محاضرات
08/12/2025

ولادةُ الزَّهراء (ع) مناسبةٌ لتعزيزِ الوحدةِ بينَ المسلمين

ولادةُ الزَّهراء (ع) مناسبةٌ لتعزيزِ الوحدةِ بينَ المسلمين

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105].
في هذا اللّقاء، هناك موضوعان نتحدَّث بهما.
الموضوع الأوَّل هو مناسبة ولادة السيّدة الصدّيقة فاطمة الزَّهراء (ع) في العشرين من شهر جمادى الثَّانية الَّذي يصادف يوم الأحد القادم. والموضوع الثَّاني هو مسألة الاختلافات في الأمَّة، من خلال بعض كلمات النَّبيّ (ص) وعليّ (ع) والأئمَّة من أهل بيته (ع)، لأنَّ هذه القضيَّة من القضايا الملحَّة في الواقع الإسلاميّ الَّذي يعيش الأزمات تلو الأزمات.
الشَّخصيّةُ المميَّزة
أمَّا قضيَّة الصدّيقة الزَّهراء (ع)، فإنَّها تمثّل الإنسان الَّذي ميَّزه الله سبحانه وتعالى بأفضل ما تتميَّز به امرأة، من خلال ما أعطاها من الأسرار الكامنة في شخصيَّتها، والَّتي ارتفعت بها وهي في صباها وفي بداية شبابها، لأنَّها لم تعش عمراً طويلاً، ارتفعت بها إلى أعلى مستوى من الفضائل والمكارم الإنسانيَّة، فقد كانت الأصدق، وكانت الأعبد لله، وكانت الإنسانة الَّتي انطلقت بروحانيَّتها إلى الله سبحانه وتعالى حتَّى ذابت فيه، كانت تقوم اللَّيل حتَّى تتورَّم قدماها، وكانت إلى جانب ذلك، الإنسانَ الَّذي يعيش المسؤوليَّة بأعمق ما تكون المسؤوليَّة في رعاية رسول الله (ص)، بكلّ ما كان قلبها يحمل من طهر العاطفة وعمق الحنان، حتَّى استطاعت أن تملأ حياته بكلّ حنانها وعاطفتها.
وهكذا، عاشت الزّهراء (ع) مع رسول الله (ص) في أصعب أوقات الرّسالة، عندما كان في مكَّة وهي في طفولتها الأولى، وكانت تعيشُ حركةَ الوحي فيما ينزل على النَّبيّ (ص) من وحيٍ إلى جانبِ عليّ (ع)، وقد كانَ (ع) في بيت رسول الله معها، وكانت تعرف كيف واجهَ رسولُ الله (ص) المصاعب والمشقَّات والأذى، بالمستوى الَّذي قال فيه: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَمَا أُوْذِيْتُ"، وكانت تتحرَّك في هذا الموقع، فكانت إذا رأت المشركين وهم يضعون أمعاء الشَّاة على ظهر الرّسول (ص)، تأتي وهي طفلة صغيرة لترفع عنه ذلك بيديها الطريَّتين، وهي تبكي حناناً وعاطفةً وألماً، فتعلَّمت من رسول الله (ص) كيف تصبر من أجل الرّسالة، وكيف تصمد أمام التحدّيات، وكيف تتحمَّل الأذى عندما تفرض عليها الرّسالة ذلك.
الأسرةُ النَّموذجيَّة
وكانت في بيتها مع عليّ (ع)، الإنسانَ الَّتي أعطت زوجها كلَّ الرّوح والإخلاص، وكلَّ المحبَّة والرّعاية، فقد كان عليّ (ع) يتكامل معها من أجل إنشاء أسرة كانت من أفضل الأسر في التّاريخ، والَّتي ضمَّت عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً وزينب وأمّ كلثوم، وكان رسول الله (ص) يرعى هذا البيت بمحبَّته وتوجيهه وردّ الأذى عنه. ولذلك، كان ذلك البيت يمثّل البيت النَّموذجي الَّذي لا نستطيع أن نجد بيتا ًفي مستواه في تلك الفترة من حياتهما.
ومن خلال ذلك، لا بدَّ لكلّ زوجين مسلمين يرغبان في تكوين أسرة إسلاميَّة سعيدة، أن يتعلَّما من عليّ وفاطمة (ع) كيف يكون بيتهما بيتاً قائماً على الإيمان بالله، وعلى المودَّة والرَّحمة، وعلى التَّعاون والتَّكامل، حتَّى كان عليٌّ وفاطمة يتقاسمان المسؤوليَّة، فكانت الزَّهراء (ع) تقوم في البيت بما يترتّب عليها؛ تطحن وتعجن وتخبز، وكان عليٌّ يكنس البيت ويجلب الماء ويحتطب، لأنَّها أسرة لا يحسّ الزّوج فيها بأنَّ قيامه ببعض شؤون البيت مساعدةً لزوجته يسقط من كرامته، كما يرى بعض النَّاس ذلك، ولا ترى الزَّوجة نفسها معنيَّة بكلّ شؤون البيت، لكنّهما يتقاسمان ذلك.
ونحن نعرف أنَّهما بالرّغم من شظف العيش، وبالرّغم من كلّ المتاعب، فقد كانت الزَّهراء (ع) تعاني من المتاعب الجسديَّة فوق العادة، وكان عليّ (ع) يعاني من المسؤوليَّات الجهاديَّة، لأنَّه كان ينتقل في تلك الفترة من حرب إلى حرب، ومن معركة إلى معركة، ولكن بالرّغم من كلّ ذلك، لم يشغلهما ذلك على أن يبدعا في تربية الحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم، بكلّ ما للتربية من معنى ومن قوَّة ومن انفتاح.
مسؤوليَّةُ تربيةِ الأجيال
وهذا أيضاً درس نتعلَّمه؛ أن لا تشغلنا مسؤوليَّاتنا الخارجيَّة أو البيتيَّة، نساءً أو رجالاً، عن القيام بمهمَّة الرّعايَّة والتربية والتوجيه لأبنائنا، لأنَّ قيمة البيت، أيُّها الأحبَّة، ليست فقط أن نجني المال من أجل أن يعيش مَنْ في البيت عيشة كريمة، وليست قيمته فقط في أن نهيّئ للأولاد طعامهم وشرابهم وملبسهم، ولكنَّ قيمة البيت المسلم أن ينشئ جيلاً مسلماً، قيمته أن ندرك أنَّ مسؤوليَّتنا كآباء وكأمَّهات، لا أن نعمل على حفظ أجساد أولادنا فقط، بل أن نحفظ لهم عقلهم أيضاً، وأن نحفظ لهم قلبهم، وأن نحفظ لهم كلَّ تصوّراتهم، وكلّ انطباعاتهم، وكلّ أخلاقهم، وكلّ روحانيَّتهم، وكلّ علاقاتهم بالله، من خلال أن نعطي القدوة من أنفسنا كأمّ وأب، ليكون الأب قدوةً لأبنائه، ولتكون الأمُّ قدوةً لأبنائها، فيما تقول وفيما تفعل، وفيما يقول وفيما يفعل، لأنَّ أوَّل مدرسة يتعلَّم فيها الأبناء كيف يكونون صالحين أو طالحين هي مدرسة البيت.
ومشكلتنا، أيُّها الأحبَّة، في الكثير من مشاكل جيلنا الَّذي نواجه فيه الاهتزاز والفساد والانحراف، أنَّ المدرسة الأولى قد لا تكون في المستوى الأخلاقيّ والرّوحيّ ولا الاجتماعيّ الَّذي يمكن أن يربي الأولاد والبنات على حسّ المسؤوليَّة أمام الله، وأمام النَّاس، وأمام الحياة كلِّها.
المعلّمةُ.. البطلة
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كانت الزَّهراء (ع) وهي في أوَّل شبابها في المدينة، توجّه وتعلّم، وكانت النّسوة يجتمعن عندها لتعلّمهنَّ ما تعلَّمته من رسول الله مما أفاض الله به عليها، وكانت تربّيهم على ذلك كلّه، لم تكن آلامها ومشاغلها البيتيَّة تفصلها عن مسؤوليَّاتها التربويَّة في المجتمع.
وعندما اختلطت المواقف والأمور بعد رسول الله (ص)، كانت الزَّهراء (ع) الإنسانة البطلة في جهادها، البطلة في صبرها، البطلة في وعيها، البطلة في تحدّياتها وفي حركيَّاتها، لقد أخذت حقّ عليّ (ع)، وهو حقّ الإسلام كلّه، أخذته على مسؤوليَّاتها، فتكلَّمت، وخطبت، وحاورت، وناقشت، وجاهدت، وأوذيت، من أجل أن تقف مع الحقّ، ولم يعهد لأيّ امرأة مسلمة منذ أن انطلقت الدَّعوة، أن كانت في الموقف الَّذي وقفته الزَّهراء (ع)، محاضرةً في المسلمين بخطبتها المعروفة، ومناقشةً للكثيرين، حتَّى مَنْ كانوا في مستوى الحكم، في قضيَّة الحقّ، وفي قضيَّة المسلمين جميعاً.
قدوةُ المسلمين
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما يكون يوم ولادة الزَّهراء (ع) هو يوم المرأة المسلمة، فمن أجل أن تقف المرأة المسلمة في كلّ مكان في العالم، لتتعلَّم من الزَّهراء (ع) كيف تعيش المسؤوليَّة في روحها وعقلها ونشاطها وحركتها، حتَّى كانت حياتها (ع) حركةً دائمة، لم تجد الزَّهراء (ع) راحةً في هذا العمر الَّذي لا يتجاوز الثَّمانية عشرة، كما هو المشهور في الرّوايات، لم ترتح لحظة واحدة في حياتها، سواء كانت مع أبيها طفلةً، أو عندما كانت مع زوجها وأولادها شابَّة، كانت كلّ حياتها لله، وكان كلّ نشاطها للإسلام، وكانت كلّ مواقفها للحقّ.
لذلك، نريد للمرأة المسلمة في يوم الزَّهراء (ع)، أن تجعل الزَّهراء قدوة، ولتأخذْ كلُّ امرأة مسلمة من الزَّهراء (ع) بعض روحانيَّتها، وبعض أخلاقها، وبعض صلابتها، وبعض صبرها، وبعض جهادها، وبعض مواقفها على الحقّ. وعلينا، أيُّها الإخوة، رجالاً ونساءً، أن نقتدي بها في كلّ مجالات حياتنا، لأنَّها تمثّل الإنسان الَّذي يتفايض روحانيّةً، والَّذي يمتلئ حقّاً، والَّذي يقف في المواقف الكبرى من أجل القضيَّة الكبرى.
مناسبةٌ للوحدةِ لا للتَّفرّق
وعلينا، أيُّها الأحبَّة، أن لا نجعل من ذكرى الزَّهراء (ع)، في وفاتها وفي ولادتها، وسيلةً من أجل إثارة الفرقة بين المسلمين، أن نذكر الحقَّ بالطَّريقة الَّتي يريدنا الله بها أن نذكر الحقَّ {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النَّحل: 125]، {ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34].
إنَّ علينا أن لا نجعل من ذكرياتنا الإسلاميَّة، حتَّى الذّكريات الَّتي عاش فيها المسلمون الكثير من الإرباك ومن التَّعقيد، أن لا نجعل منها مثاراً للفرقة بين المسلمين، بل أن نجعل منها منطلقاً للوحدة بينهم.
إنَّ الزَّهراء (ع) هي الإنسان الَّذي اتَّفق المسلمون كلّهم على تقديسها، وعلى احترامها، وعلى محبَّتها، ليس هناك مسلم، مهما كان مذهبه، لا يحمل للزَّهراء تعظيماً وتقديراً. ولذلك، فإنَّها تمثّل رمز الوحدة الإسلاميَّة الَّتي يتَّفق عليها المسلمون. وإذا كانت الزَّهراء (ع) حافظت على الوحدة الإسلاميَّة وهي تناقش وتجادل وتحاور وتخطب، كما حافظ عليّ (ع) على الوحدة الإسلاميَّة بالرّغم من أنَّ الحقَّ له، وبالرّغم من كلّ ما عاناه وواجهه، علينا أيضاً أن نتعلَّم كيف نحافظ على الوحدة الإسلاميَّة، وأن نعرف كيف نكلّم بعضنا بعضاً، وكيف نحاور بعضنا بعضاً، ولا سيَّما في هذه الظّروف الصَّعبة الَّتي يسعى الاستكبار العالميّ فيها من أجل أن يتقاتل المسلمون فيما بينهم، فيما نراه في أفغانستان، وفيما نراه الآن في تركيا وسوريا، وفيما نواجهه في كثير من الفتن على المستوى الشَّعبيّ والحكوميّ في كلّ بلد إسلاميّ.
إنَّنا في هذه الظروف الصَّعبة الَّتي يواجه فيها المسلمون أقصى التحدّيات، لا بدَّ لنا من أن نعمل على أن نقرّب بين صفوف المسلمين؛ أن نقرّب بينهم في الأفكار الإسلاميَّة، وفي السياسة والاجتماع والاقتصاد، لأنَّ هذا ما يريده رسول الله (ص)، وهذا ما يريده عليّ (ع).
أحاديثُ في الوحدة
تعالوا نستمع، ولو بشكل مختصر، إلى بعض النّصوص الَّتي تحدَّث بها عليّ (ع) مع أصحابه، ونحن أصحابه. قال (ع): "إنَّهُ لَم يَجْتَمِعْ قَومٌ قَطُّ على أمرٍ واحِدٍ إلَّا اشْتَدَّ أمْرُهُم، واسْتَحْكَمَتْ عُقْدَتُهُم، فاحْتَشِدوا في قِتالِ عَدُوِّكُم وجُنودِهِ ولا تَخاذَلُوا".
ويقول (ع): "والزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَمَ، فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ والفرْقَة، فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلْشَّيطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الغَنَمِ للذّئْبِ"، فكما النّعجة الّتي تفترق عن جماعتها يلتقطها الذّئب، كذلك الإنسان الَّذي ينفصل عن جماعة المسلمين يلتقطه الشَّيطان، لأنَّ الإنسان مع الجماعة تكون له قوَّة.
وعنه (ع): "لِيَرْدَعْكُمُ الإسلامُ ووَقارُهُ عنِ التَّباغي وَالتَّهاذي، ولتَجْتَمِعْ كَلِمَتُكُم، والْزَموا دِينَ اللّه ِالّذي لا يَقْبَلُ مِن أحَدٍ غَيْرَهُ، وكَلِمَةَ الإخْلاصِ الَّتي هِي قِوامُ الدِّينِ".
الاعتبارُ من الأممِ السَّابقة
ويقول عليّ (ع)، وهو يستعرض التَّاريخ مع أصحابه ليعتبروا به: "واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ، بِسُوءِ الأَفْعَالِ وذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ، فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِه شَأْنَهُمْ، وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَه عَنْهُمْ، ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِه عَلَيْهِمْ - يعني اعتبروا من إيجابيّات الأمم السَّابقة، فخذوا مما أعطاهم موقفاً إيجابيّاً في الأمن والعزّة والطّمأنينة والعافية - وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَه مَعَهُمْ، ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْه حَبْلَهُمْ – ما الّذي أعطاهم ذلك، ما الّذي أعطاهم العزّة والكرامة؟ - مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، واللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ، والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، والتَّوَاصِي بِهَا. واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وتَخَاذُلِ الأَيْدِي. وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُم... فانظروا كيف كانوا، حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً، والأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، والْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، والأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً. أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ - يعني كانوا أصحاب السّيادة - ومُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟! فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْه فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، واخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ والأَفْئِدَةُ، وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، وقَدْ خَلَعَ اللَّه عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِه، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِه، وبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ".
ألا يمثّل هذا الوصف من عليّ (ع) واقعنا؟! إنَّ قيمة كلمات عليّ (ع) أنَّها تتحدَّث عن الحياة كلّها، وأنّ عليّاً (ع) عندما يحدّثنا، ننشعر بأنّه معنا ومع مشاكلنا ومع كلّ تحدّياتنا، ومع كلّ الأوضاع الدَّاخليَّة والخارجيَّة، كأنَّه يحدّثنا عن ذلك كلّه.
عواقبُ الفرقةِ والاختلاف
وعنه (ع): "وَأَيْم الله، مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ قَطُّ بَعْدَ نَبِيّها، إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقّها، إِلَّا مَا شَاءَ الله"، لأنَّ أهل الباطل يستغلّون الاختلاف في الأمَّة من أجل ينفذوا إلى داخلها، ليدسّوا الباطل باسم الحقّ، وليهدموا القوَّة من خلال عناصر الضّعف.
ويقول الإمامُ عليّ (ع): "إيَّاكُم وَالتَّلَوُّنَ في دِينِ اللّهِ، فإنَّ جَماعَةً فيما تَكْرَهونَ مِن الحقِّ، خَيرٌ مِن فُرقَةٍ فيما تُحِبّونَ مِن الباطِلِ، وَإِنَّ اللّهَ سُبحانَهُ لَم يُعْطِ أحَداً بفُرقَةٍ خَيراً مِمّن مَضى وَلَا مِمّن بَقِيَ"، أي أنَّ الفرقة لا يمكن أن تجلب الخير، لأنَّه وإن خيِّل إلى الَّذين يفرّقون الكلمة أنَّهم يحصلون على بعض الخير من أهوائهم، ولكنَّهم عندما يدرسون نتائج الأمور، فإنَّهم يعرفون أنَّ ما يحسبونه خيراً مما جنوه، هو شرٌّ لهم في واقع الأمور.
وهكذا يتحدَّث عليّ (ع): "مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ، إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَةً"، لأنَّ أيَّ دعوة لا بدَّ أن تكون دعوة حقّ، سيكون في مقابلها دعوة باطل.
وهكذا، يريدنا الإسلام أن نعيش هذه الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً.
حمايةُ الإسلامِ من الفتن
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نكون حرَّاساً للإسلام، بحراسة كلّ مواقعه من كلّ هؤلاء الَّذين يثيرون الفرقة والفتن بين المسلمين، إنَّ هناك الكثير من أجهزة المخابرات الدّوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة، من الَّذين يتحركون في خطّ الاستكبار كلّه، وفي خطّ الكفر كلّه، إنَّهم يكيدون كيداً، إنَّهم يحاولون أن يستغلّوا بعض نقاط الضّعف، وبعض نقاط الخلاف، حتَّى يفرّقوا الصّفّ الواحد، وحتَّى يحطّموا القوَّة الواحدة، باسم أنَّهم يدافعون عن الحقّ، ولكنَّهم لا يدافعون عنه بأسلوبه.
إنَّ عليكم، أيُّها الأحبَّة، في الظّروف الصَّعبة الَّتي نواجهها، سواء كانت الظروف هنا في مقابل الاحتلال الإسرائيليّ الغاشم، أو الظّروف الَّتي تواجهها الأمَّة في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مواجهة كلّ مواقع الخلاف والحرب في الأمَّة، إنَّ علينا أن نكون حرَّاساً، أن نطرد من بيننا كلَّ الَّذين يريدون أن يثيروا الفرقة بيننا، وكلَّ الَّذين يريدون أن يثيروا الفتن بيننا، سواء في داخل المنطقة الواحدة، أو في دائرة المذهب الواحد، أو في دائرة الإسلام الواحد. إنَّ الكثيرين ممن يلبسون لباس الإخلاص، قد يكونون في واقعهم يعيشون العقدة والحقد والعداوة والبغضاء، ويبحثون عن أنفسهم وعن امتيازاتهم في ذلك.
كونوا الواعين لكلّ صوت، كونوا الحذرين أمام كلّ حركة، لأنَّ الواقع الَّذي يعيشه المسلمون هو واقع التحدّيات الكبرى في الدَّاخل والخارج، وعلينا أن نواجه هذه الحرب، وذلك بالحرب العسكريَّة في مواقع التعدّيات العسكريَّة، وبالحرب الرّوحيَّة في مواجهة التحدّيات الروحيَّة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105].
في هذا اللّقاء، هناك موضوعان نتحدَّث بهما.
الموضوع الأوَّل هو مناسبة ولادة السيّدة الصدّيقة فاطمة الزَّهراء (ع) في العشرين من شهر جمادى الثَّانية الَّذي يصادف يوم الأحد القادم. والموضوع الثَّاني هو مسألة الاختلافات في الأمَّة، من خلال بعض كلمات النَّبيّ (ص) وعليّ (ع) والأئمَّة من أهل بيته (ع)، لأنَّ هذه القضيَّة من القضايا الملحَّة في الواقع الإسلاميّ الَّذي يعيش الأزمات تلو الأزمات.
الشَّخصيّةُ المميَّزة
أمَّا قضيَّة الصدّيقة الزَّهراء (ع)، فإنَّها تمثّل الإنسان الَّذي ميَّزه الله سبحانه وتعالى بأفضل ما تتميَّز به امرأة، من خلال ما أعطاها من الأسرار الكامنة في شخصيَّتها، والَّتي ارتفعت بها وهي في صباها وفي بداية شبابها، لأنَّها لم تعش عمراً طويلاً، ارتفعت بها إلى أعلى مستوى من الفضائل والمكارم الإنسانيَّة، فقد كانت الأصدق، وكانت الأعبد لله، وكانت الإنسانة الَّتي انطلقت بروحانيَّتها إلى الله سبحانه وتعالى حتَّى ذابت فيه، كانت تقوم اللَّيل حتَّى تتورَّم قدماها، وكانت إلى جانب ذلك، الإنسانَ الَّذي يعيش المسؤوليَّة بأعمق ما تكون المسؤوليَّة في رعاية رسول الله (ص)، بكلّ ما كان قلبها يحمل من طهر العاطفة وعمق الحنان، حتَّى استطاعت أن تملأ حياته بكلّ حنانها وعاطفتها.
وهكذا، عاشت الزّهراء (ع) مع رسول الله (ص) في أصعب أوقات الرّسالة، عندما كان في مكَّة وهي في طفولتها الأولى، وكانت تعيشُ حركةَ الوحي فيما ينزل على النَّبيّ (ص) من وحيٍ إلى جانبِ عليّ (ع)، وقد كانَ (ع) في بيت رسول الله معها، وكانت تعرف كيف واجهَ رسولُ الله (ص) المصاعب والمشقَّات والأذى، بالمستوى الَّذي قال فيه: "مَا أُوْذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَمَا أُوْذِيْتُ"، وكانت تتحرَّك في هذا الموقع، فكانت إذا رأت المشركين وهم يضعون أمعاء الشَّاة على ظهر الرّسول (ص)، تأتي وهي طفلة صغيرة لترفع عنه ذلك بيديها الطريَّتين، وهي تبكي حناناً وعاطفةً وألماً، فتعلَّمت من رسول الله (ص) كيف تصبر من أجل الرّسالة، وكيف تصمد أمام التحدّيات، وكيف تتحمَّل الأذى عندما تفرض عليها الرّسالة ذلك.
الأسرةُ النَّموذجيَّة
وكانت في بيتها مع عليّ (ع)، الإنسانَ الَّتي أعطت زوجها كلَّ الرّوح والإخلاص، وكلَّ المحبَّة والرّعاية، فقد كان عليّ (ع) يتكامل معها من أجل إنشاء أسرة كانت من أفضل الأسر في التّاريخ، والَّتي ضمَّت عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً وزينب وأمّ كلثوم، وكان رسول الله (ص) يرعى هذا البيت بمحبَّته وتوجيهه وردّ الأذى عنه. ولذلك، كان ذلك البيت يمثّل البيت النَّموذجي الَّذي لا نستطيع أن نجد بيتا ًفي مستواه في تلك الفترة من حياتهما.
ومن خلال ذلك، لا بدَّ لكلّ زوجين مسلمين يرغبان في تكوين أسرة إسلاميَّة سعيدة، أن يتعلَّما من عليّ وفاطمة (ع) كيف يكون بيتهما بيتاً قائماً على الإيمان بالله، وعلى المودَّة والرَّحمة، وعلى التَّعاون والتَّكامل، حتَّى كان عليٌّ وفاطمة يتقاسمان المسؤوليَّة، فكانت الزَّهراء (ع) تقوم في البيت بما يترتّب عليها؛ تطحن وتعجن وتخبز، وكان عليٌّ يكنس البيت ويجلب الماء ويحتطب، لأنَّها أسرة لا يحسّ الزّوج فيها بأنَّ قيامه ببعض شؤون البيت مساعدةً لزوجته يسقط من كرامته، كما يرى بعض النَّاس ذلك، ولا ترى الزَّوجة نفسها معنيَّة بكلّ شؤون البيت، لكنّهما يتقاسمان ذلك.
ونحن نعرف أنَّهما بالرّغم من شظف العيش، وبالرّغم من كلّ المتاعب، فقد كانت الزَّهراء (ع) تعاني من المتاعب الجسديَّة فوق العادة، وكان عليّ (ع) يعاني من المسؤوليَّات الجهاديَّة، لأنَّه كان ينتقل في تلك الفترة من حرب إلى حرب، ومن معركة إلى معركة، ولكن بالرّغم من كلّ ذلك، لم يشغلهما ذلك على أن يبدعا في تربية الحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم، بكلّ ما للتربية من معنى ومن قوَّة ومن انفتاح.
مسؤوليَّةُ تربيةِ الأجيال
وهذا أيضاً درس نتعلَّمه؛ أن لا تشغلنا مسؤوليَّاتنا الخارجيَّة أو البيتيَّة، نساءً أو رجالاً، عن القيام بمهمَّة الرّعايَّة والتربية والتوجيه لأبنائنا، لأنَّ قيمة البيت، أيُّها الأحبَّة، ليست فقط أن نجني المال من أجل أن يعيش مَنْ في البيت عيشة كريمة، وليست قيمته فقط في أن نهيّئ للأولاد طعامهم وشرابهم وملبسهم، ولكنَّ قيمة البيت المسلم أن ينشئ جيلاً مسلماً، قيمته أن ندرك أنَّ مسؤوليَّتنا كآباء وكأمَّهات، لا أن نعمل على حفظ أجساد أولادنا فقط، بل أن نحفظ لهم عقلهم أيضاً، وأن نحفظ لهم قلبهم، وأن نحفظ لهم كلَّ تصوّراتهم، وكلّ انطباعاتهم، وكلّ أخلاقهم، وكلّ روحانيَّتهم، وكلّ علاقاتهم بالله، من خلال أن نعطي القدوة من أنفسنا كأمّ وأب، ليكون الأب قدوةً لأبنائه، ولتكون الأمُّ قدوةً لأبنائها، فيما تقول وفيما تفعل، وفيما يقول وفيما يفعل، لأنَّ أوَّل مدرسة يتعلَّم فيها الأبناء كيف يكونون صالحين أو طالحين هي مدرسة البيت.
ومشكلتنا، أيُّها الأحبَّة، في الكثير من مشاكل جيلنا الَّذي نواجه فيه الاهتزاز والفساد والانحراف، أنَّ المدرسة الأولى قد لا تكون في المستوى الأخلاقيّ والرّوحيّ ولا الاجتماعيّ الَّذي يمكن أن يربي الأولاد والبنات على حسّ المسؤوليَّة أمام الله، وأمام النَّاس، وأمام الحياة كلِّها.
المعلّمةُ.. البطلة
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، كانت الزَّهراء (ع) وهي في أوَّل شبابها في المدينة، توجّه وتعلّم، وكانت النّسوة يجتمعن عندها لتعلّمهنَّ ما تعلَّمته من رسول الله مما أفاض الله به عليها، وكانت تربّيهم على ذلك كلّه، لم تكن آلامها ومشاغلها البيتيَّة تفصلها عن مسؤوليَّاتها التربويَّة في المجتمع.
وعندما اختلطت المواقف والأمور بعد رسول الله (ص)، كانت الزَّهراء (ع) الإنسانة البطلة في جهادها، البطلة في صبرها، البطلة في وعيها، البطلة في تحدّياتها وفي حركيَّاتها، لقد أخذت حقّ عليّ (ع)، وهو حقّ الإسلام كلّه، أخذته على مسؤوليَّاتها، فتكلَّمت، وخطبت، وحاورت، وناقشت، وجاهدت، وأوذيت، من أجل أن تقف مع الحقّ، ولم يعهد لأيّ امرأة مسلمة منذ أن انطلقت الدَّعوة، أن كانت في الموقف الَّذي وقفته الزَّهراء (ع)، محاضرةً في المسلمين بخطبتها المعروفة، ومناقشةً للكثيرين، حتَّى مَنْ كانوا في مستوى الحكم، في قضيَّة الحقّ، وفي قضيَّة المسلمين جميعاً.
قدوةُ المسلمين
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما يكون يوم ولادة الزَّهراء (ع) هو يوم المرأة المسلمة، فمن أجل أن تقف المرأة المسلمة في كلّ مكان في العالم، لتتعلَّم من الزَّهراء (ع) كيف تعيش المسؤوليَّة في روحها وعقلها ونشاطها وحركتها، حتَّى كانت حياتها (ع) حركةً دائمة، لم تجد الزَّهراء (ع) راحةً في هذا العمر الَّذي لا يتجاوز الثَّمانية عشرة، كما هو المشهور في الرّوايات، لم ترتح لحظة واحدة في حياتها، سواء كانت مع أبيها طفلةً، أو عندما كانت مع زوجها وأولادها شابَّة، كانت كلّ حياتها لله، وكان كلّ نشاطها للإسلام، وكانت كلّ مواقفها للحقّ.
لذلك، نريد للمرأة المسلمة في يوم الزَّهراء (ع)، أن تجعل الزَّهراء قدوة، ولتأخذْ كلُّ امرأة مسلمة من الزَّهراء (ع) بعض روحانيَّتها، وبعض أخلاقها، وبعض صلابتها، وبعض صبرها، وبعض جهادها، وبعض مواقفها على الحقّ. وعلينا، أيُّها الإخوة، رجالاً ونساءً، أن نقتدي بها في كلّ مجالات حياتنا، لأنَّها تمثّل الإنسان الَّذي يتفايض روحانيّةً، والَّذي يمتلئ حقّاً، والَّذي يقف في المواقف الكبرى من أجل القضيَّة الكبرى.
مناسبةٌ للوحدةِ لا للتَّفرّق
وعلينا، أيُّها الأحبَّة، أن لا نجعل من ذكرى الزَّهراء (ع)، في وفاتها وفي ولادتها، وسيلةً من أجل إثارة الفرقة بين المسلمين، أن نذكر الحقَّ بالطَّريقة الَّتي يريدنا الله بها أن نذكر الحقَّ {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النَّحل: 125]، {ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34].
إنَّ علينا أن لا نجعل من ذكرياتنا الإسلاميَّة، حتَّى الذّكريات الَّتي عاش فيها المسلمون الكثير من الإرباك ومن التَّعقيد، أن لا نجعل منها مثاراً للفرقة بين المسلمين، بل أن نجعل منها منطلقاً للوحدة بينهم.
إنَّ الزَّهراء (ع) هي الإنسان الَّذي اتَّفق المسلمون كلّهم على تقديسها، وعلى احترامها، وعلى محبَّتها، ليس هناك مسلم، مهما كان مذهبه، لا يحمل للزَّهراء تعظيماً وتقديراً. ولذلك، فإنَّها تمثّل رمز الوحدة الإسلاميَّة الَّتي يتَّفق عليها المسلمون. وإذا كانت الزَّهراء (ع) حافظت على الوحدة الإسلاميَّة وهي تناقش وتجادل وتحاور وتخطب، كما حافظ عليّ (ع) على الوحدة الإسلاميَّة بالرّغم من أنَّ الحقَّ له، وبالرّغم من كلّ ما عاناه وواجهه، علينا أيضاً أن نتعلَّم كيف نحافظ على الوحدة الإسلاميَّة، وأن نعرف كيف نكلّم بعضنا بعضاً، وكيف نحاور بعضنا بعضاً، ولا سيَّما في هذه الظّروف الصَّعبة الَّتي يسعى الاستكبار العالميّ فيها من أجل أن يتقاتل المسلمون فيما بينهم، فيما نراه في أفغانستان، وفيما نراه الآن في تركيا وسوريا، وفيما نواجهه في كثير من الفتن على المستوى الشَّعبيّ والحكوميّ في كلّ بلد إسلاميّ.
إنَّنا في هذه الظروف الصَّعبة الَّتي يواجه فيها المسلمون أقصى التحدّيات، لا بدَّ لنا من أن نعمل على أن نقرّب بين صفوف المسلمين؛ أن نقرّب بينهم في الأفكار الإسلاميَّة، وفي السياسة والاجتماع والاقتصاد، لأنَّ هذا ما يريده رسول الله (ص)، وهذا ما يريده عليّ (ع).
أحاديثُ في الوحدة
تعالوا نستمع، ولو بشكل مختصر، إلى بعض النّصوص الَّتي تحدَّث بها عليّ (ع) مع أصحابه، ونحن أصحابه. قال (ع): "إنَّهُ لَم يَجْتَمِعْ قَومٌ قَطُّ على أمرٍ واحِدٍ إلَّا اشْتَدَّ أمْرُهُم، واسْتَحْكَمَتْ عُقْدَتُهُم، فاحْتَشِدوا في قِتالِ عَدُوِّكُم وجُنودِهِ ولا تَخاذَلُوا".
ويقول (ع): "والزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَمَ، فَإِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ والفرْقَة، فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلْشَّيطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الغَنَمِ للذّئْبِ"، فكما النّعجة الّتي تفترق عن جماعتها يلتقطها الذّئب، كذلك الإنسان الَّذي ينفصل عن جماعة المسلمين يلتقطه الشَّيطان، لأنَّ الإنسان مع الجماعة تكون له قوَّة.
وعنه (ع): "لِيَرْدَعْكُمُ الإسلامُ ووَقارُهُ عنِ التَّباغي وَالتَّهاذي، ولتَجْتَمِعْ كَلِمَتُكُم، والْزَموا دِينَ اللّه ِالّذي لا يَقْبَلُ مِن أحَدٍ غَيْرَهُ، وكَلِمَةَ الإخْلاصِ الَّتي هِي قِوامُ الدِّينِ".
الاعتبارُ من الأممِ السَّابقة
ويقول عليّ (ع)، وهو يستعرض التَّاريخ مع أصحابه ليعتبروا به: "واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ، بِسُوءِ الأَفْعَالِ وذَمِيمِ الأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، واحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ، فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِه شَأْنَهُمْ، وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَه عَنْهُمْ، ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِه عَلَيْهِمْ - يعني اعتبروا من إيجابيّات الأمم السَّابقة، فخذوا مما أعطاهم موقفاً إيجابيّاً في الأمن والعزّة والطّمأنينة والعافية - وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَه مَعَهُمْ، ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْه حَبْلَهُمْ – ما الّذي أعطاهم ذلك، ما الّذي أعطاهم العزّة والكرامة؟ - مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، واللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ، والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، والتَّوَاصِي بِهَا. واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وتَخَاذُلِ الأَيْدِي. وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُم... فانظروا كيف كانوا، حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً، والأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، والْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، والأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، والْعَزَائِمُ وَاحِدَةً. أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِينَ - يعني كانوا أصحاب السّيادة - ومُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟! فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْه فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ، واخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ والأَفْئِدَةُ، وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، وقَدْ خَلَعَ اللَّه عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِه، وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِه، وبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ".
ألا يمثّل هذا الوصف من عليّ (ع) واقعنا؟! إنَّ قيمة كلمات عليّ (ع) أنَّها تتحدَّث عن الحياة كلّها، وأنّ عليّاً (ع) عندما يحدّثنا، ننشعر بأنّه معنا ومع مشاكلنا ومع كلّ تحدّياتنا، ومع كلّ الأوضاع الدَّاخليَّة والخارجيَّة، كأنَّه يحدّثنا عن ذلك كلّه.
عواقبُ الفرقةِ والاختلاف
وعنه (ع): "وَأَيْم الله، مَا اخْتَلَفَتْ أُمَّةٌ قَطُّ بَعْدَ نَبِيّها، إِلَّا ظَهَرَ أَهْلُ بَاطِلِهَا عَلَى أَهْلِ حَقّها، إِلَّا مَا شَاءَ الله"، لأنَّ أهل الباطل يستغلّون الاختلاف في الأمَّة من أجل ينفذوا إلى داخلها، ليدسّوا الباطل باسم الحقّ، وليهدموا القوَّة من خلال عناصر الضّعف.
ويقول الإمامُ عليّ (ع): "إيَّاكُم وَالتَّلَوُّنَ في دِينِ اللّهِ، فإنَّ جَماعَةً فيما تَكْرَهونَ مِن الحقِّ، خَيرٌ مِن فُرقَةٍ فيما تُحِبّونَ مِن الباطِلِ، وَإِنَّ اللّهَ سُبحانَهُ لَم يُعْطِ أحَداً بفُرقَةٍ خَيراً مِمّن مَضى وَلَا مِمّن بَقِيَ"، أي أنَّ الفرقة لا يمكن أن تجلب الخير، لأنَّه وإن خيِّل إلى الَّذين يفرّقون الكلمة أنَّهم يحصلون على بعض الخير من أهوائهم، ولكنَّهم عندما يدرسون نتائج الأمور، فإنَّهم يعرفون أنَّ ما يحسبونه خيراً مما جنوه، هو شرٌّ لهم في واقع الأمور.
وهكذا يتحدَّث عليّ (ع): "مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ، إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَةً"، لأنَّ أيَّ دعوة لا بدَّ أن تكون دعوة حقّ، سيكون في مقابلها دعوة باطل.
وهكذا، يريدنا الإسلام أن نعيش هذه الوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً.
حمايةُ الإسلامِ من الفتن
أيُّها الأحبَّة، إنَّ علينا أن نكون حرَّاساً للإسلام، بحراسة كلّ مواقعه من كلّ هؤلاء الَّذين يثيرون الفرقة والفتن بين المسلمين، إنَّ هناك الكثير من أجهزة المخابرات الدّوليَّة والإقليميَّة والمحليَّة، من الَّذين يتحركون في خطّ الاستكبار كلّه، وفي خطّ الكفر كلّه، إنَّهم يكيدون كيداً، إنَّهم يحاولون أن يستغلّوا بعض نقاط الضّعف، وبعض نقاط الخلاف، حتَّى يفرّقوا الصّفّ الواحد، وحتَّى يحطّموا القوَّة الواحدة، باسم أنَّهم يدافعون عن الحقّ، ولكنَّهم لا يدافعون عنه بأسلوبه.
إنَّ عليكم، أيُّها الأحبَّة، في الظّروف الصَّعبة الَّتي نواجهها، سواء كانت الظروف هنا في مقابل الاحتلال الإسرائيليّ الغاشم، أو الظّروف الَّتي تواجهها الأمَّة في مواجهة الاستكبار العالميّ، وفي مواجهة كلّ مواقع الخلاف والحرب في الأمَّة، إنَّ علينا أن نكون حرَّاساً، أن نطرد من بيننا كلَّ الَّذين يريدون أن يثيروا الفرقة بيننا، وكلَّ الَّذين يريدون أن يثيروا الفتن بيننا، سواء في داخل المنطقة الواحدة، أو في دائرة المذهب الواحد، أو في دائرة الإسلام الواحد. إنَّ الكثيرين ممن يلبسون لباس الإخلاص، قد يكونون في واقعهم يعيشون العقدة والحقد والعداوة والبغضاء، ويبحثون عن أنفسهم وعن امتيازاتهم في ذلك.
كونوا الواعين لكلّ صوت، كونوا الحذرين أمام كلّ حركة، لأنَّ الواقع الَّذي يعيشه المسلمون هو واقع التحدّيات الكبرى في الدَّاخل والخارج، وعلينا أن نواجه هذه الحرب، وذلك بالحرب العسكريَّة في مواقع التعدّيات العسكريَّة، وبالحرب الرّوحيَّة في مواجهة التحدّيات الروحيَّة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية