في القرآن الكريم، يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى أكثر من حديث عن يوم القيامة، وكيف يعيش الناس ذلك الموقف، وكيف يفكّرون عندما يواجهون نتائج أعمالهم، وكيف يبدأون بنقد أنفسهم عندما كانوا في الدنيا، لأنّ نتائج أعمالهم هناك هي الَّتي جعلتهم يواجهون هذا الموقف الصعب في الآخرة، وقد حدّثنا الله تعالى عن ذلك، من أجل أن ننتبه في الدنيا إلى مثل هذه الأمور، حتى لا نضطرّ إلى أن نقف في الآخرة هذا الموقف الصَّعب.
فنجد، مثلاً، آية تحدّثنا عن أنَّ مشكلة الإنسان في النتائج السلبيَّة التي عاشها في الآخرة هي أصدقاؤه، لأنَّ أصدقاءه استغلّوا الجوّ العاطفي الذي يحكم علاقة الصديق بصديقه، فحاولوا أن يدخلوا إلى عقله ليزرعوا فيه بذرة الفكرة الشرّيرة، وأن يدخلوا إلى قلبه ليزرعوا فيه بذرة العاطفة الشرّيرة، ودخلوا إلى حياته ليملأوها بالأعمال الشريرة، وبالمواقف الشريرة، وليضعوه في المواقع الشريرة، ولينحرفوا به عن الخطّ المستقيم في عملية إيحائية بالخطّ المنحرف.
ولقد حرّك القرآن هذه المسألة بطريقة تصوير موقف النَّدم الذي يحرق القلب ويهزّ الأعماق، حتى إنّ الإنسان يعضُّ على يديه، ويكاد يقطع أصابعه من إحساسه بالنّدم، وينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، وهذا هو قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}. والظالم هو الظالم لنفسه، الذي ظلم نفسه بالكفر إذ اختار الكفر، أو ظلم نفسه بالضلال إذ زاغ عن الحق، أو ظلم نفسه بالانحراف إذ ابتعد عن خطّ الاستقامة.
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيل}[الفرقان: 27]، يا ليتني سرتُ في الخطِّ المستقيم الذي رسمه لي الرسول من خلال ما بلغه من وحي الله... لأنّ الله تعالى ربط بين محبّة الناس له وبين اتباع الناس للرَّسول {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران: 31].
{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيل}، لأنَّ الرسول جاء إلى النَّاس بالحياة الروحيَّة التي تعمّق للناس الإحساس بالحياة المادية، لتجعل في المادة فيما تأكل وفيما تشرب وما تتلذَّذ، شيئاً من الروح.
وهذا ما نلاحظه في أنّ الله عندما أرادنا أن نستحلّ الذبيحة، أن نذكر اسم الله عليها، حتى يشعر الإنسان بأنّه عندما يستحلّ ذبح الحيوان الذي تضجّ الحياة في داخل جسده، فإنّه يستحلّه باسم الله، ليكون هذا اللَّحم الذي تأكله من هذا الحيوان مغسولاً باسم الله وبمعنى الله.
وهكذا، أرادنا الرسول (ص) أن نبدأ باسم الله في كلّ شيء، وأن نحمد الله على كلّ شيء، وأن نسبّح الله في كلّ إحساس بالعظمة، وأن نشكر الله في كلّ إحساس بالنعمة، وأن نأخذ الحول والقوّة من الله عندما نحسّ بالضعف. وهكذا أراد لك الإسلام أن تتحرّك في حياتك الماديّة من خلال المعنى الروحي، فالأكل فيه شيء من الروح، والشّرب فيه شيء من الرّوح، وحتى اللّذات الجسديَّة الأخرى فيها شيء من الروح، فأنتَ يستحبّ لك ـــ رجلاً كنتَ أو امرأة ـــ أن تذكر الله سبحانه وتعالى حتى في ممارسة الجنس، وأن تتحدَّث بأنَّك إنّما استحللت ما استحللت بكلمة الله وباسم الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]، الحياة الروحية التي تنفتح على العلم وعلى الفكر وعلى الأخلاق، والتي تنفتح على خطّ الاستقامة على كلّ شيء في الحياة.
{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيل}، لأنّ الرسول جاءني من قبل الله سبحانه وتعالى بخير الدنيا والآخرة.
لماذا لم تتّخذ سبيلاً مع الرسول، والرسول كان بذاته يسير مع الناس ويجلس معهم ولا يترفَّع عليهم "كان فينا كأحدنا"؟ لماذا لم تتّخذ سبيلاً مع الرسول؟!
وإذا كان الرسول قد غاب بشخصه، فإنّه لم يغب بقرآنه وبسنّته وبأخلاقه وبسيرته، والله تعالى يحدِّثنا عن الرسول كما لو كان حيّاً بيننا، فيقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِير}[الأحزاب: 21].
{يَا وَيْلَتَى}، أي النداء بالويل والثبور وعظائم الأمور {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيل}[الفرقان: 28] وليتني لم أصادق فلاناً ولم أصاحب فلاناً. وتقول المرأة ليتني لم أتزوّج فلاناً، وربّما يقول الرجل ليتني لم أتزوّج فلانة ولم أتبعها، لأنّ المخالَلة تشمل ذلك كلّه. ماذا فعل فلان معك عندما اتّخذته صديقاً؟ {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ}، أبعدني وضيّعني عن ذكر الله {بَعْدَ إِذْ جَاءنِي}، وعندما ضللت تبرّأ منّي، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُول}[الفرقان: 28]، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الحشر: 16].
وهكذا نفهم من خلال هذا الموقف في يوم القيامة، كيف يطلّ الله بنا من خلال القيامة على حركتنا في الدنيا، ليقول لنا حاولوا أن تختاروا أصدقاءكم وأصحابكم وأزواجكم من خلال الخطّ المستقيم الذي انتميتم إليه، لتستعينوا بهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما رمى إليه الإمام عليّ (ع) أيضاً: "صاحب أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشرّ تبنْ عنهم" .
إذاً، نفهم من خلال هذا النصّ القرآنيّ، أنّ علينا أن لا نعتبر مسألة الصَّداقة مسألة يفرضها الواقع الاجتماعي من خلال علاقات النَّاس بعضهم مع البعض الآخر، بل هي مسألة لا بدَّ أن يدخل فيها عقلك ليوجِّه قلبك، ويدخل فيها قلبك ليوجِّه حياتك وحركتك، لأنَّ قصة العقل ليست خاضعة للبيئة الَّتي تعيش فيها، ولكن للمسؤوليَّة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذا الإشراق الفكريّ لتسير من خلاله إلى الله سبحانه وتعالى. وهكذا قلبك، فهو ليس خفقة تنطلق من شيء تشاهده فيعجبك، ولكنّه ينطلق من معاناة في دراسة عمق العاطفة حتى تعقّل عاطفتك، لأنّ العاطفة الهوجاء التي تعيش في فوضى النظرات والكلمات والأجواء، هي عاطفة تقتل صاحبها بدلاً من أن تحييه.
وعلى ضوء هذا، فإذا كنّا نريد أن ننفتح على الموقف الذي نشعر فيه بالطمأنينة في يوم القيامة، فعلينا أن نرتّب أمورنا في صداقاتنا الشخصيَّة وصداقاتنا الاجتماعيَّة وصداقاتنا السياسيَّة وصداقاتنا الثقافيَّة، وكلّ صداقة يمكن أن تترك تأثيرها على عقولنا في خطّ الانحراف والكفر، وعلى قلوبنا في خطّ الانحراف العاطفي، وعلى حياتنا في خطّ الانحراف العملي.
* من كتاب "النَّدوة"، ج 3.