كتابات
27/12/2013

عوامل تمزّق المسلمين‏ وإشكاليَّة الوحدة

عوامل تمزّق المسلمين‏ وإشكاليَّة الوحدة

في دراستنا الحالية لواقع المسلمين، نلاحظ أنّ‏َ العلاقة التي تشدّ المسلمين إلى بعضهم البعض، ليست بالمستوى الذي تتمثّل فيه الرابطة الوثيقة في وجودهم كأمّة، فلا نجد أمامنا إلا بعضاً من المشاعر العاطفية المغلّفة بضباب كثيف من الأفكار المضطربة المتنوّعة، التي قد نلمحها في بعض الهزّات السياسيّة والإنسانيّة في حياة بعض الشّعوب الإسلاميَّة، ثمّ‏َ لا شيء بعد ذلك، إلا بعض الاحتجاجات الطارئة والانفعالات الهادرة، التي سرعان ما تتلاشى صرخاتها في الهواء.

ويتساءل الباحث، وهو يرصد هذه الظاهرة القلقة في حياة المسلمين، عن العوامل المؤثرة في ذلك.

قد يفضّل البعض أن يُرجع ذلك إلى ضعف روح الإسلام في نفوس المسلمين، الأمر الذي جعلهم يبتعدون عن الشعور العميق بالأسس الفكرية والروحية والشعورية التي توحّدهم وتخلق في داخلهم الإحساس بعمق الوحدة المصيرية التي تشدّهم إلى الواقع. ثمّ‏َ يضيف هذا البعض إلى ذلك، أن‏َ الحل الوحيد يكون بالعمل على إعادة الإسلام إلى وعي المسلمين فكراً وعاطفة وسلوكاً، وإعادة المسلمين إلى الإسلام. وإنَّنا إذ نتوقّف عند هذا الخطّ في عرض المشكلة ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة، ولكنَّنا لا ننسجم مع الطريقة السهلة المبسّطة لأسلوب الطرح والعلاج، إذ إنّ‏َ مواجهة المشاكل بهذه الطريقة، تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل، وتبعدنا - في الوقت نفسه - عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعية المحيطة.

ولعلّ الكثيرين منّا لا يزالون يعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللون من التبسيط والسهولة، حتى يخيّل للآخرين أنّ‏َ البعد عن الشعور العميق بوحدة المسلمين، لا يمثّل مشكلة في حساب الواقع، وإنَّما يمثّل شبح مشكلة، ما يبعدنا عن الشعور بالخطر، وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع وعي الخطورة.

الحواجز التي تعمّق الفواصل بين المسلمين‏

إنَّنا نحاول هنا الإشارة إلى بعض العوامل والمؤثرات الطبيعية التي أسهمت في تمزّق المسلمين، وخلقت في داخلهم الحواجز النفسية والفكرية التي تعمّق الفواصل بينهم، ذلك أنّ‏َ المسلمين ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية المتمحورة حول عناوين وقضايا عدّة، لعلّ أبرزها ما له صلة بشؤون الخلافة والإمامة، وبشؤون الفقه والشريعة، وبقضايا الفلسفة والكلام، وبجوانب الحكم والسياسة العامة. وقد كان لهذه الخلافات التاريخية دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إهراق الدماء البريئة الطاهرة. وربَّما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات، ممّن يدفعه الإخلاص للفكرة الخطأ إلى القتال باسم القداسة والتديُّن، لغفلته عن طبيعة الخطأ في فكرته، وربَّما كان البعض منهم يقاتل باسم المنافع والمغانم، بعيداً عن أيّ‏ِ ارتباط بالحقّ أو بالإسلام، ولكنَّه يستلّهما من أجل مآربه، كما روي عن الإمام عليّ(ع) وهو يشير إلى الموقف من الخوارج في جانب، وإلى الموقف من معاوية في جانب آخر أنَّه قال: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه، كَمَنْ طلب الباطل فأدركه"[1].

وفي كلتا الحالتين، كانت الخلافات تتّجه إلى العنف الجسدي والفكري والكلامي، انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ ظناً أنَّه الحقّ، أو من المواقف المشدودة للأطماع والنزوات الشخصية السائرة في اتجاه الباطل.

وقد أدى الفهم الخاطئ للحديث النبوي دوره الكبير عندما تمّ توظيفه في إضفاء صيغة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شعر الحاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات الذين يرعون هذا الخلاف، بأنّ‏َ قدسية الخلاف تفرض وجود شرعية دينية لما يختلفون حوله من أشخاص، وما يفيضون فيه من قضايا، لذا كان لا بُدَّ من وضع الأحاديث على لسان محمَّد(ص) في مختلف هذه الأمور، ما أوجد في نفوس الساذجين والبسطاء من المسلمين بعداً جديداً للقضية، يجعل الاندفاع في هذا السبيل- الذي يسّروا طريقه - شأناً دينياً مقدَّساً، ويجعل من التضحية في هذا الاتجاه هدفاً شرعياً عظيماً، ولا بُدَّ لهذا كلّه من أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك، حتى يدفعهم إلى السير في الخطوات والمواقف الحادّة التي تغري بالقتل والقتال.

وسارت الحياة الإسلامية شوطاً بعيداً في هذا المجال، وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل بين المسلمين، بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامة. وتطوّر الأمر إلى أبعد من ذلك، فكانت فتاوى التكفير، التي يكفّرون بها بعضهم بعضاً بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة، حيث يتحوّل المسلم إلى كافر نتيجة فكرة فرعية، أو فكرة خلافية لا تمسّ الجذور في العمق. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتوتّر المشاعر الدينية في مثل هذا الجوّ المشحون، في الاتجاه المضادّ للعلاقات الطبيعية التي يجب أن تشمل المسلمين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي.

وما زالت هذه الأجواء التاريخية تفرض نفسها على الساحة، وتترسّخ بفعل ذلك التراث الضخم من الكتب الإسلامية في قضايا الكلام والفلسفة والشريعة والتاريخ، ما جعل للقضية عمقاً ثقافياً وفكرياً يتوارث المسلمون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه، في أجواء متنوعة قد تفرض عليهم اللقاء والتعاون، ولكنَّه يبقى في حدود المجاملة والتقيّة والمداراة التي لا تنفتح فيها النفوس على الحقيقة بتجرّد وموضوعية وحيادية، بل يظل للحقيقة المزعومة في نفوس أصحابها، المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوّل إلى أيّ‏ِ شي‏ء يثير الحركة في اتجاه اللقاء، لأنّ‏َ القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه، هي أنّ‏َ الصفة الطارئة تحوّلت إلى ما يشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف والأفكار.

وبهذا، أصبح للمجموعات التي تمثل هذا الفريق أو ذاك مصالح مستقلّة، تختلف عن مصالح الفريق الآخر، تماماً كما هي الدول المستقلّة، وربَّما ينتج الموقف لكلّ منهما تحالفات مع أعداء الإسلام للاستعانة بهم على الجانب الآخر.

اليد الاستعمارية والهوس الطائفي‏

ومن هذا كلّه، نشأت الطائفية السياسية التي تحاول أن تنظر إلى الشخصية الطائفية كإطار يحدِّد للأفراد صفتهم السياسية، وكان أن دخل الاستعمار الكافر مع كلّ جنود الكفر الفكريين، ليعبث بالمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية، من خلال الإيحاء لهم بالحماية الطائفية لكلّ فريق منهم، أو بتغليب جانب على آخر، في حالات الإثارة التي يصنعها بأساليبه الشيطانية الخفيّة، وذلك بإبراز عناصر الإثارة والتّفرقة والخلاف في الساحة، ما يؤدّي إلى التقاتل والتنازع في المجالات الثقافية والاجتماعية والعسكرية... ثمّ‏َ يتدخّل بينهم بصفة الفريق الحياديّ الذي يحمل لواء الصلح والسلم وإنهاء النزاع ضمن شروط وأوضاع جديدة لا تخلو من ثغرات وسلبيات تخدم مصالحه الاستعمارية في العاجل والآجل.

ولو درسنا أغلب الحالات الطائفية السلبية وفتّشنا عن جذورها، لرأينا اليد الاستعمارية الخفيّة تختفي وراء كثير من أساليب الإثارة والتفجير التي يُستغلّ‏ُ فيها الهوس الطائفي، والبدائية السياسية، والتخلّف الفكري، من أجل توليد المزيد من المشاكل والخلافات التي تزيد القضية عمقاً.. ولا تزال اللعبة تفرض نفسها على الساحة، واللاعبون يتحرّكون فيها بكلّ حرية، وتبقى أدوات اللعبة المتوفّرة فيها تكفل لحركة اللعب بمصائر الإسلام والمسلمين كلّ الشروط الموضوعية للنموّ والازدهار، وتستمر المخطّطات الاستعمارية التي تعمل في الإسلام والمسلمين تمزيقاً على جميع المستويات باسم الطائفية والطائفيين من الزعماء الذين يعيشون على حساب الإسلام ولكن من دون إسلام.

وكانت العصبيّات والقبليات والعنصرية في أفكار المسلمين ومشاعرهم، والتي ألغاها الإسلام من حسابه، تأخذ حجمها الطبيعي في حياة المسلمين، بمختلف عناصر الإثارة في العهود الإسلامية الأولى، كما هو شأن المشاكل التي تحرّكت في اتجاهات مضادّة، بين فريق يحتقر الموالي الذين دخلوا الإسلام، باسم التفوّق العنصري للعرب والعروبة، وفريق يحتقر العرب أو يحاول التقليل من شأنهم على أساس التفكير الشعوبي.

وفي ظلّ هذا الصراع، وجدت أحاديث المفاضلة بين العرب والموالي مجالاً رحباً لها في النشاطات الفكرية المختلفة، سواء في النثر أو الشعر أو الخطابة، وكان لا بُدَّ لهذه النشاطات من أن تستذكر أحاديث العصبيات، مثل التفاخر بالآباء والأجداد والغزوات، والتاريخ المتحرّك في أجواء الكفر، فوسموا الانتصارات التي تحققت في المعارك الإسلامية بطابع الزهو بالقبلية أو العنصرية، بعيداً عن الطبيعة الإسلامية لهذه المعارك والانتصارات. وكان أن حاول كلّ فريق من هؤلاء وأولئك، أن يأخذ لنفسه حجماً قومياً داخل الحياة الإسلامية، من أجل تحقيق مزيد من الانتصارات على الآخرين من المسلمين. وبذلك، بدأت الصراعات القومية تفرض نفسها على حركة التاريخ الإسلامي في مسار بعيد عن الروح الإسلامية المنفتحة الواعية. وإنَّنا نجد في تاريخ الخلافة العباسية نماذج كثيرة من ملامح هذا الصراع الذي استطاع أن يهزَّ قواعد الخلافة والخلفاء حتى انتهى بها وبهم إلى الزوال.

"القومية" الأوروبية: عامل تمزيق لا توحيد

وجاء العصر الحديث، والأجواء الإسلامية لا تبتعد عن هذا الاتجاه، من خلال بروز العنصر التركي الذي كان يحاول أن يفرض نفسه على الواقع الإسلامي كعنصر مميّز في شخصيته، وذلك من خلال الخلافة العثمانية التي كان الخلفاء فيها أتراكاً، وكان مركزها تركيا. وقد فرض هذا الواقع نفسه على الجانب الشعوري للإنسان المسلم غير التركي، ولا سيما أنّ‏َ القضية لم تتّصل بالناحية النفسية فحسب، بل اتّصلت بالجوانب الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بفعل ما كان يعانيه المسلمون الآخرون من اضطهاد وتشريد وتخلُّف وتجهيل، الأمر الذي خلق أرضية صالحة لولادة الشعور القومي أو الإقليمي، ولكنَّه شعور كان يتميّز بالتململ والخجل والحياء والخوف من التعبير عن نفسه، من خلال النوازع الدينية التي تدعوه إلى أن يمارس جهداً كبيراً في سبيل ضبط مشاعره وخطواته حفاظاً على القوّة الإسلامية، ما خلق في داخله نوعاً من التردد والقلق والحَيْرة، فكان يتمنّى أن تعمد الخلافة الرسمية إلى تجاوز أخطائها والقيام بالإصلاحات الضرورية، وكانت هذه التمنّيات تتمثّل في المطالب الإصلاحية التي تقدّم إلى المسؤولين، لكنّها لم تقابل إلا بالرفض والتنكيل والتعذيب والإعدام.

الهوس القومي كمعوّق للوحدة

وكانت الدول الأوروبية تراقب كلّ هذا التململ وتشجّعه لتحوّله إلى ثورة. وبما أنّ‏َ هذه الدول كانت تخاف الروح الإسلامية، لأنَّها تعرف أنّ‏َ هذه الروح تشكل مانعاً لها من تنفيذ مخططاتها الاستعمارية، لأنَّها تمثّل القوّة الروحية التي تدفع الإنسان المسلم إلى مواجهة الكفر، أيّاً كان نوعه، بكلّ قوّة وإصرار، حتى في أشدّ الحالات صعوبة وضراوة، فكان أن أطلقت في الساحة الفكرية والسياسية ألواناً من الشخصيات المصطنعة التي سعت إلى ربط الإنسان المسلم بتاريخه السابق على الإسلام تارةً، كالفرعونية والآشورية والفينيقية والساسانية والطورانية وغيرها، وتارة أخرى بـ"القومية" ذات العصب العربي والفارسي والهندي والتركي، وغيرها من العناصر التي يختلف النّاس حولها، فتحوّل الإسلام بفعل هذا المخطّط الاستعماري إلى عنصر طارئ على الشخصية، فلم تعد له أصالته في عمق الإنسان المسلم وفي تاريخه، حتى إنَّنا أصبحنا نقرأ الكتب والأبحاث التي تتحدّث عن الفتح الإسلامي في بعض البلدان الإسلامية كانتكاسة قومية في نطاق حالات القهر والغزو الخارجي الذي تتعرّض له الأمّة، وبدأت القضية تفرض نفسها من خلال استغلال الواقع السيئ الذي يشوّه الحكم الإسلامي في نفوس أتباعه، ليأخذ صورة الحكم التركي بدلاً من صورة الحكم الإسلامي، وتحوّل المستعمرون في وعي بعض الأمم، لا سيما العرب، إلى منقذين ومحرّرين، على أساس الوعود التي قطعوها على أنفسهم للعرب بتحريرهم من السلطة العثمانية، ليحقّقوا لهم الحكم الواحد في الدولة العربية الواحدة.

وقد استغلّ الاستعمار الكافر ذلك التفكير الساذج لدى أبناء الأمّة، فدخل إلى بلاد المسلمين تحت عنوان الفاتح المحرّر، وفي زهو الفاتحين المقبولين في البداية، إلا أنّ‏َ المسلمين المخلصين لإسلامهم، وكما تؤكد أخبار تلك الفترة، وقفوا أمام هذه المخطّطات، وواجهوا الاستعمار البريطاني بكلّ قوة، بقيادة علماء المسلمين، كما يحدّثنا التاريخ عن ثورة العشرين في العراق.

وفي ظلّ هذه الأجواء، أخذت الدراسات والأبحاث الفكرية تفسح في المجال للشخصيات المصطنعة كي تفرض نفسها على الذهنية والنفسية المسلمة، وبدأت الكتب التعليمية التي تقدّم التاريخ إلى الناشئة تحفل بالكثير من البرامج التي تتحدّث عن التاريخ القديم وعن الشخصية القومية الإقليمية. أمّا الشخصية الإسلامية، فلم يرد ذكرها إلا في بعض الحالات، كنتاج للشخصية القومية، أو كدين لا دخل له بتكوين الشخصية، بل يكتفي بأن يمنح الإنسان المزيد من الروح العبادية الخاشعة أمام الله، دون أن تكون له أيّةُ علاقة بالحياة الخاصّة والعامّة.

العصبية الإقليمية

وما لبثت أن دخلت مفاهيم جديدة، مثل "القومية" و"الإقليمية"، الحياة العقائدية والسياسية، فأصبح لكلّ منها إطار عقيدي يرتكز على فلسفة مادية أو روحية. وتحوّل هذا الإطار إلى تنظيم حزبيّ يفرض نفسه على الساحة، وتنوّعت الأحزاب الوطنية والقومية في صيغ متشابهة مرّة ومتباينة أخرى، وعادت العصبيات لتفرض نفسها من خلال هذه الشخصيات الجديدة، وبدأ الحديث عن الإخلاص للأرض بعيداً عن المبدأ والرسالة، وعن التضحية في سبيل القومية بعيداً عن الإسلام. وسرعان ما تمخضت في وعي اللاعبين على الساحة صورة أدوات اللعبة، فكانت الاتّهامات التي تنطلق وتوجّه إلى هذه الفئة لأنَّها اتصلت بهذا الأجنبي، مع التأكيد على صفة الأجنبي بما تحمله من معان نفسية وفكرية مع أنَّه مسلم، وتُوجّه إلى تلك الفئة لأنَّها تعاونت مع القومية الأخرى في إطار الإسلام، بعيداً عن قضايا الوطن بمفهومه الغربي، أو عن قضايا القومية بمفهومها المحدود، وهكذا، تمّ انفصال المسلمين عن الشعور بالشخصية الإسلامية بما تمثّله من معان وأوضاع وتحرّكات وعلاقات، وتحوّلوا إلى جماعات متنوعة، كما قال الشاعر الحماسيّ القديم:

وتفرقوا شيعاً فكلّ قبيلة     فيها أمير المؤمنين ومنبرُ

وقد أسهم ذلك في تضخيم الشخصيات التي تبحث عن طموح سياسي، من خلال هذه الأوضاع المرتبكة - في نطاق ما تسمح به لعبة الأمم - وعادت لنا القضية في ثوب جديد من ألوان الحكم وأساليبه وشخصياته، بعيداً عن كلّ كفاءة أو إخلاص، إلا كفاءة التنفيذ الدقيق لما يريده الآخرون، كلّ الآخرين.

"الوحدة الإسلامية" شعار دون مضمون‏

في ظلّ هذا الواقع المتمزق المهلهل للحياة التي يعيشها المسلمون في العالم، نلاحظ في الساحة تنامي الشعارات التي تتناول "الوحدة الإسلامية" و"التضامن الإسلامي" و"الدول الإسلامية" كمجموعة تحمل وجهاً واحداً إسلامياً.. وقد تواكب هذه الشعارات حركة انفعالية قوية تتمثّل بالأصوات التي ترتفع بحماس دفاعاً عن مصالح المسلمين المهدورة في هذا الجزء من العالم أو ذاك، وتتحرّك في علاقات ومعاهدات ومؤتمرات بين الحكّام المسلمين، وتنطلق في قرارات وتوصيات لها أول وليس لها آخر.

ولكنَّنا عندما نبحث عن خلفيات ذلك كلّه، سنجد أمامنا الكثير من مصالح الاستعمار هنا وهناك في صراع الدول الكبرى التي تريد أن تختبئ خلف الشعور الإسلامي العاطفي الذي يحمّل هذه الشعارات الكبيرة الكثير من الأمنيات، ساعية لكي تجعل منه أداة من أدوات الصراع التي يُحارب بها المسلمون بعضهم بعضاً. ولذا، فإنَّها لا تحاول أن تعطيها أيّ مضمون جدّيّ وأيّة روح حركية، بل تجعلها خالية من كلّ مضمون، فارغة من كلّ روح، لأنّ‏َ مهمتها هي مهمة الطبل الذي يرنّ دون أن يحمل في داخله سوى عنصر الإثارة والضجيج.. ولعلّ السرّ في ذلك كلّه، هو أنّ‏َ الذين يوكل إليهم أمر تحضير الشعارات في اللجان التحضيرية والتنفيذية، هم أوّل من يخاف منها على ما يملكون من امتيازات داخلية وخارجية.. ولذا، فإنَّهم مؤتمنون على الاحتفاظ بسرّ المهنة، وعلى توفير الشروط الضرورية للعبة السياسية التي يُراد لها أن تمرّ بسلام.

ونحن قد لا نعدم الأوضاع الإسلامية التي قد تدفع اللعبة إلى أن تتجاوز ما يخطّط لها من أصول وقواعد وحدود، فتنقلب على اللاعبين، من خلال الظروف الموضوعية التي قد تكون جاهزة للتحرّك، بعيداً عن وعي الآخرين ومخطّطاتهم وأساليبهم وتمنّياتهم، وذلك كما ينقلب السحر على الساحر في كثير من الحالات. وقد نلاحظ، في دراستنا لهذا الواقع، وجود كثير من العوامل الجزئية المتمثّلة ببعض الأوضاع الشخصية، التي تتجسّد في طموح سياسيّ شخصيّ أو عائليّ يطرح نفسه في الساحة كأداة من أدوات اللعبة التي تحرّكها القوى الكبرى في تخطيطها الشيطانيّ، لتفجير العالم الإسلامي وتقسيمه، وإجهاض طموحاته الكبيرة في التكامل والنموّ والتقدّم.

المخطط الشيطاني في مواجهة الروح الإسلامية

ونتحسّس أثر هذا التخطيط الشيطانيّ في بعض العوامل الاقتصادية، التي تتدخّل في حركة الواقع من أجل أن تأخذ لنفسها حجماً كبيراً في تحريك الاقتصاد لمصالحها الاستغلالية والاحتكارية، الأمر الذي يدفعها إلى مواجهة الروح الإسلامية التي ترفض مثل هذا المسار، بالحرب المتنوعة الألوان، والأساليب التي تنسجم مع أجواء الكفر والضلال، في عملية تنسيق وتخطيط، ما يفسح في المجال لكثير من القوى لتلعب لعبتها في تمزيق المسلمين، بما يكفل لها تحقيق أغراضها وأطماعها في ثرواتهم، وهذا ما نواجهه في اللعبة الاستعمارية التي تحاول تفجير البلاد الإسلامية بمختلف الصراعات الشخصية والطائفية والإقليمية والقومية، من أجل استنزاف الطاقات الإسلامية وتحويلها إلى طاقات تتفجّر ضدّ نفسها. وبذلك، تصبح طاقات خائرة متعبة لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نواجه الهجمة الكبرى على الثروات الموجودة في بلاد المسلمين التي تتصارع الدول الكبرى في سبيل السيطرة عليها، وهي تعمل على أن يعيش المسلمون أجواء اللعبة، فينقسمون بين فئة تؤيّد هذا المعسكر، لتنفّذ مخطّطاته في آفاق الحرب والسلم، وفئة تؤيّد المعسكر الآخر في الآفاق التي يتحرّك فيها.. وهكذا اندفع المسلمون إلى مجالات جديدة من مجالات التمزّق السياسي.

وما زالت المخطّطات الاستعمارية المغلّفة بالواجهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تلعب لعبتها، من أجل ألا يقف المسلمون على أقدامهم كقوّة جديدة تطرح الحلول الإسلامية الفكرية والعملية للإنسان وللحياة، من أجل إقامة عالم الحقّ والعدالة الذي كان هدف النبوّات والأنبياء، في ما عبّر عنه الله في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[2]، وما زال الجهاد في هذا السبيل يتحرّك من أجل تركيز القاعدة الصلبة على أساس متين.

وقد نجد أمامنا التمزق الاجتماعي الذي يحصل من تغليب فئة اجتماعية على فئة أخرى من ناحية الحقوق والواجبات، أو بمنح امتيازات لبعض الطبقات أو الطوائف على حساب أخرى، من أجل إيجاد حالة صراع دائمة تفجّر الحقد في حياة المجتمع.

* كتاب أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة.


[1]  نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة:61، ص:53، دار التعارف للمطبوعات، ط1 :1410هـ 1990م.

[2] (الحديد:25)

في دراستنا الحالية لواقع المسلمين، نلاحظ أنّ‏َ العلاقة التي تشدّ المسلمين إلى بعضهم البعض، ليست بالمستوى الذي تتمثّل فيه الرابطة الوثيقة في وجودهم كأمّة، فلا نجد أمامنا إلا بعضاً من المشاعر العاطفية المغلّفة بضباب كثيف من الأفكار المضطربة المتنوّعة، التي قد نلمحها في بعض الهزّات السياسيّة والإنسانيّة في حياة بعض الشّعوب الإسلاميَّة، ثمّ‏َ لا شيء بعد ذلك، إلا بعض الاحتجاجات الطارئة والانفعالات الهادرة، التي سرعان ما تتلاشى صرخاتها في الهواء.

ويتساءل الباحث، وهو يرصد هذه الظاهرة القلقة في حياة المسلمين، عن العوامل المؤثرة في ذلك.

قد يفضّل البعض أن يُرجع ذلك إلى ضعف روح الإسلام في نفوس المسلمين، الأمر الذي جعلهم يبتعدون عن الشعور العميق بالأسس الفكرية والروحية والشعورية التي توحّدهم وتخلق في داخلهم الإحساس بعمق الوحدة المصيرية التي تشدّهم إلى الواقع. ثمّ‏َ يضيف هذا البعض إلى ذلك، أن‏َ الحل الوحيد يكون بالعمل على إعادة الإسلام إلى وعي المسلمين فكراً وعاطفة وسلوكاً، وإعادة المسلمين إلى الإسلام. وإنَّنا إذ نتوقّف عند هذا الخطّ في عرض المشكلة ومعالجتها، قد نوافق على طبيعة الفكرة، ولكنَّنا لا ننسجم مع الطريقة السهلة المبسّطة لأسلوب الطرح والعلاج، إذ إنّ‏َ مواجهة المشاكل بهذه الطريقة، تبعدنا عن الدراسة الواعية للجذور العميقة التي ترتبط بها المشاكل، وتبعدنا - في الوقت نفسه - عن فهم الواقع الموضوعي في نطاق الظروف الطبيعية المحيطة.

ولعلّ الكثيرين منّا لا يزالون يعالجون القضايا المعقّدة بهذا اللون من التبسيط والسهولة، حتى يخيّل للآخرين أنّ‏َ البعد عن الشعور العميق بوحدة المسلمين، لا يمثّل مشكلة في حساب الواقع، وإنَّما يمثّل شبح مشكلة، ما يبعدنا عن الشعور بالخطر، وبالتالي عن التعامل مع الواقع من موقع وعي الخطورة.

الحواجز التي تعمّق الفواصل بين المسلمين‏

إنَّنا نحاول هنا الإشارة إلى بعض العوامل والمؤثرات الطبيعية التي أسهمت في تمزّق المسلمين، وخلقت في داخلهم الحواجز النفسية والفكرية التي تعمّق الفواصل بينهم، ذلك أنّ‏َ المسلمين ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية المتمحورة حول عناوين وقضايا عدّة، لعلّ أبرزها ما له صلة بشؤون الخلافة والإمامة، وبشؤون الفقه والشريعة، وبقضايا الفلسفة والكلام، وبجوانب الحكم والسياسة العامة. وقد كان لهذه الخلافات التاريخية دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إهراق الدماء البريئة الطاهرة. وربَّما كان البعض من هؤلاء الذين يعيشون هذه الخلافات، ممّن يدفعه الإخلاص للفكرة الخطأ إلى القتال باسم القداسة والتديُّن، لغفلته عن طبيعة الخطأ في فكرته، وربَّما كان البعض منهم يقاتل باسم المنافع والمغانم، بعيداً عن أيّ‏ِ ارتباط بالحقّ أو بالإسلام، ولكنَّه يستلّهما من أجل مآربه، كما روي عن الإمام عليّ(ع) وهو يشير إلى الموقف من الخوارج في جانب، وإلى الموقف من معاوية في جانب آخر أنَّه قال: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه، كَمَنْ طلب الباطل فأدركه"[1].

وفي كلتا الحالتين، كانت الخلافات تتّجه إلى العنف الجسدي والفكري والكلامي، انطلاقاً من المواقف المخلصة للخطأ ظناً أنَّه الحقّ، أو من المواقف المشدودة للأطماع والنزوات الشخصية السائرة في اتجاه الباطل.

وقد أدى الفهم الخاطئ للحديث النبوي دوره الكبير عندما تمّ توظيفه في إضفاء صيغة القداسة على ما يختلفون فيه، فقد شعر الحاكمون وأتباعهم والنافذون من الشخصيات الذين يرعون هذا الخلاف، بأنّ‏َ قدسية الخلاف تفرض وجود شرعية دينية لما يختلفون حوله من أشخاص، وما يفيضون فيه من قضايا، لذا كان لا بُدَّ من وضع الأحاديث على لسان محمَّد(ص) في مختلف هذه الأمور، ما أوجد في نفوس الساذجين والبسطاء من المسلمين بعداً جديداً للقضية، يجعل الاندفاع في هذا السبيل- الذي يسّروا طريقه - شأناً دينياً مقدَّساً، ويجعل من التضحية في هذا الاتجاه هدفاً شرعياً عظيماً، ولا بُدَّ لهذا كلّه من أن يثير الحماس في نفوس هؤلاء وأولئك، حتى يدفعهم إلى السير في الخطوات والمواقف الحادّة التي تغري بالقتل والقتال.

وسارت الحياة الإسلامية شوطاً بعيداً في هذا المجال، وساعدت على خلق الحواجز وتعميق الفواصل بين المسلمين، بالمستوى الذي تبتعد بهم عن الشعور بالوحدة الفكرية والعملية في المجالات العامة. وتطوّر الأمر إلى أبعد من ذلك، فكانت فتاوى التكفير، التي يكفّرون بها بعضهم بعضاً بمختلف التحليلات والتأويلات القريبة والبعيدة، حيث يتحوّل المسلم إلى كافر نتيجة فكرة فرعية، أو فكرة خلافية لا تمسّ الجذور في العمق. ومن هنا، كان من الطبيعي أن تتوتّر المشاعر الدينية في مثل هذا الجوّ المشحون، في الاتجاه المضادّ للعلاقات الطبيعية التي يجب أن تشمل المسلمين في واقعهم الاجتماعي والسياسي والنفسي.

وما زالت هذه الأجواء التاريخية تفرض نفسها على الساحة، وتترسّخ بفعل ذلك التراث الضخم من الكتب الإسلامية في قضايا الكلام والفلسفة والشريعة والتاريخ، ما جعل للقضية عمقاً ثقافياً وفكرياً يتوارث المسلمون أفكاره كما يتوارثون مشاعره وأحاسيسه، في أجواء متنوعة قد تفرض عليهم اللقاء والتعاون، ولكنَّه يبقى في حدود المجاملة والتقيّة والمداراة التي لا تنفتح فيها النفوس على الحقيقة بتجرّد وموضوعية وحيادية، بل يظل للحقيقة المزعومة في نفوس أصحابها، المعنى الجامد الذي لا يمكن أن يتحوّل إلى أيّ‏ِ شي‏ء يثير الحركة في اتجاه اللقاء، لأنّ‏َ القضية المفروضة من خلال ذلك كلّه، هي أنّ‏َ الصفة الطارئة تحوّلت إلى ما يشبه الصفات الذاتية التي لا تنفصل عن الشخص مهما اختلفت الظروف والأفكار.

وبهذا، أصبح للمجموعات التي تمثل هذا الفريق أو ذاك مصالح مستقلّة، تختلف عن مصالح الفريق الآخر، تماماً كما هي الدول المستقلّة، وربَّما ينتج الموقف لكلّ منهما تحالفات مع أعداء الإسلام للاستعانة بهم على الجانب الآخر.

اليد الاستعمارية والهوس الطائفي‏

ومن هذا كلّه، نشأت الطائفية السياسية التي تحاول أن تنظر إلى الشخصية الطائفية كإطار يحدِّد للأفراد صفتهم السياسية، وكان أن دخل الاستعمار الكافر مع كلّ جنود الكفر الفكريين، ليعبث بالمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية، من خلال الإيحاء لهم بالحماية الطائفية لكلّ فريق منهم، أو بتغليب جانب على آخر، في حالات الإثارة التي يصنعها بأساليبه الشيطانية الخفيّة، وذلك بإبراز عناصر الإثارة والتّفرقة والخلاف في الساحة، ما يؤدّي إلى التقاتل والتنازع في المجالات الثقافية والاجتماعية والعسكرية... ثمّ‏َ يتدخّل بينهم بصفة الفريق الحياديّ الذي يحمل لواء الصلح والسلم وإنهاء النزاع ضمن شروط وأوضاع جديدة لا تخلو من ثغرات وسلبيات تخدم مصالحه الاستعمارية في العاجل والآجل.

ولو درسنا أغلب الحالات الطائفية السلبية وفتّشنا عن جذورها، لرأينا اليد الاستعمارية الخفيّة تختفي وراء كثير من أساليب الإثارة والتفجير التي يُستغلّ‏ُ فيها الهوس الطائفي، والبدائية السياسية، والتخلّف الفكري، من أجل توليد المزيد من المشاكل والخلافات التي تزيد القضية عمقاً.. ولا تزال اللعبة تفرض نفسها على الساحة، واللاعبون يتحرّكون فيها بكلّ حرية، وتبقى أدوات اللعبة المتوفّرة فيها تكفل لحركة اللعب بمصائر الإسلام والمسلمين كلّ الشروط الموضوعية للنموّ والازدهار، وتستمر المخطّطات الاستعمارية التي تعمل في الإسلام والمسلمين تمزيقاً على جميع المستويات باسم الطائفية والطائفيين من الزعماء الذين يعيشون على حساب الإسلام ولكن من دون إسلام.

وكانت العصبيّات والقبليات والعنصرية في أفكار المسلمين ومشاعرهم، والتي ألغاها الإسلام من حسابه، تأخذ حجمها الطبيعي في حياة المسلمين، بمختلف عناصر الإثارة في العهود الإسلامية الأولى، كما هو شأن المشاكل التي تحرّكت في اتجاهات مضادّة، بين فريق يحتقر الموالي الذين دخلوا الإسلام، باسم التفوّق العنصري للعرب والعروبة، وفريق يحتقر العرب أو يحاول التقليل من شأنهم على أساس التفكير الشعوبي.

وفي ظلّ هذا الصراع، وجدت أحاديث المفاضلة بين العرب والموالي مجالاً رحباً لها في النشاطات الفكرية المختلفة، سواء في النثر أو الشعر أو الخطابة، وكان لا بُدَّ لهذه النشاطات من أن تستذكر أحاديث العصبيات، مثل التفاخر بالآباء والأجداد والغزوات، والتاريخ المتحرّك في أجواء الكفر، فوسموا الانتصارات التي تحققت في المعارك الإسلامية بطابع الزهو بالقبلية أو العنصرية، بعيداً عن الطبيعة الإسلامية لهذه المعارك والانتصارات. وكان أن حاول كلّ فريق من هؤلاء وأولئك، أن يأخذ لنفسه حجماً قومياً داخل الحياة الإسلامية، من أجل تحقيق مزيد من الانتصارات على الآخرين من المسلمين. وبذلك، بدأت الصراعات القومية تفرض نفسها على حركة التاريخ الإسلامي في مسار بعيد عن الروح الإسلامية المنفتحة الواعية. وإنَّنا نجد في تاريخ الخلافة العباسية نماذج كثيرة من ملامح هذا الصراع الذي استطاع أن يهزَّ قواعد الخلافة والخلفاء حتى انتهى بها وبهم إلى الزوال.

"القومية" الأوروبية: عامل تمزيق لا توحيد

وجاء العصر الحديث، والأجواء الإسلامية لا تبتعد عن هذا الاتجاه، من خلال بروز العنصر التركي الذي كان يحاول أن يفرض نفسه على الواقع الإسلامي كعنصر مميّز في شخصيته، وذلك من خلال الخلافة العثمانية التي كان الخلفاء فيها أتراكاً، وكان مركزها تركيا. وقد فرض هذا الواقع نفسه على الجانب الشعوري للإنسان المسلم غير التركي، ولا سيما أنّ‏َ القضية لم تتّصل بالناحية النفسية فحسب، بل اتّصلت بالجوانب الحياتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بفعل ما كان يعانيه المسلمون الآخرون من اضطهاد وتشريد وتخلُّف وتجهيل، الأمر الذي خلق أرضية صالحة لولادة الشعور القومي أو الإقليمي، ولكنَّه شعور كان يتميّز بالتململ والخجل والحياء والخوف من التعبير عن نفسه، من خلال النوازع الدينية التي تدعوه إلى أن يمارس جهداً كبيراً في سبيل ضبط مشاعره وخطواته حفاظاً على القوّة الإسلامية، ما خلق في داخله نوعاً من التردد والقلق والحَيْرة، فكان يتمنّى أن تعمد الخلافة الرسمية إلى تجاوز أخطائها والقيام بالإصلاحات الضرورية، وكانت هذه التمنّيات تتمثّل في المطالب الإصلاحية التي تقدّم إلى المسؤولين، لكنّها لم تقابل إلا بالرفض والتنكيل والتعذيب والإعدام.

الهوس القومي كمعوّق للوحدة

وكانت الدول الأوروبية تراقب كلّ هذا التململ وتشجّعه لتحوّله إلى ثورة. وبما أنّ‏َ هذه الدول كانت تخاف الروح الإسلامية، لأنَّها تعرف أنّ‏َ هذه الروح تشكل مانعاً لها من تنفيذ مخططاتها الاستعمارية، لأنَّها تمثّل القوّة الروحية التي تدفع الإنسان المسلم إلى مواجهة الكفر، أيّاً كان نوعه، بكلّ قوّة وإصرار، حتى في أشدّ الحالات صعوبة وضراوة، فكان أن أطلقت في الساحة الفكرية والسياسية ألواناً من الشخصيات المصطنعة التي سعت إلى ربط الإنسان المسلم بتاريخه السابق على الإسلام تارةً، كالفرعونية والآشورية والفينيقية والساسانية والطورانية وغيرها، وتارة أخرى بـ"القومية" ذات العصب العربي والفارسي والهندي والتركي، وغيرها من العناصر التي يختلف النّاس حولها، فتحوّل الإسلام بفعل هذا المخطّط الاستعماري إلى عنصر طارئ على الشخصية، فلم تعد له أصالته في عمق الإنسان المسلم وفي تاريخه، حتى إنَّنا أصبحنا نقرأ الكتب والأبحاث التي تتحدّث عن الفتح الإسلامي في بعض البلدان الإسلامية كانتكاسة قومية في نطاق حالات القهر والغزو الخارجي الذي تتعرّض له الأمّة، وبدأت القضية تفرض نفسها من خلال استغلال الواقع السيئ الذي يشوّه الحكم الإسلامي في نفوس أتباعه، ليأخذ صورة الحكم التركي بدلاً من صورة الحكم الإسلامي، وتحوّل المستعمرون في وعي بعض الأمم، لا سيما العرب، إلى منقذين ومحرّرين، على أساس الوعود التي قطعوها على أنفسهم للعرب بتحريرهم من السلطة العثمانية، ليحقّقوا لهم الحكم الواحد في الدولة العربية الواحدة.

وقد استغلّ الاستعمار الكافر ذلك التفكير الساذج لدى أبناء الأمّة، فدخل إلى بلاد المسلمين تحت عنوان الفاتح المحرّر، وفي زهو الفاتحين المقبولين في البداية، إلا أنّ‏َ المسلمين المخلصين لإسلامهم، وكما تؤكد أخبار تلك الفترة، وقفوا أمام هذه المخطّطات، وواجهوا الاستعمار البريطاني بكلّ قوة، بقيادة علماء المسلمين، كما يحدّثنا التاريخ عن ثورة العشرين في العراق.

وفي ظلّ هذه الأجواء، أخذت الدراسات والأبحاث الفكرية تفسح في المجال للشخصيات المصطنعة كي تفرض نفسها على الذهنية والنفسية المسلمة، وبدأت الكتب التعليمية التي تقدّم التاريخ إلى الناشئة تحفل بالكثير من البرامج التي تتحدّث عن التاريخ القديم وعن الشخصية القومية الإقليمية. أمّا الشخصية الإسلامية، فلم يرد ذكرها إلا في بعض الحالات، كنتاج للشخصية القومية، أو كدين لا دخل له بتكوين الشخصية، بل يكتفي بأن يمنح الإنسان المزيد من الروح العبادية الخاشعة أمام الله، دون أن تكون له أيّةُ علاقة بالحياة الخاصّة والعامّة.

العصبية الإقليمية

وما لبثت أن دخلت مفاهيم جديدة، مثل "القومية" و"الإقليمية"، الحياة العقائدية والسياسية، فأصبح لكلّ منها إطار عقيدي يرتكز على فلسفة مادية أو روحية. وتحوّل هذا الإطار إلى تنظيم حزبيّ يفرض نفسه على الساحة، وتنوّعت الأحزاب الوطنية والقومية في صيغ متشابهة مرّة ومتباينة أخرى، وعادت العصبيات لتفرض نفسها من خلال هذه الشخصيات الجديدة، وبدأ الحديث عن الإخلاص للأرض بعيداً عن المبدأ والرسالة، وعن التضحية في سبيل القومية بعيداً عن الإسلام. وسرعان ما تمخضت في وعي اللاعبين على الساحة صورة أدوات اللعبة، فكانت الاتّهامات التي تنطلق وتوجّه إلى هذه الفئة لأنَّها اتصلت بهذا الأجنبي، مع التأكيد على صفة الأجنبي بما تحمله من معان نفسية وفكرية مع أنَّه مسلم، وتُوجّه إلى تلك الفئة لأنَّها تعاونت مع القومية الأخرى في إطار الإسلام، بعيداً عن قضايا الوطن بمفهومه الغربي، أو عن قضايا القومية بمفهومها المحدود، وهكذا، تمّ انفصال المسلمين عن الشعور بالشخصية الإسلامية بما تمثّله من معان وأوضاع وتحرّكات وعلاقات، وتحوّلوا إلى جماعات متنوعة، كما قال الشاعر الحماسيّ القديم:

وتفرقوا شيعاً فكلّ قبيلة     فيها أمير المؤمنين ومنبرُ

وقد أسهم ذلك في تضخيم الشخصيات التي تبحث عن طموح سياسي، من خلال هذه الأوضاع المرتبكة - في نطاق ما تسمح به لعبة الأمم - وعادت لنا القضية في ثوب جديد من ألوان الحكم وأساليبه وشخصياته، بعيداً عن كلّ كفاءة أو إخلاص، إلا كفاءة التنفيذ الدقيق لما يريده الآخرون، كلّ الآخرين.

"الوحدة الإسلامية" شعار دون مضمون‏

في ظلّ هذا الواقع المتمزق المهلهل للحياة التي يعيشها المسلمون في العالم، نلاحظ في الساحة تنامي الشعارات التي تتناول "الوحدة الإسلامية" و"التضامن الإسلامي" و"الدول الإسلامية" كمجموعة تحمل وجهاً واحداً إسلامياً.. وقد تواكب هذه الشعارات حركة انفعالية قوية تتمثّل بالأصوات التي ترتفع بحماس دفاعاً عن مصالح المسلمين المهدورة في هذا الجزء من العالم أو ذاك، وتتحرّك في علاقات ومعاهدات ومؤتمرات بين الحكّام المسلمين، وتنطلق في قرارات وتوصيات لها أول وليس لها آخر.

ولكنَّنا عندما نبحث عن خلفيات ذلك كلّه، سنجد أمامنا الكثير من مصالح الاستعمار هنا وهناك في صراع الدول الكبرى التي تريد أن تختبئ خلف الشعور الإسلامي العاطفي الذي يحمّل هذه الشعارات الكبيرة الكثير من الأمنيات، ساعية لكي تجعل منه أداة من أدوات الصراع التي يُحارب بها المسلمون بعضهم بعضاً. ولذا، فإنَّها لا تحاول أن تعطيها أيّ مضمون جدّيّ وأيّة روح حركية، بل تجعلها خالية من كلّ مضمون، فارغة من كلّ روح، لأنّ‏َ مهمتها هي مهمة الطبل الذي يرنّ دون أن يحمل في داخله سوى عنصر الإثارة والضجيج.. ولعلّ السرّ في ذلك كلّه، هو أنّ‏َ الذين يوكل إليهم أمر تحضير الشعارات في اللجان التحضيرية والتنفيذية، هم أوّل من يخاف منها على ما يملكون من امتيازات داخلية وخارجية.. ولذا، فإنَّهم مؤتمنون على الاحتفاظ بسرّ المهنة، وعلى توفير الشروط الضرورية للعبة السياسية التي يُراد لها أن تمرّ بسلام.

ونحن قد لا نعدم الأوضاع الإسلامية التي قد تدفع اللعبة إلى أن تتجاوز ما يخطّط لها من أصول وقواعد وحدود، فتنقلب على اللاعبين، من خلال الظروف الموضوعية التي قد تكون جاهزة للتحرّك، بعيداً عن وعي الآخرين ومخطّطاتهم وأساليبهم وتمنّياتهم، وذلك كما ينقلب السحر على الساحر في كثير من الحالات. وقد نلاحظ، في دراستنا لهذا الواقع، وجود كثير من العوامل الجزئية المتمثّلة ببعض الأوضاع الشخصية، التي تتجسّد في طموح سياسيّ شخصيّ أو عائليّ يطرح نفسه في الساحة كأداة من أدوات اللعبة التي تحرّكها القوى الكبرى في تخطيطها الشيطانيّ، لتفجير العالم الإسلامي وتقسيمه، وإجهاض طموحاته الكبيرة في التكامل والنموّ والتقدّم.

المخطط الشيطاني في مواجهة الروح الإسلامية

ونتحسّس أثر هذا التخطيط الشيطانيّ في بعض العوامل الاقتصادية، التي تتدخّل في حركة الواقع من أجل أن تأخذ لنفسها حجماً كبيراً في تحريك الاقتصاد لمصالحها الاستغلالية والاحتكارية، الأمر الذي يدفعها إلى مواجهة الروح الإسلامية التي ترفض مثل هذا المسار، بالحرب المتنوعة الألوان، والأساليب التي تنسجم مع أجواء الكفر والضلال، في عملية تنسيق وتخطيط، ما يفسح في المجال لكثير من القوى لتلعب لعبتها في تمزيق المسلمين، بما يكفل لها تحقيق أغراضها وأطماعها في ثرواتهم، وهذا ما نواجهه في اللعبة الاستعمارية التي تحاول تفجير البلاد الإسلامية بمختلف الصراعات الشخصية والطائفية والإقليمية والقومية، من أجل استنزاف الطاقات الإسلامية وتحويلها إلى طاقات تتفجّر ضدّ نفسها. وبذلك، تصبح طاقات خائرة متعبة لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، نواجه الهجمة الكبرى على الثروات الموجودة في بلاد المسلمين التي تتصارع الدول الكبرى في سبيل السيطرة عليها، وهي تعمل على أن يعيش المسلمون أجواء اللعبة، فينقسمون بين فئة تؤيّد هذا المعسكر، لتنفّذ مخطّطاته في آفاق الحرب والسلم، وفئة تؤيّد المعسكر الآخر في الآفاق التي يتحرّك فيها.. وهكذا اندفع المسلمون إلى مجالات جديدة من مجالات التمزّق السياسي.

وما زالت المخطّطات الاستعمارية المغلّفة بالواجهات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية تلعب لعبتها، من أجل ألا يقف المسلمون على أقدامهم كقوّة جديدة تطرح الحلول الإسلامية الفكرية والعملية للإنسان وللحياة، من أجل إقامة عالم الحقّ والعدالة الذي كان هدف النبوّات والأنبياء، في ما عبّر عنه الله في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[2]، وما زال الجهاد في هذا السبيل يتحرّك من أجل تركيز القاعدة الصلبة على أساس متين.

وقد نجد أمامنا التمزق الاجتماعي الذي يحصل من تغليب فئة اجتماعية على فئة أخرى من ناحية الحقوق والواجبات، أو بمنح امتيازات لبعض الطبقات أو الطوائف على حساب أخرى، من أجل إيجاد حالة صراع دائمة تفجّر الحقد في حياة المجتمع.

* كتاب أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة.


[1]  نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة:61، ص:53، دار التعارف للمطبوعات، ط1 :1410هـ 1990م.

[2] (الحديد:25)

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية