وحلّت الذكرى الخامسة عشرة لرحيل العلّامة السيّد محمَّد حسين فضل الله هذا العام ونحن نُحيي ذكرى عاشوراء، ذكرى الإمام الحسين (ع) ونهضته الخالدة. وكأنَّ الزَّمان أراد أن يربط بين منارات الوعي في التَّاريخ، فكما كان الحسين شهيدَ الموقف والكرامة، كان السيّد فضل الله حاملَ رسالته في زمننا، يُعيد إلى عاشوراء روحها، ويُنقّيها من شوائب التَّقاليد، ويزرع في عقول الأجيال أنَّها مدرسةٌ للتحرّر لا للجمود، ومسارٌ للوعي لا للغيبوبة.
يمضي الزمن، وتبقى بعض الشخصيَّات حاضرة في الوجدان الجمعي كأنَّها لم ترحل. خمسة عشر عامًا مرَّت على رحيل السيّد فضل الله، لكنَّ حضوره لم يخفت، وصوته لم يخفت صداه، فما تركه من فكرٍ ومواقف، وما زرعه من قيمٍ وسلوك، تجاوز حدود الجغرافيا والمذهب والطَّائفة، ليشكّل مدرسةً متكاملة في الفكر والدّين والإنسان.
لقد كان السيّد فضل الله، بحقّ، علّامةً موسوعيًّا، لا تقف معرفته عند حدود الفقه أو التَّفسير، بل تتّسع لتشمل علم الاجتماع، والفكر السياسيّ، والتربية، والإعلام، والعلاقات الإنسانيَّة. إلَّا أنَّ أعظم ما تميّز به، أنَّه أعاد الاعتبار للإنسان في قلب المعادلة الدينيَّة، فجعله محورًا للتكليف، لا أداةً في يد السلطة أو رهينةً لسطوة التراث.
آمن السيّد بأنَّ الدين ما جاء ليقيّد حرية الإنسان، بل ليصون كرامته ويهديه إلى الخير. من هذا المنطلق، خاض معارك فكريَّة جريئة في سبيل تجديد الخطاب الدّيني، وفكّ الاشتباك بين الأصالة والانغلاق، وبين التراث والتقديس، ففتح أبواب الاجتهاد، وتصدّى للفهم المتشنّج للنّصوص، ورفض تسليع الفتوى أو استخدامها كأداة سياسيَّة.
وبخلاف كثيرين ممّن جعلوا من الدّين مظلَّةً للتمييز، رفع السيّد راية العدالة والمساواة، مدافعًا عن المرأة والشباب وذوي الرأي المختلف، مؤمنًا بأنَّ الله لا يُعبَد في صوامع التعصّب، بل في ساحات العدل والعقل والحوار.
في زمنٍ انغلقت فيه المرجعيَّات الدينيَّة على طوائفها، وتمترست خلف جدرانها الفقهيَّة، اختار السيّد فضل الله أن يكون "مرجعًا لكلّ النَّاس". لم يُقصِ أحدًا، بل خاطب الجميع بلغةٍ إنسانيَّةٍ راقية، جعلت فكره عابرًا للانتماءات الضيّقة. تحدَّث إلى الشَّباب بلغة العصر، وإلى النّساء بلغة الشَّراكة، وإلى المختلفين بلغة العقل، فأسّس لمرجعيَّة معرفيَّة، لا مرجعيَّة وصاية.
وربّما كانت هذه الانفتاحات السَّبب في استهدافه من بعض أبناء بيئته قبل سواهم. لكنَّ السيّد، الَّذي اعتاد مواجهة النقد بسموّ، لم يتراجع. ظلَّ ثابتًا على قناعته بأنَّ "التشيّع لا يكون انغلاقًا، بل وعيًا"، وأنَّ "الإسلام ليس مشروعًا مذهبيًّا، بل مشروع عدالة ورحمة".
ولم يكن السيّد صامتًا في ميدان السياسة، لكنَّه لم يكن سياسيًّا بالمعنى التقليديّ، بل كان "صوتًا أخلاقيًّا" في وجه الظلم. وقف إلى جانب فلسطين حين تواطأ كثيرون، وناصر المقاومة دفاعًا عن الكرامة الوطنيَّة، وانتقد الفساد والاستبداد من أيّ جهة أتى. لم يكن منحازًا إلَّا للحقّ، ولم يكن تابعًا لأحد، لأنَّه ببساطة: كان حرّاً.
اليوم، وبعد خمسة عشر عامًا على رحيله، لا نحتاج إلى البكاء على السيّد فضل الله، بل إلى الاقتداء به، نحتاج إلى قراءة كتبه لا لمجرّد التَّبجيل، بل للفهم والممارسة، نحتاج إلى أن نعيد الدّين إلى ميدانه الحقيقيّ: ميدان العقل والضَّمير، لا ميدان التَّجييش والانغلاق.
لقد كان السيّد مدرسةً قائمةً بذاتها، وأفقًا مفتوحًا أمام الأجيال. وما أحوجنا اليوم، وسط كلّ هذا الضَّجيج الطائفي، والفوضى الدينيَّة، والاستغلال السياسي للخطاب المقدَّس، إلى رجالٍ من طينته، يعيدون إلى العقل اعتباره، وإلى الرحمة معناها، وإلى الإنسان قيمته.
وما أجمل أن تتلاقى ذكراه هذا العام مع ذكرى الإمام الحسين (ع)، لتكتمل سيرة القيم الَّتي عاش من أجلها السيّد فضل الله، والَّتي جعلت من عاشوراء منهجًا للوعي والثَّورة، لا للبكاء والتقوقع. ففي عاشوراء، كان الحسين يصرخ في وجه الظّلم؛ وفي زمننا، كان السيّد صوته، الصَّادق، العاقل، الثَّائر بالبيان لا بالسَّيف، بالحكمة لا بالدَّم، وبالموقف لا بالصّراخ.
إنَّه السيّد محمَّد حسين فضل الله، رجلٌ من نور، ترك فينا ضوءًا لا ينطفئ، وشهيدُ وعيٍ حيّ، لا يموت
*د. عماد برّو، ميدل إيست تايمز الدولية، بتاريخ: 13 تمّوز 2025م.
وحلّت الذكرى الخامسة عشرة لرحيل العلّامة السيّد محمَّد حسين فضل الله هذا العام ونحن نُحيي ذكرى عاشوراء، ذكرى الإمام الحسين (ع) ونهضته الخالدة. وكأنَّ الزَّمان أراد أن يربط بين منارات الوعي في التَّاريخ، فكما كان الحسين شهيدَ الموقف والكرامة، كان السيّد فضل الله حاملَ رسالته في زمننا، يُعيد إلى عاشوراء روحها، ويُنقّيها من شوائب التَّقاليد، ويزرع في عقول الأجيال أنَّها مدرسةٌ للتحرّر لا للجمود، ومسارٌ للوعي لا للغيبوبة.
يمضي الزمن، وتبقى بعض الشخصيَّات حاضرة في الوجدان الجمعي كأنَّها لم ترحل. خمسة عشر عامًا مرَّت على رحيل السيّد فضل الله، لكنَّ حضوره لم يخفت، وصوته لم يخفت صداه، فما تركه من فكرٍ ومواقف، وما زرعه من قيمٍ وسلوك، تجاوز حدود الجغرافيا والمذهب والطَّائفة، ليشكّل مدرسةً متكاملة في الفكر والدّين والإنسان.
لقد كان السيّد فضل الله، بحقّ، علّامةً موسوعيًّا، لا تقف معرفته عند حدود الفقه أو التَّفسير، بل تتّسع لتشمل علم الاجتماع، والفكر السياسيّ، والتربية، والإعلام، والعلاقات الإنسانيَّة. إلَّا أنَّ أعظم ما تميّز به، أنَّه أعاد الاعتبار للإنسان في قلب المعادلة الدينيَّة، فجعله محورًا للتكليف، لا أداةً في يد السلطة أو رهينةً لسطوة التراث.
آمن السيّد بأنَّ الدين ما جاء ليقيّد حرية الإنسان، بل ليصون كرامته ويهديه إلى الخير. من هذا المنطلق، خاض معارك فكريَّة جريئة في سبيل تجديد الخطاب الدّيني، وفكّ الاشتباك بين الأصالة والانغلاق، وبين التراث والتقديس، ففتح أبواب الاجتهاد، وتصدّى للفهم المتشنّج للنّصوص، ورفض تسليع الفتوى أو استخدامها كأداة سياسيَّة.
وبخلاف كثيرين ممّن جعلوا من الدّين مظلَّةً للتمييز، رفع السيّد راية العدالة والمساواة، مدافعًا عن المرأة والشباب وذوي الرأي المختلف، مؤمنًا بأنَّ الله لا يُعبَد في صوامع التعصّب، بل في ساحات العدل والعقل والحوار.
في زمنٍ انغلقت فيه المرجعيَّات الدينيَّة على طوائفها، وتمترست خلف جدرانها الفقهيَّة، اختار السيّد فضل الله أن يكون "مرجعًا لكلّ النَّاس". لم يُقصِ أحدًا، بل خاطب الجميع بلغةٍ إنسانيَّةٍ راقية، جعلت فكره عابرًا للانتماءات الضيّقة. تحدَّث إلى الشَّباب بلغة العصر، وإلى النّساء بلغة الشَّراكة، وإلى المختلفين بلغة العقل، فأسّس لمرجعيَّة معرفيَّة، لا مرجعيَّة وصاية.
وربّما كانت هذه الانفتاحات السَّبب في استهدافه من بعض أبناء بيئته قبل سواهم. لكنَّ السيّد، الَّذي اعتاد مواجهة النقد بسموّ، لم يتراجع. ظلَّ ثابتًا على قناعته بأنَّ "التشيّع لا يكون انغلاقًا، بل وعيًا"، وأنَّ "الإسلام ليس مشروعًا مذهبيًّا، بل مشروع عدالة ورحمة".
ولم يكن السيّد صامتًا في ميدان السياسة، لكنَّه لم يكن سياسيًّا بالمعنى التقليديّ، بل كان "صوتًا أخلاقيًّا" في وجه الظلم. وقف إلى جانب فلسطين حين تواطأ كثيرون، وناصر المقاومة دفاعًا عن الكرامة الوطنيَّة، وانتقد الفساد والاستبداد من أيّ جهة أتى. لم يكن منحازًا إلَّا للحقّ، ولم يكن تابعًا لأحد، لأنَّه ببساطة: كان حرّاً.
اليوم، وبعد خمسة عشر عامًا على رحيله، لا نحتاج إلى البكاء على السيّد فضل الله، بل إلى الاقتداء به، نحتاج إلى قراءة كتبه لا لمجرّد التَّبجيل، بل للفهم والممارسة، نحتاج إلى أن نعيد الدّين إلى ميدانه الحقيقيّ: ميدان العقل والضَّمير، لا ميدان التَّجييش والانغلاق.
لقد كان السيّد مدرسةً قائمةً بذاتها، وأفقًا مفتوحًا أمام الأجيال. وما أحوجنا اليوم، وسط كلّ هذا الضَّجيج الطائفي، والفوضى الدينيَّة، والاستغلال السياسي للخطاب المقدَّس، إلى رجالٍ من طينته، يعيدون إلى العقل اعتباره، وإلى الرحمة معناها، وإلى الإنسان قيمته.
وما أجمل أن تتلاقى ذكراه هذا العام مع ذكرى الإمام الحسين (ع)، لتكتمل سيرة القيم الَّتي عاش من أجلها السيّد فضل الله، والَّتي جعلت من عاشوراء منهجًا للوعي والثَّورة، لا للبكاء والتقوقع. ففي عاشوراء، كان الحسين يصرخ في وجه الظّلم؛ وفي زمننا، كان السيّد صوته، الصَّادق، العاقل، الثَّائر بالبيان لا بالسَّيف، بالحكمة لا بالدَّم، وبالموقف لا بالصّراخ.
إنَّه السيّد محمَّد حسين فضل الله، رجلٌ من نور، ترك فينا ضوءًا لا ينطفئ، وشهيدُ وعيٍ حيّ، لا يموت
*د. عماد برّو، ميدل إيست تايمز الدولية، بتاريخ: 13 تمّوز 2025م.