بالعودة إلى الذّاكرة، وإلى أرشيف خطب الجمعة لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، نستحضر المواقف والمواعظ المهمة الّتي ألقاها في الخطبة الدّينيّة لصلاة الجمعة، بتاريخ 22 جمادى الأولى العام 1420ه/ الموافق 3/9/1999م، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، حيث تحدَّث في الخطبة عن العديد من النقاط الأخلاقية التربوية من الزاوية الإسلامية، ومنها الانشغال بعيوبنا، وعدم التطلّع إلى عيوب الآخرين، وذلك بما ينسجم مع الأخلاقيات الإسلامية والإنسانية العامّة. قال سماحته:
"من أخلاق الإسلام في حركة التربية الإسلامية، أن يحدّق الإنسان دائماً بنفسه، بحيث تكون نفسه شغله الدّائم، فيحاول أن يفهم نفسه، ويدرس ما هي أفكاره على مستوى العقيدة، هل إن فكره هو فكر الحق، وعلى أيّ أساس أسّس هذا الحقّ في الفكر، أو أن فكره فكر الباطل من خلال ما ورثه، أو من خلال ما اجتذبه مما حوله؟! بحيث يكتشف عيوب فكره ليصلحها، ثم يدرس قلبه، لأنّ القلب هو مركز العاطفة، فالحبّ والبغض يتحركان في نبضات القلب الإيجابية أو السلبية، ونحن نحبّ كثيراً ونبغض كثيراً، وإنسانيتنا تنطلق في هذا الاتجاه. لذا، لا بدّ لنا من أن ندرس ما هي عيوبنا العاطفيّة، وعلى أيّ أساس كان هذا الحبّ أو البغض، هل إنّه يرتكز على أساسٍ ينسجم مع الإيمان أم لا؟.. فإذا رأيت عيباً في عاطفتي، بأن رأيت حبّاً لا مكان له في معنى إيماني وإنسانيّتي، أو رأيت بغضاً لا مكان له في معنى إنسانيّتي وإيماني، فعليّ أن أحرّر نفسي منه.
وعندما ينطلق الإنسان بالكلمات، فقد يكون هناك عيوب فيها وفي مفرداتها وأسلوبها، وهكذا بالنّسبة إلى الأعمال، مما يتطلب أن تعرف عيوبك في كلماتك وشهواتك ولذّاتك وطعامك وشرابك، وعيوبك في العلاقات مع الناس، هل تحترمهم أم أنّك تهينهم، هل تعيش التكبر على الناس الذين تظنّ أنهم أقلّ منك شأناً، أم أنك تعيش التواضع؟ إنّ على الإنسان أن يدرس نفسه، لأنه إذا عرف نفسه بكلّ عيوبها، فإنه يستطيع أن يعالج هذه العيوب، ولا سيما أنّ العيوب الفكرية والعاطفية والكلامية والعملية أخطر من العيوب الجسدية، ولأنك في العيوب الجسدية، قد تعيش مشكلة تخصّك أنت، أما بالنّسبة إلى العيوب الأخرى، فإنها قد تحطّم مصيرك في الدنيا والآخرة.
لذلك، فإنَّ مسألة أن تدرس نفسك بالطريقة التي تشغلك عن كثير مما حولك، هي مسألة أساسية في التربية الإسلامية، لأنك إذا فهمت نفسك، فإنك تملكها وتعرف كيف تعيش مع الناس".
ويشير سماحته إلى ضرورة دراسة ما نحن عليه بغية معرفة أنفسنا جيداً، واتخاذ ما يناسب من مواقف وسلوكيات:
"هناك كثير من الأشياء نأخذها من دون اختيار، وربما ورثناها من خلال بيئة البيت الذي نعيش فيه، مثلاً قد نرث بعض عواطف البغض أو الحبّ للآخرين من دون أن نعرف لماذا نحبّ فلاناً أو نبغض فلاناً، وهذا ما نعيشه في الحساسيات العائلية التي تُبعد العائلات عن بعضها البعض، وأغلبها يعود إلى مشكلة تاريخية بين عائلة وأخرى، والقرآن يقول: {ولا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى}، فنحن في تركيبتنا الذهنية والعاطفية، نرث أحقاداً فردية واجتماعية ومذهبية وسياسية ولا يد لنا فيها، لكن الذين تقدّمونا صنعوا هذا الحقد، ودورنا أننا ورثناه..
والمشكلة أننا لا نختار عواطفنا، بل إنها تُفرض علينا، لذا لا بدّ من أن نكتشف في أنفسنا كيف فُرض علينا هذا الإحساس السلبي أو الإيجابي تجاه الآخرين، وقد نرث بعض الأفكار التي نحملها، وهي أفكار التخلّف، على طريقة: {إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون}، وإذا أراد أحد أن يصحّح هذه الأفكار، فإنه يُتَّهم بالكفر والضّلال، والله يقول: {أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} {أولو جئتكم بأهدى ممَّا وجدتم عليه آباءكم}، فكما نفتّش عن البضاعة الأفضل في السّوق، علينا أن نفتّش في سوق الفكر والوعي عن البضاعة الفكريّة الأفضل."
ويضيف سماحته، بأنّ الانشغال بعيوبنا عن عيوب الآخرين، هو ما تركز عليه التربية الإسلامية الأصيلة، عارضاً لجملة من الأحاديث الشريفة المتعلّقة بالعديد من النقاط :
"لذلك، ركزت التربية الإسلامية على أن تُشغل نفسك بعيوبها لتفهمها، ولا تشغل نفسك بعيوب الآخرين، إلا إذا أردت إصلاحهم، ولا بدّ من أن نقف عند بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت(ع) المرويّة عن رسول الله(ص) لنعطي الفكرة. يروي الإمام الباقر(ع) هذا الحديث عن رسول الله(ص)، فيقول: "قال رسول الله(ص): ثلاث خصال من كنَّ فيه أو واحدة منهن ّ،كان في ظلّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم - بأن يحبّ لإخوانه ما يحبّ لنفسه - ورجل لم يقدِّم رجلاً ولم يؤخِّر أخرى حتى يعلم أنَّ ذلك لله رضى، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيبٍ حتّى ينفي ذلك العيب عن نفسه - فقبل أن تعيب أخاك بأيّ عيب، عليك أن تعصم نفسك عنه وعن غيره من العيوب - فإنَّه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن النّاس".
وفي حديث عن الإمام الباقر(ع) قال: "سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول، إنّ رسول الله(ص) مرّ بنا فوقف وسلّم، ثم قال: ما لي أرى حبّ الدّنيا قد غلب على كثير من الناس؟! طوبى لمن شغله خوف الله عزّ وجلّ عن خوف النّاس - فهناك كثير من الناس يخافون ممن يملك سلاحاً أو موقعاً متقدِّماً أو من المخابرات، أو أنّه يخاف من الطّفل الصّغير أن يمارس أمامه معصية، ولا يخاف من الله تعالى، ولا يستحي منه عزّ وجلّ، {يستخفون من النّاس ما لا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول} - طوبى لمن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه"، بحيث يشتغل بعيوبه عن عيوب الآخرين.
وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "كفى بالمرء عيباً أن يتعرّف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه - أنت تعمى عن عيوبك، ولكنّك تفتح عينيك على عيوب الآخرين - أو يعيب النّاس على أمر هو فيه لا يستطيع التحوّل عنه إلى غيره - بحيث يتهم الناس ببعض العيوب الموجودة فيه، وهو ليس مستعداً أن يصلح نفسه - أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه". وعن أمير المؤمنين(ع) في "نهج البلاغة" قال: "وإنما ينبغي لأهل العصمة - هذا الشخص الذي يهذّب نفسه ويؤدّبها، كيف ينبغي أن تكون نظرته إلى عيوب بعض الناس؛ هل يتعامل معها بروحية التدمير، أو بروحية الرحمة التي تنفتح على التّفكير بالهداية؟ - والمصنوع إليهم في السلامة، أن يرحموا - لاحظوا هذه الروح الإنسانية العالية، هذه الروح التي لا تعيش ذهنية التدمير للناس الذين يخطئون، بل تعيش روحية الرحمة لهم. فتعالوا نرتفع إلى هذه الروح وهذا السموّ والصّفاء، وهذه القيم الرائعة التي استمدّها عليّ(ع) من انفتاحه على الله تعالى - أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم"، بأن يشكر الله الذي عافاه مما ابتلى به غيره، لأن المعصية بلاء، وليس معنى الرحمة أن تعذره، بل أن تدرس الأجواء التي دفعته إلى المعصية لتبعده عنها..
ويتابع الإمام عليّ(ع): "فكيف بالعائب الذي عاب أخاه وعيّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه، ما هو أعظم من الذنب الذي عاب به - فقد تعيب أخاك بالصغائر وأنت ترتكب الكبائر - وكيف يذمّه بذنب ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذّنب بعينه، فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه. وأيم الله، لو لم يكن عصاه في الكبير، لقد عصاه في الصّغير، ولجرأته على عيب النّاس أكبر. يا عبد الله - وهو خطاب موجه إلى كلّ عبد لله - لا تعجل في عيب عبد بذنبه فلعلّه مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلّك معذّب عليه. فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم به من عيب نفسه، وليكن الشّكر شاغلاً له على معافاته مما ابتلي به غيره".
ويختم سماحته بالتوصية حول التخلّق بأخلاق أهل الجنّة:
"هذه هي الخطوط الأخلاقية الروحية التي يريدنا الإسلام أن نتحرّك فيها في الجانب الإيجابي، وأن نبتعد عنها في الجانب السلبي، لأنّ الله يريدنا أن نعيش جهاد النفس وتزكيتها وتنقيتها وتصفيتها، حتى نقف بين يديه بقلب سليم من كلّ ما يغضبه. ألا يريد كل واحد منا الجنة؟ فلا بدّ من أن نتدرب على أخلاق أهل الجنّة، نتدرّب على المحبّة والانفتاح على الناس بقلوب خالية من الحقد والبغضاء، والدنيا تذهب وتسير، وعلينا أن نتذكّر أننا سنقف أمام الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون {إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم}.