كتابات
05/12/2013

شبهات حول تشريع الإعدام للقاتل

شبهات حول تشريع الإعدام للقاتل

يثير بعض المفكّرين تساؤلات حول عقوبة الإعدام كحلٍّ لمشكلة العنف والإجرام، من خلال التّساؤل عن إنسانيّة هذه العقوبة ومدى انسجامها مع الخطّ الأفضل للحياة. ويمكن أن نلخّص هذه الأفكار ضمن نقاط:

1 ـ فهم يقولون: إنّه لا يجوز أن نعالج الجريمة بجريمة مماثلة، أو أن نحلّ المشكلة بمشكلة مثلها، فإذا كانت فظاعة الجريمة الأولى ناشئة من فظاعة فكرة إعدام الحياة، فإنَّ العقوبة تتحرّك في الاتجاه نفسه، إذ نقوم حينئذٍ بالعمل نفسه الذي يتمثّل في إعدام حياة ثانية، تفرض قدسية الحياة حمايتها والمحافظة عليها في كلّ موقعٍ من مواقعها، مهما أمكن ذلك.

2 ـ إنَّ عقوبة القصاص لا تنسجم مع النتيجة الّتي نخرج بها في دراستنا لشخصيّة المجرم، فإنَّ الجريمة لا تنشأ من عقدة متأصّلة ذاتية في نفسه، بل تنشأ من خلال ظروف داخلية وخارجية طارئة في محيط حياته، فتشكّل لديه عقدة نفسية تتحكّم بسلوكه، وتضغط على واقعه الفردي والاجتماعي. وفي جميع الأحوال، تعتبر الجريمة لدى المجرم حالة مرضية، وإذا كانت كذلك، فلا بُدَّ للمشترع من مواجهتها في هذا الموقع، تماماً كما يواجه حالةً مرضية نفسية أو جسدية، وعلاجها بقتل المرض لا بقتل المريض، وذلك باتّباع الأساليب التي تشفيه من مرضه، ليتحوّل إلى عنصر صحيح فاعل يشارك في خدمة المجتمع.

3 ـ إنَّ الرّحمة التي انطلق الإسلام بها من خلال رسوله وفي رسالته، حيث كان الرّسول رحمةً للعالمين، وكانت الرّسالة باباً من أبواب الرّحمة، ومن فوق ذلك، كانت الصفة البارزة التي يصف اللّه بها نفسه هي الرّحمن الرّحيم، إنَّ هذه الرحمة الّتي تعبّر عن عمق المعاني الإنسانيّة للشّريعة، لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أن يفتح أمامه باب العفو والتّسامح والتّراجع عن الخطأ.

مناقشة هذه الشّبهات:

لعلّ هذه النّقاط من أبرز الأمور التي أثيرت حول الموضوع، أمَّا تعليقنا عليها، فبتأكيد ملاحظات عدّة:

1 ـ إنَّ الكثير من هذه الأفكار كان نتيجةً للتربية الفرديّة الخاضعة للفكر الرّأسمالي الّذي يستغرق في الفرد ليعتبره كلّ شيء، فهو الأساس الّذي يركّز المجتمع على سلامته وتطوّره من خلاله، وبذلك كان التّركيز على سلامة القاتل كفرد لا بُدَّ لنا من أن نحمي حياته، أو كمريض لا بُدَّ لنا من معالجته، أو كإنسان لا بُدَّ لنا من أن نرحمه. وتبقى النتائج العمليّة الخطيرة التي تنعكس على حياة المجتمع من خلال تصرّفات هذا الفرد وأمثاله، تتفاعل من دون أن تثير اهتماماً أو تحرّك واقعاً في مجال التّشريع أو في مجال العمل.

2 ـ إنَّ الإسلام يتحرّك في مفاهيمه وتشريعاته من موقع التّفكير الإنساني الواقعيّ الذي يعمل على حماية الفرد، حتّى من نفسه، وعلى حماية المجتمع، حتّى من أفراده؛ فلم يترك للفرد الحريّة حتّى في مجال الإساءة إلى حياته الخاصّة، ولم يعط المجتمع حريّة الاعتداء على الفرد. وعلى ضوء ذلك، كان احترامه للفرد في المجالات الّتي لا تهدّد المجتمع في سلامته، لأنَّ سلامة المجتمع أكثر أهميّةً من سلامة الفرد في حالات التّزاحم، وبذلك كان إعدام القاتل عقوبةً ذات اتجاهين؛ فهي من جهة ترتبط بحصر المشكلة في إطارها المحدود بالنّسبة إلى أولياء المقتول، لأنها تنفّس عنهم المشاعر الحادّة التي يمكن أن تنفجر في مساحة أكبر، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}[الإسراء:33]، وهي من جهة أخرى، تمثّل عنصراً رادعاً للآخرين الذين يفكّرون في القيام بجريمة القتل ضدَّ أفراد آخرين، أو الّذين يستسلمون لبعض حالات الانفعال الّتي يفقدون معها التّوازن في التصرّف، فإنَّ هذه العقوبة تصلح لأن تدفع بالإنسان إلى التفكير طويلاً قبل الإقدام على الجريمة.

وربما نضيف إلى الموضوع بُعداً ثالثاً، وهو التّشديد على الموقف المبدئيّ ضدّ الظّلم، بالتحرّك لمعاقبة الظّالمين كأسلوبٍ عمليّ من أساليب إزالته من الأرض.

3 ـ إنَّ التركيز على العقليّة الفرديّة في العمل وفي التّشريع، يجعلنا نعيد النظر في كثير من المبادئ التي يسير عليها النّاس في مختلف أوضاعهم، فنحن نرى أنَّ الأمّة تضحّي بالآلاف من الجنود من أجل الحفاظ على عزّتها وكرامتها وسلامتها، وذلك في الحالات الّتي تتعرّض فيها للخطر من القوى الظّالمة الغاشمة التي تريد أن تستعبدها وتستعمرها.

ولا يمكن الانسجام مع ذلك، إلاَّ على أساس التّفكير الاجتماعي الذي يفرض نفسه على الحياة في حالات الحرب والسّلم، لأنَّ التفكير الفرديّ لا يوافق على أن تضحّي بنفسك من أجل الآخرين، ولا فرق في هذا المجال بين أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين باختياره، وبين أن يضحّي المجتمع بالفرد إذا كانت التّضحية به شرطاً لسلامة المجتمع في ما إذا كان عنصراً فاسداً أو عضواً مشلولاً. أمَّا السلبيّات التي تحدث من خلال ذلك، فإنها طبيعيّة في كلّ تشريع تتقدّم فيه الإيجابيّات على السلبيّات، لأنّنا لا نجد أيَّ حلّ لأيّة مشكلة، إلاَّ ونجد هناك مشاكل صغيرة تتجمّع في طريق الحلّ.

الإسلام يرى القضيّة على النّحو التالي: إنَّ إعدام القاتل قد يُفقدنا عدّة أفراد من المجتمع، ولكنَّه يحمي لنا حياة المجتمع كلّه في الحاضر والمستقبل، سواء منهم الّذين يفكّرون في القتل، أو الّذين يفكّر الآخرون في أن يقتلوهم، ما يجعل المعادلة سليمةً من ناحية العدالة. وهذا ما عبّرت عنه الآية تعبيراً دقيقاً في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179].

4 ـ إنَّ الفكرة التي تقول: إنَّ إعدام القاتل يضيف إلى الجريمة جريمة ثانية، لأنّنا نقوم بما يقوم به المجرم من الاعتداء على الحياة، فهو قد أعدم حياة المقتول، ونحن نعدم حياة القاتل، إنَّ هذه مغلوطة، لسبب بسيط جداً، وهو أنَّ القاتل قد أعدم حياة المقتول بغير حقّ، لأنَّ هذا هو المفروض في موضوع القصاص، فقد كانت تلك الحياة وديعة مسالمة بريئة، فهي حياة محترمة تبعث على الاحترام، أمّا حياة القاتل، فهي حياة باغية ظالمة معتدية. فليست القضيّة واحدة في الحساب، لأنَّ مثل هذه الحياة لا تبعث على الاحترام والتّقدير.

5 ـ أمَّا الفكرة الّتي تنظر إلى الجريمة من حيث هي مرض نفسيّ يحتاج إلى علاج، كأيّ مرض آخر من الأمراض النفسيّة، الّتي قد تفرض علينا أن نفتح مصحّات للعلاج النفسي؛ هذه الفكرة غير دقيقة أوّلاً، وغير مانعة من البقاء في نطاق هذا التّشريع كعلاجٍ حاسم يفرض نفسه على الواقع ثانياً.

أمّا أنَّ الفكرة غير دقيقة، فلأنَّ الجريمة ليست نتيجة مرض نفسيّ في كلّ حالاتها، بل قد تكون ناشئة من حالات طارئة، كوضع انفعاليّ يتحرّك في اتجاه العدوان، أو من أوضاعٍ لا شعوريّة، وقد تكون استهتاراً بالحياة وبالآخرين، كنتيجةٍ لفقدان الضّوابط الرادعة في المجتمع، وقد تكون ـ كما تفرض الفكرة ـ ناشئةً من عقدة في الطّفولة أو في العلاقات العامّة والخاصّة الّتي قد تترك آثارها السلبيّة على حياة الفرد ونفسيّته.

وأمَّا أنها غير مانعة من بقاء التّشريع كحلّ يفرض نفسه، فلأنّنا في مواجهتنا للعقدة النفسية المرضية، نقف أمام طرحين للحل؛ الطرح الفردي، والطرح الاجتماعي. أمّا الطرح الفردي، فإنّه ينظر إلى حالة الفرد كحالة تستوجب العلاج من أجل الحصول على الصحّة النفسيّة التي تبقيه في المستقبل عنصراً حيّاً فاعلاً في الحياة، وربما كان هذا أمراً سليماً جداً من وجهة نظر إنسانيّة فردية، ولكنَّه لا يعتبر سليماً من ناحية اجتماعيّة، لأنَّ هذا الأسلوب سوف يشجّع المجرمين على الجريمة بشكلٍ عام، لأنّه يعلم ـ مقدّماً ـ أنّه سيواجه الكثير من أسلوب الرّعاية والحماية والتّكريم، ما يدفعه إلى المزيد من الاستهتار بالجريمة، وإلى العزم على مواصلتها.

وقد لا نحتاج في تأكيد هذا الموضوع إلى المزيد من التّحليل الفكريّ، بل يكفينا الالتفات إلى الحالات الّتي تطبَّق فيها قواعد العلاج النّفسي في بعض السجون الحديثة في الدّول المتقدّمة، فقد كانت برامجها مليئة بالأجواء التّربويّة الّتي تشتمل على المحاضرات والأساليب الحديثة في علم النفس، بإشراف علماء النفس والاجتماع، في الوقت الّذي كان المجرم يبادر إلى إعادة الجريمة فور خروجه من السّجن، لأنَّ الجانب الفكريّ ليس كلّ شيء في حياة الإنسان، بل هناك أكثر من عامل داخليّ أو خارجيّ يعتبر نقطة ضعف في حياة هذا الشّخص أو ذاك، ولعلّ طبيعة التعقيد الاجتماعي في العلاقات، تفرض كثيراً من التأثيرات، ما يجعل من عمليّة التوجيه بعيداً عن هذه الأجواء، جهداً ضائعاً، لأنَّ المناعة الّتي يشعر بها الإنسان خارج نطاق التّجربة، لا تفيده عندما يعيش في قلب التّجربة الّتي توحي بالانحراف.

وعلى ضوء هذا، فإنَّ الطّرح الفرديّ للحلّ لا يعتبر سليماً من ناحية اجتماعية. أمَّا الطرح الاجتماعي، فإنَّ قيمته أن يجعل الحقّ للمجتمع ممثَّلاً بأولياء المقتول، أو بالسلطة الشرعية في الاقتصاص من القاتل، من دون أن يغلق الباب عن البدائل السلميّة للقضيّة، وذلك بالعفو من دون مقابل، أو بالعفو على أساس دفع الدية، لتكون بمثابة التعويض المادّي عن الخسارة التي تلحق بالورثة من خلال ضياع الفرصة الّتي كانت تمنحهم الاكتفاء المادّيّ بوجود القتيل. وبذلك استطاعت العدالة الإسلاميّة أن تقف في الموقع المتوازن الّذي لا يتنكّر للسلامة العامّة في التّشريع، ولا يلغي حقّ العفو وإمكانات السّلامة للقاتل في بعض الحالات.

6 ـ إنَّ الجريمة قد تكون مرضاً، ولكنَّه لا يلغي طبيعة الاختيار في التصرّف، لأنَّ العقد النفسيّة قد تشكّل لوناً من ألوان الدّوافع الشرّيرة في النفس، ولكنَّها لا تسيطر على الإنسان بالمستوى الّذي يفقد معه إرادته واختياره، وإذا وجدت الإرادة، وجدت المسؤوليّة التي تفرض نفسها عليه، ما يجعل للفعل الصّادر عنه صفة الجريمة الخاضعة للعقاب. ولكن ما هو مستوى العقوبة؟

إنّنا نعتقد أنَّ المعالجة المرضيّة لن تنفع في هذا المجال بالنّسبة إلى المجرم؛ بل لا بُدَّ لنا من الانطلاق في المعالجة في جوانب أخرى لدى غير المجرمين، فنربّي أفراد المجتمع على الأسس الصّحيحة التي تمنع من وجود أفراد مجرمين. أمَّا المجرم، فلا مجال لإلغاء مسؤوليّته في العقوبة الشّديدة الّتي هي الإعدام، لأنَّ الإلغاء إذا كان يعتمد على الناحية المرضيّة، فينبغي أن نلغي العقوبة رأساً، على أساس أنَّ العقدة تعفي من المسؤوليّة، وقد تمتدّ القضية إلى أبعد من ذلك، فنقرر إلغاء العقوبات رأساً، لأنَّ أيّ انحراف في أيّ جانب من الجوانب، لا بُدَّ من أن ينشأ من انحراف مرضيّ في داخل النفس، من دون فرقٍ بين الجريمة الكبيرة والجريمة الصّغيرة، حتّى الحبس، لا يعود له مجال في هذا المقام، بل لا بُدَّ من إدخاله المصحّ، كأيّ مريض آخر. إنّها مشكلة التّفكير الفرديّ الّذي لا ينظر إلى المشكلة من خلال حجمها الكبير؛ بل ينظر إليها من خلال النطاق المحدود الّذي تتحرّك فيه.

7 ـ إنَّ الرّحمة التي يثيرها الإسلام في مفهومه الرّوحيّ والعمليّ، لا تعني الانفعال الذي يرتبط بالشفقة؛ بل تعني مواجهة الواقع بما يحقّق مصلحة الإنسان في المستوى الشّامل، تماماً كما هي الحال عندما يضطر الجرّاح إلى بتر أحد أعضاء الجسم لحماية الحياة للجسد كلّه، فإنَّ ذلك يمثّل الرّحمة للإنسان المريض. إنَّ الرّحمة للّذين يعيشون الحياة من موقع الرّحمة لحركة الحياة، لا للّذين يقضون على الحياة ويطعنونها في الصّميم.

إنَّ التَّشريع لا يتعامل مع العاطفة، بل يتعامل مع المصلحة العامَّة للإنسان، ولهذا جاءت الآية لتقرّر الحقيقة الشّاملة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179] .

المصدر: تفسير من وحي القرآن

يثير بعض المفكّرين تساؤلات حول عقوبة الإعدام كحلٍّ لمشكلة العنف والإجرام، من خلال التّساؤل عن إنسانيّة هذه العقوبة ومدى انسجامها مع الخطّ الأفضل للحياة. ويمكن أن نلخّص هذه الأفكار ضمن نقاط:

1 ـ فهم يقولون: إنّه لا يجوز أن نعالج الجريمة بجريمة مماثلة، أو أن نحلّ المشكلة بمشكلة مثلها، فإذا كانت فظاعة الجريمة الأولى ناشئة من فظاعة فكرة إعدام الحياة، فإنَّ العقوبة تتحرّك في الاتجاه نفسه، إذ نقوم حينئذٍ بالعمل نفسه الذي يتمثّل في إعدام حياة ثانية، تفرض قدسية الحياة حمايتها والمحافظة عليها في كلّ موقعٍ من مواقعها، مهما أمكن ذلك.

2 ـ إنَّ عقوبة القصاص لا تنسجم مع النتيجة الّتي نخرج بها في دراستنا لشخصيّة المجرم، فإنَّ الجريمة لا تنشأ من عقدة متأصّلة ذاتية في نفسه، بل تنشأ من خلال ظروف داخلية وخارجية طارئة في محيط حياته، فتشكّل لديه عقدة نفسية تتحكّم بسلوكه، وتضغط على واقعه الفردي والاجتماعي. وفي جميع الأحوال، تعتبر الجريمة لدى المجرم حالة مرضية، وإذا كانت كذلك، فلا بُدَّ للمشترع من مواجهتها في هذا الموقع، تماماً كما يواجه حالةً مرضية نفسية أو جسدية، وعلاجها بقتل المرض لا بقتل المريض، وذلك باتّباع الأساليب التي تشفيه من مرضه، ليتحوّل إلى عنصر صحيح فاعل يشارك في خدمة المجتمع.

3 ـ إنَّ الرّحمة التي انطلق الإسلام بها من خلال رسوله وفي رسالته، حيث كان الرّسول رحمةً للعالمين، وكانت الرّسالة باباً من أبواب الرّحمة، ومن فوق ذلك، كانت الصفة البارزة التي يصف اللّه بها نفسه هي الرّحمن الرّحيم، إنَّ هذه الرحمة الّتي تعبّر عن عمق المعاني الإنسانيّة للشّريعة، لا تتناسب مع عقوبة الإعدام للقاتل، بل المناسب أن يفتح أمامه باب العفو والتّسامح والتّراجع عن الخطأ.

مناقشة هذه الشّبهات:

لعلّ هذه النّقاط من أبرز الأمور التي أثيرت حول الموضوع، أمَّا تعليقنا عليها، فبتأكيد ملاحظات عدّة:

1 ـ إنَّ الكثير من هذه الأفكار كان نتيجةً للتربية الفرديّة الخاضعة للفكر الرّأسمالي الّذي يستغرق في الفرد ليعتبره كلّ شيء، فهو الأساس الّذي يركّز المجتمع على سلامته وتطوّره من خلاله، وبذلك كان التّركيز على سلامة القاتل كفرد لا بُدَّ لنا من أن نحمي حياته، أو كمريض لا بُدَّ لنا من معالجته، أو كإنسان لا بُدَّ لنا من أن نرحمه. وتبقى النتائج العمليّة الخطيرة التي تنعكس على حياة المجتمع من خلال تصرّفات هذا الفرد وأمثاله، تتفاعل من دون أن تثير اهتماماً أو تحرّك واقعاً في مجال التّشريع أو في مجال العمل.

2 ـ إنَّ الإسلام يتحرّك في مفاهيمه وتشريعاته من موقع التّفكير الإنساني الواقعيّ الذي يعمل على حماية الفرد، حتّى من نفسه، وعلى حماية المجتمع، حتّى من أفراده؛ فلم يترك للفرد الحريّة حتّى في مجال الإساءة إلى حياته الخاصّة، ولم يعط المجتمع حريّة الاعتداء على الفرد. وعلى ضوء ذلك، كان احترامه للفرد في المجالات الّتي لا تهدّد المجتمع في سلامته، لأنَّ سلامة المجتمع أكثر أهميّةً من سلامة الفرد في حالات التّزاحم، وبذلك كان إعدام القاتل عقوبةً ذات اتجاهين؛ فهي من جهة ترتبط بحصر المشكلة في إطارها المحدود بالنّسبة إلى أولياء المقتول، لأنها تنفّس عنهم المشاعر الحادّة التي يمكن أن تنفجر في مساحة أكبر، وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّه إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}[الإسراء:33]، وهي من جهة أخرى، تمثّل عنصراً رادعاً للآخرين الذين يفكّرون في القيام بجريمة القتل ضدَّ أفراد آخرين، أو الّذين يستسلمون لبعض حالات الانفعال الّتي يفقدون معها التّوازن في التصرّف، فإنَّ هذه العقوبة تصلح لأن تدفع بالإنسان إلى التفكير طويلاً قبل الإقدام على الجريمة.

وربما نضيف إلى الموضوع بُعداً ثالثاً، وهو التّشديد على الموقف المبدئيّ ضدّ الظّلم، بالتحرّك لمعاقبة الظّالمين كأسلوبٍ عمليّ من أساليب إزالته من الأرض.

3 ـ إنَّ التركيز على العقليّة الفرديّة في العمل وفي التّشريع، يجعلنا نعيد النظر في كثير من المبادئ التي يسير عليها النّاس في مختلف أوضاعهم، فنحن نرى أنَّ الأمّة تضحّي بالآلاف من الجنود من أجل الحفاظ على عزّتها وكرامتها وسلامتها، وذلك في الحالات الّتي تتعرّض فيها للخطر من القوى الظّالمة الغاشمة التي تريد أن تستعبدها وتستعمرها.

ولا يمكن الانسجام مع ذلك، إلاَّ على أساس التّفكير الاجتماعي الذي يفرض نفسه على الحياة في حالات الحرب والسّلم، لأنَّ التفكير الفرديّ لا يوافق على أن تضحّي بنفسك من أجل الآخرين، ولا فرق في هذا المجال بين أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيل الآخرين باختياره، وبين أن يضحّي المجتمع بالفرد إذا كانت التّضحية به شرطاً لسلامة المجتمع في ما إذا كان عنصراً فاسداً أو عضواً مشلولاً. أمَّا السلبيّات التي تحدث من خلال ذلك، فإنها طبيعيّة في كلّ تشريع تتقدّم فيه الإيجابيّات على السلبيّات، لأنّنا لا نجد أيَّ حلّ لأيّة مشكلة، إلاَّ ونجد هناك مشاكل صغيرة تتجمّع في طريق الحلّ.

الإسلام يرى القضيّة على النّحو التالي: إنَّ إعدام القاتل قد يُفقدنا عدّة أفراد من المجتمع، ولكنَّه يحمي لنا حياة المجتمع كلّه في الحاضر والمستقبل، سواء منهم الّذين يفكّرون في القتل، أو الّذين يفكّر الآخرون في أن يقتلوهم، ما يجعل المعادلة سليمةً من ناحية العدالة. وهذا ما عبّرت عنه الآية تعبيراً دقيقاً في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179].

4 ـ إنَّ الفكرة التي تقول: إنَّ إعدام القاتل يضيف إلى الجريمة جريمة ثانية، لأنّنا نقوم بما يقوم به المجرم من الاعتداء على الحياة، فهو قد أعدم حياة المقتول، ونحن نعدم حياة القاتل، إنَّ هذه مغلوطة، لسبب بسيط جداً، وهو أنَّ القاتل قد أعدم حياة المقتول بغير حقّ، لأنَّ هذا هو المفروض في موضوع القصاص، فقد كانت تلك الحياة وديعة مسالمة بريئة، فهي حياة محترمة تبعث على الاحترام، أمّا حياة القاتل، فهي حياة باغية ظالمة معتدية. فليست القضيّة واحدة في الحساب، لأنَّ مثل هذه الحياة لا تبعث على الاحترام والتّقدير.

5 ـ أمَّا الفكرة الّتي تنظر إلى الجريمة من حيث هي مرض نفسيّ يحتاج إلى علاج، كأيّ مرض آخر من الأمراض النفسيّة، الّتي قد تفرض علينا أن نفتح مصحّات للعلاج النفسي؛ هذه الفكرة غير دقيقة أوّلاً، وغير مانعة من البقاء في نطاق هذا التّشريع كعلاجٍ حاسم يفرض نفسه على الواقع ثانياً.

أمّا أنَّ الفكرة غير دقيقة، فلأنَّ الجريمة ليست نتيجة مرض نفسيّ في كلّ حالاتها، بل قد تكون ناشئة من حالات طارئة، كوضع انفعاليّ يتحرّك في اتجاه العدوان، أو من أوضاعٍ لا شعوريّة، وقد تكون استهتاراً بالحياة وبالآخرين، كنتيجةٍ لفقدان الضّوابط الرادعة في المجتمع، وقد تكون ـ كما تفرض الفكرة ـ ناشئةً من عقدة في الطّفولة أو في العلاقات العامّة والخاصّة الّتي قد تترك آثارها السلبيّة على حياة الفرد ونفسيّته.

وأمَّا أنها غير مانعة من بقاء التّشريع كحلّ يفرض نفسه، فلأنّنا في مواجهتنا للعقدة النفسية المرضية، نقف أمام طرحين للحل؛ الطرح الفردي، والطرح الاجتماعي. أمّا الطرح الفردي، فإنّه ينظر إلى حالة الفرد كحالة تستوجب العلاج من أجل الحصول على الصحّة النفسيّة التي تبقيه في المستقبل عنصراً حيّاً فاعلاً في الحياة، وربما كان هذا أمراً سليماً جداً من وجهة نظر إنسانيّة فردية، ولكنَّه لا يعتبر سليماً من ناحية اجتماعيّة، لأنَّ هذا الأسلوب سوف يشجّع المجرمين على الجريمة بشكلٍ عام، لأنّه يعلم ـ مقدّماً ـ أنّه سيواجه الكثير من أسلوب الرّعاية والحماية والتّكريم، ما يدفعه إلى المزيد من الاستهتار بالجريمة، وإلى العزم على مواصلتها.

وقد لا نحتاج في تأكيد هذا الموضوع إلى المزيد من التّحليل الفكريّ، بل يكفينا الالتفات إلى الحالات الّتي تطبَّق فيها قواعد العلاج النّفسي في بعض السجون الحديثة في الدّول المتقدّمة، فقد كانت برامجها مليئة بالأجواء التّربويّة الّتي تشتمل على المحاضرات والأساليب الحديثة في علم النفس، بإشراف علماء النفس والاجتماع، في الوقت الّذي كان المجرم يبادر إلى إعادة الجريمة فور خروجه من السّجن، لأنَّ الجانب الفكريّ ليس كلّ شيء في حياة الإنسان، بل هناك أكثر من عامل داخليّ أو خارجيّ يعتبر نقطة ضعف في حياة هذا الشّخص أو ذاك، ولعلّ طبيعة التعقيد الاجتماعي في العلاقات، تفرض كثيراً من التأثيرات، ما يجعل من عمليّة التوجيه بعيداً عن هذه الأجواء، جهداً ضائعاً، لأنَّ المناعة الّتي يشعر بها الإنسان خارج نطاق التّجربة، لا تفيده عندما يعيش في قلب التّجربة الّتي توحي بالانحراف.

وعلى ضوء هذا، فإنَّ الطّرح الفرديّ للحلّ لا يعتبر سليماً من ناحية اجتماعية. أمَّا الطرح الاجتماعي، فإنَّ قيمته أن يجعل الحقّ للمجتمع ممثَّلاً بأولياء المقتول، أو بالسلطة الشرعية في الاقتصاص من القاتل، من دون أن يغلق الباب عن البدائل السلميّة للقضيّة، وذلك بالعفو من دون مقابل، أو بالعفو على أساس دفع الدية، لتكون بمثابة التعويض المادّي عن الخسارة التي تلحق بالورثة من خلال ضياع الفرصة الّتي كانت تمنحهم الاكتفاء المادّيّ بوجود القتيل. وبذلك استطاعت العدالة الإسلاميّة أن تقف في الموقع المتوازن الّذي لا يتنكّر للسلامة العامّة في التّشريع، ولا يلغي حقّ العفو وإمكانات السّلامة للقاتل في بعض الحالات.

6 ـ إنَّ الجريمة قد تكون مرضاً، ولكنَّه لا يلغي طبيعة الاختيار في التصرّف، لأنَّ العقد النفسيّة قد تشكّل لوناً من ألوان الدّوافع الشرّيرة في النفس، ولكنَّها لا تسيطر على الإنسان بالمستوى الّذي يفقد معه إرادته واختياره، وإذا وجدت الإرادة، وجدت المسؤوليّة التي تفرض نفسها عليه، ما يجعل للفعل الصّادر عنه صفة الجريمة الخاضعة للعقاب. ولكن ما هو مستوى العقوبة؟

إنّنا نعتقد أنَّ المعالجة المرضيّة لن تنفع في هذا المجال بالنّسبة إلى المجرم؛ بل لا بُدَّ لنا من الانطلاق في المعالجة في جوانب أخرى لدى غير المجرمين، فنربّي أفراد المجتمع على الأسس الصّحيحة التي تمنع من وجود أفراد مجرمين. أمَّا المجرم، فلا مجال لإلغاء مسؤوليّته في العقوبة الشّديدة الّتي هي الإعدام، لأنَّ الإلغاء إذا كان يعتمد على الناحية المرضيّة، فينبغي أن نلغي العقوبة رأساً، على أساس أنَّ العقدة تعفي من المسؤوليّة، وقد تمتدّ القضية إلى أبعد من ذلك، فنقرر إلغاء العقوبات رأساً، لأنَّ أيّ انحراف في أيّ جانب من الجوانب، لا بُدَّ من أن ينشأ من انحراف مرضيّ في داخل النفس، من دون فرقٍ بين الجريمة الكبيرة والجريمة الصّغيرة، حتّى الحبس، لا يعود له مجال في هذا المقام، بل لا بُدَّ من إدخاله المصحّ، كأيّ مريض آخر. إنّها مشكلة التّفكير الفرديّ الّذي لا ينظر إلى المشكلة من خلال حجمها الكبير؛ بل ينظر إليها من خلال النطاق المحدود الّذي تتحرّك فيه.

7 ـ إنَّ الرّحمة التي يثيرها الإسلام في مفهومه الرّوحيّ والعمليّ، لا تعني الانفعال الذي يرتبط بالشفقة؛ بل تعني مواجهة الواقع بما يحقّق مصلحة الإنسان في المستوى الشّامل، تماماً كما هي الحال عندما يضطر الجرّاح إلى بتر أحد أعضاء الجسم لحماية الحياة للجسد كلّه، فإنَّ ذلك يمثّل الرّحمة للإنسان المريض. إنَّ الرّحمة للّذين يعيشون الحياة من موقع الرّحمة لحركة الحياة، لا للّذين يقضون على الحياة ويطعنونها في الصّميم.

إنَّ التَّشريع لا يتعامل مع العاطفة، بل يتعامل مع المصلحة العامَّة للإنسان، ولهذا جاءت الآية لتقرّر الحقيقة الشّاملة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يا أُولِي الأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 179] .

المصدر: تفسير من وحي القرآن

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية