يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 153 - 157].
بين المسؤوليَّة والابتلاء
في هذه الآيات، نداء إلى المؤمنين في كلّ حياتهم وحركتهم في الحياة، في مسؤوليَّاتهم أمام الله، وفي مسؤوليَّاتهم العمليَّة في حياتهم الفرديَّة والاجتماعيَّة.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لهؤلاء النَّاس: أيُّها النَّاس، إنَّ المسؤوليَّة صعبة، ولا سيَّما عندما تحدّد للإنسان طريقاً أو منهجاً أو برنامجاً يضطرُّ فيه أن يقاسي الكثير من ألوان الحرمان، لأنَّ الحياة ليست مفروشة بالورود، ولأنّها لا تسير على نمط واحد، فلن تكون الحياة آمنةً على طول الخطّ، ولن تكون خائفةً على طول الخطّ، لن تكون جائعاً دائماً، كما أنَّك لن تكون شبعان دائماً، وهكذا في كلّ مجالات الحياة؛ في العطش، في العري، في المرض، في الصحَّة، وفي كلّ ما تعيشه في الحياة.
مَن منَّا يملك الرّخاء كلَّه أو الرَّاحة كلّها؟! بعض النَّاس قد يتصوَّرون أنَّ الأغنياء يعيشون في قمَّة السَّعادة، لأنَّهم يحصلون على ما يريدون بمالهم، وقد يتصوَّرون الرؤساء في قمَّة السَّعادة، لأنهم يملكون السّلطة الَّتي يستطيعون من خلالها أن يحركوا الوضع كما يريدون. وهكذا، قد يغبط الفقير الغنيَّ على غناه، وقد يغبط الإنسان العاديّ الوجيه على وجاهته...
لكنَّنا لو نفذنا إلى عمق الإنسان في كلّ حياته، لرأينا أنَّ الفقير كما يغبط الغنيَّ في غناه، لأنَّه يعاني الفقر كمشكلة عنده، فإنَّ الغنيَّ قد يغبط الفقير في فقره، لأنَّه لا يعيش المشاكل الَّتي يعيشها من خلال غناه.
وهكذا، مَنْ في القمَّة قد يعيش مشاكل لا تُعدُّ ولا تحصى أمام الإنسان الَّذي يكون في القاعدة، فكلّ إنسان له مشاكله بحجم دوره وبحجم وضعه، ليست هناك في الحياة راحة مطلقة لأحد، فكلّ إنسان له متاعبه ومشاكله، له خوفه وجوعه وعطشه وعريه... أنت تجوع من خلال حاجتك إلى لقمة الخبز، وغيرك يجوع من خلال حاجات أخرى يفقدها، وتمثّل شيئاً أساسيّاً في حياته.
الاستعانة بالصَّبر
لذلك، عندما تريد أن تدخل الحياة، وعندما تبدأ مسؤوليَّتك في حركة الحياة، لا بدَّ لك من عنصرين أساسيّين تنطلق بهما لتستعين بهما على كلّ ما يواجهك من مشاكل، وعلى كلّ ما يُلقَى عليك من أثقال، وما تعيشه من متاعب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فسوف يطلب منكم أن تكونوا المؤمنين الثَّابتين على خطّ الإيمان، وأن تواجهوا كلَّ تحدّيات الكفر، وسيكون عليكم أن تخوضوا كثيراً من المعارك المتنوّعة من أجل أن تحافظوا على إيمانكم وعلى ثبات أقدامكم في مواقع الزلزال.
{اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}، حاولوا أن تبنوا شخصيَّتكم الإنسانيَّة المؤمنة على أساس الصَّبر. والصَّبر هو حالة إنسانيَّة يستطيع الإنسان معها أن يربّي نفسه على تحمّل الحرمان، لأنَّ زلزال الإنسان إنَّما ينطلق من خلال الحرمان. لماذا ننحرف في كثير من مجالات الحياة؟ لأنَّنا نعيش الإحساس بالحرمان من المال، وهناك من يغرينا بأن يعطينا مالاً مقابل التَّنازل عن إيماننا أو عن بعض مواقفنا أو مواقعنا، لأنَّنا نعيش حرمان الشَّهوة، ولا سيَّما في مرحلة الشَّباب، وهناك من يقدّم إلينا شهواتنا على طبق من ذهب، بشرط أن نتنازل عن شيء من إيماننا ومواقفنا لقاء هذه الشَّهوة.
ونحن في بعض الحالات قد نعيش الحرمان من الجاه، فيأتي بعض النَّاس يقول لك خذ مركزاً هنا، كن نائباً، كن وزيراً، كن رئيساً لهذه الدَّائرة، كن رئيساً لهذا البلد، ولكن بشرط أن تمنحنا هذا الموقف أو ذاك الموقف، أن تبيعنا وطنك، أن تبيعنا أمَّتك، أن تتنازل عن دينك... وما إلى ذلك.
والحرمان هو الَّذي يدفع الكثيرين منَّا إلى الانحراف، وقد قيل بأنَّ النَّاس تستعبدهم حاجاتهم. فما الَّذي يجعل منك عبداً لهذا الإنسان، تذلّ له نفسك، وتخضع له في حياتك، وتتنازل له عن مبادئك وعن أخلاقك؟ ما الَّذي يجعل منك عبداً لهذا الإنسان أو ذاك؟ إنّها حاجتك إليه؛ حاجتك إلى ماله، إلى جاهه، إلى الشَّهوة التي تعيش في أجوائه، حاجتك إلى كلّ ما تريده في حياتك الَّتي قد توجد عند هذا الشَّخص أو ذاك الشَّخص، أو عند هذه الدَّولة أو تلك الدَّولة، أو عند هذه المخابرات أو تلك المخابرات، أو عند هذا الكافر أو ذاك الكافر. إنَّ حاجاتنا هي الَّتي تستعبدنا، لأنَّنا لا نصبر عليها، فنسقط أمام إلحاح هذه الحاجات علينا.
هنا يأتي دور الصَّبر. عندما تجوع، ويكون أمامك مائدة مليئة بأطايب الطَّعام، ولكن بشرط أن تبيع عفَّتك، أو تبيع عزَّتك، أو تبيع حرَّيتك، أو تبيع أخلاقك أو بلدك.. قد تكون مائدة طيّبة، ولكنَّ نهاياتها غير طيّبة، كما يقول الإمام عليّ (ع)، فيما روي عنه في بعض كلماته: "فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ"، شبعها قصير، لأنَّها قد تسكت صراخ جسدك في حاجته إلى الطَّعام، ولكنَّ جوعها طويل، لأنَّك تجوع جوعاً روحيّاً، أو تجوع جوع الحريَّة، أو جوع الأخلاق وما إلى ذلك.
لذلك، قد تعيش حياة صعبة، وقد يأتي من يسهّلها لك ولكن بثمن معيَّن.. هنا، في هذا المجال يأتي دور الصَّبر، استعن بالصَّبر، بحيث تلجم جسدك عندما يصرخ في حاجاته، لأنَّك تواجهه بالقضايا الكبرى الَّتي ستخسرها إذا استجبت لندائه.. أن تتحمَّل الكثير من الحرمان، حتّى لا تحرم نفسك من حرّيتك أو دينك أو آخرتك.
في بعض الحالات قد تربح الدّنيا، ولكنَّك في المقابل تخسر آخرتك. وما قيمة دنيا تمتلئ بكلّ ما تحبّه وتريده، إذا كان ثمنها أن تخسر رضوان الله وتخسر آخرتك؟! وقد قال عليّ (ع) فيما يروى عنه: "مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ"، فإذا عشت الحرمان في حياتك من أجل القضايا الكبيرة، وكانت النَّتائج هي الجنَّة، فأيّ قيمة لهذا الحرمان إذا كنت ستعيش في الآخرة النَّعيم الخالد؟! والعكس صحيح أيضاً، فما قيمة كلّ ما تحصل عليه من الدّنيا، إذا كنت ستلقى في الآخرة نار جهنّم؟! ما قيمة كلّ تلك اللَّذَّات والشَّهوات أمام عذاب الآخرة؟!
ابنوا شخصيَّتكم الإنسانيَّة المؤمنة على أساس الصَّبر وذلك بتحمّل الحرمان
مقارنة وموازنة
لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يربّي نفسه على الصَّبر على أساس دراسة، وعلى أساس وعي ومقارنة، أن تقول لنفسك، إنّي إذا أكلت هذا الطّعام، أو توظَّفت هذه الوظيفة، أو حصلت على هذه الفرصة، أو ارتبطت بهؤلاء الَّذين يملكون الواقع السياسي أو الاجتماعي من دون أساس، فما هي أرباحي؟ ولو أني تركتها فما هي أرباحي؟ واحسب في ذلك أرباح الدّنيا والآخرة، ولا تحسب أرباح الدّنيا وحدها.
هناك حديث عن رسول الله (ص) يتحدَّث فيه عن بعض ما يحدث فيما يستقبله النَّاس من الزَّمان، يقول (ص) فيما يروى عنه: "سَيأتي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ لا يُنالُ المُلكُ فيهِ إلَّا بالقَتلِ والتَّجَبُّرِ، ولا الغِنى إلَّا بالغَصبِ والبُخلِ، ولا المَحَبَّةُ إلَّا باستِخراجِ الدّينِ واتّباعِ الهَوى – بمعنى أنّه قد يحبّك النَّاس، وتصبح عندهم مألوفاً ومحبوباً، إذا كنت تستخرج دينك من قلبك ومن حياتك، وإذا كنت تجاريهم وتميل معهم في أهوائهم.
- فَمَن أدرَكَ ذلكَ الزمانَ، فَصَبرَ علَى الفَقرِ وهُو يَقدِرُ علَى الغِنى – إذا صبر على الفقر في طاعة الله، وكان يقدر على الغنى في معصية الله.
- وصَبَرَ علَى البغْضَةِ وهُو يَقدِرُ علَى المَحَبَّةِ - إذا كان يلتزم بالدّين التزاماً بحيث يكرهه النَّاس بسببه، لأنّه يقول الحقّ، ويحتاط في دينه، فيصبح عندهم ثقيلاً لا يطاق، فهو لا يسايرهم في لهوهم وعبثهم وطريقتهم في الحياة على حساب دينه. ولذلك ترى بعض النَّاس يقول: أنا لا أستطيع أن أعيش هكذا وحدي، أريد لعائلتي أن ترضى عنّي، وكذلك أهل بلدي والنَّاس من حولي، فيصبح، كما يقول الشَّاعر: إذا الرّيحُ مالتْ، مال حيثُ تميلُ.
- وصَبَرَ علَى الذُلِّ - يعني الانكماش عن الواقع، والبعد عن الملك والسّلطة - وهُو يَقدِرُ علَى العِزِّ، آتاهُ اللّه ُثَوابَ خَمسينَ صِدِّيقاً مِمَّن صَدَّقَ بي". وهذا واقع نعيشه، وإن لم يكن الأمر دائماً على هذا النَّحو، فقد يحصل الإنسان على الغنى من الوسائل المحلَّلة، وقد يصل إلى موقعٍ أو سلطةٍ من دون محرَّم، وقد ينال محبَّة النَّاس من غير أن يتنازل عن دينه ومبادئه، ولكنّ النبيّ (ص) يريد أن يشير إلى أنَّ الوضع العامّ قد يصبح كذلك: فإذا انتشر الفساد في النَّاس إلى هذا الحدّ، ووجدت نفسك تقف بين خطَّين: إمَّا أن تفقد دينك، أو حرّيّتك، أو كرامتك، أو قضاياك الكبرى... وإمَّا أن تفقد حاجةً أو شهوةً أو فرصةً من فرص الدّنيا، فهنا يكون الامتحان، وهنا يأتي معنى الصَّبر الحقيقيّ، أن تكون قويَّ الشَّخصيّة ثابتاً، أن تكون نفسك أقوى من حاجاتك، وسيّداً على شهواتك ولذّاتك، فإذا جاءتك شهواتك لتبتعد بك عن طريق الله، فقل لها إنَّ هناك في الآخرة شهوات لا يبلغها إلَّا الَّذين أمسكوا في الدّنيا عن شهواتهم المحرَّمة، وإذا جاءك شيطانك يقول لك انطلق في هذه اللّعبة أو تلك لتحصل على الموقع الكبير، قل له إنَّ في الآخرة موقعاً عند الله لا يناله إلَّا الَّذين رفضوا المواقع الكبيرة لحساب مبادئهم الكبيرة، هؤلاء الَّذين ينالون الدَّرجة العليا عند الله.
اختبارٌ للنَّفس
إنَّ علينا دائماً أن ندخل في مقارنة في كلّ ما نقوم به؛ هل ما أقوم به يرضي عنّي فلاناً أم يرضي الله سبحانه؟ وأعتقد، أيُّها الأحبَّة، أنّنا نفقد التَّوازن في حياتنا من خلال هذا الشَّيء؛ أنَّنا نجد الله في نفوسنا أهون علينا من أيّ إنسان. ولنختبر أنفسنا الآن، وهذه عمليَّة تحتاج إلى تفكير ودقَّة: لو دار الأمر بين أن يرضى عنك فلان ممن يملك المال الكثير، أو يملك المنصب الخطير، أو يملك المصالح الكثيرة للنَّاس، وبين أن يرضى عنك الله، ماذا تجد في نفسك؟ لنرجع إلى أنفسنا، سنرى أنّنا نحاول أن نقنع أنفسنا بأنَّ علينا أن نرضي فلاناً، لأنَّ لنا مصالح عنده، ولأنَّ لنا عيالاً، ولأنَّ لنا قضايا، أمّا قضيَّة الله سبحانه وتعالى فنتسامح فيها، وليست مشكلة عندنا أن يغضب الله علينا. إنَّ الكثيرين من النَّاس ينطلقون في خطّ المعاصي الَّتي يفقدون بها دينهم والتزامهم، من أجل أن يحصلوا على فرصة هنا أو فرصة هناك، أو حاجة هنا أو حاجة هناك.
ولذلك، لا بدَّ أن نلتفت إلى ما يركّز عليه القرآن دائماً في أن نربّي عظمة الله في نفوسنا، بحيث ندخل دائماً في مقارنة بين الله وبين أيّ شخص من عباده، بين حاجتنا إلى الله - وكلّ حياتنا حاجة إلى الله - وبين حاجتنا إلى الآخرين، بين مستقبلنا مع الله وبين مستقبلنا مع الآخرين. كم هو حجم مستقبلك مع الآخرين؟ سنة؟ سنتان؟ عشر سنين؟ عشرون سنة؟ ولكنَّ مستقبلك مع الله هو امتداد الدّنيا وامتداد الآخرة. فكيف يمكن أن تفضّل مستقبلاً محدوداً بحجم معيَّن لحساب شخص لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلّا بالله، وتترك مستقبل الخلود لمن يملك كلّ أمرك، لأنَّه يملك كلَّ حياتك وموتك؟! ما قيمة قدرة إنسان أمام قدرة الله، وما قيمة عزَّة إنسان أمام عزَّة الله؟ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26]. إنَّ الله يخاطب النَّاس، كلّ النَّاس {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[فاطر: 16]. والله يستطيع ذلك بلحظة واحدة. فلننظر، أين الجبابرة، وأين الملوك، وأين كلّ هؤلاء الَّذين تجبَّروا وطغوا وبغوا، أين ذهبوا، وأين مقام الله سبحانه وتعالى؟!
الاستناد إلى قوّة الله
إنَّ الإنسان يحتاج أن يعيش هذه القضايا، أن يتجرَّد من ضغط الواقع عليه، ومن ضغط الأشياء الَّتي تبهر عينيه، والَّتي تغلق قلبه، والَّتي تخيّل إليه أنَّه محشور في زاوية. والله ركَّز لنا معنى، وهو أنَّ الإنسان لا يمكن أن يحشر في زاوية أبداً ما دام يتَّقي الله سبحانه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطّلاق: 2 - 3]. فمهما حبسك النَّاس في زواياهم، فإنَّك إذا انفتحت على ربّك، واتَّقيته، ووثقت به وتوكَّلت عليه، فإنَّه لا بدَّ له من أن يجعل لك المخرج حيث لا مخرج.
هذا النَّوع من التَّأمّل الرّوحيّ والتَّفكير، ومن المحاسبة الدَّقيقة والمقارنة بين قوَّة الله وقوّة العبد، يجعل لنا إحساساً بالقوَّة أمام كلّ من يريد أن يفرض علينا الضّعف، وبذلك نستطيع أن نواجه أنفسنا في شهواتها الَّتي تريد أن تنحرف بنا عن الطَّريق بقوّة، وهذا هو الجهاد الأكبر؛ أن تجاهد نفسك وتخضعها، فإمَّا أن تكون سيّد نفسك، أو يكون طعامك وشرابك ولذَّاتك وشهواتك هي الَّتي تحكمك، فإمَّا أن يحكمك عقلك، أو يحكمك جسدك وهواك.
والله سبحانه ركّز لنا هذه المسألة، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}[النّازعات: 40 - 41]، فإذا خفت مقام ربّك، بأن تترك كلَّ ما لا يرضاه، وأن تفعل كلَّ ما يرضاه، وأن تنهى نفسك عن الهوى، فإنَّ الجنَّة ستكون أمامك، والحصول على الجنَّة ليس أمراً بسيطاً {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]. وما أقوله لنفسي وأقوله لكم: لنحسب حساب الجنَّة بشكل أساسيّ في حياتنا، فكما تحسب حساب أن يكون لك شقَّة تسكنها، وأن يكون عندك رصيد مادّي لتسهّل أمورك، كذلك احسب حساب نفسك على أساس أن تحصل على الجنَّة وعلى رضوان الله سبحانه.. لا تحسب حساب أولادك وزوجتك وعيالك فقط على أساس الدّنيا، كلّ منّا يفكّر أن يكون أهله رابحين في الدّنيا، ولكن من منّا يفكّر في ربح الآخرة؟ {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر: 15].
سبيل الانتصار على الأهواء
فنحن نحتاج أن نمنح أنفسنا فرصة أن نفكّر تفكيراً جدّيّاً في القضايا، وأن نبتعد عن مجال اللَّغو واللَّهو والكلام الَّذي لا يفيد ويغرينا بالمعصية، وأن نجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى. ولذا ورد أنَّ "تفكُّرُ سَاعةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ"، لأنَّ هذه السَّاعة قد تقلب كلَّ حياتك، وقد يفتح لك هذا التَّفكّر الهادئ طريقاً يؤدّي بك إلى النَّجاة في الدّنيا والآخرة، بينما تبعدك الغفلة الدَّائمة عن نفسك. إنَّ الفرق بين التَّفكير وبين الانجرار إلى الجوّ، أنَّك بالتَّفكير تعيش نفسك، وتكون أنت الَّذي تتَّخذ القرار وتقتنع، بينما عندما تكفّ عن التَّفكير وتسير مع النَّاس، فمعنى ذلك أنَّك تكون صورة عن النَّاس ولا تكون صورة عن نفسك، والإنسان الَّذي يحترم نفسه، هو الَّذي يجعل صورة نفسه من خلال ما يقتنع به وما يريده هو.
ولذلك يقول الله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}، هناك أشياء تستطيع أن تستعين بها بالنَّاس لينصروك على هذا أو ذلك، لكن إذا أردت ما ينصرك على نفسك، فالصَّبر هو الَّذي يعينك، وقوَّة الإرادة الّتي تمثّل شخصيَّتك، فالشَّخص الصَّابر هو الَّذي يملك نفسه، والشَّخص الجازع هو الَّذي لا يملك نفسه، هذا هو الفرق {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].
وهناك تفسير لكلمة الصَّبر أنَّ المراد بها الصَّوم، باعتبار أنَّ الصَّوم أيضاً حركة صبر، فالإنسان قد يحسّ بالجوع فيصبر عليه، ويحسّ بالعطش فيصبر عليه، ويحسّ بالشَّهوة فيصبر عليها، وكلّ هذه الأمور بين يديه، فالصَّوم هو حركة صبر، ودوره أن يقوّي ملكة الصَّبر في نفس الإنسان.
لا يمكن أن يحشر الإنسان في زاوية أبداً ما دام يتَّقي الله سبحانه
الاستعانة بالصّلاة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}. الصَّلاة أيضاً بحسب مضمونها ومفهومها، وبحسب آفاقها وعمقها في النَّفس ودورها في التربية، هي معراج روح المؤمن إلى الله، لأنَّ هناك صبراً أعمى وهناك صبر مبصر؛ الصَّبر الأعمى هو الصَّبر الَّذي لا ينطلق من رسالة، وإنما ينطلق من حالات ذاتيَّة، أمَّا الصَّبر المبصر، فهو الصَّبر المنفتح على الله، أن تصبر لأنَّ الله أراد لك ذلك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النّحل: 127].
فالصَّلاة تغني عقلك وقلبك وحياتك بالله، وتجعلك تشعر أنَّك في رعاية الله في كلّ مواقع حياتك، وأنَّك في عنايته، وأنَّك تنطلق من تدبيره، فإذا تركك النَّاس فلن يتركك الله، وإذا حاصرك النَّاس، فإنَّ الله يرفع عنك هذا الحصار، وإذا أراد النَّاس أن يذلّوك، فإنَّهم لا يستطيعون ذلك إذا أراد الله أن يعزَّك، لأنَّ الصَّلاة تقول لك بلسانك "الله أكبر"، ولأنَّ الصَّلاة تقول لك بلسانك فيما تقرأه من كتاب ربّك إنَّه "الرَّحمن الرَّحيم"، وإنَّه "ربّ العالمين"، وإنَّه "مالك يوم الدّين". من الَّذي يملك ما لا يملكه الله؟ ومن له هذه السّلطة على العالمين كلّهم؟ من هو الَّذي يساوي الله في عظمته؟!
وأنت عندما تنفتح على أنَّ الله ربّ العالمين، فمعنى ذلك أنّه لا فرق بينك وبين أيَّة قوَّة عظمى في العالم، سواء كانت ظاهرة كونيَّة أو دولة أو شخصاً أو جماعة، لأنَّنا جميعاً مربوبون لله، لا فرق بين أحد وأحد في كونه مربوباً لله، وأنَّ الله ربّه. وعندما تنفتح على يوم الدّين، يوم الجزاء، يوم يقوم النَّاس لربّ العالمين {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19]، فالله هو مالك ذلك كلّه، الله هو الَّذي يملك يوم القيامة، وليس هناك إلَّا الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة، لا يوجد أحد، حتَّى الأنبياء والملائكة كلّهم {مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}[المؤمنون: 57]، فهو مالك يوم الدّين، وإذا كان هو مالك يوم الدين، فعليك عندما تقف هناك أن تحذر من عذابه، لأنَّه لن ينجيك أحد من عذابه إذا أراد أن يعذّبك، وعليك أن ترجو ثوابه، لأنَّه الرَّحمن الرَّحيم.
الخضوع لله وحده
فهذا التَّفكير يفرّغ نفسك من أيّ شعور بالخضوع للنَّاس، وخصوصاً عندما تقرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة: 5] الّتي تعني أنّنا نعبدك ولا نعبد غيرك. والعبادة تعني الطَّاعة والخضوع، وتعني أن تتنازل عن بعض إنسانيَّتك وعن بعض موقعك أمام الآخرين، بينما أمام الله، تكبر إنسانيَّتنا كلَّما كبرت عبوديَّتنا له، لأنَّ الله هو سيّدنا، وهو ربّنا من حيث إنَّه خلقنا، أمَّا النَّاس الآخرون فما قيمتهم؟ نحن أحرار أمام كلّ النَّاس، فإذا كنت حرّاً أمام النَّاس، وإذا كنت تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، يعني أعبدك ولا أعبد غيرك، فإنّك تلتزم على نفسك التزاماً أساسيّاً، أنَّك لن تخضع لغير الله على حساب الخضوع لله أبداً.
وكذلك {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]، فليس معناها فقط أنّنا نستعين بك، بل معناها أنّنا نستعين بك ولا نستعين بغيرك، فأنت المقصد، وأنت الأساس في كلّ ما نطلب العون فيه، لأنَّك أنت الَّذي تملك الدنيا والآخرة، وتملك الكون كلَّه وتملك الحياة كلَّها. لذلك، النَّاس أدوات وليسوا هم الَّذين يعينوننا.
ثمَّ تبدأ تطلب من الله أن يهديك الصّراط المستقيم، صراط الإيمان، صراط الخير، صراط التَّقوى، صراط الَّذين أنعم الله عليهم بهداه وبدينه، لا صراط الَّذين غضب عليهم لأنَّهم جحدوه، أو الَّذين تاهوا ولم ينطلقوا على هداه سبحانه وتعالى.
إنَّ الصَّلاة تعطيك ثقافة علاقتك بالله، وثقافة علاقتك بالنَّاس، وكيف تكون هذه العلاقة، تعطيك ثقافة الطَّريق الَّذي يجب أن تسلكه في الحياة، وتعطيك ثقافة الحريَّة كما تعطيك ثقافة العبوديَّة؛ متى تكون عبداً مخلصاً لله، ومتى تكون عبداً آبقاً من الله سبحانه وتعالى.. إنَّك بالصَّلاة تملك حريّتك أمام النَّاس كلّهم، عندما تملك الإخلاص في عبوديَّتك لربّك.
ولذلك، فإنَّ الصَّلاة تثقّف العقل والقلب، وتثقّف حركتك في الحياة وإرادتك. وهنا يأتي الصَّبر، ليستمدَّ من الصَّلاة قوَّته وروحيَّته وآفاقه الواسعة، ويعطي الصَّلاة منه التزاماً وموقفاً وثباتاً.
انفتح على أنَّ الله ربّ العالمين، فستجد أنّه لا فرق بينك وبين أيَّة قوَّة عظمى في العالم
مصدر العزَّة والقوَّة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 153]، وأيَّة عزَّة وأيَّة كرامة وأيَّة قوَّة وأيّ عنفوان وأيّ شموخ أن يكون الله معك؟! أمَّا أن يكون فلان معك، فمن هو فلان؟ وأن يكون هذا الشَّخص الكبير معك، فمن هو أمام الله؟! لكن عندما يكون الله معك، فإنَّك تشعر بأنَّك تملك كلَّ مواقع القوَّة. وهذا ما عبَّر عنه نبيّنا (ص) عندما كان في أشدّ ساعات الشّدَّة، كان القوم يبتعدون عنه بضع أقدام أو أقلّ من ذلك، وكان صاحبه يحسّ بالقلق والخوف والحزن، وهو (ص) يعيش الطّمأنينة الروحيَّة والسَّكينة الإلهيَّة {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التّوبة: 40].. وأنت تستطيع، إذا كنت الإنسان الصَّابر، أن تقول إنَّ الله معنا، وإذا كان الله معك، فما قيمة كلّ الَّذين لا يكونون معك؟!
وهذا ما عبَّر عنه تلميذ رسول الله (ص) وتلميذ القرآن، الإمام عليّ (ع)، عندما قال: "لا يَزِيْدُني كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلي عِزَّةً، وَلا تَفَرُّقُهُمْ عَنّي وَحْشَةً"، فلو اجتمع النَّاس عليَّ أو تفرَّقوا عني، فإنّي أبقى على إيماني كما كان إيماني، وعلى موقفي، وعلى قوَّة موقفي. وهكذا كان يقول للنَّاس – لأنَّ عليّاً (ع) لم يكن يريد هذا الموقف القويّ لنفسه فحسب -: "أيُّها النَّاسُ، لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ"، وكان يقول لولده: "وَلَا يؤنسنَّك إلَّا الحقّ، ولا يوحشنَّك إلَّا الباطل".
بشرى للصَّابرين
هذا هو الخطّ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ - مِنْ هؤلاء الَّذين صبروا في سبيل الله، فلاقوا وجه الله بالشَّهادة، لا تقولوا إنَّهم أموات - بَلْ أَحْيَاءٌ - فهم الأحياء عند ربّهم، وإن كنتم لا تشعرون بذلك، لأنَّكم تقيسون مسألة الموت والحياة بما ترونه أمامكم، ولكن الحياة عند الله تختلف في شكلها وطبيعتها وقوَّتها عن الحياة عندكم - وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}[البقرة: 153- 154]، لقد صبروا، ولذلك أعطاهم الصَّبر حياة ممتدَّة في الآخرة.
ثمَّ يقول الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ - نتيجة التحدّيات الّتي يواجه فيها الكفر الإيمان – وَالْجُوعِ - في الحصار الاقتصاديّ، أو فيما أشبه ذلك من المشاكل الاقتصاديّة - وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * - الَّذين لا يسقطون أمام هذا البلاء، بل يبقون الثَّابتين - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ - نحن ملك الله، وإذا كنَّا ملك الله، فعلينا أن نسلّم له أمرنا، والله لا يريد بنا إلَّا الخير في كلّ أمورنا - وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: 155 - 156]، مهما حلَّ بنا من البلاء، فإنَّه لن يدوم، فسنرجع إلى ربّنا ليعطينا أجر ذلك كلّه.
وهنا يأتي الوسام الإلهيّ العظيم لهؤلاء الصَّابرين: {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 157]، فالله سبحانه يصلّي على الصَّابرين كما يصلّي على أنبيائه، والله صلَّى على أنبيائه لأنَّهم صبروا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: 35]. فالله سبحانه وتعالى لا يعطي الأنبياء منحة، بل لأنّهم صبروا، ولأنَّهم عبدوه، ولأنَّهم بلَّغوا رسالاته، ولأنَّهم عاشوا القوَّة في إيمانهم {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[الأحزاب: 39]، فالله أعطاهم لأنَّهم ساروا على الدَّرب المستقيم، ولذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزّمر: 65]. فالنّبيّ بشر، ولكن هو في الدَّرجة العليا من البشريَّة ومن الطَّاعة، ومن معرفة الله، ومن الصَّبر على الشَّدائد، والنَّبيّ (ص) يقول: "مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ"، أوذي (ص) وصبر على الأذى في خطّ الرّسالة، وبالصَّبر استطاع الأنبياء أن ينطلقوا في رسالاتهم. فالله يصلّي على كلّ صابر {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الَّذين يسيرون في طريق الهدى.
الأقوياء في الإيمان
هذا الخطّ الإلهيّ الَّذي نعيشه في أجواء الصَّوم الَّتي هي أجواء الصَّبر في شهر رمضان، يفرض علينا أن نخضع خضوعاً كاملاً لمثل هذه التَّربية، لأنَّنا نواجه في الحياة كثيراً من التحدّيات الدَّاخليَّة والخارجيَّة. ألم يحدّثنا رسول الله (ص) عن الجهاد الأصغر، وهو جهاد الأعداء، فيما يحتاجه من الصَّبر، ويحدّثنا عن الجهاد الأكبر، وهو جهاد النَّفس الَّذي يحتاج إلى الصَّبر؟!
وكما أنَّنا نطلب من الله أن ينصرنا على أعدائنا، فعلينا أن نطلب منه أن ينصرنا على أنفسنا.. ألا نقول في الدّعاء: "وأعنّي على نفسي بما تعين به الصَّالحين على أنفسهم"، "وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفسي"، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53]. فالإنسان يستعيذ بالله من شرّ نفسه كما يستعيذ به من كلّ جبَّار فاجر، وعدوّ قاهر، وسلطان جائر، لأنَّ هذا يريد أن يهلكك في الدنيا، ونفسك تريد أن تهلكك في الدّنيا والآخرة.
لذلك، نحتاج إلى وعي مسألة الصَّوم ومسألة الصَّبر. وكما قلت لكم، أن ندخل دائماً في عمليَّة المقارنة عندما نقدم على شيء، أو عندما نرفض شيئاً، أن نستحضر الآخرة والله في حساباتنا، فنحن دائماً نضعف لأنَّنا لا ندخل الله ولا مسألة الآخرة في حساباتنا، لكن عندما ندخلهما، تتوازن عندنا الحسابات، عندما نحسب حساب النَّار وغضب الله وسخطه علينا.
وعلى هذا الأساس، لا بدَّ أن ننطلق من خلال الصَّبر لنكون الأقوياء في إيماننا، فلا نسمح لأحد بأن ينتقص من هذا الإيمان في نفوسنا، وأن نكون الأقوياء في مواقفنا، والأقوياء في قضايانا وتطلّعاتنا، لأنَّ الأعداء يراهنون على الزَّمن في الوصول إلى ما يريدون، باعتبار أنَّ النَّاس عندما يطول الزَّمن على المشكلة، يتعبون ويسقطون أمامها، ولذلك يطرحون كلَّ التَّنازلات في مقابل أن يستريحوا من هذه المشكلة أو تلك.
تعب الدّنيا وراحة الآخرة
ولكنَّ القضيَّة الَّتي يجب أن يدرسها النَّاس، كما قلنا في بداية الحديث، أنَّ هذه الحياة ليست حياة الرَّاحة، ولكنَّها حياة التَّعب. إنَّ الله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]، والكبد هو المشقَّة والتَّعب، فأنت تولد مع التَّعب، حيث تتعب أمّك في ولادتك، وتتعب أنت أيضاً في عمليّة الولادة، وبعد ذلك تبدأ المتاعب عندك...
فالحياة ليس فيها راحة مطلقة، فهناك راحة محدودة، وهناك راحة مطلقة، الرَّاحة المحدودة هي راحة الدّنيا، أمَّا الرَّاحة المطلقة فهي راحة الآخرة.. وقد يكون عندنا مشكلة صغيرة، وقد تكون المشكلة كبيرة. مشكلتنا الصَّغيرة هي هذه المشاكل الّتي نعيشها في أوضاعنا الذاتيَّة الفرديَّة، أمّا المشاكل الكبيرة، فهي مشاكل الحريَّة والعدالة، والكفر والاستكبار، هذه المشاكل الَّتي تضغط على حياتنا كلّها وعلى مستقبلنا.
ولذلك، علينا أن نفكّر أنَّنا عندما نحلّ مشكلة، ولا سيَّما إذا كان العدوّ هو الَّذي يحلّها، فقد نتفادى مشكلة لنقع في مشكلة أكبر.
مثلاً، في أيَّام الأتراك، أيَّام الحكومة العثمانيَّة، كان النَّاس يتصوَّرون أنَّهم إذا خرجوا من حكم الأتراك، الّذي كان عنوانه حكماً إسلاميّاً، لكنَّهم - مع الأسف - انطلقوا من تركيَّتهم أكثر مما انطلقوا من إسلامهم، وهذا هو الَّذي أسقط حكم الخلافة العثمانيَّة، لكنَّ النَّاس كانوا يتصوّرون أنَّهم إذا تخلّصوا من حكم الأتراك، فإنَّ ما ينتظرهم هو الجنَّة الموعودة. وجاء الإنكليز إلى الشَّريف حسين في ذلك الوقت في مكَّة، وقالوا له إنّهم مستعدّون أن يساعدوهم ويتعاونوا معهم للتّخلّص من الحكم العثماني ليعطوهم الحريَّة. وقاتل العرب مع البريطانيّين.. فماذا حصل بعد ذلك؟ صاروا كالمستجير من الرّمضاء بالنّار، كما قال الشَّاعر:
| المستجيرُ بعمروٍ عندَ كُرْبَتِهِ |
كالمستجيرِ مِنَ الرَّمضاءِ بالنَّارِ |
| دَعَوْتُ عَلَى عَمْرٍو فَمَاتَ فَسَرَّني |
فَعَاشَرْتُ أقواماً بَكَيْتُ عَلَى عَمْرو |
| رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَّما |
صُرْتُ في غَيرِهِ بَكَيْتُ عَلَيهِ |
فإحساس الإنسان بالمشكلة الآنيَّة يجعله يتصوَّر المستقبل على طريقة الأحلام الخياليَّة. عليك أن تدرس الواقع، ادرس طبيعة المشكلة الَّتي أنت تعيشها، وادرس نتائج الحلّ، فربَّما يخلق لك مشكلة أكبر، وربما يحاصرك حصاراً أقوى.
لذلك، علينا دائماً أن لا نستغرق في الزَّمن الّذي نعيش فيه، وفي المشكلة الَّتي نواجهها، بل علينا أن ندرس مشاكل المستقبل. وهذا هو منطق الوعي الإسلاميّ، وهذا هو منطق الوعي السياسي، أن يكون للأمَّة وعي سياسيّ. هناك فرق بين اللّعبة السياسيَّة الَّتي ترتكز على النّفاق وعلى اللّفّ والدَّوران، وبين السياسة الَّتي ترتكز على أساس التَّخطيط للمستقبل، وإيجاد العناصر القويَّة للأمَّة لكي تستطيع أن تقف بقوَّة في مواجهة التَّحدّيات، أن لا تدرس موقعك كفرد، بل لا بدَّ أن تدرس موقعك كأمَّة.
* من خطبة الجماعة لسماحته للرّجال في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 26/02/1993م.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 153 - 157].
بين المسؤوليَّة والابتلاء
في هذه الآيات، نداء إلى المؤمنين في كلّ حياتهم وحركتهم في الحياة، في مسؤوليَّاتهم أمام الله، وفي مسؤوليَّاتهم العمليَّة في حياتهم الفرديَّة والاجتماعيَّة.
إنَّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لهؤلاء النَّاس: أيُّها النَّاس، إنَّ المسؤوليَّة صعبة، ولا سيَّما عندما تحدّد للإنسان طريقاً أو منهجاً أو برنامجاً يضطرُّ فيه أن يقاسي الكثير من ألوان الحرمان، لأنَّ الحياة ليست مفروشة بالورود، ولأنّها لا تسير على نمط واحد، فلن تكون الحياة آمنةً على طول الخطّ، ولن تكون خائفةً على طول الخطّ، لن تكون جائعاً دائماً، كما أنَّك لن تكون شبعان دائماً، وهكذا في كلّ مجالات الحياة؛ في العطش، في العري، في المرض، في الصحَّة، وفي كلّ ما تعيشه في الحياة.
مَن منَّا يملك الرّخاء كلَّه أو الرَّاحة كلّها؟! بعض النَّاس قد يتصوَّرون أنَّ الأغنياء يعيشون في قمَّة السَّعادة، لأنَّهم يحصلون على ما يريدون بمالهم، وقد يتصوَّرون الرؤساء في قمَّة السَّعادة، لأنهم يملكون السّلطة الَّتي يستطيعون من خلالها أن يحركوا الوضع كما يريدون. وهكذا، قد يغبط الفقير الغنيَّ على غناه، وقد يغبط الإنسان العاديّ الوجيه على وجاهته...
لكنَّنا لو نفذنا إلى عمق الإنسان في كلّ حياته، لرأينا أنَّ الفقير كما يغبط الغنيَّ في غناه، لأنَّه يعاني الفقر كمشكلة عنده، فإنَّ الغنيَّ قد يغبط الفقير في فقره، لأنَّه لا يعيش المشاكل الَّتي يعيشها من خلال غناه.
وهكذا، مَنْ في القمَّة قد يعيش مشاكل لا تُعدُّ ولا تحصى أمام الإنسان الَّذي يكون في القاعدة، فكلّ إنسان له مشاكله بحجم دوره وبحجم وضعه، ليست هناك في الحياة راحة مطلقة لأحد، فكلّ إنسان له متاعبه ومشاكله، له خوفه وجوعه وعطشه وعريه... أنت تجوع من خلال حاجتك إلى لقمة الخبز، وغيرك يجوع من خلال حاجات أخرى يفقدها، وتمثّل شيئاً أساسيّاً في حياته.
الاستعانة بالصَّبر
لذلك، عندما تريد أن تدخل الحياة، وعندما تبدأ مسؤوليَّتك في حركة الحياة، لا بدَّ لك من عنصرين أساسيّين تنطلق بهما لتستعين بهما على كلّ ما يواجهك من مشاكل، وعلى كلّ ما يُلقَى عليك من أثقال، وما تعيشه من متاعب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فسوف يطلب منكم أن تكونوا المؤمنين الثَّابتين على خطّ الإيمان، وأن تواجهوا كلَّ تحدّيات الكفر، وسيكون عليكم أن تخوضوا كثيراً من المعارك المتنوّعة من أجل أن تحافظوا على إيمانكم وعلى ثبات أقدامكم في مواقع الزلزال.
{اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}، حاولوا أن تبنوا شخصيَّتكم الإنسانيَّة المؤمنة على أساس الصَّبر. والصَّبر هو حالة إنسانيَّة يستطيع الإنسان معها أن يربّي نفسه على تحمّل الحرمان، لأنَّ زلزال الإنسان إنَّما ينطلق من خلال الحرمان. لماذا ننحرف في كثير من مجالات الحياة؟ لأنَّنا نعيش الإحساس بالحرمان من المال، وهناك من يغرينا بأن يعطينا مالاً مقابل التَّنازل عن إيماننا أو عن بعض مواقفنا أو مواقعنا، لأنَّنا نعيش حرمان الشَّهوة، ولا سيَّما في مرحلة الشَّباب، وهناك من يقدّم إلينا شهواتنا على طبق من ذهب، بشرط أن نتنازل عن شيء من إيماننا ومواقفنا لقاء هذه الشَّهوة.
ونحن في بعض الحالات قد نعيش الحرمان من الجاه، فيأتي بعض النَّاس يقول لك خذ مركزاً هنا، كن نائباً، كن وزيراً، كن رئيساً لهذه الدَّائرة، كن رئيساً لهذا البلد، ولكن بشرط أن تمنحنا هذا الموقف أو ذاك الموقف، أن تبيعنا وطنك، أن تبيعنا أمَّتك، أن تتنازل عن دينك... وما إلى ذلك.
والحرمان هو الَّذي يدفع الكثيرين منَّا إلى الانحراف، وقد قيل بأنَّ النَّاس تستعبدهم حاجاتهم. فما الَّذي يجعل منك عبداً لهذا الإنسان، تذلّ له نفسك، وتخضع له في حياتك، وتتنازل له عن مبادئك وعن أخلاقك؟ ما الَّذي يجعل منك عبداً لهذا الإنسان أو ذاك؟ إنّها حاجتك إليه؛ حاجتك إلى ماله، إلى جاهه، إلى الشَّهوة التي تعيش في أجوائه، حاجتك إلى كلّ ما تريده في حياتك الَّتي قد توجد عند هذا الشَّخص أو ذاك الشَّخص، أو عند هذه الدَّولة أو تلك الدَّولة، أو عند هذه المخابرات أو تلك المخابرات، أو عند هذا الكافر أو ذاك الكافر. إنَّ حاجاتنا هي الَّتي تستعبدنا، لأنَّنا لا نصبر عليها، فنسقط أمام إلحاح هذه الحاجات علينا.
هنا يأتي دور الصَّبر. عندما تجوع، ويكون أمامك مائدة مليئة بأطايب الطَّعام، ولكن بشرط أن تبيع عفَّتك، أو تبيع عزَّتك، أو تبيع حرَّيتك، أو تبيع أخلاقك أو بلدك.. قد تكون مائدة طيّبة، ولكنَّ نهاياتها غير طيّبة، كما يقول الإمام عليّ (ع)، فيما روي عنه في بعض كلماته: "فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَجُوعُهَا طَوِيلٌ"، شبعها قصير، لأنَّها قد تسكت صراخ جسدك في حاجته إلى الطَّعام، ولكنَّ جوعها طويل، لأنَّك تجوع جوعاً روحيّاً، أو تجوع جوع الحريَّة، أو جوع الأخلاق وما إلى ذلك.
لذلك، قد تعيش حياة صعبة، وقد يأتي من يسهّلها لك ولكن بثمن معيَّن.. هنا، في هذا المجال يأتي دور الصَّبر، استعن بالصَّبر، بحيث تلجم جسدك عندما يصرخ في حاجاته، لأنَّك تواجهه بالقضايا الكبرى الَّتي ستخسرها إذا استجبت لندائه.. أن تتحمَّل الكثير من الحرمان، حتّى لا تحرم نفسك من حرّيتك أو دينك أو آخرتك.
في بعض الحالات قد تربح الدّنيا، ولكنَّك في المقابل تخسر آخرتك. وما قيمة دنيا تمتلئ بكلّ ما تحبّه وتريده، إذا كان ثمنها أن تخسر رضوان الله وتخسر آخرتك؟! وقد قال عليّ (ع) فيما يروى عنه: "مَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ، وَمَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ"، فإذا عشت الحرمان في حياتك من أجل القضايا الكبيرة، وكانت النَّتائج هي الجنَّة، فأيّ قيمة لهذا الحرمان إذا كنت ستعيش في الآخرة النَّعيم الخالد؟! والعكس صحيح أيضاً، فما قيمة كلّ ما تحصل عليه من الدّنيا، إذا كنت ستلقى في الآخرة نار جهنّم؟! ما قيمة كلّ تلك اللَّذَّات والشَّهوات أمام عذاب الآخرة؟!
ابنوا شخصيَّتكم الإنسانيَّة المؤمنة على أساس الصَّبر وذلك بتحمّل الحرمان
مقارنة وموازنة
لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يربّي نفسه على الصَّبر على أساس دراسة، وعلى أساس وعي ومقارنة، أن تقول لنفسك، إنّي إذا أكلت هذا الطّعام، أو توظَّفت هذه الوظيفة، أو حصلت على هذه الفرصة، أو ارتبطت بهؤلاء الَّذين يملكون الواقع السياسي أو الاجتماعي من دون أساس، فما هي أرباحي؟ ولو أني تركتها فما هي أرباحي؟ واحسب في ذلك أرباح الدّنيا والآخرة، ولا تحسب أرباح الدّنيا وحدها.
هناك حديث عن رسول الله (ص) يتحدَّث فيه عن بعض ما يحدث فيما يستقبله النَّاس من الزَّمان، يقول (ص) فيما يروى عنه: "سَيأتي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ لا يُنالُ المُلكُ فيهِ إلَّا بالقَتلِ والتَّجَبُّرِ، ولا الغِنى إلَّا بالغَصبِ والبُخلِ، ولا المَحَبَّةُ إلَّا باستِخراجِ الدّينِ واتّباعِ الهَوى – بمعنى أنّه قد يحبّك النَّاس، وتصبح عندهم مألوفاً ومحبوباً، إذا كنت تستخرج دينك من قلبك ومن حياتك، وإذا كنت تجاريهم وتميل معهم في أهوائهم.
- فَمَن أدرَكَ ذلكَ الزمانَ، فَصَبرَ علَى الفَقرِ وهُو يَقدِرُ علَى الغِنى – إذا صبر على الفقر في طاعة الله، وكان يقدر على الغنى في معصية الله.
- وصَبَرَ علَى البغْضَةِ وهُو يَقدِرُ علَى المَحَبَّةِ - إذا كان يلتزم بالدّين التزاماً بحيث يكرهه النَّاس بسببه، لأنّه يقول الحقّ، ويحتاط في دينه، فيصبح عندهم ثقيلاً لا يطاق، فهو لا يسايرهم في لهوهم وعبثهم وطريقتهم في الحياة على حساب دينه. ولذلك ترى بعض النَّاس يقول: أنا لا أستطيع أن أعيش هكذا وحدي، أريد لعائلتي أن ترضى عنّي، وكذلك أهل بلدي والنَّاس من حولي، فيصبح، كما يقول الشَّاعر: إذا الرّيحُ مالتْ، مال حيثُ تميلُ.
- وصَبَرَ علَى الذُلِّ - يعني الانكماش عن الواقع، والبعد عن الملك والسّلطة - وهُو يَقدِرُ علَى العِزِّ، آتاهُ اللّه ُثَوابَ خَمسينَ صِدِّيقاً مِمَّن صَدَّقَ بي". وهذا واقع نعيشه، وإن لم يكن الأمر دائماً على هذا النَّحو، فقد يحصل الإنسان على الغنى من الوسائل المحلَّلة، وقد يصل إلى موقعٍ أو سلطةٍ من دون محرَّم، وقد ينال محبَّة النَّاس من غير أن يتنازل عن دينه ومبادئه، ولكنّ النبيّ (ص) يريد أن يشير إلى أنَّ الوضع العامّ قد يصبح كذلك: فإذا انتشر الفساد في النَّاس إلى هذا الحدّ، ووجدت نفسك تقف بين خطَّين: إمَّا أن تفقد دينك، أو حرّيّتك، أو كرامتك، أو قضاياك الكبرى... وإمَّا أن تفقد حاجةً أو شهوةً أو فرصةً من فرص الدّنيا، فهنا يكون الامتحان، وهنا يأتي معنى الصَّبر الحقيقيّ، أن تكون قويَّ الشَّخصيّة ثابتاً، أن تكون نفسك أقوى من حاجاتك، وسيّداً على شهواتك ولذّاتك، فإذا جاءتك شهواتك لتبتعد بك عن طريق الله، فقل لها إنَّ هناك في الآخرة شهوات لا يبلغها إلَّا الَّذين أمسكوا في الدّنيا عن شهواتهم المحرَّمة، وإذا جاءك شيطانك يقول لك انطلق في هذه اللّعبة أو تلك لتحصل على الموقع الكبير، قل له إنَّ في الآخرة موقعاً عند الله لا يناله إلَّا الَّذين رفضوا المواقع الكبيرة لحساب مبادئهم الكبيرة، هؤلاء الَّذين ينالون الدَّرجة العليا عند الله.
اختبارٌ للنَّفس
إنَّ علينا دائماً أن ندخل في مقارنة في كلّ ما نقوم به؛ هل ما أقوم به يرضي عنّي فلاناً أم يرضي الله سبحانه؟ وأعتقد، أيُّها الأحبَّة، أنّنا نفقد التَّوازن في حياتنا من خلال هذا الشَّيء؛ أنَّنا نجد الله في نفوسنا أهون علينا من أيّ إنسان. ولنختبر أنفسنا الآن، وهذه عمليَّة تحتاج إلى تفكير ودقَّة: لو دار الأمر بين أن يرضى عنك فلان ممن يملك المال الكثير، أو يملك المنصب الخطير، أو يملك المصالح الكثيرة للنَّاس، وبين أن يرضى عنك الله، ماذا تجد في نفسك؟ لنرجع إلى أنفسنا، سنرى أنّنا نحاول أن نقنع أنفسنا بأنَّ علينا أن نرضي فلاناً، لأنَّ لنا مصالح عنده، ولأنَّ لنا عيالاً، ولأنَّ لنا قضايا، أمّا قضيَّة الله سبحانه وتعالى فنتسامح فيها، وليست مشكلة عندنا أن يغضب الله علينا. إنَّ الكثيرين من النَّاس ينطلقون في خطّ المعاصي الَّتي يفقدون بها دينهم والتزامهم، من أجل أن يحصلوا على فرصة هنا أو فرصة هناك، أو حاجة هنا أو حاجة هناك.
ولذلك، لا بدَّ أن نلتفت إلى ما يركّز عليه القرآن دائماً في أن نربّي عظمة الله في نفوسنا، بحيث ندخل دائماً في مقارنة بين الله وبين أيّ شخص من عباده، بين حاجتنا إلى الله - وكلّ حياتنا حاجة إلى الله - وبين حاجتنا إلى الآخرين، بين مستقبلنا مع الله وبين مستقبلنا مع الآخرين. كم هو حجم مستقبلك مع الآخرين؟ سنة؟ سنتان؟ عشر سنين؟ عشرون سنة؟ ولكنَّ مستقبلك مع الله هو امتداد الدّنيا وامتداد الآخرة. فكيف يمكن أن تفضّل مستقبلاً محدوداً بحجم معيَّن لحساب شخص لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً إلّا بالله، وتترك مستقبل الخلود لمن يملك كلّ أمرك، لأنَّه يملك كلَّ حياتك وموتك؟! ما قيمة قدرة إنسان أمام قدرة الله، وما قيمة عزَّة إنسان أمام عزَّة الله؟ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26]. إنَّ الله يخاطب النَّاس، كلّ النَّاس {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[فاطر: 16]. والله يستطيع ذلك بلحظة واحدة. فلننظر، أين الجبابرة، وأين الملوك، وأين كلّ هؤلاء الَّذين تجبَّروا وطغوا وبغوا، أين ذهبوا، وأين مقام الله سبحانه وتعالى؟!
الاستناد إلى قوّة الله
إنَّ الإنسان يحتاج أن يعيش هذه القضايا، أن يتجرَّد من ضغط الواقع عليه، ومن ضغط الأشياء الَّتي تبهر عينيه، والَّتي تغلق قلبه، والَّتي تخيّل إليه أنَّه محشور في زاوية. والله ركَّز لنا معنى، وهو أنَّ الإنسان لا يمكن أن يحشر في زاوية أبداً ما دام يتَّقي الله سبحانه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطّلاق: 2 - 3]. فمهما حبسك النَّاس في زواياهم، فإنَّك إذا انفتحت على ربّك، واتَّقيته، ووثقت به وتوكَّلت عليه، فإنَّه لا بدَّ له من أن يجعل لك المخرج حيث لا مخرج.
هذا النَّوع من التَّأمّل الرّوحيّ والتَّفكير، ومن المحاسبة الدَّقيقة والمقارنة بين قوَّة الله وقوّة العبد، يجعل لنا إحساساً بالقوَّة أمام كلّ من يريد أن يفرض علينا الضّعف، وبذلك نستطيع أن نواجه أنفسنا في شهواتها الَّتي تريد أن تنحرف بنا عن الطَّريق بقوّة، وهذا هو الجهاد الأكبر؛ أن تجاهد نفسك وتخضعها، فإمَّا أن تكون سيّد نفسك، أو يكون طعامك وشرابك ولذَّاتك وشهواتك هي الَّتي تحكمك، فإمَّا أن يحكمك عقلك، أو يحكمك جسدك وهواك.
والله سبحانه ركّز لنا هذه المسألة، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}[النّازعات: 40 - 41]، فإذا خفت مقام ربّك، بأن تترك كلَّ ما لا يرضاه، وأن تفعل كلَّ ما يرضاه، وأن تنهى نفسك عن الهوى، فإنَّ الجنَّة ستكون أمامك، والحصول على الجنَّة ليس أمراً بسيطاً {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر: 20]. وما أقوله لنفسي وأقوله لكم: لنحسب حساب الجنَّة بشكل أساسيّ في حياتنا، فكما تحسب حساب أن يكون لك شقَّة تسكنها، وأن يكون عندك رصيد مادّي لتسهّل أمورك، كذلك احسب حساب نفسك على أساس أن تحصل على الجنَّة وعلى رضوان الله سبحانه.. لا تحسب حساب أولادك وزوجتك وعيالك فقط على أساس الدّنيا، كلّ منّا يفكّر أن يكون أهله رابحين في الدّنيا، ولكن من منّا يفكّر في ربح الآخرة؟ {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر: 15].
سبيل الانتصار على الأهواء
فنحن نحتاج أن نمنح أنفسنا فرصة أن نفكّر تفكيراً جدّيّاً في القضايا، وأن نبتعد عن مجال اللَّغو واللَّهو والكلام الَّذي لا يفيد ويغرينا بالمعصية، وأن نجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى. ولذا ورد أنَّ "تفكُّرُ سَاعةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ"، لأنَّ هذه السَّاعة قد تقلب كلَّ حياتك، وقد يفتح لك هذا التَّفكّر الهادئ طريقاً يؤدّي بك إلى النَّجاة في الدّنيا والآخرة، بينما تبعدك الغفلة الدَّائمة عن نفسك. إنَّ الفرق بين التَّفكير وبين الانجرار إلى الجوّ، أنَّك بالتَّفكير تعيش نفسك، وتكون أنت الَّذي تتَّخذ القرار وتقتنع، بينما عندما تكفّ عن التَّفكير وتسير مع النَّاس، فمعنى ذلك أنَّك تكون صورة عن النَّاس ولا تكون صورة عن نفسك، والإنسان الَّذي يحترم نفسه، هو الَّذي يجعل صورة نفسه من خلال ما يقتنع به وما يريده هو.
ولذلك يقول الله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ}، هناك أشياء تستطيع أن تستعين بها بالنَّاس لينصروك على هذا أو ذلك، لكن إذا أردت ما ينصرك على نفسك، فالصَّبر هو الَّذي يعينك، وقوَّة الإرادة الّتي تمثّل شخصيَّتك، فالشَّخص الصَّابر هو الَّذي يملك نفسه، والشَّخص الجازع هو الَّذي لا يملك نفسه، هذا هو الفرق {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].
وهناك تفسير لكلمة الصَّبر أنَّ المراد بها الصَّوم، باعتبار أنَّ الصَّوم أيضاً حركة صبر، فالإنسان قد يحسّ بالجوع فيصبر عليه، ويحسّ بالعطش فيصبر عليه، ويحسّ بالشَّهوة فيصبر عليها، وكلّ هذه الأمور بين يديه، فالصَّوم هو حركة صبر، ودوره أن يقوّي ملكة الصَّبر في نفس الإنسان.
لا يمكن أن يحشر الإنسان في زاوية أبداً ما دام يتَّقي الله سبحانه
الاستعانة بالصّلاة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}. الصَّلاة أيضاً بحسب مضمونها ومفهومها، وبحسب آفاقها وعمقها في النَّفس ودورها في التربية، هي معراج روح المؤمن إلى الله، لأنَّ هناك صبراً أعمى وهناك صبر مبصر؛ الصَّبر الأعمى هو الصَّبر الَّذي لا ينطلق من رسالة، وإنما ينطلق من حالات ذاتيَّة، أمَّا الصَّبر المبصر، فهو الصَّبر المنفتح على الله، أن تصبر لأنَّ الله أراد لك ذلك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[النّحل: 127].
فالصَّلاة تغني عقلك وقلبك وحياتك بالله، وتجعلك تشعر أنَّك في رعاية الله في كلّ مواقع حياتك، وأنَّك في عنايته، وأنَّك تنطلق من تدبيره، فإذا تركك النَّاس فلن يتركك الله، وإذا حاصرك النَّاس، فإنَّ الله يرفع عنك هذا الحصار، وإذا أراد النَّاس أن يذلّوك، فإنَّهم لا يستطيعون ذلك إذا أراد الله أن يعزَّك، لأنَّ الصَّلاة تقول لك بلسانك "الله أكبر"، ولأنَّ الصَّلاة تقول لك بلسانك فيما تقرأه من كتاب ربّك إنَّه "الرَّحمن الرَّحيم"، وإنَّه "ربّ العالمين"، وإنَّه "مالك يوم الدّين". من الَّذي يملك ما لا يملكه الله؟ ومن له هذه السّلطة على العالمين كلّهم؟ من هو الَّذي يساوي الله في عظمته؟!
وأنت عندما تنفتح على أنَّ الله ربّ العالمين، فمعنى ذلك أنّه لا فرق بينك وبين أيَّة قوَّة عظمى في العالم، سواء كانت ظاهرة كونيَّة أو دولة أو شخصاً أو جماعة، لأنَّنا جميعاً مربوبون لله، لا فرق بين أحد وأحد في كونه مربوباً لله، وأنَّ الله ربّه. وعندما تنفتح على يوم الدّين، يوم الجزاء، يوم يقوم النَّاس لربّ العالمين {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19]، فالله هو مالك ذلك كلّه، الله هو الَّذي يملك يوم القيامة، وليس هناك إلَّا الله سبحانه وتعالى في يوم القيامة، لا يوجد أحد، حتَّى الأنبياء والملائكة كلّهم {مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ}[المؤمنون: 57]، فهو مالك يوم الدّين، وإذا كان هو مالك يوم الدين، فعليك عندما تقف هناك أن تحذر من عذابه، لأنَّه لن ينجيك أحد من عذابه إذا أراد أن يعذّبك، وعليك أن ترجو ثوابه، لأنَّه الرَّحمن الرَّحيم.
الخضوع لله وحده
فهذا التَّفكير يفرّغ نفسك من أيّ شعور بالخضوع للنَّاس، وخصوصاً عندما تقرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[الفاتحة: 5] الّتي تعني أنّنا نعبدك ولا نعبد غيرك. والعبادة تعني الطَّاعة والخضوع، وتعني أن تتنازل عن بعض إنسانيَّتك وعن بعض موقعك أمام الآخرين، بينما أمام الله، تكبر إنسانيَّتنا كلَّما كبرت عبوديَّتنا له، لأنَّ الله هو سيّدنا، وهو ربّنا من حيث إنَّه خلقنا، أمَّا النَّاس الآخرون فما قيمتهم؟ نحن أحرار أمام كلّ النَّاس، فإذا كنت حرّاً أمام النَّاس، وإذا كنت تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، يعني أعبدك ولا أعبد غيرك، فإنّك تلتزم على نفسك التزاماً أساسيّاً، أنَّك لن تخضع لغير الله على حساب الخضوع لله أبداً.
وكذلك {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة: 5]، فليس معناها فقط أنّنا نستعين بك، بل معناها أنّنا نستعين بك ولا نستعين بغيرك، فأنت المقصد، وأنت الأساس في كلّ ما نطلب العون فيه، لأنَّك أنت الَّذي تملك الدنيا والآخرة، وتملك الكون كلَّه وتملك الحياة كلَّها. لذلك، النَّاس أدوات وليسوا هم الَّذين يعينوننا.
ثمَّ تبدأ تطلب من الله أن يهديك الصّراط المستقيم، صراط الإيمان، صراط الخير، صراط التَّقوى، صراط الَّذين أنعم الله عليهم بهداه وبدينه، لا صراط الَّذين غضب عليهم لأنَّهم جحدوه، أو الَّذين تاهوا ولم ينطلقوا على هداه سبحانه وتعالى.
إنَّ الصَّلاة تعطيك ثقافة علاقتك بالله، وثقافة علاقتك بالنَّاس، وكيف تكون هذه العلاقة، تعطيك ثقافة الطَّريق الَّذي يجب أن تسلكه في الحياة، وتعطيك ثقافة الحريَّة كما تعطيك ثقافة العبوديَّة؛ متى تكون عبداً مخلصاً لله، ومتى تكون عبداً آبقاً من الله سبحانه وتعالى.. إنَّك بالصَّلاة تملك حريّتك أمام النَّاس كلّهم، عندما تملك الإخلاص في عبوديَّتك لربّك.
ولذلك، فإنَّ الصَّلاة تثقّف العقل والقلب، وتثقّف حركتك في الحياة وإرادتك. وهنا يأتي الصَّبر، ليستمدَّ من الصَّلاة قوَّته وروحيَّته وآفاقه الواسعة، ويعطي الصَّلاة منه التزاماً وموقفاً وثباتاً.
انفتح على أنَّ الله ربّ العالمين، فستجد أنّه لا فرق بينك وبين أيَّة قوَّة عظمى في العالم
مصدر العزَّة والقوَّة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 153]، وأيَّة عزَّة وأيَّة كرامة وأيَّة قوَّة وأيّ عنفوان وأيّ شموخ أن يكون الله معك؟! أمَّا أن يكون فلان معك، فمن هو فلان؟ وأن يكون هذا الشَّخص الكبير معك، فمن هو أمام الله؟! لكن عندما يكون الله معك، فإنَّك تشعر بأنَّك تملك كلَّ مواقع القوَّة. وهذا ما عبَّر عنه نبيّنا (ص) عندما كان في أشدّ ساعات الشّدَّة، كان القوم يبتعدون عنه بضع أقدام أو أقلّ من ذلك، وكان صاحبه يحسّ بالقلق والخوف والحزن، وهو (ص) يعيش الطّمأنينة الروحيَّة والسَّكينة الإلهيَّة {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التّوبة: 40].. وأنت تستطيع، إذا كنت الإنسان الصَّابر، أن تقول إنَّ الله معنا، وإذا كان الله معك، فما قيمة كلّ الَّذين لا يكونون معك؟!
وهذا ما عبَّر عنه تلميذ رسول الله (ص) وتلميذ القرآن، الإمام عليّ (ع)، عندما قال: "لا يَزِيْدُني كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلي عِزَّةً، وَلا تَفَرُّقُهُمْ عَنّي وَحْشَةً"، فلو اجتمع النَّاس عليَّ أو تفرَّقوا عني، فإنّي أبقى على إيماني كما كان إيماني، وعلى موقفي، وعلى قوَّة موقفي. وهكذا كان يقول للنَّاس – لأنَّ عليّاً (ع) لم يكن يريد هذا الموقف القويّ لنفسه فحسب -: "أيُّها النَّاسُ، لا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ"، وكان يقول لولده: "وَلَا يؤنسنَّك إلَّا الحقّ، ولا يوحشنَّك إلَّا الباطل".
بشرى للصَّابرين
هذا هو الخطّ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ - مِنْ هؤلاء الَّذين صبروا في سبيل الله، فلاقوا وجه الله بالشَّهادة، لا تقولوا إنَّهم أموات - بَلْ أَحْيَاءٌ - فهم الأحياء عند ربّهم، وإن كنتم لا تشعرون بذلك، لأنَّكم تقيسون مسألة الموت والحياة بما ترونه أمامكم، ولكن الحياة عند الله تختلف في شكلها وطبيعتها وقوَّتها عن الحياة عندكم - وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ}[البقرة: 153- 154]، لقد صبروا، ولذلك أعطاهم الصَّبر حياة ممتدَّة في الآخرة.
ثمَّ يقول الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ - نتيجة التحدّيات الّتي يواجه فيها الكفر الإيمان – وَالْجُوعِ - في الحصار الاقتصاديّ، أو فيما أشبه ذلك من المشاكل الاقتصاديّة - وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * - الَّذين لا يسقطون أمام هذا البلاء، بل يبقون الثَّابتين - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ - نحن ملك الله، وإذا كنَّا ملك الله، فعلينا أن نسلّم له أمرنا، والله لا يريد بنا إلَّا الخير في كلّ أمورنا - وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: 155 - 156]، مهما حلَّ بنا من البلاء، فإنَّه لن يدوم، فسنرجع إلى ربّنا ليعطينا أجر ذلك كلّه.
وهنا يأتي الوسام الإلهيّ العظيم لهؤلاء الصَّابرين: {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة: 157]، فالله سبحانه يصلّي على الصَّابرين كما يصلّي على أنبيائه، والله صلَّى على أنبيائه لأنَّهم صبروا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}[الأحقاف: 35]. فالله سبحانه وتعالى لا يعطي الأنبياء منحة، بل لأنّهم صبروا، ولأنَّهم عبدوه، ولأنَّهم بلَّغوا رسالاته، ولأنَّهم عاشوا القوَّة في إيمانهم {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}[الأحزاب: 39]، فالله أعطاهم لأنَّهم ساروا على الدَّرب المستقيم، ولذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزّمر: 65]. فالنّبيّ بشر، ولكن هو في الدَّرجة العليا من البشريَّة ومن الطَّاعة، ومن معرفة الله، ومن الصَّبر على الشَّدائد، والنَّبيّ (ص) يقول: "مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ"، أوذي (ص) وصبر على الأذى في خطّ الرّسالة، وبالصَّبر استطاع الأنبياء أن ينطلقوا في رسالاتهم. فالله يصلّي على كلّ صابر {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} الَّذين يسيرون في طريق الهدى.
الأقوياء في الإيمان
هذا الخطّ الإلهيّ الَّذي نعيشه في أجواء الصَّوم الَّتي هي أجواء الصَّبر في شهر رمضان، يفرض علينا أن نخضع خضوعاً كاملاً لمثل هذه التَّربية، لأنَّنا نواجه في الحياة كثيراً من التحدّيات الدَّاخليَّة والخارجيَّة. ألم يحدّثنا رسول الله (ص) عن الجهاد الأصغر، وهو جهاد الأعداء، فيما يحتاجه من الصَّبر، ويحدّثنا عن الجهاد الأكبر، وهو جهاد النَّفس الَّذي يحتاج إلى الصَّبر؟!
وكما أنَّنا نطلب من الله أن ينصرنا على أعدائنا، فعلينا أن نطلب منه أن ينصرنا على أنفسنا.. ألا نقول في الدّعاء: "وأعنّي على نفسي بما تعين به الصَّالحين على أنفسهم"، "وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفسي"، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}[يوسف: 53]. فالإنسان يستعيذ بالله من شرّ نفسه كما يستعيذ به من كلّ جبَّار فاجر، وعدوّ قاهر، وسلطان جائر، لأنَّ هذا يريد أن يهلكك في الدنيا، ونفسك تريد أن تهلكك في الدّنيا والآخرة.
لذلك، نحتاج إلى وعي مسألة الصَّوم ومسألة الصَّبر. وكما قلت لكم، أن ندخل دائماً في عمليَّة المقارنة عندما نقدم على شيء، أو عندما نرفض شيئاً، أن نستحضر الآخرة والله في حساباتنا، فنحن دائماً نضعف لأنَّنا لا ندخل الله ولا مسألة الآخرة في حساباتنا، لكن عندما ندخلهما، تتوازن عندنا الحسابات، عندما نحسب حساب النَّار وغضب الله وسخطه علينا.
وعلى هذا الأساس، لا بدَّ أن ننطلق من خلال الصَّبر لنكون الأقوياء في إيماننا، فلا نسمح لأحد بأن ينتقص من هذا الإيمان في نفوسنا، وأن نكون الأقوياء في مواقفنا، والأقوياء في قضايانا وتطلّعاتنا، لأنَّ الأعداء يراهنون على الزَّمن في الوصول إلى ما يريدون، باعتبار أنَّ النَّاس عندما يطول الزَّمن على المشكلة، يتعبون ويسقطون أمامها، ولذلك يطرحون كلَّ التَّنازلات في مقابل أن يستريحوا من هذه المشكلة أو تلك.
تعب الدّنيا وراحة الآخرة
ولكنَّ القضيَّة الَّتي يجب أن يدرسها النَّاس، كما قلنا في بداية الحديث، أنَّ هذه الحياة ليست حياة الرَّاحة، ولكنَّها حياة التَّعب. إنَّ الله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]، والكبد هو المشقَّة والتَّعب، فأنت تولد مع التَّعب، حيث تتعب أمّك في ولادتك، وتتعب أنت أيضاً في عمليّة الولادة، وبعد ذلك تبدأ المتاعب عندك...
فالحياة ليس فيها راحة مطلقة، فهناك راحة محدودة، وهناك راحة مطلقة، الرَّاحة المحدودة هي راحة الدّنيا، أمَّا الرَّاحة المطلقة فهي راحة الآخرة.. وقد يكون عندنا مشكلة صغيرة، وقد تكون المشكلة كبيرة. مشكلتنا الصَّغيرة هي هذه المشاكل الّتي نعيشها في أوضاعنا الذاتيَّة الفرديَّة، أمّا المشاكل الكبيرة، فهي مشاكل الحريَّة والعدالة، والكفر والاستكبار، هذه المشاكل الَّتي تضغط على حياتنا كلّها وعلى مستقبلنا.
ولذلك، علينا أن نفكّر أنَّنا عندما نحلّ مشكلة، ولا سيَّما إذا كان العدوّ هو الَّذي يحلّها، فقد نتفادى مشكلة لنقع في مشكلة أكبر.
مثلاً، في أيَّام الأتراك، أيَّام الحكومة العثمانيَّة، كان النَّاس يتصوَّرون أنَّهم إذا خرجوا من حكم الأتراك، الّذي كان عنوانه حكماً إسلاميّاً، لكنَّهم - مع الأسف - انطلقوا من تركيَّتهم أكثر مما انطلقوا من إسلامهم، وهذا هو الَّذي أسقط حكم الخلافة العثمانيَّة، لكنَّ النَّاس كانوا يتصوّرون أنَّهم إذا تخلّصوا من حكم الأتراك، فإنَّ ما ينتظرهم هو الجنَّة الموعودة. وجاء الإنكليز إلى الشَّريف حسين في ذلك الوقت في مكَّة، وقالوا له إنّهم مستعدّون أن يساعدوهم ويتعاونوا معهم للتّخلّص من الحكم العثماني ليعطوهم الحريَّة. وقاتل العرب مع البريطانيّين.. فماذا حصل بعد ذلك؟ صاروا كالمستجير من الرّمضاء بالنّار، كما قال الشَّاعر:
| المستجيرُ بعمروٍ عندَ كُرْبَتِهِ |
كالمستجيرِ مِنَ الرَّمضاءِ بالنَّارِ |
| دَعَوْتُ عَلَى عَمْرٍو فَمَاتَ فَسَرَّني |
فَعَاشَرْتُ أقواماً بَكَيْتُ عَلَى عَمْرو |
| رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَّما |
صُرْتُ في غَيرِهِ بَكَيْتُ عَلَيهِ |
فإحساس الإنسان بالمشكلة الآنيَّة يجعله يتصوَّر المستقبل على طريقة الأحلام الخياليَّة. عليك أن تدرس الواقع، ادرس طبيعة المشكلة الَّتي أنت تعيشها، وادرس نتائج الحلّ، فربَّما يخلق لك مشكلة أكبر، وربما يحاصرك حصاراً أقوى.
لذلك، علينا دائماً أن لا نستغرق في الزَّمن الّذي نعيش فيه، وفي المشكلة الَّتي نواجهها، بل علينا أن ندرس مشاكل المستقبل. وهذا هو منطق الوعي الإسلاميّ، وهذا هو منطق الوعي السياسي، أن يكون للأمَّة وعي سياسيّ. هناك فرق بين اللّعبة السياسيَّة الَّتي ترتكز على النّفاق وعلى اللّفّ والدَّوران، وبين السياسة الَّتي ترتكز على أساس التَّخطيط للمستقبل، وإيجاد العناصر القويَّة للأمَّة لكي تستطيع أن تقف بقوَّة في مواجهة التَّحدّيات، أن لا تدرس موقعك كفرد، بل لا بدَّ أن تدرس موقعك كأمَّة.
* من خطبة الجماعة لسماحته للرّجال في مسجد الإمام الرّضا (ع) في بئر العبد، بتاريخ: 26/02/1993م.