لكلّ جيل مسؤوليَّة من خلال ما يملك من عقل لا بدَّ له أن يحركه في الإبداع، وما يملك من قلب لا بدَّ أن ينبض بالمحبَّة الَّتي تفيض على المجتمع لتصنع منه شيئاً في الرّوح، وشيئاً في الإنسانيَّة يجعلها نبضاً في الواقع يلتقي فيه الإنسان بالإنسان، وفي طاقاته، ليفجّرها فيما ينفع النَّاس، وهذا أبلغ تعبير قرآنيّ لمعنى الحقّ في حركيَّته في الواقع. يقول تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرّعد: 17].
مسؤوليَّة التَّخطيط
لكلّ جيل مسؤوليَّة أن يملأ الحاضر، وأن يخطّط للمستقبل، لأنَّ مسؤوليَّة الأجيال في صنع المستقبل هي مسؤوليَّة التَّخطيط.
ولذلك، فإنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، هي أنَّ كلَّ جيل لا بدَّ أن يصنع التَّاريخ، أن يصنعه من قاعدته الَّتي يؤمن بها، ومن كلّ حركيَّته الَّتي يتحرَّك بها، ومن كلّ المفاهيم الَّتي يوزّعها على كلّ صعيد الواقع، ومن كلّ الإرادة الَّتي تستطيع أن تؤكّد معناها في الموقف الَّذي يملك أن يقول لا عندما تقول اللّا موقفاً للحقّ، ويملك أن يقول نعم عندما تكون النعم موقفاً للعدل.
لذلك، إنَّ علاقتنا بالتّاريخ هي أن نأخذ منه نقاط الضَّوء، عندنا ينطلق ليعطي ضوءاً يمتدّ، لا ضوءاً يخبو في مرحلته عندما تموت المرحلة. إنَّ إضاءات التَّاريخ هي الإضاءات الَّتي ينطلق فيها فكر يضيء، ومحبَّة تشرق، وطاقة تتفجَّر، وقوَّة تتحدَّى.
لذلك، ليس السّؤال كيف صنعوا تاريخهم، حتّى لو كان الحديث عن الكبار الكبار في التَّاريخ، لأنَّنا عندما نسأل في استغراق الذَّات كيف صنعوا تاريخهم، فإنَّنا ننسى صناعة تاريخنا، ونتجمَّد عند تاريخ الماضين، كما كان يحدث في الجاهليَّة، عندما كان الكثيرون يعيشون على ذهنيَّة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزّخرف: 23]، وكان رسول الله يتساءل في خطّ حريّة العقل وحركيَّته وتحدّيه: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ}[الزّخرف: 24]، {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170].
وتبقى العظاميَّة تتحدَّى العصاميَّة، وعندما تأتي العصاميّة بفكر جديد هنا وهناك، يرجمه كلّ العظاميّين بالحجارة.
هذه الذّهنيَّة كانت، ولا يزال لها أكثر من مظهر، كما في السياسة الَّتي تتجمَّد عند القائد البطل الَّذي عاش تاريخه، وصنع فكره.. ولكن ما هو فكركم أنتم، ما هي بطولاتكم الفكريَّة والقياديَّة أنتم؟ البطل لا يختصر الأمَّة ولا يختصر التَّاريخ، ولكنَّه يطلق الخطوة الأولى من أجل أن تنطلق الخطوات الأخرى صناعةً للتَّاريخ.
أيّ بطل أعظم من رسول الله في عقيدتنا؟ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا}[آل عمران: 144]. الرَّسول يموت وتبقى الرّسالة، تنتظر السَّائرين في ضوئها، والمبدعين لحركيَّتها، والَّذين يتطلَّعون إلى الشَّمس، ولا تعشي عيونهم كلُّ مغارات التَّاريخ وكهوفه.
يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: 111]. هذا هو المفهوم القرآنيّ لدراسة التَّاريخ واستيحائه {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]. لقد صنعوا تاريخهم وتحمَّلوا مسؤوليَّته في الخطّ الإيجابيّ هنا والسَّلبيّ هناك، فهل تتحمَّلون أنتم مسؤوليَّة صناعة التَّاريخ؟!
الحربُ عندَ عليّ (ع)
والتَّاريخ ليس سيفاً يُجَرَّد، وربما انطلقنا بفعل تحدّيات السيوف الأخرى، وبفعل تحدّيات الأزمات الأمنيّة الَّتي تحيط بنا من هنا وهناك، حتَّى اختصرنا التَّاريخ بالسَّيف، ولكنّ السَّيف إذا كان لا يفكّر، فهو سيف يغلب عليه الصَّدأ. قيمة سيف عليّ (ع) أنَّه كان سيفاً واعياً يعرف كيف يجرّده، ويعرف المعركة الَّتي يدخلها، والوقت الَّذي يدخل فيه المعركة.. وكان أصحابه - كما جاء في نهج البلاغة - قد استبطأوا إذنه لهم في القتال في صفّين، وقد جاء بهم من أجل أن يقاتلوا معه، وتساءلوا: أكان ذلك شكّاً في أهل الشَّام؟ هل تبدَّلت نظرة عليّ إلى الموقف؟ هل كانت المسألة وضوحاً في الرؤية بأنّ هؤلاء ليسوا على الحقّ، ثمَّ بدأ الشَّكّ يعيش في ذهنه فتوقَّف عن القتال، أم كان ذلك كراهية للموت، لأنَّ الإنسان عندما تكبر سنّه، يحبّ الحياة أكثر؟!
وسمع عليّ (ع) الكلمة، وعظمة عليّ أنَّه، وهو في موقع القيادة والخلافة، كان يريد أن يعطي الأمَّة الوضوح في كلّ مواقفه، لم يكن يريد أن يقول في الكواليس شيئاً وينطلق في العلن ليقول شيئاً آخر، لأنَّ القضيَّة في عليّ، كما هي في رسول الله، هي الحقّ، ولذلك من يلتزم الحقّ، لا يمكن أن يضعه في الضَّباب، و"عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يدورُ مَعَهُ حَيْثُما دَارَ".
سمع (ع) الكلمة، ولم يتشنَّج، ولم يطلب من الشّرطة أن تأتي إلى هؤلاء الَّذين ينقدون موقفه ويتَّهمونه بكراهية الموت، كالكثيرين الَّذين لا يتحمَّلون النَّقد..
ووقف فيهم خطيباً، وقال لهم: "أمَّا قولُكم: أَكُلّ ذلك كراهِيَةً للموتِ؟! فواللهِ ما أُبالي، أَدَخَلْتُ إلى الموتِ أم خَرَجَ الموتُ إليَّ – لأنَّ الموت عندي ليس حالة شخصيَّة أسقط أمامها، بل هو عندي حركة من أجل الرّسالة، والموت من أجل الرّسالة لا يمثّل شيئاً عند الرّساليّين ما داموا في خطّها، لأنَّ الموت يسير بهم إلى رضوان الله تعالى. ولذلك، كنت في كلّ اقتحاماتي للموت، أضع الرّسالة أمامي، ليزحف الموت مع الرّسالة، ليموتَ الأعداء، أو لأموتَ شهيداً.
- وأمَّا قولُكم: شَكٌّ في أهلِ الشَّامِ، فواللهِ ما دَفَعْتُ الحربَ يوماً إلَّا وأنا أطمعُ أن تَلحَقَ بي طائفةٌ، فَتَهتدي بي، وتَعشو إلى ضَوئي، وذلك أحبُّ إليَّ من أن أقتُلَها على ضلالِها، وإن كانت تَبوءُ بآثامِها".
الحرب عند عليّ ليست مزاجاً، هو ليس سفَّاك دماء يحبّ أن يسفك الدّماء ليثبت بطولته؛ إنَّ عليّاً يحبّ النَّاس كلَّهم ولا يريد أن يقتلهم، إنَّه يريد أن يقتل في الكافر كفره قبل أن يقتل الكافر، ويريد أن يقتل في المجرم جريمته قبل أن يقتل المجرم، ولذلك كانت الحرب في فلسفة عليّ (ع) عندما يدفعها، وسيلة ضغط على المتردّدين والحائرين، لعلَّهم يبصرون الضَّوء في فكره وموقفه، فيأتون كما يأتي الَّذي يعيش في الظَّلام، من أجل أن ينفتح على نقطة من النّور هنا وهناك.
إنَّ عليّاً (ع) ليس المحارب في معنى عقدة المحارب في شهوة الحرب؛ إنَّه الرّساليّ الَّذي إذا أرادت الرّسالة الحرب من أجل حمايتها وحماية النَّاس والحياة، أطلقَ الحرب، وإذا أرادت السّلم، أطلق السّلم.
ولذلك، من الخطأ جدّاً أن ننظر إلى عليّ كما لو كان شخصاً محارباً دون أن نضع الرّسالة في قلب الحرب. هذه هي المسألة.
الفكرة تصنع التَّاريخ
لهذا، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نصنع التَّاريخ، عندما نريده أن يكون حيويّاً، أن يكون للإنسان، أن يكون للحياة، فلا بدَّ أن ينطلق من فكرة؛ فكرة على مستوى القاعدة تمتدُّ الخطوط منها إلى كلّ جوانب الحياة. وعندما ينطلق التَّاريخ من الفكرة، فإنَّه يوزّع خطوط الفكرة على كلّ جوانب الحياة، حتَّى إذا تحركت هنا أو هناك، قالت لك الفكرة انظر ما هي علاقة حركتك بالفكرة الَّتي تؤمن بها: "ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: رَجُلٌ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَرَجُلٌ - وهذه هي إيحاءات الفكرة - لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلًا وَلَمْ يُؤَخِّرْ أُخْرَى حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رِضًا أَوْ سَخَطٌ...".
لقد أعطانا الرَّسول (ص) بالإسلام إشارة الانطلاق في التَّاريخ، وكان رسول الحياة كلّها، ولذلك كان الإسلام دين الحياة كلّها، وكان الَّذين انطلقوا من خلال رسالته يتحركون في الأرض عندما يتطلَّعون إلى السَّماء، لأنَّ الله لم ينزل دينه لنخدمه، ولكنَّه أنزل دينه ليخدمنا، فلقد جاء الدّين لخدمة الإنسان، ولم يُرَد للإنسان أن يخدم الدّين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ - في كلّ ما أمراكم به، وفي كلّ ما نهياكم عنه، وفي كلّ ما حدَّداه من مفاهيم، وخطَّطا له من خطوط - إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]، من أجل أن يصنع لكم الحياة الَّتي تعيش بالرّوح، وتنفتح بالفكر، وتتحوَّل بالقوَّة، وتتصلَّب بالإرادة، وتنطلق بالفتوحات؛ فتوحات الفكر في إبداعه، وفتوحات الرّوح بالمحبَّة، وفتوحات الطَّاقة فيما تنتجه مما يغني الحياة والإنسان.
وعيُ الذّكرى
لقد صنعوا التَّاريخ، ونحن نحتفل بذكرى الحسين (ع) في كلّ سنة احتفالاً يغلب عليه الضّعف لا القوَّة، ويغلب عليه الغباء لا الذّكاء. لذلك، الذّكرى تسير ونحن لا نزال واقفين، إنَّها تدعونا: تعالوا إليَّ، ادرسوا ما الآفاق الَّتي انطلقت عندي، وما الخطوط الَّتي حرَّكتها في اتّجاه مستقبلكم، تعالوا إليّ، لا تستهلكوا أنفسكم في الدّموع، أعطوا الدّموع فرصة العاطفة، ولكن لا تكونوا في نطاق الشَّخصيَّة البكائيَّة الَّتي تبكي على كلّ شيء، لقد كانت المأساة في خدمة القضيَّة، ولا بدَّ لكلّ امتدادات المأساة في القلب والرّوح، أن تكون في خدمة القضيَّة، لا أن نكون أناساً نبكي هزائمنا ومآسينا التَّاريخيَّة، نبكي في الوقت الَّذي لا بدَّ أن نعيش الفرح الروحيّ في المأساة، كما عاش الحسين (ع) الفرح الرّوحيّ في المأساة.
الحسين (ع) في أدقّ النّصوص، لم ير باكياً بالطَّريقة الَّتي يتحدَّث فيها النَّاس، عندما ذبُحِ ولده على يديه، وتلك أقسى أنواع المأساة؛ هل لَطَمَ وجهَه؟ وهل ضَرَبَ رأسَه؟ بل انفتح على الله، وعاش معه، وشرع بالفرح بين يديه، وقال: "هَوَّنَ مَا نَزلَ بي أَنَّهُ بِعَيْنِ الله"، فما دمْتُ، يا ربّ، تراني وأنا أتألم وأضحّي، فمرحباً بكلّ هذه المأساة، ما دامت في رضاك، والفرح كلّ الفرح في رضاك.
كان الحسين (ع) يعيش الفرح الرّوحيّ، وعلينا أن نعيش الفرح بالحسين، الفرح بكلّ هذا العنفوان الإسلاميّ الرّوحيّ الَّذي استطاع أن يفتح المستقبل على القضيَّة، حتَّى وهو يهوي صريعاً من أجل القضيَّة، لأنَّ بعض الفتوحات قد تكون فتوحات المستقبل، في الوقت الَّذي ينظر النَّاس إليها أنها هزائم الحاضر.
التَّخلّف المقدَّس؟!
الذكرى، أيُّها الأحبَّة، تنادينا أن لا نفجّر الدّماء من رؤوسنا بسيوفنا، بل أن نفجّرها في رؤوس الّذين يصنعون المأساة في النّاس والحياة.. أمَّا أن تمتدّ السّيوف إلى رؤوسنا، لنتقرَّب بذلك إلى الله، بينما نجلس بعيداً من السَّاحة – وأتحدَّث عن البعض من الأمَّة - لنتحدَّث، ونشغل الفقهاء: ما الدَّليل على حلّيّة هذا وحرمة هذا، أعطونا فتاوى من أجل أن نحلّل هذا أو ذاك، والتخلّف بحاجة إلى فتاوى كثيرة، وقد عاش التخلّف تحت كثير من الفتاوى!
وذلك هو الَّذي جعل التخلّف عندنا مقدَّساً، وأيَّة أمَّة تقدّس التخلّف؟! ولكنَّنا نحاول أن نقدّس الكثير من أوضاع التخلّف!
إصلاح ذهنيَّة الأمَّة
الذكرى تنادينا.. لقد انطلق الحسين (ع)، ليقول لأخيه محمَّد في وصيَّته، وللنَّاس جميعاً: "خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ في أمَّةِ جَدّي"، لم يخرج ليطلب الإصلاح في الإسلام، كما يتحدّث بعض النّاس عن الإصلاح في الدّين، لأنَّ الدّين دين الله، وهو وحي الله، وهو الحقيقة، فهو لا يحتاج إلى إصلاح، بل الإصلاح هو للأمَّة.
كانت المسألة الأساس عند الحسين (ع) هي ذهنيَّة الأمَّة، لأنَّ القرآن وضع لنا منهجاً وخطّاً، أنَّ الواقع هو نتيجة الفكر، ونتيجة الشّعور، لذلك لن يتغيَّر واقعك نحو الأحسن، إذا كان فكرك يعيش في الأسوأ. إذا أردت أن تغيّر الواقع غيّر فكرك، إذا أردت أن تغيّر التَّاريخ، غيّر الفكر السَّلبيّ الَّذي صنع تاريخاً سلبيّاً {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]. إنَّ مبدأ الحركة فكرة، والمسألة هي كيف تصنع فكرك.
إنَّ الحسين (ع) كان يعرف، وهو القائل: "أسيرُ بسيرةِ جَدّي وأبي"، أنَّ عليّاً عندما حكم، أعطى الحريَّة لمن كفَّروه، لم يقاتلهم لأنَّهم اختلفوا معه، أو لأنَّهم أطلقوا كلمات الكفر في وجهه، بل حاورهم، وعندما قاتلهم، قاتلهم لأنَّهم أساؤوا إلى النّظام العامّ للأمَّة، لم يقاتلهم لحسابه، أو لأنَّهم أرادوا أن يسقطوه فكراً وموقعاً، بل قاتلهم لحساب الأمَّة، لأنهم قتلوا خباباً، وقطعوا طرق المسلمين، وبعد أن قتلهم أو قتل الكثيرين منهم، قال كلمته الخالدة، وهو يعطينا الخطَّ في مسألة الحريَّة للفكر الآخر: "لَا تَقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ". هؤلاء قوم لم ينطلقوا من حالة طمع ذاتيّ، ولم ينطلقوا من حالة حقد نفسيّ، لكنَّهم انطلقوا من أجل الحقّ، ولكن لم يعرفوا الطَّريق إليه، ولا الآليَّة التي يستخدمونها لاكتشافه، لذلك "مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ"، حاوِرْهُ، وحاوِلْ أن تضيء إنسانيَّته بإنسانيَّتك: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ". أمَّا "مَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ"، فهو يعيش وضوح الرّؤية للباطل، ولكنَّه يريد أن يخرّب الحياة، فهذا قاتله دفاعاً عن الحياة، لأنَّه يريد أن يسقط الإنسان في إنسانيَّته، ومن أجل حماية إنسانيَّة الإنسان.
لذلك، قال الإمام الحسين (ع) للّذين بايعوه أو أراد لهم أن يبايعوه: "وَأسيرُ بسيرةِ جَدّي وأبي"، وتلك سيرة أبيه وجدّه.
تحديدُ معنى البيعة
لذلك، كان الإمام الحسين (ع) يفكّر في أمَّة جدّه، في هذه الذّهنيَّة المسيطرة على عقولهم. ولعلَّ في العنوان البارز في هذه الذّهنيّة، هو أنهم كانوا يعطون كلمتهم تأييداً هنا ورفضاً هناك، من دون قاعدة ومن دون فكر، كانوا عندما تطرح عليهم البيعة لأيّ شخص، لا يدرسون القاعدة الَّتي تنطلق منها البيعة، ولا شخصيَّة الإنسان الَّذي يبايعونه، لا يدرسون برنامجه، كان المال في جانب، والسَّيف في جانب آخر، واستطاعت ذهنيَّتهم أن تجعل للمال موقعاً في حركة الواقع الَّذي يعيشونه، وللسَّيف موقعاً. ويقال في بعض ألوان البيعة ليزيد، إنّه وقف شخص من قبله، وفي يده صرّة من الدَّراهم، وفي يده الأخرى سيف، وقال: من بايع فله هذا – المال - ومن لم يبايع فله ذاك - السّيف.
وكانت مأساة الواقع الإسلاميّ هي هذه الذّهنيَّة القلقة في تعاطيها مع مسألة البيعة، ولا سيَّما في المجتمع الإسلاميّ الَّذي لا بدَّ أن يعيش القائم على شؤونه قيم الإسلام الروحيَّة والفكريَّة والشّرعيّة، كما كان عليّ (ع) الّذي قال: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ".
هذه هي المسألة؛ أن يقدّم الَّذي يطرح نفسه للبيعة برنامجه للنَّاس، بقطع النَّظر عن صواب البيعة وخطئها، ونحن لا نريد أن ندخل في هذا الاتّجاه، ولكنَّ المسألة هي الذّهنيَّة، وهي الَّتي حكمت أكثر مسار التَّاريخ الإسلاميّ، وهي الَّتي استطاعت أن تربك خطوات الإسلام الشَّرعيَّة والفقهيَّة والكلاميَّة والحركيَّة وما إلى ذلك، وما زال المسلمون يعانون الكثير من ذلك، يقولون لك: بايع، أيّد، أعط صوتك، ولا تسأل... الجوّ هكذا، النَّاس هكذا، الوضع هكذا، و"حشر مع النَّاس عيد"، وكلّ أعيادنا هي في كلّ هذا الغباء الاجتماعيّ الّذي يحشر الإنسان نفسه مع النَّاس، على طريقة ذلك الشَّاعر الجاهليّ الَّذي يقول:
وَمَا أَنَا إلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشِدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
والإمام الكاظم (ع) قال: "أَبْلِغْ خَيْرًا، وَقُلْ خَيْرًا، وَلَا تَكُنْ إمَّعَةً. قُلْتُ: وَمَا الْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: لَا تَقُلْ: أَنَا مَعَ النَّاسِ، وَأَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرٍّ، فَلَا يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ".
أن يكون لك موقفك، أن تكون أنت، أن لا تكون الآخر، أن لا تقول أيَّدت لأنّ فلاناً أيّد، أو لأنَّ العائلة أيَّدَتْ، أو لأنَّ الجماهير أيَّدَت {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111]. قدّم حسابك إلى ربّك: لماذا أيَّدْتَ ولماذا رفضت، قد تعطي كلّ مبرّراتك لي وللآخرين، ولكن ماذا عن الَّذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]؟ كيف تدافع عن نفسك أمامه؟!
لقد أراد الحسين (ع) أن يغيّر هذه الذّهنيَّة، وقال لهم في بعض خطبه، في بداية حركته، ليحدّد لهم لمن البيعة: "مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا، مُسْتَحِلًّا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، كَانَ حَقِيقًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ..."
قدّم (ع) البرنامج في خطّ الفكرة الإسلاميَّة للقيادة الإسلاميَّة كيف تكون، وقدَّم إلى النَّاس صورةً عن الواقع، لأنَّه لم يكن يريد للنَّاس أن يعرفوا الكليَّات، لأنَّ الَّذين يستغرقون في الكليَّات وهم يتطلَّعون إلى الفضاء من دون أن يتطلَّعوا إلى الأرض، لن يستطيعوا إلَّا أن يغرقوا في التَّجريد، ادرس الفكرة، ثمَّ ادرس حركيَّة الفكرة في الواقع.
بين النَّظريَّة والتَّطبيق
وأنا أفهم - والله العالم بحقائق آياته - من قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[البقرة: 129]، أنَّ الكتاب هو خطّ النَّظريّة، والحكمة هي خطّ التَّطبيق، فلا بدَّ أن تعرف الخطَّ النَّظريَّ للفكرة، والتَّطبيق الواقعيّ لها، لأنَّ الكثيرين من النَّاس غرقوا في الباطل وهم يحسبون أنَّه الحقّ، لأنّهم لا يعرفون الحقّ من الباطل. وقد ابتلي عليّ (ع) ببعض أصحابه، عندما دفع عليّ الحرب إلى البصرة في حرب الجمل، حفظاً لنظام المسلمين، جاءه الحارث بن حوط، كما ذكر في "نهج البلاغة"، وقال له: أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة، وأنّنا على حقّ؟ وهم كانوا حوالى أربعين ألفاً أو خمسين ألفاً، كما في الكثيرين الَّذين ينظرون إلى الكمّ ولا ينظرون إلى النّوع، فقال له الإمام (ع): "يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ، فَحِرْتَ؛ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ، فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ، فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ!".
وعندما تريد أن تعرف الحقّ، لا بدَّ أن تعرفه في خطّ النَّظريَّة وفي خطّ الواقع، لأنَّ الآخرين قد يعطون الحقّ بعض لبوس الباطل، ويعطون الباطل لبوس الحقّ، كما صوَّر ذلك أمير المؤمنين، عندما يُمزَج الحقّ ببعض الباطل، ويُمزَج الباطل ببعض الحقّ، ولذلك لا بدَّ أن تحدّق في الواقع كما تحدّق في الفضاء، هذه هي المسألة، ونحن أناس لا بدَّ أن نعيش على الأرض، ولا نريد أن نعيش في السَّماء.
البيعة لأمريكا؟!
لذلك، كان الحسين يريد أن يغيّر هذه الذّهنيَّة، ونحن نريد أن نندفع من خلال هذه المفاهيم الحركيَّة للواقع، لنجعلها إضاءات في الطَّريق، لنواجه واقعنا على مستوى العالم الإسلاميّ كلّه، لنجد أنَّ الظَّاهرة هذه، لا تزال هي الظَّاهرة الشَّاملة، في مسألة القيادة، وفي مسألة الواقع. فالنَّاس لا ينطلقون من موقع فكر يحركونه في اختياراتهم لما يختارونه، إمَّا لأنَّهم لا يملكون حريَّة الكلمة، وإمَّا لأنهم لا يملكون وضوح الكلمة، لأنَّ الكثيرين من هنا وهناك، يحاولون أن يثيروا الضَّباب الثَّقافي والضَّباب السياسي والضَّباب الاجتماعي، ليتحوَّل إلى ظلام أمنيّ في نهاية المطاف.
ولذلك، عندما كان واقعنا يعيش في هذا الاتجاه، قَبِلْنا ما فرضَه علينا الآخرون.. بعد 11 أيلول، وقف الرئيس الأمريكيّ ليقول: إمَّا معنا وإمَّا مع الإرهاب، إمَّا معنا، فقد تحصلون على بعض المنّ والسَّلوى الَّذي في داخله الكثير من الدّيدان، والكثير من الحشرات وما إلى ذلك، قد تأخذون مساعدات تعطون في مقابلها حرّيتكم وثرواتكم وسياساتكم، وإمَّا أن تكونوا مع الإرهاب، بما نقرّره من مفهوم الإرهاب، نحن الَّذين نقرّر المفهوم، ونحن الَّذين نحركه في الواقع، ليس لكم خيار. وقالوا له إنَّ المقاومة شيء والإرهاب شيء آخر، وأجاب بأنّه ليس هناك إرهاب فيه خير وإرهاب فيه شرّ، كلّ الإرهاب شرّ، ولا سيَّما إذا كانت المسألة موجَّهة إلى إسرائيل، الولد المدلَّل أمريكيّاً، والَّتي أعلنت أمريكا أنَّها مستعدَّة أن تدخل حرباً عالميَّة لحسابها، وتحدَّثت الآن عن محور الشّرّ، ولماذا محور الشّرّ؟ لأنَّ الشّرَّ عندها هو معارضة أمريكا، والخير هو الخضوع للسياسة الأمريكيَّة.
وسكت الكثيرون، لولا أصوات حرَّة انطلقت هنا وهناك، بطريقة حييَّة خجولة وشجاعة من خلال بعض الدّول.. وشجَّعه ذلك، فتحدَّث عن الأسلحة النوويَّة، كان يتحدَّث عن مواجهة إيران والعراق وكوريا، لأنها تعمل على صنع أسلحة الدَّمار الشَّامل، وهو يمثّل خطراً على أمريكا أو حلفائها ومصالحها..
ثمّ أضاف بعد ذلك، وهو يتحدَّث عن استخدام السّلاح النَّوويّ الَّذي يريد أن ينتجه بأشكال متنوّعة قد لا تكون هي القنبلة النَّوويَّة، وأدخل سوريا وليبيا وروسيا وما إلى ذلك، وحاولوا أن يلعبوا بالكلام في هذا المجال...
القضيَّة هي إمَّا وإمَّا، إمَّا السَّيف وإمَّا المال.. فإذا قيل قد يكون هناك خطّ غير الإرهاب، يقال: ليس من حقّكم أن تنظّروا، وإذا قيل: تعالوا لنعقد مؤتمراً دوليّاً لنحدّد فيه مفهوم الإرهاب، يقال: ليس من حقّكم ذلك، المسألة واضحة لدينا، وعندما تكون واضحة لدينا، فلا بدَّ أن تكون واضحة لديكم.. فحتّى مسألة الوضوح يريدون فرضها فرضاً.
هذه هي المسألة، هو الخصم والحكم. من الَّذي حاكم الَّذين اتَّهمتهم أمريكا بأنَّهم وراء مركز التجارة العالميّ؟ ليست هناك أيَّة سلطة قضائيَّة قامت بذلك.. المخابرات الأمريكيَّة اتهمت وحاكمت وحكمت ونفَّذت، وقُتِل عشرات الألوف من الأفغانيّين بحجَّة البحث عن القاعدة وعن طالبان. وعندما تحدَّث المتحدّثون عن أطفال دفنوا تحت الحجارة، وعن شيوخ ومدنيّين، قالوا حدث خطأ، وصدَّقهم الآخرون من حلفائهم بالخطأ، وما زال الحلفاء الَّذين أقنعتهم أمريكا بأنَّ هذا عدوان عسكريّ سيدخل في برنامج الحلف الأطلسي، يرسلون الجيوش إلى الشَّعب الأفغانيّ الجائع الفقير المدمَّر الَّذي أرادوا أن يريحوه من حياته الصَّعبة بالمزيد من دفنه تحت الرَّماد.
كربلاء العصر
وعندما طرحت مسألة إسرائيل ومسألة الفلسطينيّين، قالوا إنَّها تفصيل من تفاصيل الحرب ضدَّ الإرهاب، لأنَّ حماس إرهابيَّة، ولأنَّ الجهاد الإسلاميّ إرهابيّ، ولأنّ الجبهة الشَّعبيَّة كهامش إرهابيَّة، تعالوا أيّها الفلسطينيّون، يا فتح، ويا كلَّ المنظَّمات، اقتلوا هؤلاء، اطردوهم، فكّكوا بنيتهم التَّحتيَّة، حتَّى تكونوا في مستوى التحالف الدّولي ضدّ الإرهاب. وبكلّ أسف، دخل الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه، ودخلت بطريقة سلبيَّة بعض الدّول العربيَّة، وسكتت، لم يكن لها فرصة أن تتحدَّث كما يتحدَّث الأمريكيّ، لكنَّها سكتت، وقالت تحت الكواليس: نحن معكم، لا مع عدوّكم من هؤلاء الإرهابيّين..
وأخذ شارون كلّ حرّيته، وأعطته أمريكا الضَّوء الأخضر، ودمَّر ما شاء له أن يدمّر، وعادت لنا كربلاء في فلسطين، وسالت أنهار الدّماء، وبدأت المسألة بالبحث عن الحلّ، ومن الّذي يقدّم المبادرة، والمطلوب أن يقدّم الظَّالم المبادرة، لا أن يقدّم المظلوم المبادرة.. وانطلق المظلومون منذ "لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف"، كانت المبادرة تلو المبادرة، وكانت آخر مبادرة "لا حربَ مع إسرائيل"، وكانت بعض المبادرات "فلنصالح إسرائيل"... وانطلقت المسألة، لأنَّ العالم وصل إلى طريق مسدود، وانطلقت المبادرة العربيّة الجديدة، لتخرج المناخ السياسيَّ من المأزق، وإلَّا ما الّذي زادته هذه المبادرة؟ مؤتمر مدريد كان فيه أنَّ الأرض في مقابل السَّلام، يعني أعطونا الأرض نعطكم السَّلام، والسَّلام بحسب المفهوم السياسي الدبلوماسي هو اعتراف.. فما الجديد الّذي حدث في هذه المبادرة؟!
أذكر أنَّه زارني قبل أسابيع ممثّل الأمين العام للأمم المتَّحدة ديمستورا، وسألني عن المبادرة، قلت له ليس هناك جديد، فالمبادرة تعبير عمَّا ورد في مؤتمر مدريد، فقال إنَّ العالم في هذه الحرب المدمّرة التي يدمّر فيها – بحسب تعبيره - الفلسطينيّون اليهود، واليهود الفلسطينيّين، إنَّ العالم وقف حائراً، حتَّى أمريكا.. والمطلوب هو كيف نخرج الجوّ السياسيّ من المأزق، والمبادرة هي حركة من أجل إخراج الواقع من المأزق.. وهكذا تندفع المفاوضات تحت عنوان المبادرة، ليقال إنَّ عليكم أن تقدّموا تنازلات مؤلمة، لا ضرورة للقدس القديمة، لأنَّ الكونغرس الأمريكيَّ صوَّت على أنَّ القدس عاصمة موحَّدة لإسرائيل، أرجعوا بعض اللَّاجئين، وأبقوا بعض المستوطنات، لأنَّه معروف أنَّ المبادرة لا تقبل إلّا لأنَّها عنصر مفاوضات، وهذا ما عبَّرت عنه أمريكا كردّ فعل، وعبَّرت عنه إسرائيل الَّتي أرادت التَّطبيع قبل المفاوضات.
المقاومة تصنع التَّاريخ
لقد استطاعت الانتفاضة، أيُّها الأحبَّة، أن تصنع لنا تاريخاً في المعنى، وإن كانت عاشت كلّ الجراحات والآلام في الواقع، كما استطاعت المقاومة الإسلاميّة في لبنان أن تصنع لنا تاريخاً.. قيمة هذا التَّاريخ أنَّه أثبت للعالم العربي والإسلامي أنَّ من الممكن أن ننتصر إذا كان لنا الإيمان والإرادة، المهمّ أن نعرف ما نريد، لأنَّ الكثيرين منَّا لا يعرفون ما يريدون، المهمّ أن نخطّط، لأنَّ الكثيرين منّا يرتجلون الحماس والانفعال، وقد قتلَنَا الارتجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، وحرب 48 كانت حرباً ارتجاليَّة أعطت اليهود المبرّر لأن يصنعوا دولة.
تقدير الموقف السّوريّ
لذلك، أيُّها الأحبَّة، المسافة طويلة طويلة، لا ندري ماذا يتحدَّث الَّذين يأتون إلى القمَّة، إنَّني أقدّر لسوريا موقفها، عندما امتنعت عن أن تصوّت على قرار مجلس الأمن في دولة فلسطينيَّة إلى جانب دولة إسرائيليَّة، لأنَّ أمريكا ساوت أوّلاً بين المجرم والضحيَّة، ولأنّها منعت مجلس الأمن من أن يدين إسرائيل على جرائمها الَّتي هي جرائم أمريكيَّة في العمق، ومنعت مجلس الأمن من أن يقرّر حماية الشَّعب الفلسطيني من السّلاح الإسرائيلي. وقد قال الرَّئيس بوش تعليقاً، بعد أن انتقد سوريا لرفضها التَّوقيع: لو أنَّ مجلس الأمن قرَّر إدانة إسرائيل، لقدَّمت الفيتّو للقرار كلّه، ولكنَّه لم يفعل ذلك. وهكذا قال إنَّ الأعمق في المسألة هو حقّ إسرائيل في الاعتراف بوجودها.
أمريكا تقول إسرائيل أوّلاً وثانياً وعاشراً، وأنتم على الهامش، المهمّ أمن إسرائيل، أمَّا أمنكم فيحترم بقدر ما يحقّق لإسرائيل أمنها!
بطولات المقاومة
والقضيَّة الآن هي أنَّ هذه البطولات العربيَّة الإسلاميَّة الفلسطينيَّة، كما هي البطولات الإسلاميَّة اللّبنانيَّة، إنَّ هذه البطولات لا بدَّ أن تحتضنها الأمَّة وأن تواكبها وتستلهمها، ولا يجوز والدّماء جرت أنهاراً، والنساء والأطفال والشيوخ يُذبَحون، أن تصدر قرارات حييَّة خجولة توضع في الأدراج، وقد يقولون، وأخشى أن أقول، إنَّ الكثيرين تعبوا من القضيَّة الفلسطينيَّة، المراد أن تتحرَّر السياسة العربيَّة من فلسطين، وليست أن تتحرَّر فلسطين من إسرائيل! أخشى أن أقول ذلك، لأنَّه:
مَن يَهُنْ يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
ويبقى نداءُ الحسين (ع)
أيُّها الأحبَّة، كربلاء هنا، اقرأوها هنا، في كلّ المستقبل الَّذي لا بدَّ أن نتحمَّل مسؤوليَّته، كلٌّ بحسبه وبحسب طاقته، إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تختصر كلَّ تاريخنا في كلّ عشرات السنين الَّتي مضت، هي الّتي رمت بظلالها على كلّ الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي. لذلك، عندما تسقط فلسطين، فماذا يبقى هناك؟! وعندما تكبر فلسطين نكبر بها، وننطلق بالعنفوان.
النّداء لا يزال يرنّ في صدورنا، ونحتاج إلى أن نحمله بقوَّة: "وَاللهِ لَا أُعْطِيكُمْ بِيدِي - قولوها لأمريكا ولإسرائيل وللاستكبار العالميّ – إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ إقْرَارَ العَبِيدِ"، قولوها كما قال عليّ بن الحسين لابن زياد: "أَبِالموتِ تُهَدِّدُنا يا بنَ الطُّلَقاءِ؟! إنَّ القَتْلَ لَنا عادَةٌ، وكَرامَتُنا مِنَ اللهِ الشَّهادَةُ".
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}[التّوبة: 52].
{وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النّساء: 104].
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140].
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران: 173 - 174].
لا تسمعوا الإذاعات والفضائيّات الّتي تخوّفكم، لا تقرأوا الصّحف الَّتي تهزمكم، {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ - كونوا عبيداً لله وحده، وأحراراً أمام العالم كلّه - وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 175].
ذكرى السيّد محسن الأمين
في الختام، كلمة صغيرة: نحن الآن في المدرسة المحسنيَّة التي أسَّسها آية الله العلَّامة الكبير الواعي الوحدوي المنفتح على الواقع، الَّذي شارك في الثَّورة السوريَّة في الدّاخل، مع كلّ الَّذين أطلقوا حركة الوعي السياسيّ في سوريا، السيّد محسن الأمين، وفي آخر هذا الشَّهر، تمرّ علينا ذكرى خمسين سنة على وفاته، لا تنسوه، إنَّ السيّد محسن الأمين كانت له مبادرات إصلاحيَّة سبق فيها مرحلته وزمنه، علّموا السيّد محسن الأمين لأولادكم، علّموه للمتخلّفين وللَّذين يحاولون أن يدخلوا الخرافة في الإسلام وفي عقولنا. لذلك أرجو أن لا تمرّ ذكرى نصف قرن على وفاته، إلَّا وقد ملأنا الجوَّ الثّقافيّ بكلّ ذكراه وعلومه ومبادراته، وبكلّ ما أراده للمستقبل الّذي يعيشه الكثيرون منكم هنا.
والحمد لله ربّ العالمين.
* محاضرة عاشورائيّة لسماحته في الجمعيّة المحسنيّة، بتاريخ: 20/03/2002م.
لكلّ جيل مسؤوليَّة من خلال ما يملك من عقل لا بدَّ له أن يحركه في الإبداع، وما يملك من قلب لا بدَّ أن ينبض بالمحبَّة الَّتي تفيض على المجتمع لتصنع منه شيئاً في الرّوح، وشيئاً في الإنسانيَّة يجعلها نبضاً في الواقع يلتقي فيه الإنسان بالإنسان، وفي طاقاته، ليفجّرها فيما ينفع النَّاس، وهذا أبلغ تعبير قرآنيّ لمعنى الحقّ في حركيَّته في الواقع. يقول تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}[الرّعد: 17].
مسؤوليَّة التَّخطيط
لكلّ جيل مسؤوليَّة أن يملأ الحاضر، وأن يخطّط للمستقبل، لأنَّ مسؤوليَّة الأجيال في صنع المستقبل هي مسؤوليَّة التَّخطيط.
ولذلك، فإنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، هي أنَّ كلَّ جيل لا بدَّ أن يصنع التَّاريخ، أن يصنعه من قاعدته الَّتي يؤمن بها، ومن كلّ حركيَّته الَّتي يتحرَّك بها، ومن كلّ المفاهيم الَّتي يوزّعها على كلّ صعيد الواقع، ومن كلّ الإرادة الَّتي تستطيع أن تؤكّد معناها في الموقف الَّذي يملك أن يقول لا عندما تقول اللّا موقفاً للحقّ، ويملك أن يقول نعم عندما تكون النعم موقفاً للعدل.
لذلك، إنَّ علاقتنا بالتّاريخ هي أن نأخذ منه نقاط الضَّوء، عندنا ينطلق ليعطي ضوءاً يمتدّ، لا ضوءاً يخبو في مرحلته عندما تموت المرحلة. إنَّ إضاءات التَّاريخ هي الإضاءات الَّتي ينطلق فيها فكر يضيء، ومحبَّة تشرق، وطاقة تتفجَّر، وقوَّة تتحدَّى.
لذلك، ليس السّؤال كيف صنعوا تاريخهم، حتّى لو كان الحديث عن الكبار الكبار في التَّاريخ، لأنَّنا عندما نسأل في استغراق الذَّات كيف صنعوا تاريخهم، فإنَّنا ننسى صناعة تاريخنا، ونتجمَّد عند تاريخ الماضين، كما كان يحدث في الجاهليَّة، عندما كان الكثيرون يعيشون على ذهنيَّة {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزّخرف: 23]، وكان رسول الله يتساءل في خطّ حريّة العقل وحركيَّته وتحدّيه: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ}[الزّخرف: 24]، {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170].
وتبقى العظاميَّة تتحدَّى العصاميَّة، وعندما تأتي العصاميّة بفكر جديد هنا وهناك، يرجمه كلّ العظاميّين بالحجارة.
هذه الذّهنيَّة كانت، ولا يزال لها أكثر من مظهر، كما في السياسة الَّتي تتجمَّد عند القائد البطل الَّذي عاش تاريخه، وصنع فكره.. ولكن ما هو فكركم أنتم، ما هي بطولاتكم الفكريَّة والقياديَّة أنتم؟ البطل لا يختصر الأمَّة ولا يختصر التَّاريخ، ولكنَّه يطلق الخطوة الأولى من أجل أن تنطلق الخطوات الأخرى صناعةً للتَّاريخ.
أيّ بطل أعظم من رسول الله في عقيدتنا؟ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا}[آل عمران: 144]. الرَّسول يموت وتبقى الرّسالة، تنتظر السَّائرين في ضوئها، والمبدعين لحركيَّتها، والَّذين يتطلَّعون إلى الشَّمس، ولا تعشي عيونهم كلُّ مغارات التَّاريخ وكهوفه.
يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف: 111]. هذا هو المفهوم القرآنيّ لدراسة التَّاريخ واستيحائه {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 141]. لقد صنعوا تاريخهم وتحمَّلوا مسؤوليَّته في الخطّ الإيجابيّ هنا والسَّلبيّ هناك، فهل تتحمَّلون أنتم مسؤوليَّة صناعة التَّاريخ؟!
الحربُ عندَ عليّ (ع)
والتَّاريخ ليس سيفاً يُجَرَّد، وربما انطلقنا بفعل تحدّيات السيوف الأخرى، وبفعل تحدّيات الأزمات الأمنيّة الَّتي تحيط بنا من هنا وهناك، حتَّى اختصرنا التَّاريخ بالسَّيف، ولكنّ السَّيف إذا كان لا يفكّر، فهو سيف يغلب عليه الصَّدأ. قيمة سيف عليّ (ع) أنَّه كان سيفاً واعياً يعرف كيف يجرّده، ويعرف المعركة الَّتي يدخلها، والوقت الَّذي يدخل فيه المعركة.. وكان أصحابه - كما جاء في نهج البلاغة - قد استبطأوا إذنه لهم في القتال في صفّين، وقد جاء بهم من أجل أن يقاتلوا معه، وتساءلوا: أكان ذلك شكّاً في أهل الشَّام؟ هل تبدَّلت نظرة عليّ إلى الموقف؟ هل كانت المسألة وضوحاً في الرؤية بأنّ هؤلاء ليسوا على الحقّ، ثمَّ بدأ الشَّكّ يعيش في ذهنه فتوقَّف عن القتال، أم كان ذلك كراهية للموت، لأنَّ الإنسان عندما تكبر سنّه، يحبّ الحياة أكثر؟!
وسمع عليّ (ع) الكلمة، وعظمة عليّ أنَّه، وهو في موقع القيادة والخلافة، كان يريد أن يعطي الأمَّة الوضوح في كلّ مواقفه، لم يكن يريد أن يقول في الكواليس شيئاً وينطلق في العلن ليقول شيئاً آخر، لأنَّ القضيَّة في عليّ، كما هي في رسول الله، هي الحقّ، ولذلك من يلتزم الحقّ، لا يمكن أن يضعه في الضَّباب، و"عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يدورُ مَعَهُ حَيْثُما دَارَ".
سمع (ع) الكلمة، ولم يتشنَّج، ولم يطلب من الشّرطة أن تأتي إلى هؤلاء الَّذين ينقدون موقفه ويتَّهمونه بكراهية الموت، كالكثيرين الَّذين لا يتحمَّلون النَّقد..
ووقف فيهم خطيباً، وقال لهم: "أمَّا قولُكم: أَكُلّ ذلك كراهِيَةً للموتِ؟! فواللهِ ما أُبالي، أَدَخَلْتُ إلى الموتِ أم خَرَجَ الموتُ إليَّ – لأنَّ الموت عندي ليس حالة شخصيَّة أسقط أمامها، بل هو عندي حركة من أجل الرّسالة، والموت من أجل الرّسالة لا يمثّل شيئاً عند الرّساليّين ما داموا في خطّها، لأنَّ الموت يسير بهم إلى رضوان الله تعالى. ولذلك، كنت في كلّ اقتحاماتي للموت، أضع الرّسالة أمامي، ليزحف الموت مع الرّسالة، ليموتَ الأعداء، أو لأموتَ شهيداً.
- وأمَّا قولُكم: شَكٌّ في أهلِ الشَّامِ، فواللهِ ما دَفَعْتُ الحربَ يوماً إلَّا وأنا أطمعُ أن تَلحَقَ بي طائفةٌ، فَتَهتدي بي، وتَعشو إلى ضَوئي، وذلك أحبُّ إليَّ من أن أقتُلَها على ضلالِها، وإن كانت تَبوءُ بآثامِها".
الحرب عند عليّ ليست مزاجاً، هو ليس سفَّاك دماء يحبّ أن يسفك الدّماء ليثبت بطولته؛ إنَّ عليّاً يحبّ النَّاس كلَّهم ولا يريد أن يقتلهم، إنَّه يريد أن يقتل في الكافر كفره قبل أن يقتل الكافر، ويريد أن يقتل في المجرم جريمته قبل أن يقتل المجرم، ولذلك كانت الحرب في فلسفة عليّ (ع) عندما يدفعها، وسيلة ضغط على المتردّدين والحائرين، لعلَّهم يبصرون الضَّوء في فكره وموقفه، فيأتون كما يأتي الَّذي يعيش في الظَّلام، من أجل أن ينفتح على نقطة من النّور هنا وهناك.
إنَّ عليّاً (ع) ليس المحارب في معنى عقدة المحارب في شهوة الحرب؛ إنَّه الرّساليّ الَّذي إذا أرادت الرّسالة الحرب من أجل حمايتها وحماية النَّاس والحياة، أطلقَ الحرب، وإذا أرادت السّلم، أطلق السّلم.
ولذلك، من الخطأ جدّاً أن ننظر إلى عليّ كما لو كان شخصاً محارباً دون أن نضع الرّسالة في قلب الحرب. هذه هي المسألة.
الفكرة تصنع التَّاريخ
لهذا، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نصنع التَّاريخ، عندما نريده أن يكون حيويّاً، أن يكون للإنسان، أن يكون للحياة، فلا بدَّ أن ينطلق من فكرة؛ فكرة على مستوى القاعدة تمتدُّ الخطوط منها إلى كلّ جوانب الحياة. وعندما ينطلق التَّاريخ من الفكرة، فإنَّه يوزّع خطوط الفكرة على كلّ جوانب الحياة، حتَّى إذا تحركت هنا أو هناك، قالت لك الفكرة انظر ما هي علاقة حركتك بالفكرة الَّتي تؤمن بها: "ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: رَجُلٌ أَنْصَفَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَرَجُلٌ - وهذه هي إيحاءات الفكرة - لَمْ يُقَدِّمْ رِجْلًا وَلَمْ يُؤَخِّرْ أُخْرَى حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رِضًا أَوْ سَخَطٌ...".
لقد أعطانا الرَّسول (ص) بالإسلام إشارة الانطلاق في التَّاريخ، وكان رسول الحياة كلّها، ولذلك كان الإسلام دين الحياة كلّها، وكان الَّذين انطلقوا من خلال رسالته يتحركون في الأرض عندما يتطلَّعون إلى السَّماء، لأنَّ الله لم ينزل دينه لنخدمه، ولكنَّه أنزل دينه ليخدمنا، فلقد جاء الدّين لخدمة الإنسان، ولم يُرَد للإنسان أن يخدم الدّين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ - في كلّ ما أمراكم به، وفي كلّ ما نهياكم عنه، وفي كلّ ما حدَّداه من مفاهيم، وخطَّطا له من خطوط - إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأنفال: 24]، من أجل أن يصنع لكم الحياة الَّتي تعيش بالرّوح، وتنفتح بالفكر، وتتحوَّل بالقوَّة، وتتصلَّب بالإرادة، وتنطلق بالفتوحات؛ فتوحات الفكر في إبداعه، وفتوحات الرّوح بالمحبَّة، وفتوحات الطَّاقة فيما تنتجه مما يغني الحياة والإنسان.
وعيُ الذّكرى
لقد صنعوا التَّاريخ، ونحن نحتفل بذكرى الحسين (ع) في كلّ سنة احتفالاً يغلب عليه الضّعف لا القوَّة، ويغلب عليه الغباء لا الذّكاء. لذلك، الذّكرى تسير ونحن لا نزال واقفين، إنَّها تدعونا: تعالوا إليَّ، ادرسوا ما الآفاق الَّتي انطلقت عندي، وما الخطوط الَّتي حرَّكتها في اتّجاه مستقبلكم، تعالوا إليّ، لا تستهلكوا أنفسكم في الدّموع، أعطوا الدّموع فرصة العاطفة، ولكن لا تكونوا في نطاق الشَّخصيَّة البكائيَّة الَّتي تبكي على كلّ شيء، لقد كانت المأساة في خدمة القضيَّة، ولا بدَّ لكلّ امتدادات المأساة في القلب والرّوح، أن تكون في خدمة القضيَّة، لا أن نكون أناساً نبكي هزائمنا ومآسينا التَّاريخيَّة، نبكي في الوقت الَّذي لا بدَّ أن نعيش الفرح الروحيّ في المأساة، كما عاش الحسين (ع) الفرح الرّوحيّ في المأساة.
الحسين (ع) في أدقّ النّصوص، لم ير باكياً بالطَّريقة الَّتي يتحدَّث فيها النَّاس، عندما ذبُحِ ولده على يديه، وتلك أقسى أنواع المأساة؛ هل لَطَمَ وجهَه؟ وهل ضَرَبَ رأسَه؟ بل انفتح على الله، وعاش معه، وشرع بالفرح بين يديه، وقال: "هَوَّنَ مَا نَزلَ بي أَنَّهُ بِعَيْنِ الله"، فما دمْتُ، يا ربّ، تراني وأنا أتألم وأضحّي، فمرحباً بكلّ هذه المأساة، ما دامت في رضاك، والفرح كلّ الفرح في رضاك.
كان الحسين (ع) يعيش الفرح الرّوحيّ، وعلينا أن نعيش الفرح بالحسين، الفرح بكلّ هذا العنفوان الإسلاميّ الرّوحيّ الَّذي استطاع أن يفتح المستقبل على القضيَّة، حتَّى وهو يهوي صريعاً من أجل القضيَّة، لأنَّ بعض الفتوحات قد تكون فتوحات المستقبل، في الوقت الَّذي ينظر النَّاس إليها أنها هزائم الحاضر.
التَّخلّف المقدَّس؟!
الذكرى، أيُّها الأحبَّة، تنادينا أن لا نفجّر الدّماء من رؤوسنا بسيوفنا، بل أن نفجّرها في رؤوس الّذين يصنعون المأساة في النّاس والحياة.. أمَّا أن تمتدّ السّيوف إلى رؤوسنا، لنتقرَّب بذلك إلى الله، بينما نجلس بعيداً من السَّاحة – وأتحدَّث عن البعض من الأمَّة - لنتحدَّث، ونشغل الفقهاء: ما الدَّليل على حلّيّة هذا وحرمة هذا، أعطونا فتاوى من أجل أن نحلّل هذا أو ذاك، والتخلّف بحاجة إلى فتاوى كثيرة، وقد عاش التخلّف تحت كثير من الفتاوى!
وذلك هو الَّذي جعل التخلّف عندنا مقدَّساً، وأيَّة أمَّة تقدّس التخلّف؟! ولكنَّنا نحاول أن نقدّس الكثير من أوضاع التخلّف!
إصلاح ذهنيَّة الأمَّة
الذكرى تنادينا.. لقد انطلق الحسين (ع)، ليقول لأخيه محمَّد في وصيَّته، وللنَّاس جميعاً: "خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلَاحِ في أمَّةِ جَدّي"، لم يخرج ليطلب الإصلاح في الإسلام، كما يتحدّث بعض النّاس عن الإصلاح في الدّين، لأنَّ الدّين دين الله، وهو وحي الله، وهو الحقيقة، فهو لا يحتاج إلى إصلاح، بل الإصلاح هو للأمَّة.
كانت المسألة الأساس عند الحسين (ع) هي ذهنيَّة الأمَّة، لأنَّ القرآن وضع لنا منهجاً وخطّاً، أنَّ الواقع هو نتيجة الفكر، ونتيجة الشّعور، لذلك لن يتغيَّر واقعك نحو الأحسن، إذا كان فكرك يعيش في الأسوأ. إذا أردت أن تغيّر الواقع غيّر فكرك، إذا أردت أن تغيّر التَّاريخ، غيّر الفكر السَّلبيّ الَّذي صنع تاريخاً سلبيّاً {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]. إنَّ مبدأ الحركة فكرة، والمسألة هي كيف تصنع فكرك.
إنَّ الحسين (ع) كان يعرف، وهو القائل: "أسيرُ بسيرةِ جَدّي وأبي"، أنَّ عليّاً عندما حكم، أعطى الحريَّة لمن كفَّروه، لم يقاتلهم لأنَّهم اختلفوا معه، أو لأنَّهم أطلقوا كلمات الكفر في وجهه، بل حاورهم، وعندما قاتلهم، قاتلهم لأنَّهم أساؤوا إلى النّظام العامّ للأمَّة، لم يقاتلهم لحسابه، أو لأنَّهم أرادوا أن يسقطوه فكراً وموقعاً، بل قاتلهم لحساب الأمَّة، لأنهم قتلوا خباباً، وقطعوا طرق المسلمين، وبعد أن قتلهم أو قتل الكثيرين منهم، قال كلمته الخالدة، وهو يعطينا الخطَّ في مسألة الحريَّة للفكر الآخر: "لَا تَقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ، كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ". هؤلاء قوم لم ينطلقوا من حالة طمع ذاتيّ، ولم ينطلقوا من حالة حقد نفسيّ، لكنَّهم انطلقوا من أجل الحقّ، ولكن لم يعرفوا الطَّريق إليه، ولا الآليَّة التي يستخدمونها لاكتشافه، لذلك "مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ"، حاوِرْهُ، وحاوِلْ أن تضيء إنسانيَّته بإنسانيَّتك: "احْصُدِ الشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ". أمَّا "مَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ"، فهو يعيش وضوح الرّؤية للباطل، ولكنَّه يريد أن يخرّب الحياة، فهذا قاتله دفاعاً عن الحياة، لأنَّه يريد أن يسقط الإنسان في إنسانيَّته، ومن أجل حماية إنسانيَّة الإنسان.
لذلك، قال الإمام الحسين (ع) للّذين بايعوه أو أراد لهم أن يبايعوه: "وَأسيرُ بسيرةِ جَدّي وأبي"، وتلك سيرة أبيه وجدّه.
تحديدُ معنى البيعة
لذلك، كان الإمام الحسين (ع) يفكّر في أمَّة جدّه، في هذه الذّهنيَّة المسيطرة على عقولهم. ولعلَّ في العنوان البارز في هذه الذّهنيّة، هو أنهم كانوا يعطون كلمتهم تأييداً هنا ورفضاً هناك، من دون قاعدة ومن دون فكر، كانوا عندما تطرح عليهم البيعة لأيّ شخص، لا يدرسون القاعدة الَّتي تنطلق منها البيعة، ولا شخصيَّة الإنسان الَّذي يبايعونه، لا يدرسون برنامجه، كان المال في جانب، والسَّيف في جانب آخر، واستطاعت ذهنيَّتهم أن تجعل للمال موقعاً في حركة الواقع الَّذي يعيشونه، وللسَّيف موقعاً. ويقال في بعض ألوان البيعة ليزيد، إنّه وقف شخص من قبله، وفي يده صرّة من الدَّراهم، وفي يده الأخرى سيف، وقال: من بايع فله هذا – المال - ومن لم يبايع فله ذاك - السّيف.
وكانت مأساة الواقع الإسلاميّ هي هذه الذّهنيَّة القلقة في تعاطيها مع مسألة البيعة، ولا سيَّما في المجتمع الإسلاميّ الَّذي لا بدَّ أن يعيش القائم على شؤونه قيم الإسلام الروحيَّة والفكريَّة والشّرعيّة، كما كان عليّ (ع) الّذي قال: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ، وَلَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَتُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ".
هذه هي المسألة؛ أن يقدّم الَّذي يطرح نفسه للبيعة برنامجه للنَّاس، بقطع النَّظر عن صواب البيعة وخطئها، ونحن لا نريد أن ندخل في هذا الاتّجاه، ولكنَّ المسألة هي الذّهنيَّة، وهي الَّتي حكمت أكثر مسار التَّاريخ الإسلاميّ، وهي الَّتي استطاعت أن تربك خطوات الإسلام الشَّرعيَّة والفقهيَّة والكلاميَّة والحركيَّة وما إلى ذلك، وما زال المسلمون يعانون الكثير من ذلك، يقولون لك: بايع، أيّد، أعط صوتك، ولا تسأل... الجوّ هكذا، النَّاس هكذا، الوضع هكذا، و"حشر مع النَّاس عيد"، وكلّ أعيادنا هي في كلّ هذا الغباء الاجتماعيّ الّذي يحشر الإنسان نفسه مع النَّاس، على طريقة ذلك الشَّاعر الجاهليّ الَّذي يقول:
وَمَا أَنَا إلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشِدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
والإمام الكاظم (ع) قال: "أَبْلِغْ خَيْرًا، وَقُلْ خَيْرًا، وَلَا تَكُنْ إمَّعَةً. قُلْتُ: وَمَا الْإِمَّعَةُ؟ قَالَ: لَا تَقُلْ: أَنَا مَعَ النَّاسِ، وَأَنَا كَوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هُمَا نَجْدَانِ: نَجْدُ خَيْرٍ، وَنَجْدُ شَرٍّ، فَلَا يَكُنْ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ".
أن يكون لك موقفك، أن تكون أنت، أن لا تكون الآخر، أن لا تقول أيَّدت لأنّ فلاناً أيّد، أو لأنَّ العائلة أيَّدَتْ، أو لأنَّ الجماهير أيَّدَت {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111]. قدّم حسابك إلى ربّك: لماذا أيَّدْتَ ولماذا رفضت، قد تعطي كلّ مبرّراتك لي وللآخرين، ولكن ماذا عن الَّذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]؟ كيف تدافع عن نفسك أمامه؟!
لقد أراد الحسين (ع) أن يغيّر هذه الذّهنيَّة، وقال لهم في بعض خطبه، في بداية حركته، ليحدّد لهم لمن البيعة: "مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا، مُسْتَحِلًّا لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، كَانَ حَقِيقًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ..."
قدّم (ع) البرنامج في خطّ الفكرة الإسلاميَّة للقيادة الإسلاميَّة كيف تكون، وقدَّم إلى النَّاس صورةً عن الواقع، لأنَّه لم يكن يريد للنَّاس أن يعرفوا الكليَّات، لأنَّ الَّذين يستغرقون في الكليَّات وهم يتطلَّعون إلى الفضاء من دون أن يتطلَّعوا إلى الأرض، لن يستطيعوا إلَّا أن يغرقوا في التَّجريد، ادرس الفكرة، ثمَّ ادرس حركيَّة الفكرة في الواقع.
بين النَّظريَّة والتَّطبيق
وأنا أفهم - والله العالم بحقائق آياته - من قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}[البقرة: 129]، أنَّ الكتاب هو خطّ النَّظريّة، والحكمة هي خطّ التَّطبيق، فلا بدَّ أن تعرف الخطَّ النَّظريَّ للفكرة، والتَّطبيق الواقعيّ لها، لأنَّ الكثيرين من النَّاس غرقوا في الباطل وهم يحسبون أنَّه الحقّ، لأنّهم لا يعرفون الحقّ من الباطل. وقد ابتلي عليّ (ع) ببعض أصحابه، عندما دفع عليّ الحرب إلى البصرة في حرب الجمل، حفظاً لنظام المسلمين، جاءه الحارث بن حوط، كما ذكر في "نهج البلاغة"، وقال له: أتراني أظنّ أنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة، وأنّنا على حقّ؟ وهم كانوا حوالى أربعين ألفاً أو خمسين ألفاً، كما في الكثيرين الَّذين ينظرون إلى الكمّ ولا ينظرون إلى النّوع، فقال له الإمام (ع): "يَا حَارِثُ، إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ، فَحِرْتَ؛ إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ، فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ، وَلَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ، فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاهُ!".
وعندما تريد أن تعرف الحقّ، لا بدَّ أن تعرفه في خطّ النَّظريَّة وفي خطّ الواقع، لأنَّ الآخرين قد يعطون الحقّ بعض لبوس الباطل، ويعطون الباطل لبوس الحقّ، كما صوَّر ذلك أمير المؤمنين، عندما يُمزَج الحقّ ببعض الباطل، ويُمزَج الباطل ببعض الحقّ، ولذلك لا بدَّ أن تحدّق في الواقع كما تحدّق في الفضاء، هذه هي المسألة، ونحن أناس لا بدَّ أن نعيش على الأرض، ولا نريد أن نعيش في السَّماء.
البيعة لأمريكا؟!
لذلك، كان الحسين يريد أن يغيّر هذه الذّهنيَّة، ونحن نريد أن نندفع من خلال هذه المفاهيم الحركيَّة للواقع، لنجعلها إضاءات في الطَّريق، لنواجه واقعنا على مستوى العالم الإسلاميّ كلّه، لنجد أنَّ الظَّاهرة هذه، لا تزال هي الظَّاهرة الشَّاملة، في مسألة القيادة، وفي مسألة الواقع. فالنَّاس لا ينطلقون من موقع فكر يحركونه في اختياراتهم لما يختارونه، إمَّا لأنَّهم لا يملكون حريَّة الكلمة، وإمَّا لأنهم لا يملكون وضوح الكلمة، لأنَّ الكثيرين من هنا وهناك، يحاولون أن يثيروا الضَّباب الثَّقافي والضَّباب السياسي والضَّباب الاجتماعي، ليتحوَّل إلى ظلام أمنيّ في نهاية المطاف.
ولذلك، عندما كان واقعنا يعيش في هذا الاتجاه، قَبِلْنا ما فرضَه علينا الآخرون.. بعد 11 أيلول، وقف الرئيس الأمريكيّ ليقول: إمَّا معنا وإمَّا مع الإرهاب، إمَّا معنا، فقد تحصلون على بعض المنّ والسَّلوى الَّذي في داخله الكثير من الدّيدان، والكثير من الحشرات وما إلى ذلك، قد تأخذون مساعدات تعطون في مقابلها حرّيتكم وثرواتكم وسياساتكم، وإمَّا أن تكونوا مع الإرهاب، بما نقرّره من مفهوم الإرهاب، نحن الَّذين نقرّر المفهوم، ونحن الَّذين نحركه في الواقع، ليس لكم خيار. وقالوا له إنَّ المقاومة شيء والإرهاب شيء آخر، وأجاب بأنّه ليس هناك إرهاب فيه خير وإرهاب فيه شرّ، كلّ الإرهاب شرّ، ولا سيَّما إذا كانت المسألة موجَّهة إلى إسرائيل، الولد المدلَّل أمريكيّاً، والَّتي أعلنت أمريكا أنَّها مستعدَّة أن تدخل حرباً عالميَّة لحسابها، وتحدَّثت الآن عن محور الشّرّ، ولماذا محور الشّرّ؟ لأنَّ الشّرَّ عندها هو معارضة أمريكا، والخير هو الخضوع للسياسة الأمريكيَّة.
وسكت الكثيرون، لولا أصوات حرَّة انطلقت هنا وهناك، بطريقة حييَّة خجولة وشجاعة من خلال بعض الدّول.. وشجَّعه ذلك، فتحدَّث عن الأسلحة النوويَّة، كان يتحدَّث عن مواجهة إيران والعراق وكوريا، لأنها تعمل على صنع أسلحة الدَّمار الشَّامل، وهو يمثّل خطراً على أمريكا أو حلفائها ومصالحها..
ثمّ أضاف بعد ذلك، وهو يتحدَّث عن استخدام السّلاح النَّوويّ الَّذي يريد أن ينتجه بأشكال متنوّعة قد لا تكون هي القنبلة النَّوويَّة، وأدخل سوريا وليبيا وروسيا وما إلى ذلك، وحاولوا أن يلعبوا بالكلام في هذا المجال...
القضيَّة هي إمَّا وإمَّا، إمَّا السَّيف وإمَّا المال.. فإذا قيل قد يكون هناك خطّ غير الإرهاب، يقال: ليس من حقّكم أن تنظّروا، وإذا قيل: تعالوا لنعقد مؤتمراً دوليّاً لنحدّد فيه مفهوم الإرهاب، يقال: ليس من حقّكم ذلك، المسألة واضحة لدينا، وعندما تكون واضحة لدينا، فلا بدَّ أن تكون واضحة لديكم.. فحتّى مسألة الوضوح يريدون فرضها فرضاً.
هذه هي المسألة، هو الخصم والحكم. من الَّذي حاكم الَّذين اتَّهمتهم أمريكا بأنَّهم وراء مركز التجارة العالميّ؟ ليست هناك أيَّة سلطة قضائيَّة قامت بذلك.. المخابرات الأمريكيَّة اتهمت وحاكمت وحكمت ونفَّذت، وقُتِل عشرات الألوف من الأفغانيّين بحجَّة البحث عن القاعدة وعن طالبان. وعندما تحدَّث المتحدّثون عن أطفال دفنوا تحت الحجارة، وعن شيوخ ومدنيّين، قالوا حدث خطأ، وصدَّقهم الآخرون من حلفائهم بالخطأ، وما زال الحلفاء الَّذين أقنعتهم أمريكا بأنَّ هذا عدوان عسكريّ سيدخل في برنامج الحلف الأطلسي، يرسلون الجيوش إلى الشَّعب الأفغانيّ الجائع الفقير المدمَّر الَّذي أرادوا أن يريحوه من حياته الصَّعبة بالمزيد من دفنه تحت الرَّماد.
كربلاء العصر
وعندما طرحت مسألة إسرائيل ومسألة الفلسطينيّين، قالوا إنَّها تفصيل من تفاصيل الحرب ضدَّ الإرهاب، لأنَّ حماس إرهابيَّة، ولأنَّ الجهاد الإسلاميّ إرهابيّ، ولأنّ الجبهة الشَّعبيَّة كهامش إرهابيَّة، تعالوا أيّها الفلسطينيّون، يا فتح، ويا كلَّ المنظَّمات، اقتلوا هؤلاء، اطردوهم، فكّكوا بنيتهم التَّحتيَّة، حتَّى تكونوا في مستوى التحالف الدّولي ضدّ الإرهاب. وبكلّ أسف، دخل الاتحاد الأوروبي في هذا الاتجاه، ودخلت بطريقة سلبيَّة بعض الدّول العربيَّة، وسكتت، لم يكن لها فرصة أن تتحدَّث كما يتحدَّث الأمريكيّ، لكنَّها سكتت، وقالت تحت الكواليس: نحن معكم، لا مع عدوّكم من هؤلاء الإرهابيّين..
وأخذ شارون كلّ حرّيته، وأعطته أمريكا الضَّوء الأخضر، ودمَّر ما شاء له أن يدمّر، وعادت لنا كربلاء في فلسطين، وسالت أنهار الدّماء، وبدأت المسألة بالبحث عن الحلّ، ومن الّذي يقدّم المبادرة، والمطلوب أن يقدّم الظَّالم المبادرة، لا أن يقدّم المظلوم المبادرة.. وانطلق المظلومون منذ "لا صلح ولا مفاوضات ولا اعتراف"، كانت المبادرة تلو المبادرة، وكانت آخر مبادرة "لا حربَ مع إسرائيل"، وكانت بعض المبادرات "فلنصالح إسرائيل"... وانطلقت المسألة، لأنَّ العالم وصل إلى طريق مسدود، وانطلقت المبادرة العربيّة الجديدة، لتخرج المناخ السياسيَّ من المأزق، وإلَّا ما الّذي زادته هذه المبادرة؟ مؤتمر مدريد كان فيه أنَّ الأرض في مقابل السَّلام، يعني أعطونا الأرض نعطكم السَّلام، والسَّلام بحسب المفهوم السياسي الدبلوماسي هو اعتراف.. فما الجديد الّذي حدث في هذه المبادرة؟!
أذكر أنَّه زارني قبل أسابيع ممثّل الأمين العام للأمم المتَّحدة ديمستورا، وسألني عن المبادرة، قلت له ليس هناك جديد، فالمبادرة تعبير عمَّا ورد في مؤتمر مدريد، فقال إنَّ العالم في هذه الحرب المدمّرة التي يدمّر فيها – بحسب تعبيره - الفلسطينيّون اليهود، واليهود الفلسطينيّين، إنَّ العالم وقف حائراً، حتَّى أمريكا.. والمطلوب هو كيف نخرج الجوّ السياسيّ من المأزق، والمبادرة هي حركة من أجل إخراج الواقع من المأزق.. وهكذا تندفع المفاوضات تحت عنوان المبادرة، ليقال إنَّ عليكم أن تقدّموا تنازلات مؤلمة، لا ضرورة للقدس القديمة، لأنَّ الكونغرس الأمريكيَّ صوَّت على أنَّ القدس عاصمة موحَّدة لإسرائيل، أرجعوا بعض اللَّاجئين، وأبقوا بعض المستوطنات، لأنَّه معروف أنَّ المبادرة لا تقبل إلّا لأنَّها عنصر مفاوضات، وهذا ما عبَّرت عنه أمريكا كردّ فعل، وعبَّرت عنه إسرائيل الَّتي أرادت التَّطبيع قبل المفاوضات.
المقاومة تصنع التَّاريخ
لقد استطاعت الانتفاضة، أيُّها الأحبَّة، أن تصنع لنا تاريخاً في المعنى، وإن كانت عاشت كلّ الجراحات والآلام في الواقع، كما استطاعت المقاومة الإسلاميّة في لبنان أن تصنع لنا تاريخاً.. قيمة هذا التَّاريخ أنَّه أثبت للعالم العربي والإسلامي أنَّ من الممكن أن ننتصر إذا كان لنا الإيمان والإرادة، المهمّ أن نعرف ما نريد، لأنَّ الكثيرين منَّا لا يعرفون ما يريدون، المهمّ أن نخطّط، لأنَّ الكثيرين منّا يرتجلون الحماس والانفعال، وقد قتلَنَا الارتجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، وحرب 48 كانت حرباً ارتجاليَّة أعطت اليهود المبرّر لأن يصنعوا دولة.
تقدير الموقف السّوريّ
لذلك، أيُّها الأحبَّة، المسافة طويلة طويلة، لا ندري ماذا يتحدَّث الَّذين يأتون إلى القمَّة، إنَّني أقدّر لسوريا موقفها، عندما امتنعت عن أن تصوّت على قرار مجلس الأمن في دولة فلسطينيَّة إلى جانب دولة إسرائيليَّة، لأنَّ أمريكا ساوت أوّلاً بين المجرم والضحيَّة، ولأنّها منعت مجلس الأمن من أن يدين إسرائيل على جرائمها الَّتي هي جرائم أمريكيَّة في العمق، ومنعت مجلس الأمن من أن يقرّر حماية الشَّعب الفلسطيني من السّلاح الإسرائيلي. وقد قال الرَّئيس بوش تعليقاً، بعد أن انتقد سوريا لرفضها التَّوقيع: لو أنَّ مجلس الأمن قرَّر إدانة إسرائيل، لقدَّمت الفيتّو للقرار كلّه، ولكنَّه لم يفعل ذلك. وهكذا قال إنَّ الأعمق في المسألة هو حقّ إسرائيل في الاعتراف بوجودها.
أمريكا تقول إسرائيل أوّلاً وثانياً وعاشراً، وأنتم على الهامش، المهمّ أمن إسرائيل، أمَّا أمنكم فيحترم بقدر ما يحقّق لإسرائيل أمنها!
بطولات المقاومة
والقضيَّة الآن هي أنَّ هذه البطولات العربيَّة الإسلاميَّة الفلسطينيَّة، كما هي البطولات الإسلاميَّة اللّبنانيَّة، إنَّ هذه البطولات لا بدَّ أن تحتضنها الأمَّة وأن تواكبها وتستلهمها، ولا يجوز والدّماء جرت أنهاراً، والنساء والأطفال والشيوخ يُذبَحون، أن تصدر قرارات حييَّة خجولة توضع في الأدراج، وقد يقولون، وأخشى أن أقول، إنَّ الكثيرين تعبوا من القضيَّة الفلسطينيَّة، المراد أن تتحرَّر السياسة العربيَّة من فلسطين، وليست أن تتحرَّر فلسطين من إسرائيل! أخشى أن أقول ذلك، لأنَّه:
مَن يَهُنْ يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ
ويبقى نداءُ الحسين (ع)
أيُّها الأحبَّة، كربلاء هنا، اقرأوها هنا، في كلّ المستقبل الَّذي لا بدَّ أن نتحمَّل مسؤوليَّته، كلٌّ بحسبه وبحسب طاقته، إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تختصر كلَّ تاريخنا في كلّ عشرات السنين الَّتي مضت، هي الّتي رمت بظلالها على كلّ الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي. لذلك، عندما تسقط فلسطين، فماذا يبقى هناك؟! وعندما تكبر فلسطين نكبر بها، وننطلق بالعنفوان.
النّداء لا يزال يرنّ في صدورنا، ونحتاج إلى أن نحمله بقوَّة: "وَاللهِ لَا أُعْطِيكُمْ بِيدِي - قولوها لأمريكا ولإسرائيل وللاستكبار العالميّ – إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ إقْرَارَ العَبِيدِ"، قولوها كما قال عليّ بن الحسين لابن زياد: "أَبِالموتِ تُهَدِّدُنا يا بنَ الطُّلَقاءِ؟! إنَّ القَتْلَ لَنا عادَةٌ، وكَرامَتُنا مِنَ اللهِ الشَّهادَةُ".
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ}[التّوبة: 52].
{وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النّساء: 104].
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140].
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}[آل عمران: 173 - 174].
لا تسمعوا الإذاعات والفضائيّات الّتي تخوّفكم، لا تقرأوا الصّحف الَّتي تهزمكم، {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ - كونوا عبيداً لله وحده، وأحراراً أمام العالم كلّه - وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 175].
ذكرى السيّد محسن الأمين
في الختام، كلمة صغيرة: نحن الآن في المدرسة المحسنيَّة التي أسَّسها آية الله العلَّامة الكبير الواعي الوحدوي المنفتح على الواقع، الَّذي شارك في الثَّورة السوريَّة في الدّاخل، مع كلّ الَّذين أطلقوا حركة الوعي السياسيّ في سوريا، السيّد محسن الأمين، وفي آخر هذا الشَّهر، تمرّ علينا ذكرى خمسين سنة على وفاته، لا تنسوه، إنَّ السيّد محسن الأمين كانت له مبادرات إصلاحيَّة سبق فيها مرحلته وزمنه، علّموا السيّد محسن الأمين لأولادكم، علّموه للمتخلّفين وللَّذين يحاولون أن يدخلوا الخرافة في الإسلام وفي عقولنا. لذلك أرجو أن لا تمرّ ذكرى نصف قرن على وفاته، إلَّا وقد ملأنا الجوَّ الثّقافيّ بكلّ ذكراه وعلومه ومبادراته، وبكلّ ما أراده للمستقبل الّذي يعيشه الكثيرون منكم هنا.
والحمد لله ربّ العالمين.
* محاضرة عاشورائيّة لسماحته في الجمعيّة المحسنيّة، بتاريخ: 20/03/2002م.