يذكِّرنا القرآن الكريم بما مرّ على أقوام بعض الأنبياء قديماً، وحال هؤلاء الأقوام مع رسلهم، على سبيل الاتّعاظ من كلّ ذلك، وتبيان الحقّ والباطل، وتثبيت الإيمان في قلوب النّاس، والإشارة إلى قدرة الله تعالى وعظمته وسلطانه، وتصرّفه المطلق في أمور البلاد والعباد.
إنهم قوم عاد الّذين كفروا بنبيّهم هود(ع) ولم يستجيبوا لدعوته، بل استجابوا لمنطق باطلهم وفسادهم وعلوّهم، مستندين جهالةً وتخلّفاً إلى قوّتهم وجبروتهم، حيث عاشوا عمى البصيرة، وغشاوة البصر، وغياب التعقّل، وتصحّر المشاعر والأحاسيس.
يقول الله في كتابه العزيز: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ*قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ الله وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ*فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ*تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف: 21- 25].
وفي تفسيره لما تقدّم من آيات مباركة، يقول سماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض):
"{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ}، وهو النبيّ هود(ع)، الّذي كان من هؤلاء القوم في نسبه، {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ}، وهي المنطقة الّتي كان يسكنها قومه في جنوب الجزيرة العربيّة، {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، فقد جاء على فترة من الرّسل، فلم يكن زمانه قريباً من زمانهم، ولم يكن في زمانه أحدٌ منهم، وكان أساس دعوته التّوحيد الّذي يختصر منهج العقيدة الفكري، ومنهج الممارسة العملي.
{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله}، وقد نلاحظ أنّ الدّعوة إلى توحيد الله في العبادة، تحمل إيحاءً عميقاً بأنَّ العقيدة ليست حالةً تجريديّةً في الفكر، بل هي حالةٌ حركيّةٌ في العقل وفي الحياة، {إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أعدَّه الله للجاحدين به...
{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا كذباً وافتراءً، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، لأننا لا نرى في كلامك إلا التّهويل الذي تسعى من خلاله إلى التأثير فينا بالضّغط النّفسي... {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ الله}، فلا أملك تفاصيل علم الغيب الّذي أحدّثكم عنه، لأنّه ليس علماً ذاتيّاً أملكه، بل هو علمٌ يأتيني من ذي علمٍ، {وَأُبَلّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} من الله العليم الحكيم القادر ...{وَلَكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}، لأنّكم لا تواجهون الأمور المطروحة عليكم بجدّيةٍ ومسؤوليّةٍ كما يفرض العقل..
ونزل العذاب، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}، فقد جاء إليهم في صورة سحاب يعرض في الأفق، ثم يمتدّ في الفضاء المطلّ عليهم، ليستقبل الوديان الّتي كانت تنتظر المطر الّذي يملأ الينابيع ويروي الأرض، {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}، فاستقبلوه باستبشار، ولكنّ المسألة ليست كذلك {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ* تُدَمّرُ كُلَّ شَيْء بِأَمْرِ رَبّهَا}، فقد استعجلتم العذاب ظنّاً منكم أنّه لن يجيء، وها هو أمامكم، فكيف تواجهونه؟ وكيف تثبتون أمام التحدّي؟ {فَأصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ}، فقد هلك كلّ شيء فيها من النّاس والدوابّ والأموال، {كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} الّذين يحركهم في الحياة منطق الجريمة في مواجهة الرّسالة، بالاستسلام لرخاء الحياة من حولهم".]تفسير من وحي القرآن، ج 21، ص 33 - 35[.
وفي تفسير ما تقدّم من آيات، يقول فخر الدّين الرازي: "اعلم أنّه تعالى لما أورد أنواع الدلائل في إثبات التوحيد والنبوّة، وكان أهل مكّة بسبب استغراقهم في لذّات الدّنيا واشتغالهم بطلبها، أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إليها... فلمّا كان الأمر كذلك، بيّن أنّ قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوّةً وجاهاً منهم، ثم إنّ الله تعالى سلَّط العذاب عليهم بسبب شؤم كفرهم، فذكر هذه القصّة ههنا ليعتبر بها أهل مكّة، فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدّنيا، ويقبلوا على طلب الدّين، فلهذا المعنى، ذكر الله تعالى هذه القصّة في هذا الموضع..
قال المفسّرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من وادٍ يقال له المغيث: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} استبشروا و{قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} والمعنى ممطر إيّانا، قيل: كان هود قاعداً في قومه، فجاء سحاب مكثر فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}، فقال: بل هو ما استعجلتم به من العذاب. ثم بيّن ماهيّته فقال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}".[تفسير الرّازي، ج28، ص27 ـ 28]
توضح لنا هذه القصّة عظمة الله وقدرته على إهلاك المفسدين والظّالمين في كلّ زمان ومكان، وفي ذلك كلّ الدروس لنا كي نتوب إلى الله ونهتدي بهداه، ونسير في سبيله بقلوب مستنيرة وعقول واعية، وأن نكون ممن يستحقّون رضا الله ورحمته في الدّنيا والآخرة، ومن العاملين الواعين الّذين يحركون عقولهم وحركتهم وموقفهم من أجل نصرة الحقّ وإماتة الباطل، ومواجهة الكفر والجهل والفساد.
إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنَّما عن وجهة نظر صاحبها.