الرفض: بمعنى الترك. قال ابن منظور في اللّسان: "الرفض تركك الشّيء، تقول: رفضني
فرفضته، رفضت الشيء أرفضه رفضاً. تركته وفرقته، والرفض، الشيء المتفرق والجمع:
أرفاض".
هذا هو المعنى اللغويّ. وأمّا حسب الاصطلاح في الأعصار المتأخرة، فهو يطلق على مطلق
محبي أهل البيت تارة، أو على شيعتهم جميعاً أُخرى، أو على طائفة خاصة منهم ثالثة.
وعلى كلّ تقدير، فهذا الاصطلاح اصطلاح سياسي أُطلق على هذه الطائفة، وهو موضوع لا
كلام فيه، إنّما الكلام في وجه التسمية ومبدأ نشوئها، فإنّنا نرى ابن منظور يقول في
وجه التسمية: "الروافض: جنود تركوا قائدهم وانصرفوا، فكلّ طائفة منهم رافضة،
والنّسبة إليهم رافضيّ. والروافض قوم من الشيعة سمّوا بذلك لأنّهم تركوا زيد بن عليّ.
قال الأصمعي: كانوا قد بايعوا زيد بن عليّ، ثمّ قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل
معك، فأبى وقال: كانا وزيري جدّي، فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضّوا عنه، فسمّوا
رافضة، وقالوا الرّوافض، ولم يقولوا: الرفاض، لأنّهم عنوا الجماعات".
غير أنّ ابن منظور، وإن أصاب الحقّ في صدر كلامه، وجعل للّفظ معنى وسيعاً يطلق على
المسلم والكافر، والمسلم شيعيّه وسنيّه، لكن استشهد على وجه تسمية قسم من شيعة
عليّ(ع) بها بقول الأصمعي، وهو منحرف عن علي وشيعته، فكيف يمكن الاعتماد على قوله،
خصوصاً إذا تضمّن تنقيصاً وازدراءً بهم، وليس ذلك بدعاً من ابن منظور وأضرابه، بل
هو مطرد في كلّ مورد يستشهدون بشيء فيه وقيعة للشّيعة، فترى هناك أثراً من مطعون
إلى منحرف إلى ناصبي إلى خارجي، و"في كلّ واد أثر من ثعلبة". وعلى أيّ تقدير، هذه
الفكرة هي المعروفة بين أرباب الملل في تسمية شيعة الإمام بالرافضة، ونداء محبيه
بالرفضة.
يقول البغدادي في الفرق عند البحث عن الزيدية: "وكان زيد بن عليّ قد بايعه خمسة عشر
ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم على والي العراق، وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام
بن عبد الملك، فلمّا استمرّ القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفي، قالوا له: إنّا
ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر، بعد أن ظلما جدّك علي بن
أبي طالب. فقال زيد بن علي: لا أقول فيهم إلّا خيراً، وما سمعت من أبي فيهم إلّا
خيراً. وإنّما خرجت على بني أُميّة الذين قتلوا جدّي الحسين، وأغاروا على المدينة
يوم وقعة الحرّة، ثمّ رموا بيت الله بالمنجنيق والنار. ففارقوه عند ذلك، حتى قال
لهم رفضتموني، ومن يومئذٍ سمّوا رافضة".
قال البزدوي، أحد المؤلفين في الفرق عند البحث عن مذهب الروافض: "وإنّما سموا روافض،
لأنّهم وقعوا في أبي بكر وعمر، فزجرهم زيد، فرفضوه وتركوه، فسمّوا روافض".
هذا ما لدى القوم من أوّلهم وآخرهم، فقد أخذوا بقول الأصمعي الناصبي في التسمية ومن
لفّ لفّه وحذا حذوه.
نظرنا في الموضوع:
لا أظنّ الأصمعي، وهو خبير في اللّغة، يجهل بحقيقة الحال، ولكنَّ عداءه قد جرّه إلى
هذا التفسير، فإنَّ الحقَّ أنّ الرافضة كلمة سياسية كانت تستعمل قبل أن يولد زيد بن
عليّ ومن بايعه من أهل الكوفة، فالكلمة تطلق على كلّ جماعة لم تقبل الحكومة القائمة،
سواء كانت حقاً أو باطلاً. هذا هو معاوية بن أبي سفيان يصف شيعة عثمان ـ الّذين لم
يخضعوا لحكومة علي بن أبي طالب(ع) وسلطته ـ بالرافضة، ويكتب في كتابه إلى "عمرو بن
العاص"، وهو في البيع في فلسطين: "أمّا بعد: فإنّه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما
قد بلغك، وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة، وقدم علينا جرير بن
عبد الله في بيعة علي، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني، أقبل أُذاكرك أمراً".
ترى أنّ معاوية يصف من جاء مع مروان بن الحكم بالرافضة، وهؤلاء كانوا أعداء علي
ومخالفيه، وما هذا إلّا لأنّ هؤلاء الجماعة كانوا غير خاضعين للحكومة القائمة آنذاك.
وعلى ذلك، فتلك لفظة سياسيّة تطلق على القاعدين عن نصرة الحكومة والالتفاف حولها،
وبما أنّه كان من واجب هذه الجماعة البيعة للحكومة والمعاملة معاملة الحكومة الحقّة،
ولكنّهم لم يقوموا بواجبهم، فتركوه فتفرّقوا عنها، فسمّوا رافضة.
فقد خرجنا بهذه النّتيجة: إنّ كلمة الرفض والرافضة ليستا من خصائص الشيعة، بل هي
لغة عامة تستعمل في كلّ جماعة غير خاضعة للحكومة القائمة، وبما أنَّ الشيعة منذ
تكونها لم تخضع للحكومات القائمة بعد رسول الله(ص)، فكانت رافضة حسب الاصطلاح الذي
عرفت، ولم يكن ذلك الاصطلاح موهوباً من زيد بن عليّ لشيعة جدّه. كيف، وقد ورد ذلك
المصطلح على لسان أخيه محمد الباقر(ع)، الذي توفّي قبل زيد بن عليّ وثورته بستّ
سنوات؟!
روى أبو الجارود عن أبي جعفر(ع): إنّ رجلاً يقول إنّ فلاناً سمّانا باسم، قال: وما
ذاك الاسم؟ قال: سمّانا الرافضة. فقال أبو جعفر ـ مشيراً بيده إلى صدره ـ: وأنا من
الرافضة وهو مني، قالها ثلاثاً.
وروى أبو بصير فقال: "قلت لأبي جعفر(ع): جعلت فداك اسم سمينا به، استحلّت به الولاة
دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال: "وما هو؟" قال: الرافضة، فقال أبو جعفر(ع): "إنّ
سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون، فأتوا موسى(ع)، فلم يكن في قوم موسى أحد
أشدّ اجتهاداً وأشدّ حباً لهارون منهم، فسمّاهم قوم موسى الرّافضة".
وهذه التعابير عن أبي جعفر باقر العلوم(ع)، أصدق شاهد على أنّ مصطلح الرفض ليس وليد
فكرة زيد، وأجلّه عن هذه النسبة والفكرة، بل كان مصطلحاً سائداً في أقوام، فكلّ من
لم يخضع للحاكم القائم، والحكومة السّائدة، وصار يعيش بلا إمام ولا حاكم، سمّي
رافضياً، والجماعة رافضة أو رفضة.
وبهذا الملاك، أطلق لفظ الرافضي على من لم يعتقد بشرعيّة حكومة الخلفاء، حتى شاع
وذاع قبل مقتل زيد كما عرفت وبعده.
فعن معاذ بن سعيد الحميري قال: "شهد السيّد إسماعيل بن محمد الحميري (رحمه الله)
عند "سوار" القاضي بشهادة، فقال له: ألست إسماعيل بن محمد الذي يعرف بالسيّد؟ فقال:
نعم. فقال له: كيف أقدمت على الشهادة عندي، وأنا أعرف عداوتك للسّلف؟ فقال السيّد:
قد أعاذني الله من عداوة أولياء الله، وإنّما هو شيء لزمني. ثمّ نهض فقال له: قم يا
رافضي، فوالله ما شهدت بحقّ، فخرج السيّد (رحمه الله) وهو يقول:
أبوك ابن سارق عنز النبي وأنت ابن بنت أبي جحدر
ونحن على زعمك الرّافضو ن لأهل الضّلالة والمنكر
وروي أنّه كان عبد الملك بن مروان لمّا سمع من الفرزدق قصيدته المعروفة في مدح
الإمام عليّ بن الحسين، قال له: أو رافضيّ أيضاً أنت؟ فقال الفرزدق: إن كان حبّ آل
محمّد رفضاً فأنا هذاك، فقال عبد الملك: قل فيّ مثل ما قلته فيه، وعليّ أن أضعف
عطاءك...
*من كتاب "بحوث في الملل والنحل"،ج1، ص 120-123.