السيد فضل الله: لبنان لم يؤسَّس ليكون وطناً لبنيه
عن المصالحة الوطنية والسلام الأهلي، والنتائج المترتّبة على الواقع اللبناني بعد إقرار المحكمة الدولية، تحدّث العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، إلى مجموعة من الباحثين يعدّون دراسة عن العدالة الانتقالية وتقديمها ورقة عمل في مؤتمر، وهذا نصّ الحوار:
مشكلة الطائفية
* سماحة السيد، كيف تقرأون كل ما تمّ إنجازه بعد الحرب اللبنانية؟ وما هو الدور الذي يجب القيام به لتحصين الساحة بالمصالحة الوطنية؟
ـ لعلّ مشكلة لبنان أنه لم يؤسَّس ليكون وطناً لبنيه، بحيث يشعر كل شخص فيه أنّ حقوقه وواجباته تنطلق من موقع مواطنيته لا من موقع طائفيته، ولذلك فإنّ النظام الطائفي في لبنان استطاع أن يخرّب هذا الصفاء الذي كان من الممكن أن يعيش في عقل اللبناني المثقَّف، الذي يمكن له أن يستشرف الآفاق الرحبة الواسعة في انفتاح العصر على كل قضايا الإنسان وكل تطلعاته وكل حركيته وكل مواقع الصراع فيه، لأن النظام الطائفي عمّق الطائفية في ذهنية اللبناني، بحيث إنها اختلقت له شخصية مغلقة تفصله عن الإنسان الآخر، على أساس التمايز الذي لم ينطلق من حالة عقلية أو ثقافية، وإنما انطلق من حالة غرائزية على الطريقة العشائرية القبلية.
مشكلة الطائفية أنها عشائرية وقبلية دون أن تعيش قيم البداوة
فالطائفية في لبنان ليست ديناً حتى ينفتح الإنسان عليها من خلال انفتاحه على القيم الروحية التي يأمر بها الدين، والتي يمكن أن يلتقي فيها مع الإنسان الآخر، ويمكن أن ينفتح فيها على الإنسان كله، باعتبار أن الأديان وإن اختلفت في بعض خططها على المستوى اللاهوتي، إلاّ أنّها تلتقي في الخط الإنساني. لذلك، فإن مشكلة الطائفية أنها عشائرية وقبلية، ولكن بدون أن تعيش قيم البداوة. أنا كنت أقول إن المشكلة عندنا في لبنان أو في الشرق، أننا نعيش البداوة الفكرية من دون قيم البداوة التي كان يتميّز بها البدو في أوضاعهم الاجتماعية.
لذلك، عندما نستعرض الخلفيات السياسية للحرب الأهلية في لبنان، نجد أنها قد استفادت كثيراً من نقاط الضعف الموجودة في الواقع اللبناني، ولاسيما في بعض التعقيدات الطائفية المسيحية والإسلامية، والتي جعلت المخططين لهذه الحرب يحاولون الاستفادة من بعض الخطوط الفلسطينية، والخطوط السياسية الوطنية التي تتحرك من خلال أكثر من محور عربي يحاول أن يجد لنفسه موقعاً في السياسة اللبنانية في حركة الصراع بين العرب في هذا المقام.
ولذلك كانت الحرب اللبنانية خطة كيسنجرية من أجل تصفية القضية الفلسطينية في لبنان، مستفيدةً من السلبيات التي كان الفلسطينيون يمارسونها حتّى على مستوى السيطرة على واقع الحكم في لبنان.
ولذلك، فإن الحرب اللبنانية كانت ترجمة للخطة الأمريكية التي قادها الوزير الأسبق، هنري كيسنجر، حتى إذا استكملت وبلغت بعض أهدافها في إخراج البندقية الفلسطينية من لبنان، جاء اتفاق الطائف الذي كنت أقول عنه بنحو النكتة، أنه اتفاق أمريكي بطربوش لبناني وعقال عربي، ولم يكن اتفاق الطائف حلاً للمشكلة اللبنانية، بل كان حلاً لقضية الحرب، ولذلك لم يدرس دراسة قانونية دقيقة، بحيث يمكن أن يسد كل الثغرات الموجودة في الواقع اللبناني، ويحوّل لبنان إلى بلد يشعر فيه المواطنون بالمواطنة بدلاً من الطائفية.
لبنان ساحة تتصارع فيها المصالح الدولية والإقليمية
وعلى ضوء هذا، لم يستطع اللبنانيون أن ينطلقوا إلى مرحلة الدولة، بل بقيت مشكلة النظام الطائفي تدفع الذين يسيطرون على الواقع اللبناني، إلى التحرك من خلال نوازعهم الذاتية الشخصية تحت العناوين الطائفية التي يحاولون أن يسخِّروها لحساب طموحاتهم السياسية الشخصية في هذا المجال. ومن خلال ذلك، استطاعت هذه الثغرات الموجودة في داخل كل طائفة أن تفسح في المجال لكل المواقع الإقليمية والدولية للنفاذ إلى الداخل اللبناني، لتتحول الساحة اللبنانية إلى ساحة تتصارع فيها المصالح الإقليمية والمصالح الدولية في الاستفادة من الموقع اللبناني، بحيث أصبح لبنان مجرد ساحة تتنفس فيها الصراعات الخارجية، وأصبح اللبنانيون يمثّلون هذا الخط السياسي الخارجي أو ذاك الخط السياسي الخارجي. لهذا لم يستطع اللبنانيون أن يحوّلوا لبنان إلى دولة، كما أنهم لم يهتموا بإعداد الجيش اللبناني ليكون جيشاً قادراً على الدفاع عن نفسه، لجهة تمويله بالسلاح ومتابعة التدريبات الخاصة، حتى إننا نلاحظ أن من الصعب جداً أن يسيطر حتى على القضايا الداخلية عندما تحدث هناك بعض المشاكل.
وهكذا رأينا كيف أن بعض التعقيدات الموجودة في المنطقة، وخصوصاً ما يتصل بالمسألة الطائفية أو المذهبية، سرعان ما تدخل إلى النسيج اللبناني عندما تكون مصلحة هذه الدولة العربية أو تلك الدولة العربية، أو هذه الدولة الأجنبية أو تلك الدولة الأجنبية، في إثارة المسألة الطائفية أو المسألة المذهبية. ولهذا فإننا عندما ندرس الواقع في لبنان، نرى فيه شكل الدولة لا واقع الدولة.
ولذلك، فإنّ الدولة لم تستطع أن تخطط للمستقبل اللبناني الذي يتناسب مع الطاقات اللبنانية المبدعة التي يتميز بها شبابه، ما جعل الشباب اللبناني يهاجر إلى الخارج، لأنه لم يجد في لبنان الدولة التي يمكن أن تحتضن طاقاته وتتحرك به في خط النمو وخط الإبداع، بل وجد ذلك في الدول التي تعمل على أن تشتري الأدمغة وتستفيد من الطاقات اللبنانية المنتشرة في الخارج.
مفهوم الدولة بين الشكل والمضمون
* سماحتك تقول إنّ في لبنان شكل دولة وليس واقع دولة، أيضاً بالنسبة إلى السلام، نحن اليوم بعد انتهاء الحرب الأهلية، نعيش حالة وكأنها حرب أهلية دولية، بمعنى أنه يوجد شكل سلام، ولكن لا يوجد سلام حقيقي. لماذا؟
ـ متى يمكن أن يعيش أيّ بلد السّلام؟ عندما يتحرك مواطنوه من خلال العلاقات الوطنية الطبيعية التي تضمن لهم مصالحهم، وتؤصِّل لهم إنسانيتهم، وتجعلهم يشعرون بالتكامل فيما بينهم في طاقاتهم، من أجل أن يصنعوا البلد القوي القادر العادل الذي يمكن لمواطنيه أن يحققوا أنفسهم في داخله، ولكن عندما يكون هذا البلد منفتحاً على أكثر من محور دولي أو محور إقليمي يحاول أن يستفيد من الحرية الموجودة في لبنان والمفقودة في كل دول المنطقة، لتحريك خطوطه في الصراع وفي التدخل في هذا الموقع أو ذاك الموقع، أو في إثارة فتنةٍ هنا وفتنةٍ هناك، فكيف يمكن البلد حينها أن يعيش السّلام؟!
لقد كنت أقول في أيام الحرب، إنّ لبنان لم يصنع ليكون وطناً لبنيه، بل كان الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة، فهو ساحة التجارب التي تُجرَّب في داخلها الصراعات بين الطوائف، وبين المذاهب، وبين الاتجاهات السياسية. وقد كنا نلاحظ كيف أن الحرب الباردة بين الشرق والغرب كانت تجد حركيتها في الساحة اللبنانية، عندما كان الصراع بين الاتحاد السوفياتي والغرب، وكيف أن المشاكل التي عاشها المسلمون والمسيحيون تركت تأثيرها على الواقع المسيحي الإسلامي في مصر، فأوجدت حساسيات لم تكن موجودة في الشارع المصري، وكيف خلقت حرب المخيمات مشكلة سنية شيعية على مستوى العالم الإسلامي.
وكذلك الأمر عندما انطلقت مسألة اليسار واليمين في الحركة الوطنية، ما جعل الخطوط السياسية الموجودة في المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية والمحاور الدولية، تستفيد من هذا الواقع. لذلك من الصعب جداً أن يعيش اللبنانيون السلام القوي المستقر المنفتح على ما يحقّق لهم الحياة المطمئنة المنفتحة التي يتكامل فيها بعضهم مع بعض، ويتواصلون ويتعاونون فيما بينهم، لأن لبنان يمثل أرضاً لا سقف لها ولا حيطان، ما يسمح للرياح الآتية من الشرق أو من الغرب، أو من هذه المنطقة الإقليمية أو تلك المنطقة الإقليمية، أن تنطلق فيه بين رياح عاصفة أو رياح خفيفة، أو رياح ليس لها أي صفة في هذا المجال. ومشكلة لبنان أنه لا يملك مانعة الصواعق.
* ما هو موقفكم من قانون العفو الذي أقرّته الحكومة اللبنانية؟
ـ أنا أتصوّر أن قانون العفو لم ينطلق من دراسة قانونية واقعية، بل لقد تمّ إغلاق الملف من دون إغلاق أسبابه، لأننا نعرف أن أسباب هذا الملف، وهو ملف الجرائم التي وقعت في لبنان، كانت في التدخلات والتعقيدات التي سمح بها اللبنانيون للدول الأخرى، سواء في المنطقة أو خارجها، والتي أدّت إلى العبث بأمن بلدهم، بحيث انطلق كل فريق سياسي ليرتبط بهذه الجهة أو تلك الجهة. وربما نجد أن مصالح الدول الأخرى هيّأت المناخ لكل العنف الذي حدث في لبنان، ولكل نقاط الضعف الموجودة فيه، وتوظيف ذلك في الإثارة المذهبية، من خلال التفجيرات والاغتيالات والإرباكات التي كانت تحصل بين اللبنانيين. ولا يزال هذا المناخ يفرض نفسه على الواقع، حتى إنني سمعت من بعض المسؤولين العرب، ممن كان لهم دور كبير فيما يُتهمون به من إرباك الواقع اللبناني، أن المشكلة تكمن في أنّ اللبنانيين الذين كانوا يحاولون أن يزايدوا على هذا المسؤول من هذه الدولة أو ذاك المسؤول من دولة أخرى، من خلال أنهم يريدون أن يستفيدوا من هذه الدولة الضاغطة أو من هذا المسؤول الذي يملك بعض الخطط السلبية التي تثير المشاكل داخل لبنان.
آفاق المحكمة الدولية
* أريد أن أعود إلى المحكمة الدولية، هل ترى سماحتك أنها تستطيع أن تفتح صفحة جديدة في الأفق اللبناني والمنطقة؟
ـ من الطبيعي أننا نؤمن بالقضاء، سواء كان قضاءً وطنياً أو قضاءً دولياً، ولكن المشكلة أن مثل هذه المحكمة ولدت بطريقة قيصرية، لأنها لم تنطلق من الواقع اللبناني السياسي الهادىء، الذي يمكن أن يدرس موادّ هذه المحكمة بطريقة موضوعية قانونية تلاحظ الظروف اللبنانية الداخلية، وتدرس إلى جانب ذلك بعض ما يُثار من الخطوط السياسية التي قد تُتَّهم بها الجهات المتحمسة لتقرير هذه المحكمة، كالولايات المتحدة الأمريكية أو الفرنسية أو ما إلى ذلك، ما يجعل المسألة محل جدل قانوني وسياسي، وخصوصاً إذا لاحظنا التعقيدات التي حدثت في الوسط السياسي اللبناني الذي يتهم الحكومة بأنها لم تفسح المجال لبعض الجهات الفاعلة التي تملك موقعاً سياسياً قوياً في لبنان، بأن تدرس هذه المواد القانونية والسياسية لهذه المحكمة، ما جعل مسألة المحكمة مثاراً للجدل ومشكلة للواقع السياسي اللبناني، وخصوصاً أنّ ذلك أدى إلى أن تصدر بقرار دولي من مجلس الأمن تحت الفصل السابع، الذي قد لا تتوفر فيه الأسس التي ينطلق منها.
ولذلك، فإن بعض الناس يفكرون في أن هذه الأحداث الأخيرة التي حدثت في لبنان، والتي بدأت تهدد الأمن اللبناني، ربما كانت منطلقة من خطة أريد لها أن تعطي فكرة عن المناخ الجديد الذي يهدد السلم والأمن اللبنانييّين ممّا يمكن أن ينفتح على أكثر من مشكلة في المنطقة، بحيث تكون القواعد الأمنية التي ينطلق منها الفصل السابع متوفّرة في هذا الموضوع.
هل يمكن للمحكمة الدولية أن تصل إلى النتائج القضائية وإلى العدالة الواقعية؟
* بما أنّ المحكمة أصبحت تحصيل حاصل، ما أريد أن أعرفه من سماحتك، أنّه ما دامت المحكمة ستحصل، فهل يتحمّل الأشخاص الذين يرفضون أن تكون هذه المحكمة تحت الفصل السابع، مسؤولية تكرار مسلسل الاغتيالات، خصوصاً عندما نرى ما الذي حصل في رواندا؟
ـ إن قضية توزيع المسؤوليات يحتاج إلى دراسة الظروف التي تتحرك فيها المسؤولية في موقع هذا الفريق أو ذاك الفريق، من ناحية المسار الذي سارت فيه قضية المحكمة في الواقع الرسمي اللبناني، ولكن السؤال: هل إن هذه المحكمة يمكن أن تصل إلى النتائج القضائية وإلى العدالة الواقعية بعد أن تتأسس، وخصوصاً أنها مرفوضة من كثير من اللبنانيين، بقطع النظر عن الصواب والخطأ في ذلك، ومرفوضة من سوريا من جهة أخرى؟ فهل هناك آلية يمكن أن تُطبِّق المحكمة قراراتها من خلالها غداً من دون أن تتحول المسألة إلى وضع أمني صعب في لبنان أو لا؟ القضية هي أن المحكمة عندما تصدر من خلال دول لها مصالحها الحيوية في المنطقة، وهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا التي تقود حركة المحكمة في مجلس الأمن الدولي، وتضغط من أجل إقرارها، هل هذه الدول يمكن أن يكون هدفها هو إظهار الحقيقة، أو أنها تريد أن تدخل كل مصالحها في المسألة اللبنانية وفي بعض خطوط المنطقة؟ لأنّ المشكلة هي في أن يُختصر كل الوضع اللبناني في اغتيال شخصية لبنانية مهمة جداً، بحيث ينطلق الوضع الدولي من خلال هذه القضية، بعيداً عن كثير من القضايا الصعبة ومن الجرائم التي حدثت مثل جريمة اغتيال رئيس حكومة لبنان الأسبق، رشيد كرامي، والشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية اللبنانية، وغيرهما.
النتيجة إنّ القضية عندما تُدوّل، فإنّ علينا أن نعرف أن لبنان ليس له مكان في صراعات الدول.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 04 جمادى الثاني 1428 هـ الموافق: 20/06/2007 م