الثَّقافيّة الجديدة)، ونصفها لأسئلة الحاضرين رجالاً ونساءً. في (مسجد الإمام الرضا)، كان هناك يوم للرجال ويوم للنساء، وفي (حوزة المرتضى) قاعة للرجال، وقاعة متلفزة للنساء في قبو الحوزة، وبإمكانهنَّ إيصال أسئلتهنَّ له أيضاً عبر وسيط. وكما يعلم – من حضر تلك المجالس الثريّة - أنَّ شعارَ السيد الذي يردّده على مسامع مستمعيه: "ليس هناك سؤالٌ محرج، ولا سؤالٌ تافه، الحقيقةُ بنت الحوار".
6- واظبتُ على حضور (ندوة السبت) لستّ سنوات متواصلة، لم أتغيّب عن جلسة قطّ، حتَّى ولو كنت مريضاً، وإذا سافرتُ، ففي غير يوم السبت، لحرصي على أن أعيش جوَّ النَّدوة، ولا أكتفي باستلام الكاسيتات وتفريغها. فما هي يا ترى انطباعاتي عنها، وخصوصاً عن بطلها السيّد أبي علي؟
7- لم أرهُ يستخفّ أو يستسخف سؤالاً طُرح عليه البتّة. كان يتعامل مع كلّ سؤال بكلّ جديّة احتراماً لسائله. وللحقّ، فإنَّ إدارة الأستاذ الحوزويّ الفاضل العلَّامة السيد محمَّد طاهر الحسيني - وهنا أفتح قوساً وأقول إنَّ لقب علَّامة لم أخلعه تكرّماً على الأستاذ الجليل الحسيني، فالسيّد فضل الله هو الَّذي خلعه عليه في بعض تقريراته لدروسه في بحث الخارج - كان يفلتر الأسئلة باجتهاد شخصيّ بحسب تقديره لقيمة السؤال الفكريّة، أو المعرفيّة الثقافيّة، أو مردوده الاجتماعيّ، وإلَّا فإنَّ السيّد لم يضع فيتو أو حَجراً على سؤال، بما في ذلك الأسئلة التي تتناوله شخصيّاً بالنقد!
7- أروع ما كان يجعلني ويجعل كلَّ سائل وحاضر لندوات السبت ننجذب وننشدّ إلى منصَّة السيد وخطابه ورحابة صدره وعقله، هو أنَّه كان يحرّض مستمعيه وسائليه بالقول: إذا سألتموني وأجبتكم، قولوا لي ما هو الدَّليلُ على ذلك، كيف استدلَّيت على هذا الحكم أو ذاك، ولماذا؟ وكأني به أخذ هذا عن جدّه الإمام الصَّادق (ع) الذي يقول لمريديه إذا حدَّثتكم بحديث فاسألوني: أين هذا في كتاب الله؟!
8- هذا التشجيع والتحفيز والترغيب بالمساءلة وعدم الاكتفاء بالسؤال، كان السيّد يرمي من خلاله – كما في تحليلي للمسألة – إلى أمرين:
أن يخرج السائلُ وهو مقتنعٌ بالإجابة، متسلّح بها، مستعدّ للتَّبشير بها، فإذا أجاب السيد عن سؤاله ولم يشفِ الجوابُ غليلَه، أو أشكل على الإجابة، عاد ليطرح السؤال الإشكالي أو الاعتراضي عليه ليكتمل لديه وضوحُ الصّورة.
والأمر الثاني: محاولة السيّد قطع الطريق على المتصيّدين بالماء العكر، هواةِ الإثارات والملاحظات والإشكالات وتصيّد العثرات، ولذلك تسمعه يقول مراراً وتكراراً: تعالوا حاوروني!!
7- ومن طريف ما كان يُطرح في قصاصات روّاد النَّدوة وجمهورها، أنَّ بعضهم كان يقدّم إلى السيّد اعتذاره عن انطباع سيّئ كوّنه عنه، لأنَّه كان قد سمع عنهُ ولم يسمع منه، وأنَّه يطلب الصَّفحَ والمسامحة لأنَّه تناولهُ بالسّوء على غير علم، وكان السيّدُ صاحب السَّماحة والخلق الرفيع يسامح كلَّ من اعتذر إليه، حتَّى قال إني عفوت عن كلّ من أساء إليَّ، لأنَّني لا أحبُّ أن أكون حجرَ عثرة في طريق أحد إلى الجنّة! وكان يقول لمن يستسمحهُ إنَّه يقدّم محاضراته من غير أن يذكر اسمَه أو ينسبها إليه، فكان يشكره لأنَّه يقدّم أفكارَه إلى الناس ويوصلها إلى مريديها، فليس المهمُّ عنده الشخص أو القائل، المهمّ أن تأخذ الفكرة طريقها إلى الناس!
8- وكانت ندوات السبت الصَّيفيّة هي الأغنى، لأنَّ حضّارها من دول الخليج، ومن أوروبا، تلحظ ذلك من أسئلتهم التي تحكي عن معاناتهم، وخصوصيَّات مشاكلهم، وجرأة مطارحاتهم عن التحديات التي تجابههم، ولعلَّك تلاحظ – بعد ما يقرب من ساعتين من الجهد - أنَّ السيد لم يرفض التقاطَ صورة مع أيّ راغب بالتصوير معه، حتى ولو كان متعباً من نهارٍ مثقل بالعمل، وحتى لو كان طالبُ التصوير شاباً صغيراً.
9- كانت (ندوة السبت) مقدّسة عند السيّد، لا يتغيّب عنها إلَّا لظرفٍ قاهر، وإلَّا فحتَّى لو صادف العيدُ الجمعة، فإنَّه يأتي ليقيم النَّدوةَ السبت، وإذا قيل له اليوم عيد (يقصد القائل أنَّه يوم من أيَّام العيد)، فيكون جواب السيّد العيد كان أمس وقد انتهى، واليوم يومُ العمل.. وما انقطع عن الحضور إلَّا عندما أُدخل المستشفى عام 1998، وطلب إلى إدارة الحوزة عدم إلغاء النَّدوة، واقترح أن يُديرها العلَّامة الجليل السيد عبد الله الغريفيّ (دام عزّه وظلّه) بدلاً منه.
10- بعد عودته سالماً في الأسبوع التالي، قرَّرتُ أنا وصديقي الشَّاعر الدكتور إسماعيل خليل أبو صالح الماضي (أبو زهراء)، أن نسبق النَّدوة بكلمة لي وقصيدة له، وكنّا أثنينا على شخص السيّد وعلى ما يقوم به من دور تنويريّ موضع تقدير وامتنان الجميع، فلمَّا اعتلى السيّد المنصّة، أعني كرسيّ النَّدوة، قال: لا أقول أكثر مما قاله سيّدنا الإمام عليّ بن الحسين (ع): "اللَّهمَّ إني أعوذ بك أن أُحبَّ فيك وأنت عليّ ساخط".
11- وحين استشهد المرجع السيّد محمَّد صادق الصَّدر (رض)، نعاه السيّد نعياً يليق بمقامه، متذكّراً أيام الصحبة الفكريّة والعلميّة إبَّان الصحوة الإسلاميّة في العراق، وأيَّام المساهمة القلميّة في (مجلَّة الأضواء)، وبعد أن انتهى من نعيه قال: "ولا بدّ للحياة من أن تستمرّ"! وشرع في تقديم محاضرته!
12- وإضافةً إلى لازمة الخطاب المحبّبة (أيّها الأحبّة) الَّتي كان يُسبغها على مستمعيه بين مقطع وآخر، فإنَّه كان يُلقي الطّرفة والنكتة التلقائيّة، ويسبقها بالقول (من باب تطرية الجوّ)، ومن ذلك أنَّ سائلاً سأله عن عبارة (حلال) التي تكتب أو تختم على بعض اللّحوم وغيرها، فقال ضاحكاً متبسماً: لدينا في بيروت بائع لحوم وأسماك، لديه الختم الأزرق المنقوش عليه كلمة (حلال)، فكان هذا البائع في كلّ صباح يختم اللّحومَ كلّها والأسماك كلّها أيضاً بالختم نفسه! وسأله سائل: هل يمكن استخدام القصاصات (أوراق الأسئلة) لغير السؤال، فقال له: أعتقد أنَّ الَّذين يوزّعونها لا يقدّمونها هدايا!!
13- إضافةً إلى حضور أساتذة وطلبة الحوزة، ونخبة من مثقَّفي الشَّام، رأيت من الزائرين: المرحوم مفسر القرآن (محمَّد شحرور)، والشَّاعر العراقي الراحل (مظفَّر النوّاب).
غداً – باذن الله - قصّة ( كتاب النَّدوة)
* من صفحته على فايس بوك.
1- من حين عودته – في أوائل الستينات - من الدراسة في النجف الأشرف إلى بيروت حاملاً علمه، وثقافته، وهمَّته، واهتمامه، وخدمته لأهله ومواطنيه، ومن أيَّام (أسرة التآخي) قبل ما يقرب من ستة عقود من الآن، حمل السيّد فضل الله (رحمه الله) مع العلم والمعرفة أسلوبَه الحركيّ في توظيف العلم، ليكون عاملاً ثقافيّاً محرّضاً ومحرّكاً للساحة الَّتي كانت تعيش الرتابة التقليديّة في الفكر والتعاطي، لم تكن مهمّته مجرَّدَ ضخّ معلومات في الآذان والأذهان، أراد لحزمة العلم والثقافة والفكر عموماً أن تكون في خدمة الحياة والانسان، ومن عوامل يقظته ونهضته.
2- أخذ المفكّر، والعالِم، والمرجع الحركيّ السيّد محمَّد حسين فضل الله (أعلى الله مقامه) على نفسه من بواكير عمله مع الناس بمبدأ الانفتاحِ على النَّاس؛ إنهم محيطه الَّذي يسبحُ فيه، وفضاؤه الَّذي به يحلّق. ومن قبل أن تولد (ندوةُ السبت)، لم تكن جلساته البيتيّة المتنقّلة (السَّهرات الثقافيّة)، و(جلسات أسرة التَّآخي) ثمَّ (ندوة الثلاثاء)، إلى تفسير القرآن في (مسجد الإمام الرضا)، أحاديَّة الجانب، فالأسلوب (الفضل اللَّهي) طريقٌ سالكةٌ باتجاهين: يُسمع النَّاسَ ما يُريد لهم سماعه وتعلّمه والتثقّف به، والاستماع إليهم فيما يمطرونه به من أسئلتهم في شتَّى شؤون الحياة الشخصيّة ومشاكلها، والعباديَّة والثقافيَّة والسياسيّة.
3- استطاع السيد فضل الله - من مطلع وعيه لمسؤوليَّته كعالم - أن يجمع بين أسلوبين أو صيغتين: (أسلوب الدّيوانيات)، وهي ملتقى أهل العلم والأدب والثقافة، ومن يحبّ مجالسَ العلم ويرتادها، في صالةٍ خاصّة ببيت العالِم تسمّى بـ ( الديوانيّة) - من الديوان، وهو قاعة الاستقبال - والَّتي في غالبها نخبويّة تقتصر على الخاصّة، مما يمكن أن نطلق عليهم (الفضاء المغلق) أو المحدود..
لكنَّ السيّد لم يكتفِ بالانتقال إلى (الفضاء المفتوح) في اللّقاء بعامّة النَّاس، ومن مختلف المشارب والمستويات في ندوات جماهيريّة، وإنَّما أجرى تعديلاً على لقاء الديوانيَّات نفسه، فصالة بيته الَّتي يلتقي فيها بالخاصّة وبالعامّة، قاعة لقاءات بينيّة، يتناوب في الدخول عليه كلّ مستفتٍ، أو صاحب مسألة، أو طالب رأي، أو حامل مقترح، أو مراجع في هذا الشَّأن أو ذاك، إضافةً إلى لقاء أيّ وفد من الوفود بأيّ عنوان من العناوين.
4- حينما تزوره في صالة الانتظار، تنظر في وجوه القوم، فترى السياسي الإداري، والأستاذ الجامعي، وتاجر السوق، والإنسان العادي، غير أنَّ السيّد تنبّه من وقت مبكر أن ليس بمقدور كلّ النَّاس أن يقصدوه في بيته لينتفعوا بعلمه أو مشورته، أو الحصول على جواب لمسألة، أو مساعدة لحلّ مشكلة، فابتكر غرفة الاستقبال الصَّغيرة الملحقة بالمسجد التي يستقبل فيها كلَّ سائل على حدة، فيجيبه على قدر سؤاله، ليتاح لغيره السؤال، وبذلك ألغى الفكرة أو النظرة التي انتقدها في بعض كتبه الحركيّة، من أنَّ العالم بمثابة الشجرة تهزه فتساقط ثمرَها، أو كالطَّبيب الذي يجلس في عيادته ليعالج مرضاه، فكان يتأسَّى بجدّه رسول الله (ص) (الطَّبيبَ الدَّوّار بطبّه)، يذهب إلى حيث الحاجة إليه، وإلى لقاء النَّاس مباشرةً، حيث يتاح لهم محاورته والاستفهام منه.
5- اتخذت (ندوة السَّبت) هذا المنحى في التعاطي مع المريدين: نصفُها للمحاضرة (الوجبة الثَّقافيّة الجديدة)، ونصفها لأسئلة الحاضرين رجالاً ونساءً. في (مسجد الإمام الرضا)، كان هناك يوم للرجال ويوم للنساء، وفي (حوزة المرتضى) قاعة للرجال، وقاعة متلفزة للنساء في قبو الحوزة، وبإمكانهنَّ إيصال أسئلتهنَّ له أيضاً عبر وسيط. وكما يعلم – من حضر تلك المجالس الثريّة - أنَّ شعارَ السيد الذي يردّده على مسامع مستمعيه: "ليس هناك سؤالٌ محرج، ولا سؤالٌ تافه، الحقيقةُ بنت الحوار".
6- واظبتُ على حضور (ندوة السبت) لستّ سنوات متواصلة، لم أتغيّب عن جلسة قطّ، حتَّى ولو كنت مريضاً، وإذا سافرتُ، ففي غير يوم السبت، لحرصي على أن أعيش جوَّ النَّدوة، ولا أكتفي باستلام الكاسيتات وتفريغها. فما هي يا ترى انطباعاتي عنها، وخصوصاً عن بطلها السيّد أبي علي؟
7- لم أرهُ يستخفّ أو يستسخف سؤالاً طُرح عليه البتّة. كان يتعامل مع كلّ سؤال بكلّ جديّة احتراماً لسائله. وللحقّ، فإنَّ إدارة الأستاذ الحوزويّ الفاضل العلَّامة السيد محمَّد طاهر الحسيني - وهنا أفتح قوساً وأقول إنَّ لقب علَّامة لم أخلعه تكرّماً على الأستاذ الجليل الحسيني، فالسيّد فضل الله هو الَّذي خلعه عليه في بعض تقريراته لدروسه في بحث الخارج - كان يفلتر الأسئلة باجتهاد شخصيّ بحسب تقديره لقيمة السؤال الفكريّة، أو المعرفيّة الثقافيّة، أو مردوده الاجتماعيّ، وإلَّا فإنَّ السيّد لم يضع فيتو أو حَجراً على سؤال، بما في ذلك الأسئلة التي تتناوله شخصيّاً بالنقد!
7- أروع ما كان يجعلني ويجعل كلَّ سائل وحاضر لندوات السبت ننجذب وننشدّ إلى منصَّة السيد وخطابه ورحابة صدره وعقله، هو أنَّه كان يحرّض مستمعيه وسائليه بالقول: إذا سألتموني وأجبتكم، قولوا لي ما هو الدَّليلُ على ذلك، كيف استدلَّيت على هذا الحكم أو ذاك، ولماذا؟ وكأني به أخذ هذا عن جدّه الإمام الصَّادق (ع) الذي يقول لمريديه إذا حدَّثتكم بحديث فاسألوني: أين هذا في كتاب الله؟!
8- هذا التشجيع والتحفيز والترغيب بالمساءلة وعدم الاكتفاء بالسؤال، كان السيّد يرمي من خلاله – كما في تحليلي للمسألة – إلى أمرين:
أن يخرج السائلُ وهو مقتنعٌ بالإجابة، متسلّح بها، مستعدّ للتَّبشير بها، فإذا أجاب السيد عن سؤاله ولم يشفِ الجوابُ غليلَه، أو أشكل على الإجابة، عاد ليطرح السؤال الإشكالي أو الاعتراضي عليه ليكتمل لديه وضوحُ الصّورة.
والأمر الثاني: محاولة السيّد قطع الطريق على المتصيّدين بالماء العكر، هواةِ الإثارات والملاحظات والإشكالات وتصيّد العثرات، ولذلك تسمعه يقول مراراً وتكراراً: تعالوا حاوروني!!
7- ومن طريف ما كان يُطرح في قصاصات روّاد النَّدوة وجمهورها، أنَّ بعضهم كان يقدّم إلى السيّد اعتذاره عن انطباع سيّئ كوّنه عنه، لأنَّه كان قد سمع عنهُ ولم يسمع منه، وأنَّه يطلب الصَّفحَ والمسامحة لأنَّه تناولهُ بالسّوء على غير علم، وكان السيّدُ صاحب السَّماحة والخلق الرفيع يسامح كلَّ من اعتذر إليه، حتَّى قال إني عفوت عن كلّ من أساء إليَّ، لأنَّني لا أحبُّ أن أكون حجرَ عثرة في طريق أحد إلى الجنّة! وكان يقول لمن يستسمحهُ إنَّه يقدّم محاضراته من غير أن يذكر اسمَه أو ينسبها إليه، فكان يشكره لأنَّه يقدّم أفكارَه إلى الناس ويوصلها إلى مريديها، فليس المهمُّ عنده الشخص أو القائل، المهمّ أن تأخذ الفكرة طريقها إلى الناس!
8- وكانت ندوات السبت الصَّيفيّة هي الأغنى، لأنَّ حضّارها من دول الخليج، ومن أوروبا، تلحظ ذلك من أسئلتهم التي تحكي عن معاناتهم، وخصوصيَّات مشاكلهم، وجرأة مطارحاتهم عن التحديات التي تجابههم، ولعلَّك تلاحظ – بعد ما يقرب من ساعتين من الجهد - أنَّ السيد لم يرفض التقاطَ صورة مع أيّ راغب بالتصوير معه، حتى ولو كان متعباً من نهارٍ مثقل بالعمل، وحتى لو كان طالبُ التصوير شاباً صغيراً.
9- كانت (ندوة السبت) مقدّسة عند السيّد، لا يتغيّب عنها إلَّا لظرفٍ قاهر، وإلَّا فحتَّى لو صادف العيدُ الجمعة، فإنَّه يأتي ليقيم النَّدوةَ السبت، وإذا قيل له اليوم عيد (يقصد القائل أنَّه يوم من أيَّام العيد)، فيكون جواب السيّد العيد كان أمس وقد انتهى، واليوم يومُ العمل.. وما انقطع عن الحضور إلَّا عندما أُدخل المستشفى عام 1998، وطلب إلى إدارة الحوزة عدم إلغاء النَّدوة، واقترح أن يُديرها العلَّامة الجليل السيد عبد الله الغريفيّ (دام عزّه وظلّه) بدلاً منه.
10- بعد عودته سالماً في الأسبوع التالي، قرَّرتُ أنا وصديقي الشَّاعر الدكتور إسماعيل خليل أبو صالح الماضي (أبو زهراء)، أن نسبق النَّدوة بكلمة لي وقصيدة له، وكنّا أثنينا على شخص السيّد وعلى ما يقوم به من دور تنويريّ موضع تقدير وامتنان الجميع، فلمَّا اعتلى السيّد المنصّة، أعني كرسيّ النَّدوة، قال: لا أقول أكثر مما قاله سيّدنا الإمام عليّ بن الحسين (ع): "اللَّهمَّ إني أعوذ بك أن أُحبَّ فيك وأنت عليّ ساخط".
11- وحين استشهد المرجع السيّد محمَّد صادق الصَّدر (رض)، نعاه السيّد نعياً يليق بمقامه، متذكّراً أيام الصحبة الفكريّة والعلميّة إبَّان الصحوة الإسلاميّة في العراق، وأيَّام المساهمة القلميّة في (مجلَّة الأضواء)، وبعد أن انتهى من نعيه قال: "ولا بدّ للحياة من أن تستمرّ"! وشرع في تقديم محاضرته!
12- وإضافةً إلى لازمة الخطاب المحبّبة (أيّها الأحبّة) الَّتي كان يُسبغها على مستمعيه بين مقطع وآخر، فإنَّه كان يُلقي الطّرفة والنكتة التلقائيّة، ويسبقها بالقول (من باب تطرية الجوّ)، ومن ذلك أنَّ سائلاً سأله عن عبارة (حلال) التي تكتب أو تختم على بعض اللّحوم وغيرها، فقال ضاحكاً متبسماً: لدينا في بيروت بائع لحوم وأسماك، لديه الختم الأزرق المنقوش عليه كلمة (حلال)، فكان هذا البائع في كلّ صباح يختم اللّحومَ كلّها والأسماك كلّها أيضاً بالختم نفسه! وسأله سائل: هل يمكن استخدام القصاصات (أوراق الأسئلة) لغير السؤال، فقال له: أعتقد أنَّ الَّذين يوزّعونها لا يقدّمونها هدايا!!
13- إضافةً إلى حضور أساتذة وطلبة الحوزة، ونخبة من مثقَّفي الشَّام، رأيت من الزائرين: المرحوم مفسر القرآن (محمَّد شحرور)، والشَّاعر العراقي الراحل (مظفَّر النوّاب).
غداً – باذن الله - قصّة ( كتاب النَّدوة)
* من صفحته على فايس بوك.