لما رأى الصحابي العظيم عمّار بن ياسر الرؤوس تتساقط، والأرض قد صبغت بالدماء، أخذ يناجي نفسه قائلاً: صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، هؤلاء القاسطون، إنه اليوم الذي وعدني فيه رسول الله أني قد أربيت على التسعين، فماذا أنتظر؟! رحماك ربي، قد اشتقت إلى إخواني الذين سبقوني بالإيمان إليك، سأمشي إلى لقاء ربي مجاهداً أعداءه بين يدي وليّه ووصيّي رسوله وخليفته من بعده، فإني أراه اليوم الذي وعدني به رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأطال النظر في رايات معاوية، فانطلق يقول: إن مراكزنا على مراكز رايات رسول الله يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب. وتمثلت أمامه في ذلك اليوم صفحات من تأريخه البعيد والقريب، فعرضت له صورة أبويه ياسر وسميّة وهما يعذَّبان أعنف التعذيب، وأمره وهو شاب معهما يلاقي ما لاقياه من الإرهاق على يد جبابرة قريش، ففاضت روح أبويه، وأفلت هو من التعذيب، وتذكّر ما عاناه فى شيخوخته من عثمان من التنكيل والتعذيب، كل ذلك في سبيل مبدئه وعقيدته.
وقد أودعت هذه الذكريات في نفسه شوقاً عارماً إلى ملاقاة الله، فانفجر في البكاء، وأخذ يناجي الله قائلاً: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أنّ رضاك أن أضع ظبة سيفي في صدري، ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري، لفعلت، ولو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، ولو أعلم أن رضاك أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردّى وأسقط فعلت، وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم من الأعمال ما هو أرضى لك منه لفعلته.
ثم انعطف إلى أمير المؤمنين، ودموعه تتبلور على كريمته الشريفة، فلما رآه الإمام، قام إليه وعانقه واحتفى به، فالتفت إلى الإمام: يا أخا رسول الله، أتأذن لي في القتال؟ فقد قلب الإمام وأريع من كلامه، لأنه ساعده الذي به يصول، فقال له بصوت راعش النبرات: مهلاً يرحمك الله! انصرف عمّار، فلم يلبث إلا قليلاً، حتى عرضت له تلك الذكريات، فحفّزته إلى لقاء الله، فرجع إلى الإمام قائلاً: أتأذن لي فى القتال؟
فقال (عليه السلام): مهلاً يرحمك الله. ومضى، فلم يمكث إلا برهة، حتى عاوده الشوق إلى لقاء أحبّائه الذين سبقوه إلى الايمان، فكرّ راجعاً إلى الإمام، فقال له: أتأذن لي بالقتال؟ فإني أراه اليوم الذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد اشتقت إلى لقاء ربي، وإلى إخواني الذين سبقوني؛ فلم يجد الإمام بداً من إجابته، فقام إليه وعانقه، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات، وقال له :
يا أبا اليقظان، جزاك الله عني وعن نبيك خيراً، فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب. وأجهش الإمام بالبكاء، وبكى عمّار لبكائه، وقال له: والله يا أمير المؤمنين، ما تبعتك إلا ببصيرة، فإني سمعت رسول الله يقول يوم حنين: يا عمار، ستكون بعدي فتنة، فإذا كان كذلك، فاتبع عليّاً وحزبه، فإنه مع الحقّ والحق معه، وسيقاتل بعدي الناكثين والقاسطين؛ فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فلقد أدّيت وبلغت ونصحت؛ ثم تقدّم عمار إلى ساحة الشرف وميدان القتال، وهو جذلان مسرور بملاقاة الله، وقد استردّ قوّته ونشاطه، وارتفع صوته عالياً وهو يقول: الجنة تحت ظلال العوالي، اليوم ألقى الأحبّة محمداً وحزب.. .
لقد قاتل عمار قريشاً مع النبي على الإقرار بكلمة التوحيد، واليوم يقاتلهم على الإيمان بما في القرآن، وعلى التصديق بما جاء به الإسلام. وبعد كفاح رهيب، سقط عمار إلى الأرض صريعاً، قد قتلته الفئة الباغية الّتي طبع على قلوبها بالزّيغ ونسيت ذكر الله، فسبحت في ظلام قاتم.
ولما أذيع خبر مقتله، انهد ركن الإمام، وأحاطت به موجات وموجات من الهموم والأحزان؛ لأنه فقد بمقتله كوكبة من الأعوان والأنصار، ومشى لمصرعه حزيناً باكياً، تحف به قواد الجيش وأمراء القبائل والبقية الصالحة من المهاجرين والأنصار، وهم يهرقون الدموع، وعلا منهم النحيب والبكاء، ووقف الإمام عليه، فلمّا رأه صريعاً متخبّطاً بدمه، انهارت قواه، وجعل يؤبّنه بكلمات تنمّ عن قلب موجع قائلاً: إنّ امرأً من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد؛ رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قتل، ورحم الله عماراً يوم يبعث حيّاً، لقد رأيت عماراً، وما يذكر من أصحاب رسول الله أربعة إلا كان رابعاً، ولا خمسة إلا كان خامساً، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشكّ أن عماراً قد وجبت له الجنّة في غير موطن ولا اثنين، فهنيئاً لعمار بالجنة...
ووقف الإمام الحسن واجماً مستعبراً عند مصرع الشّهيد العظيم الذي ساهم في بناء الإسلام، فأخذ يتلو على المسلمين ما سمعه من جدّه النبي (صلى الله عليه وآله) في فضله، والإشادة بعظيم منزلته، فقال (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه: ابنوا لي عريشاً كعريش موسى، وجعل يتناول اللبن من قومه وهو يقول: اللّهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة، وجعل يتناول اللبن من عمار وهو يقول: ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية! وقال: إن جدي قال إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة؛ علي وعمّار وسلمان.
ولما اذيع خبر مقتله، حدثت الفتنة والانشقاق في صفوف أهل الشام، فقد سمعوا ممن سمع من رسول الله أنه قال في عمار تقتله الفئة الباغية، وقد حدثهم بذلك عمرو بن العاص، وقد اتضح لهم بعد مقتله أنهم هم الفئة الباغية الّتي عناها الرّسول، ولكن ابن العاص قد استطاع بمكره وأكاذيبه أن يزيل ذلك ويرجع الحياة إلى مجراها الطبيعي، فقد ألقى المسؤولية على الإمام، زاعماً أنه هو الذي أخرجه وقتله، وأذعن جهال أهل الشام وصدّقوا مقالته، وراحوا يهتفون: إنما قتل عماراً من جاء به.
وثقل على أمير المؤمنين مقتل عمار، وأحاطت به المآسي والشجون، فهتف بربيعة وهمدان، فاستجابوا له، فقال لهم: أنتم درعي ورمحي، فأجابه اثنا عشر ألفاً منهم، فحمل بهم وهو هائج غضبان، فلم يبق صفّ لأهل الشّام إلا انتقض، وأبادوا كلّ فصيلة انتهوا إليها، حتى قربوا من فسطاط معاوية، وكان الإمام يرتجز ويقول في رجزه :
أضربهم ولا أرى معاوية الجاحظ العين العظيم الحاوية
ووجّه خطابه إلى معاوية فقال له: علام يقتتل الناس بيننا؟ هلمّ أحاكمك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فانبرى ابن العاص إلى معاوية مستهزئاً به قائلاً: أنصفك الرجل .
قال: ما أنصفت، وإنك لتعلم أنه لم يبارزه أحد إلا قتله، فأجابه: وما يجمل بك إلا مبارزته .
فقال معاوية له: طمعت فيها بعدي. واستمرّ القتال عنيفاً بين الفريقين، وهم ماضون فى الحرب لا يريحون ولا يستريحون، وقد بان الضعف في جيش معاوية، وتحطّمت جميع كتائبه وتفلّلت جميع قواه، حتى همّ بالفرار والانهزام.
*من كتاب "حياة الامام الحسن دراسة وتحليل" ،ج1.