كتابات
20/12/2013

دور العنف في تربية الطّفل‏

دور العنف في تربية الطّفل‏

تربية الطّفل بالضّرب

س: من أكثر وسائل العقاب الشّائعة مع الأطفال، وسيلة الضّرب، ما رأيكم في هذه الوسيلة كوسيلة لضبط سلوك الطّفل؟

ج: يلجأ الآباء أو الأمّهات أو المعلّمون إلى الضّرب في إخضاع الطّفل لقلّة صبرهم، لأنّهم يعتقدون أنّ هذا الأسلوب يختصر الطّريق عليهم لحلّ مشكلتهم مع الصّغار، لكن الضرب قد يُسكت الطفل إلى حين، ولكنه في الواقع يترك آثاراً سلبيّة في شخصيته، فهو يولّد لديه إحساساً بالقهر والخوف من جهة، وموقفاً رافضاً من الشخص الّذي يضربه من جهة أخرى.

أن نشعر الطفل بالاضطهاد بفعل استخدام الأسلوب العنيف معه، هو شكل من أشكال الظلم الذي يفترض بالأولياء تجنّبه، ولعلنا نستوحي ذلك من الفكرة الإنسانيّة الرّائعة التي يُعبّر عنها هذا القول: "ظلم الضعيف أفحش الظلم"، من هنا يأتي وجوب أن نحترم إنسانية الطفل كجزء من احترام إنسانيّتنا. إن مشكلة غالبية الناس هي أنهم أنانيون يطلبون من الآخرين أن يتعاملوا معهم بطريقة إنسانية، ولكنهم لا يقابلون الآخرين بالاحترام الّذي يطلبونه منهم، وهو أمر يعبّر عنه دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللّهمّ فكما كرّهت لي أن أُظلَمَ، فقني من أن أَظلِم"..

وهذا هو معنى "عامل النّاس بما تحبّ أن يعاملوك به"، "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك"[1]. إنّ الهامش الّذي يكون فيه اللّجوء إلى الضّرب مبرّراً ضيّق إلى أبعد تقدير، بحيث لا يُلجَأ إليه إلاّ في حالات الخطر الشّديد بوصفه عمليّة جراحيّة وظيفتها استئصال المرض.

ونجاح الأسلوب الّذي يمكن أن نتبعه في إيصال أيّ فكرة إلى عقل الطفل، أو في إيصال أيّ شعور إلى قلبه، يقوم على مراعاة ما يمكن أن تتحمله شخصية الطفل من دروس أو ضغوط. ذلك أن الخط التربوي العام الذي يفترض أن نتبنّاه، يقوم على رحمة الطفل، باعتبار أن الرحمة خطّ عام يحكم علاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالإنسان الآخر.

والرّحمة ليست مجرّد مفردة أخلاقيّة، بل هي مفردة معرفيّة تستدعي تحديد مستوى الطّفل العقليّ، وتقدير ظروفه الواقعيّة عند محادثته أو توجيهه. ذلك أنّ التّربية عموماً، يفترض أن لا تنطلق مما يفكّر به المربّي، بحيث يتعمّد إسقاط ما قرأه أو تعلّمه على الطّفل قسراً، كما هي حال المرشد الديني أو الاجتماعي، الّذي يفترض به أن لا يفرض مواقفه الخاصة على الآخرين، بل عليه أن يدرس تجاربهم وأوضاعهم، ليحصل على ثقافة تربويّة تساعده على القيام بعمله في مجال التربية أو التثقيف، بالشّكل الذي يؤدّي إلى تحقيق الأهداف المرجوّة. وإن كان الخطّ العام يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[2]، فيما تعطى من توجيهات، وما يفرض عليها من تكاليف وما إلى ذلك.

دوافع استخدام العنف

س:  ما الدّافع الّذي يحمل الأهل على استخدام العنف في تعاملهم مع أولادهم؟

ج: يميل الأهل إلى عدم إتعاب أنفسهم باتباع الوسائل الطويلة الأمد في تربية أولادهم، باعتبار أن تمرّد الطفل أو انفعاله أو ما أشبه ذلك، قد يزعجهم بشكل آنيّ، فيعمدون إلى معالجة الموقف بإسكاته أو بإبعاده عن هذا الجوّ أو ذاك، أو بدفعه إلى الدّرس وما إلى ذلك، عبر الضّغط عليه بشكل مباشر، كالضّرب أو النّهر... دون أن يدركوا النتائج السلبيّة الطويلة الأمد لاستخدام هذا الأسلوب على شخصيّة الولد، وما يمكن أن يتركه من تأثيرات سلبيّة على نفسه، وهي آثار تتجاوز النتائج الإيجابيّة السريعة التي حصلوا عليها من خلال العنف.

لذلك، فإننا نوصي الأهل بأن لا ينظروا إلى نتائج العنف بعين واحدة، بل أن ينظروا إليه بشكل كليّ، لجهة تأثيره قوّة وضعفاً في شخصية الطفل ككلّ، والاستعاضة عنه بالبحث عن أفضل الوسائل الّتي تكفل اقتلاع السلوكيّات الانحرافيّة من جذورها، دون إيقاعه في مشاكل أخرى قد ترهق نفسيّته، أو قد تعقّد علاقتهم به في المستقبل، لأنّ هذه التعقيدات النفسيّة قد تخلق من الطفل شخصاً يختزن التمرّد، رغبةً في الثأر من الاضطهاد الّذي يلقاه من أهله، وربما تزيد رغبته في السّلوك الممنوع عنه بالعنف، لأنّ العنف لا يقنع، ولكنّه يسكت دون أن يزيل ميول الانحراف وتأثيراتها في الشخصية، وربما يخلق موقفاً عدائيّاً من الأهل، بحيث يفقد حبّه لهم بطريقة أو بأخرى.

ولذلك، نوصي الأهل بأن يصبروا على أخطاء الطّفل ويعالجوها بالحكمة والنّفس الطويل، تماماً كما يعالج الطّبيب المرض.. ونوصي الأهل بأن يصبروا على أولادهم ويعالجوا انحرافاتهم بحكمةٍ وتروّ كما يعالج الطبيب مرضاه بإعطائهم الجرعات المنتظمة الّتي تشفي المرض بشكل دقيق وحكيم.

وهناك نقطة نحبّ أن نؤكّدها، وهي أنّ الأهل لا يعتمدون العنف دائماً بهدف تربويّ، إنّما بغرض التنفيس عن الغيظ الكامن داخل نفوسهم بسبب ضغوطات خارجيّة، سواء أكانت تلك الضغوطات عاطفيّة أم وظيفيّة أم سياسيّة أم اقتصاديّة أو ما إلى ذلك، فإذا أخطأ الطّفل، وجدوا فرصتهم في التّنفيس بطريقة يبرّرها لهم من يؤمنون بهذا الأسلوب في تربية الأطفال، وهم يعرفون تمام المعرفة، أنّ هدفهم من ذلك ليس تربية الطفل، ولكن مجرد التنفيس عمّا لديهم من عقدة. لذلك قد يندم الأهل غالباً عندما يشاهدون آثار عنفهم على جسد الأولاد أو نفسيتهم، أو عندما يكتشفون أنهم ضربوا الطّفل ضرباً مبرّحاً، أو أساؤوا إليه إساءة بالغة، وأنّ ذلك لم يؤثّر في سلوكه الخاطئ‏، وقد يستغفرون الله من ذلك.

هناك حديث يقول: "نهى رسول الله(ص) عن الأدب عند الغضب"[3]، فلا يجوز للوالد أن يؤدّب وقت الغضب، باعتبار أنّ غضبه سوف يؤثّر في أسلوب التأديب ووسيلته، بما يؤدّي إلى ظلم الطّرف الآخر، لأنّ العوامل التي أثارت غضب المؤدّب، ستكون الدافع إلى اعتماد هذا الأسلوب، وليس الدّافع التربويّ البحت.

وعلى كلّ حال، نقول للأهل من الناحية الشرعية الفقهيّة، إن الضّرب محرّم في الحالتين، سواء استعملوه كأسلوب تربويّ، أو كوسيلة من وسائل التّنفيس عن عقدهم الشخصيّة، لأنّ الله لم يسلّط المربّي، أيّاً كان، أباً أو أماً أو أخاً أو معلّماً، على الطّفل، ولم يمنحه الحقّ في أن يعنّفه، باعتبار أن لا فرق بين الطّفل وبين أيّ إنسان راشد في حرمة العنف الموجّه ضدّه، فالطفل إنسان تماماً كالإنسان الراشد، وربما كانت عقوبة العنف الموجّه إلى الطفل من الناحية الشرعيّة أكبر، لأنّ "ظلم الضّعيف أفحش الظلم"[4]، كما ورد في بعض الأحاديث الشّريفة، وقد ورد الحديث: "إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله"[5].

ولذلك، فإنّ ظلم الطّفل بممارسة العنف ضدّه، يمثّل معصية كبيرة عند الله سبحانه. وقد يقول قائل إنّنا قد نصل إلى مرحلة لا نملك فيها حماية الطّفل وإنقاذه من النتائج السلبيّة لسلوكه إلاّ بالعنف، ما يجعل امتناعنا عن العنف امتناعاً عن إنقاذه مما قد يهلكه عقلياً أو جسدياً أو اجتماعياً أو تربوياً أو ما إلى ذلك، ونحن نقول: أوّلاً، على الإنسان أن لا يستعجل الحكم باستعمال العنف، بل يجب عليه أن يدرس الأمر بدقّة متناهية، تماماً كما يدرس الطّبيب الظّاهرة المرضيّة الموجودة في جسد الإنسان، فيجري الكثير من التّحاليل والفحوص والصّور، إلى أن يقتنع بحاجة هذا المرض إلى عمليّة جراحيّة فيجريها، لأنّ العنف أشبه بالعمليّة الجراحيّة، وإذا ما تمّ له كلّ ذلك، ووصل إلى حتميّة استخدام العنف مع الولد، استخدمه بطريقة مدروسة. فقد تكون مصلحته في استخدام العنف الكلاميّ، أو العنف الاقتصاديّ، أو العنف الجسديّ، ولا بدّ أيضاً من أن يكون استخدام العنف على مراتب، بحيث لا يؤدّي إلى احمرار الجسد الّذي يتحمّل معه المعنِّف الدية الشرعيّة.

بعبارة أخرى، إنّ حال المربّي مع الطّفل كحال الطّبيب مع المريض، وفي الوقت الّذي يتعامل الأول مع حالة مرضيّة في الشخصيّة والسّلوك بهدف القضاء عليها، يتعامل الثّاني مع حالة مرضيّة في الجسد.

إنّ القاعدة التربويّة الإسلاميّة تقول إنّه لا يجوز اللّجوء إلى العنف إلاّ بعد استنفاد كلّ الوسائل الأخرى، واكتشاف عدم فعاليّتها في معالجة الظاهرة الانحرافيّة الّتي تشكّل خطراً على شخصيّة الولد في أكثر من جانب. وعندما نجد أنّ العنف ضروريّ لإنقاذ الولد، لا بدَّ من أن ندرس أسلوب استخدامه، فلا يجوز أن نستخدم وسيلة أشدّ، إلاّ بعد استنفاد الوسيلة الأخفّ، تماماً كما هي حال الطبيب مع الدّواء الّذي يعطيه للمريض.

العنف في المجتمع الغربيّ

س: على الرّغم من وجود كلّ القوانين الّتي تردع استخدام العنف في البلاد المتقدّمة، كما ذكرتم، إلا أنّه ظاهرة متفشّية في الخارج. كيف تفسّرون ذلك؟

ج:  دورة العنف الّتي يعيشها المجتمع الغربي بسبب أفلام الرّعب وبرامج التلفزيون والموسيقى الصاخبة وأخبار الحروب، وصور العنف الموجودة في العالم، أغرقت الطّفل في جوّ من العنف القاتل، ولا سيّما مع انتشار الأسلحة بين أيدي النّاس، كما في أمريكا. إنّ هذا العنف الاجتماعيّ الذي تتضافر في صناعته عدّة مؤثّرات في المجتمع الأمريكي أو المجتمعات المماثلة، هو الّذي جرّد إنسان تلك المجتمعات من نبض العاطفة، وجعله إنساناً معقّداً يميل إلى العنف ويلجأ إليه، فنحن نعرف أنّ الأسرة كادت تموت في الغرب، وأنّ الأبناء يهملون آباءهم حتّى يموتوا وحدهم دون أن يتفقّدهم أحد، وأنّ الأب يهمل ولده عندما يبلغ، فيطرده من البيت ليبحث عن عمل بنفسه، والمرأة تسقط أجنّتها طلباً للحرّية وما إلى ذلك.

ومن الطبيعيّ أن تنعكس أجواء العنف الاجتماعيّ الّذي يعيشه النّاس سلباً على نفسيّة المعلّم والمربي وما إلى ذلك، ولكنّنا نلاحظ إلى جانب ذلك، أن التشريع القانوني يعمل على وضع الحلول لتلك المشاكل، فإذا ما ضرب أيّ من الأب أو الأمّ الولد، كان بإمكان هذا الأخير شكواهما إلى الشّرطة الّتي تتدخّل لصالحه، وقد تأخذه من أبويه لحمايته من العنف. قد يكون لهذا التّشريع سلبيّات ما، ولكنّ وجود هذا القانون هنا يدلّ على حرص تلك المجتمعات على حقوق الطّفل.

لقد حرَّم الإسلام كلّ أنواع العنف ضدّ الطّفل، إلاّ في حال كان فيه وسيلة لإنقاذه من خطر محقّق على الجسد وعلى العقل وعلى الرّوح.

إنّ القاعدة في ذلك كلّه هي تحريم الظّلم، أي التصرّف الّذي لا يستحقّه الإنسان من ناحية شرعيّة وإنسانيّة، وقد ركّز الإسلام في هذه المسألة على مفهوم الرّحمة، الّذي أراد للإنسان أن يحكم تعامله مع الآخر، ولا سيّما إذا كان ضعيفاً وعاجزاً عن الدّفاع عن نفسه، وغير قادر على فرض الطريقة المناسبة للتعامل معه من قبل الآخرين.

الضّرب التّربويّ

س: ما هي الحدود المسموح بها لضرب الطّفل للتّربية والتّأديب؟ وماذا يترتّب على الأب أو الأمّ في حال تجاوز الحدّ المسموح به من العنف؟

ج: إنَّ الإسلام يرى في الطّفل أمانةً عند والديه، وعندما جعل الولاية للأب، فإنَّ هذه الولاية لا تعني تسليط الأب على الطّفل بشكلٍ مطلق، بحيث يأخذ حريّته في التصرّف بشؤونه حسب مزاجه، بل عليه أن يتصرّف بما يصلح أمر الطّفل، وليس له أن يتصرّف أيّ تصرّف ضرريّ أو مشتمل على مفسدة تتّصل بحياته. وعلى ضوء هذا، فإنَّ عليه أن يربّي الطفل ويستخدم كلّ الوسائل التي تجعله إنساناً متديّناً طيّباً صالحاً في أخلاقه وفي علمه وفي دينه وفي سلوكه العام مع النَّاس، ولا يجوز له ممارسة الضّغط ما دامت الوسائل الأخرى كافية للوصول إلى الهدف التربوي. أمّا إذا توقّفت التربية على الضّرب، فيجوز له ذلك بأن يضربه ضرباً تربويّاً، بمعنى أن يكون الضّرب وسيلةً من وسائل الضّغط النفسي والجسدي، ولكن بشرط أن لا يتعسّف في ضربه. وقد وضع الشّرع حدّاً للضّرب الّذي لا يوجب شيئاً، وهو أن لا يؤدّي إلى احمرار الجلد احمراراً مستقلاً، فإذا بلغ ذلك، فيكون مأثوماً، كما أنَّه يجب عليه دفع الدية، ولكن إذا كانت المسألة من المسائل الملحّة جداً، والّتي تتّصل بحماية الطّفل من أخطار كبيرة يمكن أن يقع فيها، ولا يمكن ذلك إلاَّ بالضّرب المبرّح، فإنَّ ذلك جائز في هذه الحالة تحديداً، وللأب أن يتحرّى الدقّة والاحتياط في تقدير الحالة، من حيث وصولها إلى درجة الخطر الّذي يبيح للأب أن يتصرّف بأكثر من الوضع الطبيعي، لئلا يشتبه عليه الأمر، فيقع في الخطأ من حيث إنَّه يريد الصّواب، أو يقع في الحرام من حيث يريد الحلال.

من يحقّ له ضرب الطّفل؟!

س: هل يحقّ للرّجل منع زوجته من ضرب الأولاد، بحجّة أنَّها لا تحسن تأديبهم بهذه الطّريقة؟

ج: لا يجوز لها أن تضربهم تأديباً من دون إذن الزّوج، أمّا إذا كان لغير التأديب، فهو محرّم على الرّجل والمرأة معاً، وأمّا الضّرب التأديبـيّ، فلا بُدَّ من أن يكون بإذن الأب أو وليّ الطّفل الشّرعيّ.

س: تفريعاً على ذلك، هل يجوز للمدرِّس أو لإدارة المدرسة استخدام الضّرب في تربية التّلاميذ؟

ج: إذا كان تفويض الأب أو أولياء الطّفل الشرعيّين يشمل مثل هذه الحالة، باعتبار أنَّهم يعرفون أنَّه لا يمكن تفادي ذلك في بعض الأوضاع، فيجوز للمعلّمين أن يقوموا بذلك بعد استنفاد كافّة الوسائل السلميّة، إذا صحّ التّعبير، فإذا رأوا أنَّ المرحلة تقتضي الضّرب، فلا بُدَّ من الوقوف عند الحدود الشرعيّة.

*المصدر: دنيا الطّفل، ص51 ـ 52/ وص: 215 ـ 220، وفقه الحياة، ص: 61 ـ 63.


[1] ـ نهج البلاغة، ج3، ص45.

[2] ـ [البقرة:286].

[3] ـ ميزان الحكمة، ج1، ص57.

[4] ـ المصدر نفسه، ج2، ص: 1774.

[5] ـ الكافي: ج2، ص331.

تربية الطّفل بالضّرب

س: من أكثر وسائل العقاب الشّائعة مع الأطفال، وسيلة الضّرب، ما رأيكم في هذه الوسيلة كوسيلة لضبط سلوك الطّفل؟

ج: يلجأ الآباء أو الأمّهات أو المعلّمون إلى الضّرب في إخضاع الطّفل لقلّة صبرهم، لأنّهم يعتقدون أنّ هذا الأسلوب يختصر الطّريق عليهم لحلّ مشكلتهم مع الصّغار، لكن الضرب قد يُسكت الطفل إلى حين، ولكنه في الواقع يترك آثاراً سلبيّة في شخصيته، فهو يولّد لديه إحساساً بالقهر والخوف من جهة، وموقفاً رافضاً من الشخص الّذي يضربه من جهة أخرى.

أن نشعر الطفل بالاضطهاد بفعل استخدام الأسلوب العنيف معه، هو شكل من أشكال الظلم الذي يفترض بالأولياء تجنّبه، ولعلنا نستوحي ذلك من الفكرة الإنسانيّة الرّائعة التي يُعبّر عنها هذا القول: "ظلم الضعيف أفحش الظلم"، من هنا يأتي وجوب أن نحترم إنسانية الطفل كجزء من احترام إنسانيّتنا. إن مشكلة غالبية الناس هي أنهم أنانيون يطلبون من الآخرين أن يتعاملوا معهم بطريقة إنسانية، ولكنهم لا يقابلون الآخرين بالاحترام الّذي يطلبونه منهم، وهو أمر يعبّر عنه دعاء الإمام زين العابدين(ع): "اللّهمّ فكما كرّهت لي أن أُظلَمَ، فقني من أن أَظلِم"..

وهذا هو معنى "عامل النّاس بما تحبّ أن يعاملوك به"، "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك"[1]. إنّ الهامش الّذي يكون فيه اللّجوء إلى الضّرب مبرّراً ضيّق إلى أبعد تقدير، بحيث لا يُلجَأ إليه إلاّ في حالات الخطر الشّديد بوصفه عمليّة جراحيّة وظيفتها استئصال المرض.

ونجاح الأسلوب الّذي يمكن أن نتبعه في إيصال أيّ فكرة إلى عقل الطفل، أو في إيصال أيّ شعور إلى قلبه، يقوم على مراعاة ما يمكن أن تتحمله شخصية الطفل من دروس أو ضغوط. ذلك أن الخط التربوي العام الذي يفترض أن نتبنّاه، يقوم على رحمة الطفل، باعتبار أن الرحمة خطّ عام يحكم علاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالإنسان الآخر.

والرّحمة ليست مجرّد مفردة أخلاقيّة، بل هي مفردة معرفيّة تستدعي تحديد مستوى الطّفل العقليّ، وتقدير ظروفه الواقعيّة عند محادثته أو توجيهه. ذلك أنّ التّربية عموماً، يفترض أن لا تنطلق مما يفكّر به المربّي، بحيث يتعمّد إسقاط ما قرأه أو تعلّمه على الطّفل قسراً، كما هي حال المرشد الديني أو الاجتماعي، الّذي يفترض به أن لا يفرض مواقفه الخاصة على الآخرين، بل عليه أن يدرس تجاربهم وأوضاعهم، ليحصل على ثقافة تربويّة تساعده على القيام بعمله في مجال التربية أو التثقيف، بالشّكل الذي يؤدّي إلى تحقيق الأهداف المرجوّة. وإن كان الخطّ العام يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[2]، فيما تعطى من توجيهات، وما يفرض عليها من تكاليف وما إلى ذلك.

دوافع استخدام العنف

س:  ما الدّافع الّذي يحمل الأهل على استخدام العنف في تعاملهم مع أولادهم؟

ج: يميل الأهل إلى عدم إتعاب أنفسهم باتباع الوسائل الطويلة الأمد في تربية أولادهم، باعتبار أن تمرّد الطفل أو انفعاله أو ما أشبه ذلك، قد يزعجهم بشكل آنيّ، فيعمدون إلى معالجة الموقف بإسكاته أو بإبعاده عن هذا الجوّ أو ذاك، أو بدفعه إلى الدّرس وما إلى ذلك، عبر الضّغط عليه بشكل مباشر، كالضّرب أو النّهر... دون أن يدركوا النتائج السلبيّة الطويلة الأمد لاستخدام هذا الأسلوب على شخصيّة الولد، وما يمكن أن يتركه من تأثيرات سلبيّة على نفسه، وهي آثار تتجاوز النتائج الإيجابيّة السريعة التي حصلوا عليها من خلال العنف.

لذلك، فإننا نوصي الأهل بأن لا ينظروا إلى نتائج العنف بعين واحدة، بل أن ينظروا إليه بشكل كليّ، لجهة تأثيره قوّة وضعفاً في شخصية الطفل ككلّ، والاستعاضة عنه بالبحث عن أفضل الوسائل الّتي تكفل اقتلاع السلوكيّات الانحرافيّة من جذورها، دون إيقاعه في مشاكل أخرى قد ترهق نفسيّته، أو قد تعقّد علاقتهم به في المستقبل، لأنّ هذه التعقيدات النفسيّة قد تخلق من الطفل شخصاً يختزن التمرّد، رغبةً في الثأر من الاضطهاد الّذي يلقاه من أهله، وربما تزيد رغبته في السّلوك الممنوع عنه بالعنف، لأنّ العنف لا يقنع، ولكنّه يسكت دون أن يزيل ميول الانحراف وتأثيراتها في الشخصية، وربما يخلق موقفاً عدائيّاً من الأهل، بحيث يفقد حبّه لهم بطريقة أو بأخرى.

ولذلك، نوصي الأهل بأن يصبروا على أخطاء الطّفل ويعالجوها بالحكمة والنّفس الطويل، تماماً كما يعالج الطّبيب المرض.. ونوصي الأهل بأن يصبروا على أولادهم ويعالجوا انحرافاتهم بحكمةٍ وتروّ كما يعالج الطبيب مرضاه بإعطائهم الجرعات المنتظمة الّتي تشفي المرض بشكل دقيق وحكيم.

وهناك نقطة نحبّ أن نؤكّدها، وهي أنّ الأهل لا يعتمدون العنف دائماً بهدف تربويّ، إنّما بغرض التنفيس عن الغيظ الكامن داخل نفوسهم بسبب ضغوطات خارجيّة، سواء أكانت تلك الضغوطات عاطفيّة أم وظيفيّة أم سياسيّة أم اقتصاديّة أو ما إلى ذلك، فإذا أخطأ الطّفل، وجدوا فرصتهم في التّنفيس بطريقة يبرّرها لهم من يؤمنون بهذا الأسلوب في تربية الأطفال، وهم يعرفون تمام المعرفة، أنّ هدفهم من ذلك ليس تربية الطفل، ولكن مجرد التنفيس عمّا لديهم من عقدة. لذلك قد يندم الأهل غالباً عندما يشاهدون آثار عنفهم على جسد الأولاد أو نفسيتهم، أو عندما يكتشفون أنهم ضربوا الطّفل ضرباً مبرّحاً، أو أساؤوا إليه إساءة بالغة، وأنّ ذلك لم يؤثّر في سلوكه الخاطئ‏، وقد يستغفرون الله من ذلك.

هناك حديث يقول: "نهى رسول الله(ص) عن الأدب عند الغضب"[3]، فلا يجوز للوالد أن يؤدّب وقت الغضب، باعتبار أنّ غضبه سوف يؤثّر في أسلوب التأديب ووسيلته، بما يؤدّي إلى ظلم الطّرف الآخر، لأنّ العوامل التي أثارت غضب المؤدّب، ستكون الدافع إلى اعتماد هذا الأسلوب، وليس الدّافع التربويّ البحت.

وعلى كلّ حال، نقول للأهل من الناحية الشرعية الفقهيّة، إن الضّرب محرّم في الحالتين، سواء استعملوه كأسلوب تربويّ، أو كوسيلة من وسائل التّنفيس عن عقدهم الشخصيّة، لأنّ الله لم يسلّط المربّي، أيّاً كان، أباً أو أماً أو أخاً أو معلّماً، على الطّفل، ولم يمنحه الحقّ في أن يعنّفه، باعتبار أن لا فرق بين الطّفل وبين أيّ إنسان راشد في حرمة العنف الموجّه ضدّه، فالطفل إنسان تماماً كالإنسان الراشد، وربما كانت عقوبة العنف الموجّه إلى الطفل من الناحية الشرعيّة أكبر، لأنّ "ظلم الضّعيف أفحش الظلم"[4]، كما ورد في بعض الأحاديث الشّريفة، وقد ورد الحديث: "إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله"[5].

ولذلك، فإنّ ظلم الطّفل بممارسة العنف ضدّه، يمثّل معصية كبيرة عند الله سبحانه. وقد يقول قائل إنّنا قد نصل إلى مرحلة لا نملك فيها حماية الطّفل وإنقاذه من النتائج السلبيّة لسلوكه إلاّ بالعنف، ما يجعل امتناعنا عن العنف امتناعاً عن إنقاذه مما قد يهلكه عقلياً أو جسدياً أو اجتماعياً أو تربوياً أو ما إلى ذلك، ونحن نقول: أوّلاً، على الإنسان أن لا يستعجل الحكم باستعمال العنف، بل يجب عليه أن يدرس الأمر بدقّة متناهية، تماماً كما يدرس الطّبيب الظّاهرة المرضيّة الموجودة في جسد الإنسان، فيجري الكثير من التّحاليل والفحوص والصّور، إلى أن يقتنع بحاجة هذا المرض إلى عمليّة جراحيّة فيجريها، لأنّ العنف أشبه بالعمليّة الجراحيّة، وإذا ما تمّ له كلّ ذلك، ووصل إلى حتميّة استخدام العنف مع الولد، استخدمه بطريقة مدروسة. فقد تكون مصلحته في استخدام العنف الكلاميّ، أو العنف الاقتصاديّ، أو العنف الجسديّ، ولا بدّ أيضاً من أن يكون استخدام العنف على مراتب، بحيث لا يؤدّي إلى احمرار الجسد الّذي يتحمّل معه المعنِّف الدية الشرعيّة.

بعبارة أخرى، إنّ حال المربّي مع الطّفل كحال الطّبيب مع المريض، وفي الوقت الّذي يتعامل الأول مع حالة مرضيّة في الشخصيّة والسّلوك بهدف القضاء عليها، يتعامل الثّاني مع حالة مرضيّة في الجسد.

إنّ القاعدة التربويّة الإسلاميّة تقول إنّه لا يجوز اللّجوء إلى العنف إلاّ بعد استنفاد كلّ الوسائل الأخرى، واكتشاف عدم فعاليّتها في معالجة الظاهرة الانحرافيّة الّتي تشكّل خطراً على شخصيّة الولد في أكثر من جانب. وعندما نجد أنّ العنف ضروريّ لإنقاذ الولد، لا بدَّ من أن ندرس أسلوب استخدامه، فلا يجوز أن نستخدم وسيلة أشدّ، إلاّ بعد استنفاد الوسيلة الأخفّ، تماماً كما هي حال الطبيب مع الدّواء الّذي يعطيه للمريض.

العنف في المجتمع الغربيّ

س: على الرّغم من وجود كلّ القوانين الّتي تردع استخدام العنف في البلاد المتقدّمة، كما ذكرتم، إلا أنّه ظاهرة متفشّية في الخارج. كيف تفسّرون ذلك؟

ج:  دورة العنف الّتي يعيشها المجتمع الغربي بسبب أفلام الرّعب وبرامج التلفزيون والموسيقى الصاخبة وأخبار الحروب، وصور العنف الموجودة في العالم، أغرقت الطّفل في جوّ من العنف القاتل، ولا سيّما مع انتشار الأسلحة بين أيدي النّاس، كما في أمريكا. إنّ هذا العنف الاجتماعيّ الذي تتضافر في صناعته عدّة مؤثّرات في المجتمع الأمريكي أو المجتمعات المماثلة، هو الّذي جرّد إنسان تلك المجتمعات من نبض العاطفة، وجعله إنساناً معقّداً يميل إلى العنف ويلجأ إليه، فنحن نعرف أنّ الأسرة كادت تموت في الغرب، وأنّ الأبناء يهملون آباءهم حتّى يموتوا وحدهم دون أن يتفقّدهم أحد، وأنّ الأب يهمل ولده عندما يبلغ، فيطرده من البيت ليبحث عن عمل بنفسه، والمرأة تسقط أجنّتها طلباً للحرّية وما إلى ذلك.

ومن الطبيعيّ أن تنعكس أجواء العنف الاجتماعيّ الّذي يعيشه النّاس سلباً على نفسيّة المعلّم والمربي وما إلى ذلك، ولكنّنا نلاحظ إلى جانب ذلك، أن التشريع القانوني يعمل على وضع الحلول لتلك المشاكل، فإذا ما ضرب أيّ من الأب أو الأمّ الولد، كان بإمكان هذا الأخير شكواهما إلى الشّرطة الّتي تتدخّل لصالحه، وقد تأخذه من أبويه لحمايته من العنف. قد يكون لهذا التّشريع سلبيّات ما، ولكنّ وجود هذا القانون هنا يدلّ على حرص تلك المجتمعات على حقوق الطّفل.

لقد حرَّم الإسلام كلّ أنواع العنف ضدّ الطّفل، إلاّ في حال كان فيه وسيلة لإنقاذه من خطر محقّق على الجسد وعلى العقل وعلى الرّوح.

إنّ القاعدة في ذلك كلّه هي تحريم الظّلم، أي التصرّف الّذي لا يستحقّه الإنسان من ناحية شرعيّة وإنسانيّة، وقد ركّز الإسلام في هذه المسألة على مفهوم الرّحمة، الّذي أراد للإنسان أن يحكم تعامله مع الآخر، ولا سيّما إذا كان ضعيفاً وعاجزاً عن الدّفاع عن نفسه، وغير قادر على فرض الطريقة المناسبة للتعامل معه من قبل الآخرين.

الضّرب التّربويّ

س: ما هي الحدود المسموح بها لضرب الطّفل للتّربية والتّأديب؟ وماذا يترتّب على الأب أو الأمّ في حال تجاوز الحدّ المسموح به من العنف؟

ج: إنَّ الإسلام يرى في الطّفل أمانةً عند والديه، وعندما جعل الولاية للأب، فإنَّ هذه الولاية لا تعني تسليط الأب على الطّفل بشكلٍ مطلق، بحيث يأخذ حريّته في التصرّف بشؤونه حسب مزاجه، بل عليه أن يتصرّف بما يصلح أمر الطّفل، وليس له أن يتصرّف أيّ تصرّف ضرريّ أو مشتمل على مفسدة تتّصل بحياته. وعلى ضوء هذا، فإنَّ عليه أن يربّي الطفل ويستخدم كلّ الوسائل التي تجعله إنساناً متديّناً طيّباً صالحاً في أخلاقه وفي علمه وفي دينه وفي سلوكه العام مع النَّاس، ولا يجوز له ممارسة الضّغط ما دامت الوسائل الأخرى كافية للوصول إلى الهدف التربوي. أمّا إذا توقّفت التربية على الضّرب، فيجوز له ذلك بأن يضربه ضرباً تربويّاً، بمعنى أن يكون الضّرب وسيلةً من وسائل الضّغط النفسي والجسدي، ولكن بشرط أن لا يتعسّف في ضربه. وقد وضع الشّرع حدّاً للضّرب الّذي لا يوجب شيئاً، وهو أن لا يؤدّي إلى احمرار الجلد احمراراً مستقلاً، فإذا بلغ ذلك، فيكون مأثوماً، كما أنَّه يجب عليه دفع الدية، ولكن إذا كانت المسألة من المسائل الملحّة جداً، والّتي تتّصل بحماية الطّفل من أخطار كبيرة يمكن أن يقع فيها، ولا يمكن ذلك إلاَّ بالضّرب المبرّح، فإنَّ ذلك جائز في هذه الحالة تحديداً، وللأب أن يتحرّى الدقّة والاحتياط في تقدير الحالة، من حيث وصولها إلى درجة الخطر الّذي يبيح للأب أن يتصرّف بأكثر من الوضع الطبيعي، لئلا يشتبه عليه الأمر، فيقع في الخطأ من حيث إنَّه يريد الصّواب، أو يقع في الحرام من حيث يريد الحلال.

من يحقّ له ضرب الطّفل؟!

س: هل يحقّ للرّجل منع زوجته من ضرب الأولاد، بحجّة أنَّها لا تحسن تأديبهم بهذه الطّريقة؟

ج: لا يجوز لها أن تضربهم تأديباً من دون إذن الزّوج، أمّا إذا كان لغير التأديب، فهو محرّم على الرّجل والمرأة معاً، وأمّا الضّرب التأديبـيّ، فلا بُدَّ من أن يكون بإذن الأب أو وليّ الطّفل الشّرعيّ.

س: تفريعاً على ذلك، هل يجوز للمدرِّس أو لإدارة المدرسة استخدام الضّرب في تربية التّلاميذ؟

ج: إذا كان تفويض الأب أو أولياء الطّفل الشرعيّين يشمل مثل هذه الحالة، باعتبار أنَّهم يعرفون أنَّه لا يمكن تفادي ذلك في بعض الأوضاع، فيجوز للمعلّمين أن يقوموا بذلك بعد استنفاد كافّة الوسائل السلميّة، إذا صحّ التّعبير، فإذا رأوا أنَّ المرحلة تقتضي الضّرب، فلا بُدَّ من الوقوف عند الحدود الشرعيّة.

*المصدر: دنيا الطّفل، ص51 ـ 52/ وص: 215 ـ 220، وفقه الحياة، ص: 61 ـ 63.


[1] ـ نهج البلاغة، ج3، ص45.

[2] ـ [البقرة:286].

[3] ـ ميزان الحكمة، ج1، ص57.

[4] ـ المصدر نفسه، ج2، ص: 1774.

[5] ـ الكافي: ج2، ص331.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية