كتابات
27/12/2013

مقترحات عمليَّة وتحديات في طريق الوحدة

مقترحات عمليَّة وتحديات في طريق الوحدة

إذا كانت الصّورة السائدة عن الوحدة تتراوح بين التشرذم الطائفيّ، والتمزّق القوميّ والإقليميّ، والتخلّف الحضاريّ، وبين الصراعات التي تلتهب بعد كلّ تصريح من هذا وخطاب من ذاك، أو على قطعة أرض هنا وهناك، أو على مناطق نفوذ لهذه الجهة أو تلك، فكيف يمكن أن تتبدّل الصورة ويتغيّر الواقع؟ هل يكفي أن نقول بأسلوب بسيط سهل: ليعد المسلمون إلى إسلامهم، وليرجعوا إلى الله، وليعتصموا بحبله، وليلتزموا بميثاقه، حتى يجدوا أمامهم الأمّة الواحدة والهدف الواحد؟!

إنَّه أسلوب جميل وسهل، ولكنَّه لن يقدّم أو يؤخّر شيئاً مادامت المشاكل كامنة في النفوس وفي الوسائل والأهداف.

إنَّنا نعتقد أنَّه لا بُدَّ من البحث عن وسائل جديدة للعمل، غير الوسائل الخطابية التي تكثر من الوصايا والنصائح والتوجيهات العامة التي لا تلامس الواقع. ففي النطاق الطائفي مثلاً، يحاول الكثير من المخلصين أن يتحدّثوا عن إسلام بلا مذاهب، وأن يواجهوا الموقف بشعارات الوحدة الإسلامية، في جوّ ملي‏ء بالمثالية والخيال، كما لو كانت القضية مطروحة على ساحة خالية من العقد الصعبة. ولكن، هل يمكن أن تطرح القضية بهذه الروح، من دون النفاذ إلى عمق المشكلة وطبيعتها؟ وكيف يمكن أن نتجاوز هذا الفكر الضخم الذي يجرّ وراءه آلاف الكتب والأبحاث المشتملة على الردود حول هذا التشريع أو ذاك، أو في نطاق هذه الفلسفة أو تلك، أو من أجل هذا الشخص أو ذاك؟ وقد لا يقتصر تأثير ملف الانقسامات على الجانب الفكريّ، بل يتعدّاه إلى الجانب العمليّ والواقعيّ على الصعيد المجتمعيّ، ولا شكّ في أنّ‏َ الهروب من هذا كلّه يمثّل تبسيطاً للأمور المعقّدة في غير اتّجاهها الصحيح.

ربط المسلمين بالهدف الكبير

وفي رأيي، لا بُدَّ من خطّة تربط المسلمين بالهدف الكبير، ولا سيما أنّ‏َ الخطر الكبير يتناول وجودهم. ومن الواضح أنّ‏َ عظمة الهدف وخطورته تربطان الإنسان بالآفاق الرحبة التي تتجاوز الحواجز النفسية، في عملية انفتاح على الواقع المتحرّك أبداً في اتّجاه الله. وليس معنى ذلك أن نتنكّر للحواجز، بل كلّ ما هناك أن نتعامل معها بطريقة واقعية، من خلال الاعتراف بالعوامل الفكرية والعملية التي ساهمت في وجودها وامتدادها، ما يدفعنا إلى تجميدها في الحالات التي يفرض علينا الواقع عملية التجميد، أو تحريكها في المجالات التي يمكن أن نتحرّك فيها بوعي ومرونة وإخلاص، أو هدمها في ما نملك من وسائل واقعية تجمع بين عملية الهدم من جهة، والبناء من جهة أخرى، لتكون السلبية خطوة في طريق الإيجابية، وذلك من أجل المواجهة المخلصة لعوامل الخطر الموجودة في الساحة.

هذه هي الروح التي نلمسها في كلمات الإمام عليّ(ع)، وهو يحدّثنا عن تجربته الذاتية في ما واجهه من عملية التنكّر لحقّه في الخلافة، وفي ما انطلق فيه من خطوات عملية، بعيداً عن المسألة الذاتية التي قد تعتبر السلبية موقفاً طبيعياً يمنعها من المشاركة في الحلول، أو التحرّك إيجابياً في الجانب المضادّ الذي يثير المشكلة في الواقع المرتبك الخطر، بل تحرك في مسارات إيجابية، انطلاقاً من الإيمان بالهدف الكبير الذي يحدّد القضية من موقع المسؤولية الإسلامية الكبرى. يقول(ع): "فما راعني إلا انثيال النّاس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنَّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّعُ السّحاب؛ فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتَنَهْنَه.."[1].

الوقوف على الأرض المشتركة

إذاً، لقد شارك الإمام(ع) في حلّ المشاكل الكبرى التي تعترض الحياة الإسلامية آنذاك بفكره وخطواته العملية، دون أن يعني ذلك تنازلاً عن الموقف، الأمر الذي نخرج منه بفكرة مهمّة يمكن لنا الاستفادة منها لتغيير الواقع الإسلاميّ المتشرذم، ألا وهي أنّ‏َ الإيجابية المتحرّكة من مواقع الاختلاف في الرأي، لا تعني الانتقال إلى الجانب الآخر، بل تعني الوقوف على الأرض المشتركة لخدمة القضية المشتركة من دون تشنج وانفعال، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يبقي القضية الواقعية في موقعها الطبيعي من قضايا الحقّ والباطل، ويفسح في المجال للروح الإسلامية العامة بأن تتحرّك في وجه الخطر الداهم الذي يهدّد القضية من الأساس.

ونستلهم هذه الروح من كلمته التي خاطب بها جماعة من جيش أهل العراق سمعهم يسبّون أهل الشام في قتاله في صفين، فقد قال لهم ـ في ما روي عنه ـ: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ‏َ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"[2]. والإمام(ع) في هذا التوجّه، لا يُلغي الصراع، ولكنَّه يحدّد لهم روحيته التي لا تستهدف التدمير، بل تستهدف الحقّ في كلّ أساليبها وتطلّعاتها، ثمّ‏َ يحدّد لهم الأدوات التي تجعل من هذا الصراع أسلوباً عملياً يشارك في سلامة الموقف، بدلاً من أن يشارك في تفجيره. أمّا الخطوات العملية في هذا الاتّجاه، فتتمثّل في دراسة الموقف دراسة فكرية تحترم فيها الأفكار، ولكن من خلال قابليتها للمناقشة والحوار، لا كأفكار مقدّسة لا تقبل النقد، وذلك باعتبار أنها ليست من المسلّمات القطعية. وقد لا ندّعي أنّ‏َ القضية تدخل في باب الحلول السهلة البسيطة، لأنَّنا نعرف أنّ‏َ مواطن الخلاف لا تخلو من حساسيات تمسّ‏ُ المشاعر والمواقف، ولكنّ‏َ الهدف الكبير المنطلق في رحلة الأخطار الكبيرة، والروحية التي تحكم الارتباط بالهدف، كفيلان بتذليل كثير من الصعاب في هذا الاتّجاه، وأحسب أنّ‏َ إثارة القضايا في نطاق الحوار على الأسس الإسلامية، تكفل لنا الوصول إلى تقارب في الفهم والرؤية والتصوّر، ما قد يُسهم في تقريب المسافات، إن لم يسهم في الوصول إلى وحدة ذلك كلّه.

خطط عمليَّة لمواجهة التحديات‏

هذا من الناحية الفكرية. وأمّا السعي نحو التوجّه الوحدويّ، فيتمّ من الناحية العملية بالتأكيد الدائم على مواجهة التحدّيات المصيرية التي تواجه الإسلام والمسلمين، بأساليب عملية في مستوى تلك التحدّيات، وذلك بالبحث عن مواطن اللقاء، وبالبحث الدائم في التصوّرات الإسلامية للقضايا العامة، وإثارة الشعور بالمسؤولية تجاهها، وتقديم الشواهد التاريخية على المواقف الواعية التي كان يقفها قادتنا الإسلاميون التاريخيون في خلافاتهم، أثناء مواجهتهم لتحدّيات الكفر والضلال، وبالتركيز على الخسائر التي يمكن أن تلحق بالمسلمين أجمع بمختلف طوائفهم، من خلال الإفساح في المجالات للخلافات الطائفية التي يغذيها الاستعمار الكافر بأساليبه المتنوّعة، وبتقديم الأمثلة على ذلك، من خلال حركة الواقع في ما نملك من أمثلة على ذلك كلّه في تاريخنا المعاصر. ولعلّ من البديهي أنّ‏َ ذلك لن يتحقّق إلا ضمن خطّة عملية متحرّكة، في ظلّ قيادات واعية ترصد الواقع بعين يقظة مفتوحة على ما حولها، وترصد المستقبل بالخطط العملية الحكيمة، وذلك ضمن برنامج متكامل سليم وشامل.

ونحسب أنّ‏َ مثل هذا الجوّ يسهم ـ ولو بعد وقت طويل ـ في إبعاد المسلمين عن التقاتل الطائفيّ إلى البحث الفكريّ العلميّ حول كلّ ما يختلف فيه المسلمون، من دون خلفيات حاقدة، بل بروح يدفعها الشعور بمسؤولية الفكر في الإسلام، إلى مواجهة كلّ القضايا المعلّقة، بصراحة وموضوعية وإخلاص، ويدفعها هذا الإحساس بالخطر إلى التجمّع في الموقع الواحد من أجل القضية الواحدة.

التعاطي مع الفوارق بروح علمية

أمّا أجواء الاختلافات الأخرى القومية والإقليمية والاقتصادية، فتحتاج إلى العمل الطويل المجهد الذي بدأه رسول الله(ص) بتركيز الروح الإسلامية في وعي المسلمين، والتعاطي مع الفوارق بروح عملية، يكفل للنّاس حفظ خصائص متنوّعة تغني تجربتهم وأفكارهم وأوضاعهم، وتخلق بينهم نوعاً من التفاعل الحضاري. وبذلك، تُزال الحواجز الروحية والواقعية بين أبناء الفكر الواحد والعقيدة الواحدة.. وعند ذلك فقط، تتحوّل العقيدة في وعي حركتها الأساسية إلى معنى إنسانيّ يجمع الفصائل المتنوّعة من بني الإنسان في إطار واحد يتّسع للجميع، دون أن يلغي خصائصهم الذاتية.

أمّا التاريخ القديم، فإنّ‏َ بإمكاننا إثارته كما أثاره الإسلام، كعبرة، بما يحمل من أساليب العبر في الاتّجاه الإيجابيّ والسلبيّ، ولكن من دون أن نسمح له بأن يطبع شخصيتنا بطابعه، لأنّ‏َ الإسلام قد وضع حاجزاً كبيراً بين إيمان الإنسان بالله والارتباط بالجاهلية، في كلّ ما تمثّله الجاهلية من فكر ومن تاريخ. ولا بُدَّ لنا في ذلك كلّه من حشد كلّ أساليب الفكر والتربية في الوقوف أمام هذه الاتّجاهات، في خطّة حكيمة شاملة. وقد لا نستطيع أن نزعم لأنفسنا أنَّنا سنصل إلى الغاية المتوخّاة في هذا السبيل، لأنّ‏َ قوى الشّرّ والكفر والضلال ستقف بيننا وبين تحقيق ذلك، ولكن لا بُدَّ لنا من خوض هذا الصراع بكلّ ما نملك من وسائل في أيّ جانب من جوانب الحياة. إنَّها ضريبة الجهاد في سبيل الله التي يحمل عب‏ء تقديمها المجاهدون المخلصون.

إنَّنا نشعر بأنّ‏َ قضية توحيد المسلمين ضمن مواقف موحّدة، ليست عملية بسيطة لتعالج على مستوى الحلول النظرية العامّة، بل هي من أصعب القضايا تعقيداً، لأنَّها تصطدم بالعناصر الخارجية التي تمثّل القوى العالمية ذات المصالح السياسية والعسكرية في السيطرة على واقع المسلمين، أرضاً وشعباً وفكراً واقتصاداً، ولذلك، فإنّ‏َ أيّة دعوة توحيدية تنطلق من واقع الشعور بالتمايز الحضاريّ الإسلاميّ ضدّ القوى الأخرى، تعتبر دعوة مضادّة ضدّ مصالح هذه القوى، ما يجعلها تحشد قواها من أجل القضاء على الحركة في مهدها. وفي هذا الاتّجاه، نرى أنّ‏ القضية تحتاج إلى جهود متواصلة في هذا السبيل، وإلى بذل تضحيات كبيرة في أكثر من جانب، وإلى التمسّك بحبل الصبر والإيمان وصولاً إلى الغاية الكبرى.

ويجب أن نشير في نهاية المطاف، إلى أنّ‏َ شعار توحيد المسلمين والقضاء على التمزق، لا يعني الوحدة في كيان سياسيّ موحّد يجمع المسلمين في دولة، لأنَّنا لا نجد ذلك ضرورياً في عملية التوحيد، فيمكن أن يجتمع المسلمون على الإسلام كعنصر توحيديّ أساسيّ مع اختلاف الكيانات القانونية التي لا تمثّل حاجزاً نفسياً ضدّ بعضهم البعض.

إنّ‏َ القضية، كلّ القضية، هي أنّ‏َ الإسلام يظلّ يمثّل الوحدة العميقة بين المسلمين، وإن اختلفوا على أكثر من جانب في التاريخ والتشريع والفلسفة، ولنصغ إلى نداء اللّه سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[3]، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[4].

*  كتاب أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة.


[1] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الكتاب:62، ص: 340 339.

[2] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة:206، ص: 236.

[3] (الأنبياء:92)

[4] (الأنفال:46)

إذا كانت الصّورة السائدة عن الوحدة تتراوح بين التشرذم الطائفيّ، والتمزّق القوميّ والإقليميّ، والتخلّف الحضاريّ، وبين الصراعات التي تلتهب بعد كلّ تصريح من هذا وخطاب من ذاك، أو على قطعة أرض هنا وهناك، أو على مناطق نفوذ لهذه الجهة أو تلك، فكيف يمكن أن تتبدّل الصورة ويتغيّر الواقع؟ هل يكفي أن نقول بأسلوب بسيط سهل: ليعد المسلمون إلى إسلامهم، وليرجعوا إلى الله، وليعتصموا بحبله، وليلتزموا بميثاقه، حتى يجدوا أمامهم الأمّة الواحدة والهدف الواحد؟!

إنَّه أسلوب جميل وسهل، ولكنَّه لن يقدّم أو يؤخّر شيئاً مادامت المشاكل كامنة في النفوس وفي الوسائل والأهداف.

إنَّنا نعتقد أنَّه لا بُدَّ من البحث عن وسائل جديدة للعمل، غير الوسائل الخطابية التي تكثر من الوصايا والنصائح والتوجيهات العامة التي لا تلامس الواقع. ففي النطاق الطائفي مثلاً، يحاول الكثير من المخلصين أن يتحدّثوا عن إسلام بلا مذاهب، وأن يواجهوا الموقف بشعارات الوحدة الإسلامية، في جوّ ملي‏ء بالمثالية والخيال، كما لو كانت القضية مطروحة على ساحة خالية من العقد الصعبة. ولكن، هل يمكن أن تطرح القضية بهذه الروح، من دون النفاذ إلى عمق المشكلة وطبيعتها؟ وكيف يمكن أن نتجاوز هذا الفكر الضخم الذي يجرّ وراءه آلاف الكتب والأبحاث المشتملة على الردود حول هذا التشريع أو ذاك، أو في نطاق هذه الفلسفة أو تلك، أو من أجل هذا الشخص أو ذاك؟ وقد لا يقتصر تأثير ملف الانقسامات على الجانب الفكريّ، بل يتعدّاه إلى الجانب العمليّ والواقعيّ على الصعيد المجتمعيّ، ولا شكّ في أنّ‏َ الهروب من هذا كلّه يمثّل تبسيطاً للأمور المعقّدة في غير اتّجاهها الصحيح.

ربط المسلمين بالهدف الكبير

وفي رأيي، لا بُدَّ من خطّة تربط المسلمين بالهدف الكبير، ولا سيما أنّ‏َ الخطر الكبير يتناول وجودهم. ومن الواضح أنّ‏َ عظمة الهدف وخطورته تربطان الإنسان بالآفاق الرحبة التي تتجاوز الحواجز النفسية، في عملية انفتاح على الواقع المتحرّك أبداً في اتّجاه الله. وليس معنى ذلك أن نتنكّر للحواجز، بل كلّ ما هناك أن نتعامل معها بطريقة واقعية، من خلال الاعتراف بالعوامل الفكرية والعملية التي ساهمت في وجودها وامتدادها، ما يدفعنا إلى تجميدها في الحالات التي يفرض علينا الواقع عملية التجميد، أو تحريكها في المجالات التي يمكن أن نتحرّك فيها بوعي ومرونة وإخلاص، أو هدمها في ما نملك من وسائل واقعية تجمع بين عملية الهدم من جهة، والبناء من جهة أخرى، لتكون السلبية خطوة في طريق الإيجابية، وذلك من أجل المواجهة المخلصة لعوامل الخطر الموجودة في الساحة.

هذه هي الروح التي نلمسها في كلمات الإمام عليّ(ع)، وهو يحدّثنا عن تجربته الذاتية في ما واجهه من عملية التنكّر لحقّه في الخلافة، وفي ما انطلق فيه من خطوات عملية، بعيداً عن المسألة الذاتية التي قد تعتبر السلبية موقفاً طبيعياً يمنعها من المشاركة في الحلول، أو التحرّك إيجابياً في الجانب المضادّ الذي يثير المشكلة في الواقع المرتبك الخطر، بل تحرك في مسارات إيجابية، انطلاقاً من الإيمان بالهدف الكبير الذي يحدّد القضية من موقع المسؤولية الإسلامية الكبرى. يقول(ع): "فما راعني إلا انثيال النّاس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمَّد صلى اللّه عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنَّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّعُ السّحاب؛ فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتَنَهْنَه.."[1].

الوقوف على الأرض المشتركة

إذاً، لقد شارك الإمام(ع) في حلّ المشاكل الكبرى التي تعترض الحياة الإسلامية آنذاك بفكره وخطواته العملية، دون أن يعني ذلك تنازلاً عن الموقف، الأمر الذي نخرج منه بفكرة مهمّة يمكن لنا الاستفادة منها لتغيير الواقع الإسلاميّ المتشرذم، ألا وهي أنّ‏َ الإيجابية المتحرّكة من مواقع الاختلاف في الرأي، لا تعني الانتقال إلى الجانب الآخر، بل تعني الوقوف على الأرض المشتركة لخدمة القضية المشتركة من دون تشنج وانفعال، وهذا هو الأسلوب الأمثل الذي يبقي القضية الواقعية في موقعها الطبيعي من قضايا الحقّ والباطل، ويفسح في المجال للروح الإسلامية العامة بأن تتحرّك في وجه الخطر الداهم الذي يهدّد القضية من الأساس.

ونستلهم هذه الروح من كلمته التي خاطب بها جماعة من جيش أهل العراق سمعهم يسبّون أهل الشام في قتاله في صفين، فقد قال لهم ـ في ما روي عنه ـ: "إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ‏َ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"[2]. والإمام(ع) في هذا التوجّه، لا يُلغي الصراع، ولكنَّه يحدّد لهم روحيته التي لا تستهدف التدمير، بل تستهدف الحقّ في كلّ أساليبها وتطلّعاتها، ثمّ‏َ يحدّد لهم الأدوات التي تجعل من هذا الصراع أسلوباً عملياً يشارك في سلامة الموقف، بدلاً من أن يشارك في تفجيره. أمّا الخطوات العملية في هذا الاتّجاه، فتتمثّل في دراسة الموقف دراسة فكرية تحترم فيها الأفكار، ولكن من خلال قابليتها للمناقشة والحوار، لا كأفكار مقدّسة لا تقبل النقد، وذلك باعتبار أنها ليست من المسلّمات القطعية. وقد لا ندّعي أنّ‏َ القضية تدخل في باب الحلول السهلة البسيطة، لأنَّنا نعرف أنّ‏َ مواطن الخلاف لا تخلو من حساسيات تمسّ‏ُ المشاعر والمواقف، ولكنّ‏َ الهدف الكبير المنطلق في رحلة الأخطار الكبيرة، والروحية التي تحكم الارتباط بالهدف، كفيلان بتذليل كثير من الصعاب في هذا الاتّجاه، وأحسب أنّ‏َ إثارة القضايا في نطاق الحوار على الأسس الإسلامية، تكفل لنا الوصول إلى تقارب في الفهم والرؤية والتصوّر، ما قد يُسهم في تقريب المسافات، إن لم يسهم في الوصول إلى وحدة ذلك كلّه.

خطط عمليَّة لمواجهة التحديات‏

هذا من الناحية الفكرية. وأمّا السعي نحو التوجّه الوحدويّ، فيتمّ من الناحية العملية بالتأكيد الدائم على مواجهة التحدّيات المصيرية التي تواجه الإسلام والمسلمين، بأساليب عملية في مستوى تلك التحدّيات، وذلك بالبحث عن مواطن اللقاء، وبالبحث الدائم في التصوّرات الإسلامية للقضايا العامة، وإثارة الشعور بالمسؤولية تجاهها، وتقديم الشواهد التاريخية على المواقف الواعية التي كان يقفها قادتنا الإسلاميون التاريخيون في خلافاتهم، أثناء مواجهتهم لتحدّيات الكفر والضلال، وبالتركيز على الخسائر التي يمكن أن تلحق بالمسلمين أجمع بمختلف طوائفهم، من خلال الإفساح في المجالات للخلافات الطائفية التي يغذيها الاستعمار الكافر بأساليبه المتنوّعة، وبتقديم الأمثلة على ذلك، من خلال حركة الواقع في ما نملك من أمثلة على ذلك كلّه في تاريخنا المعاصر. ولعلّ من البديهي أنّ‏َ ذلك لن يتحقّق إلا ضمن خطّة عملية متحرّكة، في ظلّ قيادات واعية ترصد الواقع بعين يقظة مفتوحة على ما حولها، وترصد المستقبل بالخطط العملية الحكيمة، وذلك ضمن برنامج متكامل سليم وشامل.

ونحسب أنّ‏َ مثل هذا الجوّ يسهم ـ ولو بعد وقت طويل ـ في إبعاد المسلمين عن التقاتل الطائفيّ إلى البحث الفكريّ العلميّ حول كلّ ما يختلف فيه المسلمون، من دون خلفيات حاقدة، بل بروح يدفعها الشعور بمسؤولية الفكر في الإسلام، إلى مواجهة كلّ القضايا المعلّقة، بصراحة وموضوعية وإخلاص، ويدفعها هذا الإحساس بالخطر إلى التجمّع في الموقع الواحد من أجل القضية الواحدة.

التعاطي مع الفوارق بروح علمية

أمّا أجواء الاختلافات الأخرى القومية والإقليمية والاقتصادية، فتحتاج إلى العمل الطويل المجهد الذي بدأه رسول الله(ص) بتركيز الروح الإسلامية في وعي المسلمين، والتعاطي مع الفوارق بروح عملية، يكفل للنّاس حفظ خصائص متنوّعة تغني تجربتهم وأفكارهم وأوضاعهم، وتخلق بينهم نوعاً من التفاعل الحضاري. وبذلك، تُزال الحواجز الروحية والواقعية بين أبناء الفكر الواحد والعقيدة الواحدة.. وعند ذلك فقط، تتحوّل العقيدة في وعي حركتها الأساسية إلى معنى إنسانيّ يجمع الفصائل المتنوّعة من بني الإنسان في إطار واحد يتّسع للجميع، دون أن يلغي خصائصهم الذاتية.

أمّا التاريخ القديم، فإنّ‏َ بإمكاننا إثارته كما أثاره الإسلام، كعبرة، بما يحمل من أساليب العبر في الاتّجاه الإيجابيّ والسلبيّ، ولكن من دون أن نسمح له بأن يطبع شخصيتنا بطابعه، لأنّ‏َ الإسلام قد وضع حاجزاً كبيراً بين إيمان الإنسان بالله والارتباط بالجاهلية، في كلّ ما تمثّله الجاهلية من فكر ومن تاريخ. ولا بُدَّ لنا في ذلك كلّه من حشد كلّ أساليب الفكر والتربية في الوقوف أمام هذه الاتّجاهات، في خطّة حكيمة شاملة. وقد لا نستطيع أن نزعم لأنفسنا أنَّنا سنصل إلى الغاية المتوخّاة في هذا السبيل، لأنّ‏َ قوى الشّرّ والكفر والضلال ستقف بيننا وبين تحقيق ذلك، ولكن لا بُدَّ لنا من خوض هذا الصراع بكلّ ما نملك من وسائل في أيّ جانب من جوانب الحياة. إنَّها ضريبة الجهاد في سبيل الله التي يحمل عب‏ء تقديمها المجاهدون المخلصون.

إنَّنا نشعر بأنّ‏َ قضية توحيد المسلمين ضمن مواقف موحّدة، ليست عملية بسيطة لتعالج على مستوى الحلول النظرية العامّة، بل هي من أصعب القضايا تعقيداً، لأنَّها تصطدم بالعناصر الخارجية التي تمثّل القوى العالمية ذات المصالح السياسية والعسكرية في السيطرة على واقع المسلمين، أرضاً وشعباً وفكراً واقتصاداً، ولذلك، فإنّ‏َ أيّة دعوة توحيدية تنطلق من واقع الشعور بالتمايز الحضاريّ الإسلاميّ ضدّ القوى الأخرى، تعتبر دعوة مضادّة ضدّ مصالح هذه القوى، ما يجعلها تحشد قواها من أجل القضاء على الحركة في مهدها. وفي هذا الاتّجاه، نرى أنّ‏ القضية تحتاج إلى جهود متواصلة في هذا السبيل، وإلى بذل تضحيات كبيرة في أكثر من جانب، وإلى التمسّك بحبل الصبر والإيمان وصولاً إلى الغاية الكبرى.

ويجب أن نشير في نهاية المطاف، إلى أنّ‏َ شعار توحيد المسلمين والقضاء على التمزق، لا يعني الوحدة في كيان سياسيّ موحّد يجمع المسلمين في دولة، لأنَّنا لا نجد ذلك ضرورياً في عملية التوحيد، فيمكن أن يجتمع المسلمون على الإسلام كعنصر توحيديّ أساسيّ مع اختلاف الكيانات القانونية التي لا تمثّل حاجزاً نفسياً ضدّ بعضهم البعض.

إنّ‏َ القضية، كلّ القضية، هي أنّ‏َ الإسلام يظلّ يمثّل الوحدة العميقة بين المسلمين، وإن اختلفوا على أكثر من جانب في التاريخ والتشريع والفلسفة، ولنصغ إلى نداء اللّه سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[3]، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[4].

*  كتاب أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة.


[1] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الكتاب:62، ص: 340 339.

[2] نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، الخطبة:206، ص: 236.

[3] (الأنبياء:92)

[4] (الأنفال:46)

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية