من بين الأبحاث التي لا بدَّ لنا من أنْ نركِّز عليها: مسألة العقل، عقل المرأة. فهل إنّ الله خلق المرأة أقلّ عقلاً من الرجل، أو أن لها العقل ذاته الذي يمتلكه الرجل، بمعنى القابلية للتفكير والنموّ والتطوّر والامتداد في المعرفة والتعمّق فيها؟!
عقل المرأة:
هناك فكرة شائعة بين الناس، بأنَّ عقل المرأة أقلّ من عقل الرجل، حتى إنَّ بعضهم قلَّص النسبة، فاعتبر أن عقلها لا يبلغ النصف. وقد ورد التعبير بـ "ناقصات العقل أو الدين" في بعض المأثورات؛ إذ ورد هذا المعنى في الحديث النبوي عن رسول الله (ص) مخاطباً بعض النساء، ما مضمونه: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن، قلنَ: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلنَ: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم؟ قلن: نعم، قال: فذلك من نقصان دينها"[1]. كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين(ع) في (نهج البلاغة) عن النساء، أنهنّ "نواقص الإيمان، ونواقص الحظوظ، ونواقص العقول"[2]، وعلَّل ذلك بأنَّ نقصان العقل يعرف من أنّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فشهادة المرأة نصف شهادة الرجَّل، وأمَّا أنهنّ نواقص الحظوظ، فإنّ حصة الرجل ضعف حصة الأنثى {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[3]، وأما أنهن نواقص الدين، فقعودهن عن الصلاة والصوم أيام الحيض. ونحن نريد أنْ ندرس ما ورد عن النبيّ(ص) وعن أمير المؤمنين(ع). والسؤال: هل ما ورد من التعليل يفيد بأن المرأة تملك عقلاً أقلّ من عقل الرجل؟ أو أنه لا يفيد ذلك؟
عندما ندرس المسألة، وبخاصة تعليل مسألة نقصان عقلها بأنّ شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فإننا عندما نأتي إلى قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}[4]، الوارد في تعليل تعدد المرأة في مقام الشهادة، فإنّ ما نستفيده، هو أنّ الشهادة لا بدَّ من أنْ تكون شهادة عدل، سواء كان رجلاً أو امرأة، لأنّ الضلال يكون إما من جهة النسيان أو من جهة الغفلة، والشهادة مرتبطة بالحس وليست مرتبطة بالعقل: رأى أو لم يرَ؟ ويمكن أن ينسى، كما لو فرض أنه رأى شيئاً ونسي الموضوع، فشهد وغفل عنه. وهذا ليس له دخل بعقل الإنسان، الرجل والمرأة. وقد تحدّث الله عن آدم(ع) أنه نسي {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[5]، ويتحدّث أيضاً عن بعض الرجال قال: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}[6]، حتى إنّ بعضهم قال إن الإنسان إنما سمي إنساناً لنسيانه، كما يقول بعض الشعراء:
ما دعوه الإنسان من أنسه لكن دعوه الإنسان من نسيانه
فمسألة النسيان والغفلة هي حالة طبيعية تحدث للرجل والمرأة معاً، من خلال العناصر الموجودة في داخل الرجل والمرأة، التي قد تجعل الإنسان ينسى هنا وهناك، ويغفل هنا وهناك. إذاً، الآية القرآنية لم تتحدّث عن مسألة عقل المرأة، وإنما تحدّثت عنه احتياطاً للعدالة، لأنّ الشاهد يمثِّل عنصراً أساسياً في عالم الحكم، ولذلك، لا بدَّ من أنْ يكون الشاهد عادلاً، ويشترط فيه أن يتحلَّى بقوة الضبط أو البصر، وقد تحدّث بعض العلماء عن أنّ المرأة أقلّ ضبطاً من الرجل، ولذلك، كان من الضروري ضمّ امرأة أخرى، حتى إذا نسيت إحداهن ذكّرتها الأخرى، وهذا لا يعني نقصاناً في العقل، إذ إنّ ضم هذا العقل الناقص إلى العقل الناقص الآخر، لا ينتج عقلاً كاملاً. ولذلك نقول: إذا نسيت إحداهما، فليس من الطبيعي أن تنسى الأخرى، ما يعطينا فكرة، أنّ مسألة تعدد المرأة في مقام الشهادة ليس منطلقاً من نقصان العقل، وإنما هو منطلق من احتياط للعدالة، فيمكن أن يكون الشاهد عادلاً وموثوقاً به، ولكن يمكن أنْ يشتبه أو ينسى، وبهذا يردّ على تفسير نقصان العقل بالنقص في الضبط. ومن المعروف أنّ المطلوب في البيّنة هو تعدّد الشاهد، فلا يقبل إلا شهادة عدلين، من خلال انضمام رجل عدلٍ آخر إليه، فإذا أردنا أنْ نستفيد أنّ التعدد في الشهادة دليل على نقص العقل، فذلك يقتضي أيضاً نقص عقل الرجل؛ لأنّ المطلوب في شهادة الرجل التعدّد أيضاً، وذلك ما لا يلتزم به أحد.
نقصان الحظّ:
أمّا بالنسبة إلى نقصان الحظّ لجهة ما ورد في قوله تعالى: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}، فإنّ حقيقة المسألة هي ما ورد في أحاديث الأئمة(ع)، كما حديث الإمام جعفر الصادق(ع) في كتاب (وسائل الشيعة) وغيره، إذ سُئل أحد أصحاب الإمام(ع) في مقام الاعتراض على التشريع، كما جاء في رواية الأصول، "قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً ويأخذ الرجل سهمين؟ قال: فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبد الله(ع)، فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة ـ أي الدية ـ وإنّما ذلك على الرجال، فلذلك جعل للمرأة سهماً واحداً وللرجل سهمين"[7]. وفي رواية أخرى عن الإمام الرضا(ع): قال جواباً على بعض المسائل: "علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث، لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفّر الله على الرجال، وعلّة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى، لأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر على الرجال ذلك"[8]. وقد ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) جواباً عن سؤال: "لأيّ علّة صار الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين؟ قال: لما جعل الله لها من الصداق"[9].
وخلاصة الجواب عن السؤال، أنّ الله سبحانه وتعالى عندما أخذ من المرأة ذلك في هذه الحالة، حمَّل الرجل ما لم يحمّله للمرأة، فالمرأة ليس عليها مهر، وليس عليها نفقة، لا على نفسها ولا على زوجها، ولا على الأولاد، وليس عليها معقلة، أي الدية، إذ إن العاقلة تدفع الدية في مثل هذه الموارد، وهو ما يدفعه الرجال من الأقرباء فقط. والمحصّلة، أنّ المرأة أكثر حصةً من الرجل. ويمكن التمثيل للأمر بما يلي: لو أنّ شخصاً مات وترك 3000 $، فحصّة الذكر 2000، وحصّة الأنثى 1000، أخذتها وأودعتها في المصرف أو الخزانة، وقد تزوَّجت المرأة وأخذت مهراً علاوةً على ما عندها، فيما نقصت حصّة الرجل (2000) بسبب ما يتحمّله من الإنفاق، كونه يستأجر مسكناً ويعطي المرأة كل احتياجاتها، ثم إذا رزق الرجل أولاداً، فإنه يتحمّل النفقة، حتى في مسألة الإرضاع، إذا طلبت المرأة أجراً على الإرضاع، ولم تزد على ما تأخذه المرضعات أيضاً، فإنه يعطيها أجرة على ذلك، حتى في العمل المنـزلي في التشريع الإسلامي، إذا لم يكن هناك شرط في العقد يفرض عليها العمل المنـزلي، أو كانت متبرعة. إذاً من يكون أكثر حصة؟ ولذلك، أقول دائماً من باب الطرافة، إنّ على الرجال أن يطالبوا بالمساواة مع النساء. فإذاً لا يوجد هناك نقصان حظ أيضاً.
عبادة المرأة ونقصان الدين:
أما قضية نقصان الدين بسبب قعودهن عن الصلاة والصيام، فإنه صحيح بمعنى أنّهنّ يخسرهن شيئاً من الدين بترك العبادة في زمن الحيض، لكنه في حقيقته التزامٌ بأمرِ الله سبحانه وتعالى في ترك الصلاة والصيام، وهذا يدل على كمال الدين. ولذا نلاحظ كثيراً من النساء يتناولن ـ عندما يذهبن إلى الحج أو في شهر رمضان ـ حبوب منع الحمل التي تمنع الدورة الشهرية، حتى لا يضطررن إلى ترك الصوم، أو إلى ترك الصلاة أو إلى ترك الطواف، وما إلى ذلك، وقد يتحمَّلن الكثير من ذلك. وهذا التزام ديني، فلولا أنّ الله نهاهنّ عن الصلاة والصوم في حالة الحيض، لصلّين ولصمن.
لذلك نقول، إنّ التّعبير بالنقصان في ما ورد يردُّ علمه إلى أهله، أو يُقال إنه من التعابير التي تحكمها المرحلة، ويمكن أنْ تكون بعض التعابير موجودة في مجتمع ما نتيجة مناسبات معيّنة، وقد يكون لمجتمع آخر مناسبات أخرى. وربّما نستوحي من التعليلات المذكورة، أنّ النقصان كان من خلال الشكل أو الكمّ، وليس من خلال المضمون الذي يلتقي مع طبيعة العقل أو الحظّ أو الدين، والله العالم.
التكليف المشترك والعقل المشترك:
ثم إنه لو كانت المرأة أقلَّ عقلاً من الرجل، لكان تكليف المرأة في ما كلَّف الله الناس به من واجبات ومحرّمات، أقلّ من تكليف الرجل، لأنّ المسؤولية تنطلق من خلال مقدار العقل الذي يملكه الإنسان، فإذا كان عقل المرأة أقلّ وفيه قصور، فإنه لا يمكن أنْ نحمّلِها مسؤولية عقل كامل، وإلا كان هذا ظلماً لها، ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}[10]، إذ إنه من التكليف بغير المقدور، مع أننا نرى أنه لا فرق بين الرجال والنساء في كل الأمور الشرعية من واجبات ومحرّمات مشتركة، وينحصر الفرق في الأمور الخاصة بالنساء في عالم الحيض أو ما أشبه ذلك. ولا يمكن أنْ يقال إنّ الدليل على نقصان عقولهنّ، أن الرجل يتحمَّل المسؤولية في البيت والمرأة لا تتحمَّل ذلك، فإنَّ لذلك تفسيراً، وهو أنّ المرأة مبتلاة بالحمل والإرضاع والدورة الشهرية وما إلى ذلك، ما يجعل قدرتها الجسدية على القيام بمسؤولية البيت الزوحي أقلّ من قدرة الرجل في هذا العالم الذي يتصل بالجانب الجسدي، ولا يتصل بالجانب العقلي أو الجانب الآخر.
ولذلك، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يتحدّث عن المرأة والرجل على حدّ سواء في الجانب السلبي والإيجابي، فيقول تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}[11]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ الله}[12]، ولم يفرِّق بين الرَّجل والمرأة في خطِّ الانحراف عندما يأخذان به. وعندما نقرأ التعليمات الموجَّهة للرجل والمرأة، فإنها واحدة على حدٍّ سواء: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}[13]، وفي عالم الأجر على العمل الصالح: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}[14]. فكما أنّ الرجل يأخذ أجراً على عمله الصالح من الله، فإنّ المرأة كذلك، ولم يفرّق بينهما.
المرأة كنموذج بشري:
وفي سورة (الأحزاب)، عندما تتحدّث عن النساء العاملات وعن الرجال، ساوى الله تعالى بين الرجال والنساء في النتائج الإيجابية للعمل الصالح: {إنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[15]، فلو فرضنا أن المرأة أقلُّ من الرجل، فلا تتساوى معه في الأجر، وسيأتي في أحاديث الرسول(ص) وأحاديث الأئمة(ع)، أن الله يثيب الإنسان على قدر عقله، فلو كان عقل المرأة أقلّ، فلا تثاب مثل الرجل.
ونلاحظ في جانب آخر، أن الله عندما ضرب مثلاً للمؤمنين ولغير المؤمنين، باعتبار أنّ المثل يتحدّث عن النموذج البشري الذي يجسِّد هذه الفكرة، سواء كانت فكرة سلبية أو إيجابية، نلاحظ أنه مثل للمؤمنين والمؤمنات، والكافرين والكافرات، من خلال نموذجين هنا وهناك، فقال عزّ وجلّ: {ضَرَبَ الله مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ الله شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[16]. فضرب للكافرين والكافرات هذين النموذجين من الكافرات، ولم يفرّق بين الرجل والمرأة.
أما في الجانب الإيجابي، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[17]، يعني قال: أيها المؤمنون والمؤمنات، هذا نموذج إيماني يملك القوة على أن يرفض الدنيا كلها في سبيل الله وفي سبيل الآخرة، فلتكن هذه المرأة قدوةً للرجال والنساء. فهذه المرأة ترفض كلَّ الثروة وكلَّ السلطان وكل النعيم، لأنها لا تريد أنْ تعيش مع إنسان كافر، حتى يرضى الله عنها ويدخلها الجنة، فأي عقل أعظم من هذا العقل! هذا العقل الذي ينطلق من دراسة السلبيات والإيجابيات، ومن دراسة الخسائر والأرباح، هذه المرأة التي لم تكتف بالتفكير، بل حوّلته إلى قرار يحكم كل حياتها.
وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ}[18]، في حديثه عن السيدة مريم(ع) التي كانت تمثِّل النموذج الأسمى والأعلى، ولذلك، اصطفاها الله سبحانه وتعالى على نساء العالمين، وخاطبتها الملائكة: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[19] وهكذا نلاحظ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}[20]. هذه الإنسانة التي عاشت هذه التجربة التي هي من أقسى التجارب واستطاعت أن تصمد، فإن الله سبحانه وتعالى يدعو المؤمنين والمؤمنات إلى الاقتداء بها، لأنها كانت مثال العفة، ومثال الالتزام، ومثال التصديق بكتاب الله سبحانه وتعالى، ومثال الخضوع لله، والخشوع له، والطاعة له بما تمثّله من القنوت لله.
وقد ذكرت في أحاديث سابقة ملكة (سبأ)، وقد كانت كافرة، وكان قومها يسجدون للشمس، كما عبّر عنها الهدهد الذي كان من جنود سليمان(ع)، وحسب تعابير هذه الأيام، كان يمثّل المخابرات لسليمان(ع)، وجاء الهدهد وقدَّم تقريره إلى سليمان عمّا شاهده، فقال له: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُم الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}[21]، امرأة تعبد وقومها الشمس، ويتبعون خطوات الشيطان في كل أمورهم، امرأة تملك مالاً كثيراً وجاهاً وإمكانات فوق العادة، ولها عرش عظيم تجلس عليه عندما تحكم بين الناس. وللقرآن طريقته الخاصة في عرض الحديث عن الكفر أو عن التمرّد على الله سبحانه وتعالى أو الشرك به، فهو يعلِّق على هذا الموضوع رافضاً له: {أَلا يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ* لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[22]، يعني أنَّ القرآن بطريقته الخاصة يمنع استقرار الأفكار السلبية في عقل الإنسان، وهذا أسلوب قرآني يتناول هذه المسألة في أكثر من جانب يدخل الله فيه الحديث عن طبيعة هذه الظاهرة السلبية هنا وهناك. {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[23]، أي اذهب حاملاً الكتاب إليهم كساعي بريد، ولا تقابل أحداً منهم، وارمه حيث مجلسهم، فوصل الكتاب إليها وقرأته، فكيف كان ردّ فعلها؟ {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[24]، فهي تستشيرهم وتتداول معهم في قضاياهم الصعبة، فقد شعرت بأن الرجل الذي بعث هذا الكتاب هو شخص مميز {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألاّ تعلوا عليّ وأتوني مسلمين}[25]، يعني أنا أملك القوة، ولن يستطيعوا مقاومة القوة التي أملكها، وأريد أن تأتوني مسلمين، طبعاً مسلمين لله سبحانه وتعالى أو خاضعين لسلطتي التي هي سلطة الحقّ والإيمان، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون}[26]، يعني تحضرون على القرار، لأنكم عُلية القوم ونخبتهم.
ويبدو أنَّ الجماعة كانوا لا يفكّرون بعقولهم، ولذلك، فإنهم يعتبرون دورهم بالنسبة إلى الملكة والدولة، دور ممارسة القوة للدفاع ضدّ المعتدين. لقد أرادتهم أن يحركوا عضلات عقولهم، فحركوا عضلات سواعدهم: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[27]، وعندما رأت أنه لا توجد فائدة انطلقت في اتخاذ القرار {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[28]، فهذا الشَّخص إما أن يكون ملكاً أو نبياً، فلو كان ملكاً فإنه يقبل الهدية، لأنه يعتبرها نوعاً من أنواع الصلح أو الخضوع، فيمكن أن نتفادى مشكلته بهذه الطريقة، وإذا كان نبياً، فإنه لا يريد أن يسيطر على بلادنا وملكنا، وإنما يريد أن يسيطر على تفكيرنا حتى نسلم إلى الله سبحانه وتعالى، بدلاً من أن نعبد الشمس. {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي الله خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}[29]، لأنهم رفضوا هذا النوع من الطرح الذي قدّم إليهم بعد ذلك. وفي النهاية، شعرت بأنّ التهديد جدّي، وجاءت وقومها إلى سليمان، وتكلَّمت معه، ودعاها إلى الله بعد أن بيّن لها خرافة السجود إلى الشمس، فقالت آخر الأمر: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ}[30]، إذ بدأت تراجع حساباتها الفكرية، وظلت على عنفوانها، فأسلمت مع سليمان نتيجة التفكر كما فكرت في بداية الأمر.
هذا النموذج يعطينا فكرة أنّ من النساء من هي أعقل من الرجال، لأنها أرادت من رجال قومها أن يشاركوها في الفكر وحل المشكلة الجديدة التي تتضمن التهديد والوعيد، فلم يعطوها فكراً، وإنما هي التي أعطت الفكر، وهي التي خططت، وهي التي انتهت أخيراً بالاقتناع بما طرحه سليمان(ع)، فإذا كانت المرأة بهذا الشكل من النقصان، فلماذا يقدِّم لنا الله سبحانه وتعالى هذا النموذج للمرأة التي تملك عقلاً أكثر من عقل الرجال؟
إنّنا من خلال ذلك، قد نستوحي أنّ ما درج عليه الفقه الإسلامي من أنّ المرأة لا تصلح للقيادة نتيجة حديث ضعيف السند عندنا عن النبي (ص) "لا يفلح قوم ملكتهم امرأة أو وليتهم امرأة"، هو محلّ تحفّظ.
مسألة القوامة:
وهناك دعوى أن القوامة للرجال على النساء تعطي الانطباع بنقصان عقل المرأة، وذلك قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[31]، وربما يفهم بعض الناس من القوامة الرئاسة أو القيادة، حتى إنَّ بعض المفسِّرين، وفي مقدمتهم العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي (رحمه الله) صاحب (تفسير الميزان)، يعتبر أن قوامة الرجل على المرأة في كل شيء، لكننا في كتابنا (من وحي القرآن) ناقشناه، وقلنا إن هذه القوامة مختصة فقط في إطار الحياة الزوجية، والقوامة بمعنى الإدارة، أي الذي يتحمّل المسؤولية أولاً من الناحية الجسدية، أو من ناحية أن ظروف الرجل تجعله أقدر من المرأة على أنْ يتحمّل المسؤولية المالية للحياة الزوجية، وثانياً أنه هو الذي ينفق المال.
ونحن قلنا إنّه ليس هناك حالة يجب فيها على الرجل أن ينفق على المرأة بما هي امرأة سوى في حال الزواج، وأنّ ولاية النبي(ص) والأئمة(ع) على الناس كافة، بلا فرق بين الرجال والنساء، وكذلك ولاية الفقيه ـ بناءً على القول بولاية الفقيه ـ والأب كذلك، فإنه وليٌّ على أولاده الذكور والإناث. ولذلك، فإنّ ولاية الرجل على المرأة بعنوان أنها امرأة لا وجود لها إلاّ بعنوان أنها زوجة، لأنه ينفق عليها، ولأنه يدير البيت، ولذلك، فإن القوامة ليست شاملة، كما يرى البعض، وإنما هي مختصَّة بالحياة الزوجية. وليس للرجل من ميّزة إلا الإنفاق وحقّ الطلاق، والله يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}[32]، يستوجب الإنفاق والطلاق، ما عدا ذلك، لا يلتزم الفقهاء بأن هناك شيئاً آخر يمثل هذه الدرجة من ناحية القيمة.
المرأة وحياة الرقة:
وقد يتمسك البعض بما ورد في القرآن من قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ}[33] أي أن المرأة تنشأ كونها تلبس الثياب الزاهية والحليّ، بما يجعلها تميل إلى الزينة وما شاكلها، ولكن هذا لا يجعلها أقل من الرجل، لأنّ ذلك كما يظهر من الآية الكريمة، لا يرجع إلى طبيعة المرأة أو طبيعة منهج الإسلام، بل هو جوٌّ اجتماعي تقليدي جعل المرأة بهذه المثابة وبهذه الحالة.
ثم إنّ النقطة التي لا بدَّ من أن ندرسها نحن الآن عندما ندرس الواقع، هو أننا نجد أن المرأة في السابق بشكل عام، كانت خارج نطاق التعليم، بحيث كانت تعيش ككمية مهملة، كإنسان من الدرجة الثانية أو الثالثة، ولهذا نجد أنه عندما انطلقت المرأة بالعلم والتجربة وتحمّل المسؤولية، أصبحت أكثر نجاحاً وأكثر تأكيداً لذاتها.
كذلك، لاحظنا أن النساء أصبحن في مواقع رئاسة الدول وفي مواقع إدارة كثير من الأجهزة، رغم بعض الأخطاء التي قد ترتكبها، وهذا يعني أن المرأة تستطيع أن تتطوّر وأن تأخذ الأشياء بحجمها. ونحن نقول إن التجربة الإنسانية في كل المجالات، أعطت المرأة الظروف والفرص للتقدم والتطوّر معرفياً وإدارياً وما إلى ذلك... وهذا يدل على أنّ المرأة كالرجل في قدرتها على التطوّر الفكري والإداري والقيادي، وقد تتفوق على الرجل في اختصاصه، وقد يتفوق الرجل عليها، وقد يتساويان.
وخلاصة الفكرة، أنه لم يثبت عندنا لحدِّ الآن أن عقل المرأة أقلّ من عقل الرجل. أما قضية ضعف المرأة، فالله سبحانه وتعالى لم يتحدّث عن ضعفها، بل تحدّث عن ضعف الإنسان {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}[34]، والله سبحانه وتعالى أراد أيضاً للإنسان أنْ لا يستسلم لهذا الضعف، بل أن يحاول تقوية العناصر التي تخرجه من هذا الضعف. الرجل والمرأة معاً. هذا ما أحببنا أن نثيره أمام هذه المسألة في حديثنا عن العقل في شخصية المرأة.
ندوة الشام الأسبوعية، فكر وثقافة
[1] صحيح البخاري، ج 1، ص 78
[2] نهج البلاغة، ج 1، ص 129
[3] (النساء/176)
[4] (البقرة/282)
[5] (طه/115)
[6] (طه/126)
[7] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 26، ص 93
[8] المصدر نفسه، ص 95
[9] المصدر نفسه، ص 96
[10] (البقرة/286)
[11] (النور/2)
[12] (المائدة/38)
[13] (الأحزاب/36)
[14] (آل عمران/195)
[15] (الأحزاب/35)
[16] (التحريم/10)
[17] (التحريم/11)
[18] (التحريم/12)
[19] (آل عمران/43)
[20] (الآية/37)
[21] (النّمل/24)
[22] (النمل/25-26)
[23] (27-28)
[24] (الآية/29)
[25] (الآية/30)
[26] (الآية/32)
[27] (الآية/33)
[28] (34-35)
[29] (الآية/37-36)
[30] (الآية/44)
[31] (النساء/34)
[32] (البقرة/228)
[33] (الزخرف/18)
[34] (النساء/28)