يتحدث السيد فضل الله(رض)، في هذا الحوار، عن تأثيرات المحيط في الطفل، بدءاً من البيئة الطبيعية، إلى الأسرة، إلى المدرسة، مروراً بالمجتمع بشكلٍ عام، داعياً الأهل والمربين والاختصاصيين إلى تطوير أساليب تربيتهم للأطفال، وملاحقة المتغيرات بكل ما تطرحه من إشكالات جديدة:
ـ يشكّل الرفاق أحد عناصر البيئة الفائقة التأثير في تكوين شخصية الطفل، فهل يفترض بالأهل التدخّل في اختيار هؤلاء الرفاق، أو يفترض، كما يرى البعض، ترك الولد يعاشر من يشاء حتى يختبر الحياة أكثر؟
ـ لعلّ أخطر دور تلعبه البيئة في تربية الطفل، هو الدور الذي يكون عبر رفاق السوء. وسبب ذلك، أنَّ للرفاق تأثيراً كبيراً في الإنسان، الأمر الذي يضع الطفل أثناء مصاحبة هؤلاء الرفاق في خطر، باعتبار أنَّ حجم التأثير السلبي لأي سلوك أو فكرة يتخذها الرفاق، قد يأخذ حجماً كبيراً تصعب مقاومته من قبل الطفل نفسه.
ولكن هذا لا يعني كبح حرية الطفل في مخالطة الرفاق والأصحاب، بل يؤكد ضرورة أن نرسخ فيه القناعة ببعض القيم والمثل، قبل أن نترك له حرية خوض تجربته الخاصة.
وعلينا ألا نحاصر الطفل ونخنقه، بحيث نكون معه دائماً عندما يلعب ويلهو، أو عندما يسبح، أو يخرج مع رفاقه، بل علينا أن نعمل على تحصينه، بحيث نزرع في داخله من القيم الروحية والأخلاقية ما يستطيع بها أن يقاوم التأثيرات المضرة من جهة. ومن جهة أخرى، نهيئ الظروف الاجتماعية الملائمة التي تجعله ينسجم بشكل عفوي مع من نحب ونرغب من الرفاق.
نحن لسنا مع إلغاء حرية الطفل أو إرادته، ولكننا مع تحصينه، بحيث نزوّده ببعض العناصر التي تحمي إرادته من الانحراف، ونصون حريته من التحول إلى فوضى يختل بها نظامه الحياتي. وفي كل الأحوال، لا يجب أن نترك الطفل وهو يمضي وقته مع رفاق السوء، بحجة حريته في الاختيار.
ـ يرى الناس عموماً أن الولد يجب أن ينـزل إلى الشارع ليتعرف إلى الحياة الحقيقية بكل ألوانها وأشكالها، فإذا لم يلعب في الشارع، لن يكتسب تجربة كافية تساعده على فهم الحياة بشكل أفضل. هل توافقون على هذا الرأي؟
ـ إنّ تجارب الطفولة تنمي شخصيّة الإنسان قبل أن يصطدم بالواقع. وعندما يمارس الطفل مع أترابه ألعاب الطفولة، فيلاكم الأطفال الآخرين ويلاكمونه، ويصارعهم ويصارعونه، وينافسهم وينافسونه، ويشاغب معهم ويشاغبون معه، إن هذا وغيره يُكْسبه تجربة غنية تساهم إلى حد بعيد في رسم بعض معالم شخصيته.
لكنْ ليس للشارع، في رأيي، خصوصية، إلا في كونه بيئة متنوعة قريبة من الطفل. فإذا منعنا الطفل عنه، فإن هناك بدائل أخرى كفيلة بملء فراغه بشكل أفضل وأجدى، فهناك ساحة الملعب في المدرسة، وميدان الحدائق العامة، ومدن الألعاب وغيرها، وفيها يمارس الطفل لهوه الهادف في جو صحي وسليم.
إن أهمية الشارع ليست في كونه زقاقاً، لكنها في وجود مجتمع متنوع قريب من الطفل، فيه كثير من الطحالب والأصباغ الفاسدة التي قد تشوه سلوكه وتساهم في انحرافه، لذلك، كان يجب أخذ جانب الحذر، والبحث عن البدائل التي يكتشف من خلالها حقائق الحياة.
العناصر البيئية المؤثرة في التربية
ـ كيف تقيّمون دور البيئة المحيطة بالطفل، وبخاصة أن عوامل كثيرة تتدخل ويقوى تأثيرها على الطفل يوماً بعد يوم؟
ـ تُشبه البيئة الاجتماعية في مضمونها وتأثيراتها وإيحاءاتها، تأثير البيئة الطبيعية، فكما أن البيئة الطبيعية الملائمة لتربية الإنسان، من حيث ما يتنفسه أو ما ينظر إليه أو يسمعه أو يلمسه أو يشمه، تنفتح به على عالم من الفرح والطمأنينة والاسترخاء والجمال وما إلى ذلك، والبيئة غير الملائمة تثير في داخله الضيق والتشنج والحزن وما إلى ذلك. فإن تأثير البيئة الاجتماعية مشابه لذلك تماماً، ولكن على المستوى المعنوي لا المادي، فالبيئة الاجتماعية التي تختزن الفرح والتسامح والمحبة والقيم الروحية والأخلاقية والإيمان، تترك تأثيراً إيجابياً في شخصية الطفل والكبير أيضاً، بينما البيئة المشحونة بالعداوة والبغضاء والانحراف واللاإيمان والقسوة وما إلى ذلك، تؤثر سلباً في الطفل خصوصاً، باعتبار أن مثل هذه المعاني السلبية تقتحم عليه مشاعره وتحكم أفكاره وانطباعاته عن العالم.
لذلك، فإنَّ تأثير البيئة هو تأثير حتمي في جانب السلب والإيجاب، لأن كيان الإنسان يتنفس أجواء البيئة الاجتماعية، كما يتنفس أجواء البيئة الطبيعية بشكل عفوي ولاشعوري، فهو لا يختار أفكار البيئة ولا هي تختاره، بل إن تأثيراتها تنفذ إلى مسام إحساسه وشعوره ومعقولاته بشكل غير مباشر. لذا، فإن تأثير البيئة يتعاظم في حالات الغفلة التي يعيشها كحالة استسلام لا شعوري للمحيط. وقد أكَّد الإسلام تأثير البيئة القوي في الحديث الشريف: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه"[1].
وفي هذا الحديث، تأكيد لدور الوالدين المباشر في التربية قبل أي مؤسسة أخرى. ولذا، نهى الإسلام عن الزواج من خضراء الدمن في الحديث الشهير: "إياكم وخضراء الدمن: قالوا: "وما خضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"[2]، بلحاظ أن منبت السوء يترك تأثيره السلبي في داخل الحسناء، فيجعلها قبيحة الداخل في الوقت الذي تحمل مظهراً خارجياً جميلاً، ولذا، وعند حدوث أي مشكلة تربوية عند الطفل، على المربين أن ينفذوا إلى داخله، ليدرسوا مدى تأثير المفردات البيئية السلبية في شخصيته، تماماً كما يدرس الطبيب تأثير الجراثيم في وضع الإنسان الصحي. وعليهم بعد ذلك معالجة المشكلة، إما بطريقة العزل عن البيئة، أو بإيجاد دفاعات داخلية تقتل تأثيرات البيئة السلبية من الداخل، عن طريق الجرعات التربوية الملائمة من الحنان والاحتضان والنصيحة وما إلى ذلك.
إننا نتصور أن للبيئة تأثيراً كبيراً في شخصية الإنسان الطفل والشاب والشيخ والمرأة، لكنها مع ذلك، لا تغلق أمام الإنسان كل منافذ التنفس من الجو النظيف.
وعلى المربين الاستفادة من هذه الثغرة التي تتركها البيئة في الشخصية الإنسانية عادة، لينفذوا منها إلى تهيئة الوسائل العلاجية الملائمة لأي مشكلة يعيشها الإنسان، وهذا ما تؤكده التجربة الإنسانية التي نجحت أحياناً كثيرة في تجاوز مؤثرات البيئة بطريقة أو بأخرى. ومما لا شك فيه، أن المسألة تحتاج إلى دقة وحكمة ووعي وذكاء في فهم طبيعة المؤثرات وطبيعة العلاجات.
ـ يطغى اليوم تأثير عناصر البيئة على تأثير الأهل، الأمر الذي يحملهم على الشعور بالإحباط والعجز عن السيطرة على العملية التربوية، وهم المسؤولون الأساسيون عنها، فهل يستدعي ذلك انسحاب الأهل، ولو جزئياً، لصالح البيئة؟
ـ إن الراديو والتلفاز والصحيفة والمدرسة والكتاب، كل هذه الأدوات تمثل مفردات بيئية يتأثر بها الإنسان عندما يتنفس مشاهدها وأفكارها وما إلى ذلك.
وفي هذا العصر الذي تحوَّل فيه العالم إلى قرية صغيرة، أصبح منع مشاهدة التلفاز، أو سماع الراديو، أو استعمال الإنترنت، من الأعمال الشاقة، كما أن منع الطفل من ذلك كله، يترك تأثيراً سلبياً في الطفل، فهو يشعره بالحصار الخانق، بحيث يفسد ما نريد أن نعلمه إياه من هذا الحصار جانباً آخر من شخصيته، لأننا نوحي إليه بالاضطهاد والقهر. هذا الواقع يستدعي أن نعطي الطفل بعض الحرية، مع دراسة المؤثرات الخارجية، وتطويقها بطريقة أو بأخرى.
ويفترض بنا أن نعيش في حالة طوارئ لجهة تجديد الأساليب التي نعتمدها في التربية، ذلك أن مشكلة المربين عندنا، سواء كانوا علماء دين أو أساتذة أو أهل، أنهم ما زالوا يعتمدون الأساليب التقليدية، في وقت نجد أن الولد ينمو في أجواء مختلفة تماماً عمّا كانت عليه الأمور في السابق.
من هنا، علينا أن نلاحق المتغيرات بكل ما تطرحه من إشكالات جديدة، ونضع العلاجات لذلك، تماماً كما يفعل الطبيب مع الجراثيم التي تتطور وتستوعب المضادات التي استعملت للقضاء عليها. إن علينا أن نلاحق ذلك، فإن تكرار استعمال مضاد حيوي في مكافحة أي جسم جرثومي، كما نعلم، يؤدي إلى تعايشه مع المضادات، بحيث يكف المضاد عن كونه مضاداً، وهنا، يكون من واجب الطبيب خلق مضادات حيوية جديدة.
وكذلك الأمر في القضايا التربوية والأخلاقية والروحية، فإن مشكلة كثير من الناس الذين يسقطون أمام الضغوط، أنهم يستعملون في مواجهة المشاكل التي تصادفهم، الأسلوب الوحيد الذي توارثوه أو تعلموه من الغير، ولا يفكرون في إنتاج حل جديد لمشاكلهم المستجدة. إننا عندما ندرس حركة الاكتشافات التي تلاحق المرض، نتعلم أن مواجهة المشاكل تحتاج إلى تطوير في وسائل العلاج والمواجهة مع تطور المشاكل والأمراض.
لا بد للأهل، إضافة إلى المؤسسات التي تتولى مهمة التربية، أن يعملوا على التشاور فيما بينهم، كي يتمكنوا من السيطرة على المشاكل، سواء كانوا علماء دين، أو علماء نفس، أو علماء اجتماع وتربية وما إلى ذلك.
إن شعور الأهل والمربين بالإحباط ليس بالأمر المبرر، على الرغم من تعقد الحياة اليوم. ومشكلة الأهالي والمربين عموماً أنهم لا يستنفدون جهدهم في المحاولة... ففي الإسلام، هناك مبدأ راسخ يدعونا إلى عدم اليأس من إمكانية الوصول، وهو أمر يمكن أن نستفيده من تجارب الأنبياء الذين يمثلون الرمز للإنسان الذي نبحث عنه، ويفترض أن نستمر في البحث عنه إلى أن نلتقي به، ولا نيأس مهما واجهنا من تجارب فاشلة.
وربما نستفيد هذا المعنى من تجربة النبي نوح(ع)، الذي عاش تسعمئة وخمسين سنة وهو يجرب، حتى إذا استنفد كل المحاولات، دعا ربه لأن يغير المجتمع. إنّ فشل ألف تجربة لا يعني فشل الفكرة، فلنجرب المرة الواحدة بعد الألف.
ـ هل نفهم أن لا عُذر للأهل للتقصير في تربية أولادهم؟
ـ هناك مسألة علينا أن نضعها أمامنا، كرساليين ومربين ومصلحين اجتماعيين، وهي أن على الإنسان أن لا يأخذ دور الضحية التي لا تملك شيئاً، فنحن مسؤولون عن متابعة التجربة تلو التجربة، على أساس أن نُعذر أمام الله وأمام أنفسنا، فإن نجحنا، فالحمد لله، وإن لم ننجح، فإن فشلنا لا يكون ناتجاً من تقصير، بل من ظروف لا قِبل لنا بها، فنترك آنذاك مجال التجربة من جديد.
وهذا ما نلاحظه في كل الكلمات التي يخاطب الله بها نبيّه: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء}[3]. فأنت تملك بعض الوسائل المحدودة للهداية، لكنك لا تسيطر على كل إنسان، وعلينا أن نستنفد كل جهد في تطوير أساليبنا وتنويعها، تبعاً لطبيعة المؤثرات السلبية والإيجابية المحيطة بالطفل. إن مشكلة الأهل مع أولادهم في أحيانٍ كثيرة، تعود إلى عدم الاهتمام بنفسية الطفل، والاستغراق في المشاكل المادية أو الاجتماعية، التي تشغلهم عن أولادهم.
لنمنح أطفالنا المحبة والعاطفة والاحترام والثقة كي نكسب حبهم واحترامهم وثقتهم. وبذلك، نستطيع أن نمثل لهم القدوة التي يتمثلونها، ويمكن بعدها أن نمارس سياسة اللين من دون ضعف، والحزم مع الرحمة، ونفرض هيبتنا التي تدعوهم إلى أن يسلكوا الطريق الذي نرغب بعفوية وإرادة.
دور المدرسة
ـ يدخل الطفل المدرسة باكراً، ويقضي فيها قدراً كبيراً من وقته ومن سني عمره. ما هو الدور الذي تلعبه المدرسة في التربية؟
ـ للمدرسة أهمية كبرى في تربية الطفل. أولاً: بفضل النظام الذي تعتمده في التربية، وهو أمر لا يتوفر في المنزل، إلا إذا كان البيت صارماً بشكل فوق العادة. وثانياً: بفضل كثافة المفردات المعرفية التي يتلقاها الطفل فيها، والتي تختلف بطبيعتها عن المفردات التي يتلقاها في البيت. إن هذا الجانب المعرفي، يجعل المدرسة تترك تأثيراً كبيراً في شخصية الإنسان، وخصوصاً أن تلك المعارف تحاول مقاربة الحياة بأسرها.
من الطبيعي أن للتعلم المدرسي سلبيات وإيجابيات، تبعاً لطبيعة النظام المعتمد داخل المدرسة، وأسلوب تقديم المعلومات فيها، ثم طبيعة هذه المعلومات، فعندما يكون نظام المدرسة قاسياً، يحمل الطفل على الهرب من المدرسة، والنفور من العلم، فإنّ هذا يؤثر سلباً في شخصيته، والعكس صحيح.
إنَّ الطفل في المبدأ لا يحب القيود، وبالتالي، لا يحب الدرس والالتزام بالدوام المدرسي، بل يريد فقط أن يلعب بشكل عابث. لذلك، لا بد من التساهل مع الطفل ابتداءً، والتساهل لا يعني عدم الحزم، بل العمل على إثارة الأجواء التي تحبب الطفل بالعلم والمعلم، كأن نعلمه باللعب الذي يحبه، ونوفر له المربين الذين يمنحونه المحبة والعاطفة والاحترام، مما يفتح عقل الطفل وقلبه على المعرفة، ويطلقه كعنصر فاعل في الحياة. إننا عندما نقسو على الطفل، فهذا يعني أننا نغلق ذهنه، ونصادر شعوره، فيلتزم بما نعطيه له التزام العبد الذي يشعر بأن لا قدرة له على الاختيار.
علينا أن نساعد الطفل على الاختيار، وذلك بتعزيز كلّ المقومات الإنسانية التي تجعله مريداً فاعلاً، بحيث تنطلق الفكرة منه، لكن بمساعدتنا، فثمة فرق كبير بين أن ينطلق الطفل من فكرنا الذي فرضناه عليه، وحاصرناه به من خلال القهر، وبين أن ينطلق الطفل من فكره الخاص، الذي وإن جاء صدى لفكرنا، فعن طريق الأساليب الإنسانية التي تجعله يختار، لا أن يخضع للخيار المفروض عليه.
إنَّ أهمية المدرسة تكمن في تدريب الطفل على تحمل المسؤولية، من خلال الواجبات والفروض، وفي تدريبه على العلاقات الاجتماعية، من خلال علاقته مع الرفاق الجدد الذين لا تربطه بهم صلة قربى، كما هي حال إخوته في المنزل.
كما أنَّ المدرسة هي المكان المناسب لتدريب الولد على العلاقة مع المجتمع المتنوع، الذي يتكون من الإدارة (السلطة) والمعلم، والواجبات والمنافسة، والصداقة... وهي أمور تساعد على بلورة شخصية الطفل وتجربته.
المصدر: دنيا الطفل
[1] المغني، عبدالله بن قدامة، ج 10، ص473
[2] شرح اللمعة، الشهيد الثاني، ج 5، ص 88
[3] [البقرة:272]