يعدّ حديث الغدير من أظهر مصاديق ما أُنزل على رسول الله(ص)، وأتمّ به الله
سبحانه وتعالى الحجّة على الناس جميعاً. قال تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
وقد أخرج أحمد بن حنبل بسند صحيح عن زيد بن أرقم قال :"نزلنا مع رسول الله(ص) بواد
يقال له: وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاها بهجير. قال: فخطبنا، وظلّل لرسول الله(ص)
بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال رسول الله: «ألستم تعلمون؟ ألستم تشهدون أنّي
أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟»، قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فإنَّ عليّاً مولاه،
اللّهمّ عاد من عاداه، ووال من والاه».
وأخرج النسائي بسند صحيح عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع رسول الله(ص)
من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن ـ أي فكنسن ـ ثمّ قال: «كأنّي قد
دعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي أهل
بيتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض». ثمّ
قال: «إنَّ الله مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن»، ثمّ إنّه أخذ بيد عليّ (رضي الله عنه)
وقال: «من كنت وليّه فهذا وليّه، اللّهمّ والِ من والاه، وعاد من عاداه».
يقول أبو الطفيل: فقلت لزيد: سمعته من رسول الله؟ فقال: إنّه ـ وفي بعض الألفاظ:
والله، بدل إنّه ـ ما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينه وسمعه بأُذنيه .
قد يتساءل البعض: هل إن حديث الغدير هو نهاية الأحاديث التي وردت في حقّ عليّ(ع)
وبيّنت فضله ودلت على حقه وخلافته بعد رسول الله(ص)؟
يجيب عن ذلك العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، مشيراً إلى الميزان في
هذا الحديث الذي أراده رسول الله وأكّده في كلامه، لجهة تأكيده حقّ علي وفضله. ومن
أبرز ذلك، العلم الذي يحمله عليّ، وهو علم رسول الله، والتزام عليّ بالحقّ، وأمانته
على مسيرة الدين وحركته، لافتاً إلى أن الغدير كان النهاية في الأحاديث. يقول
سماحته(رض):
"كان الغدير النهاية، لأننا نتساءل: ما السبب الذي يدفع النبي(ص) لأن يتحدث عن
علي(ع) بهذه الطريقة، وخصوصاً في قضايا تمسّ المسؤوليّة، فلماذا يقول: "أنا مدينة
العلم وعليّ بابها"، ونحن نعرف أن الموقع الإسلامي الأساس لا بدّ فيه من كفاءة
علمية، بحيث يستطيع الإمام أن يعطي الإسلام لكلّ من يريده، وأن يجيب عن كلّ مسألة،
وأن يحلّ كلّ مشكلة ثقافية.
ولماذا يقول: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيثما دار"، لأنّ الحاكم في
الإسلام لا بدّ من أن يكون حقاً كله، وعليّ(ع) هو القائل: "ما ترك لي الحقّ من صديق".
ولماذا يقول(ع): "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبيّ
بعدي". ونحن نعرف أن هارون كان وزيراً كما في القرآن: {واجعل لي وزيراً من أهلي*
هارون أخي* أشدد به أزري* وأشركه في أمري* كي نسبِّحك كثيراً* ونذكرك كثير}.
لماذا كان يتحدّث بهذه الطريقة المعبّرة عن عمق المعرفة بعليّ(ع) وخصائص علي(ع)؟
وكما أكّدنا، فليست المسألة هي أنّ النبي(ص) كان يعبّر عن عاطفته تجاه علي(ع)،
ولكنه كان يعبّر عن مسؤوليّته في تعميق الفكرة عن عليّ(ع)، فيما يملكه من الخصائص
التي تعينه ليقود المسيرة الإسلاميّة من بعده". [النّدوة /ج4، ص 446].
وحول دلالات حديث الغدير، يقول العلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني: "لم يبق مسلك
للشّكّ في صدور الحديث عن المصدر النبويّ المقدَّس. وأما دلالته على إمامة مولانا
أمير المؤمنين(ع)، فإنا مهما شككنا في شيء، فلا نشك في أن لفظة المولى، سواء كانت
نصاً في المعنى الذي نحاوله بالوضع اللّغوي، أو مجملة في مفادها لاشتراكها بين معان
جمة، وسواء كانت عرية عن القرائن لإثبات ما ندّعيه من معنى الإمامة أو محتفة بها،
فإنها في المقام لا تدلّ إلا على ذلك، لفهم من وعاه من الحضور في ذلك المحتشد
العظيم، ومن بلغه النّبأ بعد حين ممن يحتج بقوله في اللغة من غير نكير بينهم،
وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجالات الأدب حتى عصرنا الحاضر، وذلك حجة
قاطعة في المعنى المراد، وفي الطليعة من هؤلاء، مولانا أمير المؤمنين(ع)، حيث كتب
إلى معاوية في جواب كتاب له من أبيات ستسمعها ما نصّه:
وأوجب لي ولايته عليكم رسول الله يوم غدير خم
ومنهم: حسان بن ثابت، الحاضر مشهد الغدير، وقد استأذن رسول الله(ص) أن ينظم الحديث
في أبيات، منها قوله:
فقال له: قم يا علي؟ فإنّني رضيتك من بعدي إماماً وهادي
ومن أولئك: الصحابي العظيم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، الذي يقول:
وعليّ إمامنا وإمامٌ لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبيّ: من كنت مولا ه فهذا مولاه خطب جليل
ومن القوم: محمد بن عبد الله الحميري القائل:
تناسوا نصبه في يوم خم من البادي ومن خير الأنام
ومنهم: عمرو بن العاصي الصحابي القائل:
وكم قد سمعنا من المصطفى وصايا مخصصة في علي
وفي يوم خم رقى منبراً وبلغ والصحب لم ترحل
فأمنحه إمرة المؤمنين من الله مستخلف المنحل
وفي كفّه كفّه معلناً ينادي بأمر العزيز العلي
وقال: فمن كنت مولى له علي له اليوم نعم الولي
ومن أولئك: كميت بن زيد الأسدي الشهيد 126 ه، حيث يقول:
ويوم الدّوح دوح غدير خم أبان له الولاية لو أطيع
ولكنّ الرجال تبايعوها فلم أر مثلها خطراً مبيع
ومنهم: السيد إسماعيل الحميري المتوفى 179ه، في شعره الكثير الآتي، ومنه:
لذلك ما اختاره ربه لخير الأنام وصيّاً ظهير
فقام بخمّ بحيث الغدير وحطّ الرّحال وعاف المسير
وقم له الدوح ثم ارتقى على منبر كان رحلاً وكور
ونادى ضحى باجتماع الحجيج فجاؤوا إليه صغيراً كبير
فقال وفي كفّه حيدر يليح إليه مبيناً مشير
ألا إنّ من أنا مولى له فمولاه هذا قضاً لن يجور
فهل أنا بلغت؟ قالوا: نعم فقال: اشهدوا غيباً أو حضور
يبلغ حاضركم غائباً وأشهد ربي السّميع البصير
فقوموا بأمر مليك السّما يبايعه كلّ عليه أمير
فقاموا لبيعته صافقين أكفّاً فأوجس منهم نكير
فقال: إلهي! وال الوليّ وعاد العدوّ له والكفور
وكن خاذلاً للألى يخذلون وكن للألى ينصرون نصير
فكيف ترى دعوة المصطفى مجاباً بها أم هباءً نثيرا؟
أحبك يا ثاني المصطفى ومن أشهد النّاس فيه الغدير
ويقول السيد الأميني في موضع آخر:
ولكن حسن اليقين برسول الله(ص)، يلزمنا بالقول بأنّه لم يترك واجبه من البيان
الوافي لحاجة الأمّة. هدانا الله إلى سواء السّبيل. [من كتاب "مفاد حديث الغدير"، ص
2 ، وص 62].
لقد كان عليّ(ع) مسوؤلاً في كلّ مسيرته عن الإسلام والمسلمين. فهل نتمثّل
المسوؤليّة في حرصنا على إسلامنا وواقعنا من الضّياع والتشتّت؟