في ذكرى رحيلِ المرجعِ فضل الله: ما سرُّ هذا الحضورِ؟!

في ذكرى رحيلِ المرجعِ فضل الله: ما سرُّ هذا الحضورِ؟!

عندما تزداد سنوات الغياب ـ عن الأحبّة ـ قد يخفّ وهج العاطفة والشّوق، وتبرد المشاعر والأحاسيس، ولكنّنا في ذكرى السيّد (رض)، وفي ظلّ ما نلمسه في وعي النّاس المحبّين وكلماتهم، نرى الأمر مختلفاً، فقد مضت إحدى عشرة سنة على غيابه، لكنّ حضوره لا يزال يزداد تألّقاً.

ترى ما سرّ هذا الحضور؟! أهو سرّ الكلمة الطيّبة التي رسّخ جذورها في أعماق النّاس الذين أحبّهم، أم هو تحمّله كلّ مشقّات العمر، ليعطيهم كلّ شيء، ويخفّف من معاناتهم وآلامهم في كلّ قضاياهم الصّغيرة والكبيرة؟!

هذه مواقف تكشف بعض أسراره.. لكنّ سرّه الأكبر كان في فهمه العميق للإسلام في معانيه التحرّرية، ومقاصده الإنسانيّة، وغناه الرّوحيّ والأخلاقيّ، عندما زاوج بين الدّين والحياة، بين الدّين والعقل، بين الدّين والعلم.. لقد قدَّم الدّين الذي ينفتح على الآخر ويمدّ جسور التّواصل معه.. الدّين الّذي ينفتح على آلام الإنسان الآخر، بعيداً من كلّ العناوين التي يصنّف النّاس على أساسها.

بدأ بمؤسّسات الخير، وهو أرادها المؤسّسات الرحبة، ووقف مع النّاس في كلّ الظروف والملمّات، وفي أقصى اللّحظات التي تتصل بمستقبلهم ومصيرهم، ولم يتركهم حتى في أشدّ الظّروف حراجةً.. يشهد بذلك المسجد الذي أحبّه وأراده أن يضمّ ضريحه (مسجد الحسنين).. يشهد أنّه قضى أيّاماً طويلةً من حرب تموز 2006، رغم تدمير العدوّ لكلّ العمران من حوله، ليكون مع الثلّة الباقية من النّاس أو المجاهدين الّذين كانوا يدافعون عن الوطن.

هذا هو سرّه الذي جذب العقول، وأيقظ الأرواح، واستنهض الأنفس، وشحذ الهمم.

هو في كلّ ذلك لم يكن يريد مجداً شخصيّاً، ولا زعامة حزب أو حركة، كان يريد للإيمان أن تتّسع مساحته، وللنفوس أن تتنفّس الحريّة، وللعقول أن تفكّر... كان يريد للناس أن يكونوا أحراراً، أعزّاء، لا خشبةً تتقاذفها الرياح.

لم يجامل السيّد ولم يساوم أحداً على المبادئ؛ كان قويّاً بالله، لم يجامل استكباراً ولا احتلالاً ولا ظلماً، رفض كلّ المغريات، ولم يأبه لكلّ التهديدات، ولم يحل دونه في ذلك عنوانٌ، حتى عنوان المرجعيّة، عن أن يقول حقّاً أو يدفع باطلاً.. حين قال له بعض محبّيه في العراق بعد الاحتلال الأميركيّ، أن لا يتحدّث بسوء عن هذا الاحتلال، لأنّه سحق الطّاغية، فقال لهم: الاحتلال ليس جمعيةً خيريةً.. قالوا له: سوف تفقد مقلّديك وتتأثّر مرجعيّتك بهذا الموقف، فقال لهم: إذا تعارضت المرجعيّة مع الحقّ ومع رضا الله، فإني أضعها تحت قدمي

لم يجامل في الفكر، كان حريصاً على أن يقدّم للنّاس فكراً صافياً نقياً لم يتلوّث بتفريط أو غلوّ أو تكفير أو خرافة، وكان يواجه كلّ ذلك، حتى لو رجمه الراجمون، ووصفوه بنعوت الضّلال والتّكفير، وحتى عندما راحوا يزوّرون تاريخه.. ومع ذلك، كان يقول: أستطيع أن أجامل وأن أكون مع التيّار السّائد، ولكن كيف سأواجه ربي عندما يسألني: لماذا لم تقدِّم الحقائق التي آمنت بها للنّاس؟

سنتابع مسيرته

وفي المجال الفتوائيّ أيضاً لم يجامل، فهو حين كان يقتنع بفتوى تستند إلى أدقّ المعايير العلميّة، كان يطلقها.. لم يأبه لحساسيات أو لضغوط التقليديّين، وكان يقول: ما دامت الفتوى تعالج مشكلات النّاس في العالم كلّه، وما دمت محرزاً للشّروط التي تعذرني أمام الله، فإنّ مسؤوليّتي الشرعيّة إظهارها للنّاس.. وكان يعلنها من دون أن يخاف في الله لومة لائم.

لقد أثبت السيّد القدرة، وهو العالم المرجع الشيعي، على أن يخترق الجدران المنصوبة بين الطوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة، وأن يصل إلى الجميع، وأن يحترم الجميع، وهذه ظاهرةٌ لا بدّ من أن تدرَس ويحتذَى بها.

سنبقى نستلهمه في أن نقدّم الإسلام الأصيل، والصورة المشرقة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولصحابته المنتجبين وللأئمّة الهداة الميامين، لنؤكّد من خلال ذلك قدرة الدّين، من خلال فكره ورموزه، على بناء حياة بعيدة عن كلّ أجواء الكراهية والحقد والانغلاق، التي يسعى المشوّهون لهذا الدّين إلى أن يقدّموه بها، بحيث يبدو معها مشكلةً للحياة بدلاً من أن يكون حلاً لها.

وسنستلهم في ذلك نهجه الحواريّ، باستخدام الكلمة الطيّبة، والجدال بالتي هي أحسن، والحوار الذي لا يستفزّ الآخر أو يستخفّ به، الحوار الذي ينطلق من فكرة أن ليس هناك من يمتلك الحقيقة الكاملة.

سوف نتابع مسيرته في أن نعزّز سبل الوحدة الوطنيّة، والوحدة الإسلاميّة، ووحدة الديانات، والوحدة الإنسانيّة، أن نقف في وجه دعوات التّمييز على أساس طائفيّ أو مذهبيّ أو قوميّ أو عرقيّ أو غير ذلك من التصنيفات، وفي وجه كلّ الدعوات التي تستغلّ الأديان والمذاهب لغايات ومصالح خاصّة.

ونحن نرى أنّ لبنان، ورغم ما يصيبه من شدائد ومحن، يمكنه أن يشكّل هذا الأنموذج الإنسانيّ في صياغته لوحدته، وبناء دولة الإنسان التي أرادها السيّد، إن تحرّر القادة الدينيّون والزعماء السياسيّون والنخب الثقافية والاجتماعية من عصبيّاتهم الطائفيّة التي أوصلت البلد إلى ما نحن عليه، واستندوا إلى القيم التي تحملها الديانات السماويّة، فعاشوها واستلهموها في حياتهم، بحيث لا تعود الأديان، كما هي الآن، كيانات لتجمعات بشريّة طائفيّة لا مضمون إيمانياً وقيمياً وإنسانياً لها، وعنواناً لتقاسم الحصص والنفوذ، بل يتعامل بعضها مع بعض من المنطلقات الإيمانيّة، ولن تتحقق هذه الغاية الرسالية الإيمانية للدّيانتين، إلّا عندما نصل إلى المرحلة التي يحرص فيها المسلمون على المطالبة بحقوق المسيحيّين وحقوق الآخرين، ويحرص فيها المسيحيّون على المطالبة بحفظ حقوق المسلمين ومن معهم في الوطن، بحيث يعيش الجميع في ظلال دولة الإنسان، دولة القيم، دولة العدالة.

ونحن أيضاً سنواصل دعوتنا لكلّ الّذين يتولّون مواقع المسؤوليّة في هذا العالم العربي والإسلاميّ، إلى أن لا يشعروا أحداً بالغبن في وطنه وبالمظلوميّة، بحيث تنتقص حقوقه الإنسانيّة، لأنّ الغبن هو مشروع فتنة ومشروع حرب نعيش وقائعه في هذه المرحلة، في الطّاحونة الدائرة في عالمنا العربيّ والإسلامي، والّتي استدعت التدخلات الدولية للعبث باستقرار الأوطان والمكوّنات الطائفية والاجتماعية والسياسية فيها.

وسنواصل نهجه في تعزيز روح المقاومة في لبنان وفلسطين، في مواجهة العدوّ الصّهيوني، ورفض مخطّطات التبعيّة والتّقسيم، والوقوف مع كلّ الشعوب التي تدافع عن حريتها وحقّها في العيش الكريم، وإحساسها بإنسانيّتها وكرامتها.

سوف نواصل معاً حفظ المؤسّسات التي كانت من الناس وإليهم، سنحفظ معاً الأيتام والفقراء والمحتاجين والمعوّقين، الّذين كان هدف رعايتهم، ولا يزال، حفظ إنسانيّتهم وكراماتهم، وحفظ المجتمع من خلالهم.

*جريدة اللّواء، بتاريخ: 2 تمّوز 2021م.

عندما تزداد سنوات الغياب ـ عن الأحبّة ـ قد يخفّ وهج العاطفة والشّوق، وتبرد المشاعر والأحاسيس، ولكنّنا في ذكرى السيّد (رض)، وفي ظلّ ما نلمسه في وعي النّاس المحبّين وكلماتهم، نرى الأمر مختلفاً، فقد مضت إحدى عشرة سنة على غيابه، لكنّ حضوره لا يزال يزداد تألّقاً.

ترى ما سرّ هذا الحضور؟! أهو سرّ الكلمة الطيّبة التي رسّخ جذورها في أعماق النّاس الذين أحبّهم، أم هو تحمّله كلّ مشقّات العمر، ليعطيهم كلّ شيء، ويخفّف من معاناتهم وآلامهم في كلّ قضاياهم الصّغيرة والكبيرة؟!

هذه مواقف تكشف بعض أسراره.. لكنّ سرّه الأكبر كان في فهمه العميق للإسلام في معانيه التحرّرية، ومقاصده الإنسانيّة، وغناه الرّوحيّ والأخلاقيّ، عندما زاوج بين الدّين والحياة، بين الدّين والعقل، بين الدّين والعلم.. لقد قدَّم الدّين الذي ينفتح على الآخر ويمدّ جسور التّواصل معه.. الدّين الّذي ينفتح على آلام الإنسان الآخر، بعيداً من كلّ العناوين التي يصنّف النّاس على أساسها.

بدأ بمؤسّسات الخير، وهو أرادها المؤسّسات الرحبة، ووقف مع النّاس في كلّ الظروف والملمّات، وفي أقصى اللّحظات التي تتصل بمستقبلهم ومصيرهم، ولم يتركهم حتى في أشدّ الظّروف حراجةً.. يشهد بذلك المسجد الذي أحبّه وأراده أن يضمّ ضريحه (مسجد الحسنين).. يشهد أنّه قضى أيّاماً طويلةً من حرب تموز 2006، رغم تدمير العدوّ لكلّ العمران من حوله، ليكون مع الثلّة الباقية من النّاس أو المجاهدين الّذين كانوا يدافعون عن الوطن.

هذا هو سرّه الذي جذب العقول، وأيقظ الأرواح، واستنهض الأنفس، وشحذ الهمم.

هو في كلّ ذلك لم يكن يريد مجداً شخصيّاً، ولا زعامة حزب أو حركة، كان يريد للإيمان أن تتّسع مساحته، وللنفوس أن تتنفّس الحريّة، وللعقول أن تفكّر... كان يريد للناس أن يكونوا أحراراً، أعزّاء، لا خشبةً تتقاذفها الرياح.

لم يجامل السيّد ولم يساوم أحداً على المبادئ؛ كان قويّاً بالله، لم يجامل استكباراً ولا احتلالاً ولا ظلماً، رفض كلّ المغريات، ولم يأبه لكلّ التهديدات، ولم يحل دونه في ذلك عنوانٌ، حتى عنوان المرجعيّة، عن أن يقول حقّاً أو يدفع باطلاً.. حين قال له بعض محبّيه في العراق بعد الاحتلال الأميركيّ، أن لا يتحدّث بسوء عن هذا الاحتلال، لأنّه سحق الطّاغية، فقال لهم: الاحتلال ليس جمعيةً خيريةً.. قالوا له: سوف تفقد مقلّديك وتتأثّر مرجعيّتك بهذا الموقف، فقال لهم: إذا تعارضت المرجعيّة مع الحقّ ومع رضا الله، فإني أضعها تحت قدمي

لم يجامل في الفكر، كان حريصاً على أن يقدّم للنّاس فكراً صافياً نقياً لم يتلوّث بتفريط أو غلوّ أو تكفير أو خرافة، وكان يواجه كلّ ذلك، حتى لو رجمه الراجمون، ووصفوه بنعوت الضّلال والتّكفير، وحتى عندما راحوا يزوّرون تاريخه.. ومع ذلك، كان يقول: أستطيع أن أجامل وأن أكون مع التيّار السّائد، ولكن كيف سأواجه ربي عندما يسألني: لماذا لم تقدِّم الحقائق التي آمنت بها للنّاس؟

سنتابع مسيرته

وفي المجال الفتوائيّ أيضاً لم يجامل، فهو حين كان يقتنع بفتوى تستند إلى أدقّ المعايير العلميّة، كان يطلقها.. لم يأبه لحساسيات أو لضغوط التقليديّين، وكان يقول: ما دامت الفتوى تعالج مشكلات النّاس في العالم كلّه، وما دمت محرزاً للشّروط التي تعذرني أمام الله، فإنّ مسؤوليّتي الشرعيّة إظهارها للنّاس.. وكان يعلنها من دون أن يخاف في الله لومة لائم.

لقد أثبت السيّد القدرة، وهو العالم المرجع الشيعي، على أن يخترق الجدران المنصوبة بين الطوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة، وأن يصل إلى الجميع، وأن يحترم الجميع، وهذه ظاهرةٌ لا بدّ من أن تدرَس ويحتذَى بها.

سنبقى نستلهمه في أن نقدّم الإسلام الأصيل، والصورة المشرقة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولصحابته المنتجبين وللأئمّة الهداة الميامين، لنؤكّد من خلال ذلك قدرة الدّين، من خلال فكره ورموزه، على بناء حياة بعيدة عن كلّ أجواء الكراهية والحقد والانغلاق، التي يسعى المشوّهون لهذا الدّين إلى أن يقدّموه بها، بحيث يبدو معها مشكلةً للحياة بدلاً من أن يكون حلاً لها.

وسنستلهم في ذلك نهجه الحواريّ، باستخدام الكلمة الطيّبة، والجدال بالتي هي أحسن، والحوار الذي لا يستفزّ الآخر أو يستخفّ به، الحوار الذي ينطلق من فكرة أن ليس هناك من يمتلك الحقيقة الكاملة.

سوف نتابع مسيرته في أن نعزّز سبل الوحدة الوطنيّة، والوحدة الإسلاميّة، ووحدة الديانات، والوحدة الإنسانيّة، أن نقف في وجه دعوات التّمييز على أساس طائفيّ أو مذهبيّ أو قوميّ أو عرقيّ أو غير ذلك من التصنيفات، وفي وجه كلّ الدعوات التي تستغلّ الأديان والمذاهب لغايات ومصالح خاصّة.

ونحن نرى أنّ لبنان، ورغم ما يصيبه من شدائد ومحن، يمكنه أن يشكّل هذا الأنموذج الإنسانيّ في صياغته لوحدته، وبناء دولة الإنسان التي أرادها السيّد، إن تحرّر القادة الدينيّون والزعماء السياسيّون والنخب الثقافية والاجتماعية من عصبيّاتهم الطائفيّة التي أوصلت البلد إلى ما نحن عليه، واستندوا إلى القيم التي تحملها الديانات السماويّة، فعاشوها واستلهموها في حياتهم، بحيث لا تعود الأديان، كما هي الآن، كيانات لتجمعات بشريّة طائفيّة لا مضمون إيمانياً وقيمياً وإنسانياً لها، وعنواناً لتقاسم الحصص والنفوذ، بل يتعامل بعضها مع بعض من المنطلقات الإيمانيّة، ولن تتحقق هذه الغاية الرسالية الإيمانية للدّيانتين، إلّا عندما نصل إلى المرحلة التي يحرص فيها المسلمون على المطالبة بحقوق المسيحيّين وحقوق الآخرين، ويحرص فيها المسيحيّون على المطالبة بحفظ حقوق المسلمين ومن معهم في الوطن، بحيث يعيش الجميع في ظلال دولة الإنسان، دولة القيم، دولة العدالة.

ونحن أيضاً سنواصل دعوتنا لكلّ الّذين يتولّون مواقع المسؤوليّة في هذا العالم العربي والإسلاميّ، إلى أن لا يشعروا أحداً بالغبن في وطنه وبالمظلوميّة، بحيث تنتقص حقوقه الإنسانيّة، لأنّ الغبن هو مشروع فتنة ومشروع حرب نعيش وقائعه في هذه المرحلة، في الطّاحونة الدائرة في عالمنا العربيّ والإسلامي، والّتي استدعت التدخلات الدولية للعبث باستقرار الأوطان والمكوّنات الطائفية والاجتماعية والسياسية فيها.

وسنواصل نهجه في تعزيز روح المقاومة في لبنان وفلسطين، في مواجهة العدوّ الصّهيوني، ورفض مخطّطات التبعيّة والتّقسيم، والوقوف مع كلّ الشعوب التي تدافع عن حريتها وحقّها في العيش الكريم، وإحساسها بإنسانيّتها وكرامتها.

سوف نواصل معاً حفظ المؤسّسات التي كانت من الناس وإليهم، سنحفظ معاً الأيتام والفقراء والمحتاجين والمعوّقين، الّذين كان هدف رعايتهم، ولا يزال، حفظ إنسانيّتهم وكراماتهم، وحفظ المجتمع من خلالهم.

*جريدة اللّواء، بتاريخ: 2 تمّوز 2021م.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية