الاستجابة لله في حركة الواقع(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ*وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ*وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ*وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 24 ـــ 28].
الحياة الاجتماعية والموت الاجتماعي
في هذه الآيات دعوة من الله للذين آمنوا إلى أن يستجيبوا لله ولرسوله في دعوتهما، في دعوة الرسول الذي يؤدّي عن الله والذي يحدِّث الناس بوحي الله، أن يستجيبوا إليه في ما يدعوهم إليه من شريعته التي تشمل كلّ مواقع حياتهم سواء في حياتهم الفردية أو في حياتهم الاجتماعية، فقد أراد الله للإنسان أن يُخضع كلّ حياته لإرادته ولأحكامه التي تمثّل مواقع الله، فأنتَ عبد الله وقد جعل الله لكَ حياتين: حياة مادية تتمثّل في هذه الحيوية التي تمنحها الروح لجسدك فيعيش في حالة نمو وحركة من خلال هذه الجذوة الإلهية المشرقة الموجودة في هذا الجسد وهي الروح، ويريدك الله أن تحافظ على حياتك فلا تُلْقِ بيدك إلى التهلكة إلاّ في ما أباح الله لك ذلك في خطّ الجهاد وفي ما يشبه ذلك، وهناك حياة معنوية يريد الله لكَ أن تعيشها وذلك بأن يحيا عقلك بالفكر الذي ينفتح على الله وينفتح على الناس بما ينفعهم، وأن يكون لك شعورك الذي يعطي الناس المحبّة والخير والسلام، وأن تكون لك قِيَمك الأخلاقية الروحية التي أراد الله لك أن تحرِّك حياتك في اتّجاهها ليكون لك الصبر عند الشدائد فلا تسقط أمام كلّ أنواع البلاء، وليكون لك القلب الكبير الذي يتّسع للنّاس فلا ينبض إلاّ بالخير، وأن يكون لك صدرك الواسع الذي يمتصّ كلّ الانفعالات ليتّسع لكلّ الإساءات التي يسيؤها الناس إليك، وللمشاكل التي يثيرها الناس في حياتك ليكون في صدرك الحلم، وليكون في أخلاقك العفو عند المقدرة، ولتكون حياتك شعوراً بالمسؤولية لخدمة الناس ـــ كلّ الناس ـــ في ما أعطاكَ الله من عقل يحتاج الناس إلى فكره، وما أعطاك الله من علم يحتاج الناس إلى نتائجه، وما أعطاك الله من مال يحتاج الناس إليه، وما أعطاك الله من جاه يقصدك الناس من أجل أن تخدمهم من خلاله، وما أعطاك الله من وعي للمسؤولية لتحرِّك كلّ طاقاتك في رفع مستوى الناس وحماية حريّة الناس، تلك هي الحياة المعنوية. الجهل موت والعلم حياة، العبودية موت والحريّة حياة، الخيانة موت والإخلاص حياة، البُعد عن المسؤولية موت والتحرّك في قلب المسؤولية حياة، أنتَ ميّت موتاً روحياً ومعنوياً إذا أخذت بأسباب الفسق والفجور في حياتك، لأنّك أَمَتَّ طاقة الطهر والنقاء في حياتك، مات طهرك، مات صفاؤك، مات نقاء قلبك.
عندما تأخذ بأسباب الفجور، وعندما تنعزل عن مشاكل الناس وعن كلّ قضاياهم، فأنتَ ميّت اجتماعياً لأنّك لا تتحسَّس آلام الناس ولا تتحسَّس مشاكلهم وقضاياهم، الناس يصرخون وأنت لا تسمع صراخهم، الناس يتألّمون وأنتَ لا تحسّ بألمهم، الناس يعانون المشاكل وأنتَ لا تشعر بمعاناتهم، أيّ فرق بينك وبين الميّت، الميّت لا يحسّ لأنّه يفقد الحياة الجسدية وأنتَ لا تحسّ لأنّك تفقد الحياة الروحية المعنوية، أنت ميّت في هذا المجال والمسؤولية المتحرّكة التي تجعلك تنتقل إلى الناس لترفض كلّ أوضاعهم وآلامهم، تنزل دموعك عندما تلتقي بالمأساة لتشاركهم بهذه الدموع وتتحرّك طاقاتك عندما تلتقي بمشاكلهم لتحلّ مشاكلهم، فالله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين الأحياء، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، الذين يسمعون ويبصرون ويتحرّكون يقول لهم: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} من الطبيعي أنّه لا يريد الحياة الجسدية لأنّه يخاطب الأحياء ولا يخاطب الأموات، ولكنّه يريد الحياة الروحية، الحياة المعنوية التي تتّسع لكلّ آفاق الخير في حياتك، ولكلّ قِيَم الروح في شخصيّتك، ولكلّ حركة المسؤولية في واقعك.
الحياة تحت تدبير الله
أنتَ في حياتك تحرّك يدك وفي المسؤولية تحرّك طاقتك، إذا عشت غير مسؤول فمعنى ذلك أنّ طاقاتك ميّتة لا تتحرّك؛ لا فرق بينها وبين الميّت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} وعلى ضوء هذا يمكن أن نفهم من الآية أنّ الإسلام الذي يلتزم للإنسان بكلّ هذه الحياة المعنوية في ما ينفتح فيه من العقيدة التي تجعل الإنسان منفتحاً بكلّه على الله وعلى رسوله وعلى كتبه وعلى اليوم الآخر، وفي ما يخطّط من شريعة تجعل الإنسان إنساناً مسؤولاً عن الحياة كلّها بحجمه، وإنساناً متحرّكاً ينطلق في الحياة ليشعر أنّ الحياة واقعة تحت تدبير الله، وأنّ الله أوكل للإنسان أن يكون خليفته في الأرض فينفِّذ ما يريد الله أن ينفِّذه، لقد جعلك الله خليفته في الأرض لتتحرّك في مواقع الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولتفتح الحياة كلّها على ما يحبّه الله، وقد جعلك الله خليفته في المال الذي أعطاك إيّاه وقال: {... وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد : 7]، أنتَ خليفة الله في ماله، وعليك أن تسخّر ماله في ما يريد. وأنتَ خليفة الله في حركة الحياة فعليك أن تحرِّك الحياة في ما يحبّ الله وما يرضاه.
ولهذا عندما تكون ملتزماً بالإسلام فأنتَ حيّ، ولكنّك عندما تضع الإسلام وراء ظهرك ولا تلتزم بكلّ أحكامه وبكلّ مواقعه وبكلّ قِيَمه فأنتَ ميّت إسلامياً.. عندما تنتمي إلى الإسلام اسماً وتتركه روحاً وتبتعد عنه أخلاقاً وتبتعد عنه حركة في خطّ الله، فأنتَ ميّت إسلامياً، لأنّك لا تحرّك الإسلام في حياتك.
حياة القلب من حياة الروح
ومن هنا، لا بدّ لنا إذا أردنا الحياة الإسلامية التي دعانا الله إليها والتي دعانا الرسول إليها، فعلينا أن نبني أنفسنا بناءً أخلاقياً، وعلينا أن نمنع عملية الموت في قلوبنا، كما تمنع موت قلبك في ما تأخذه من الأدوية التي تفتح لك الشريان أو التي تمنع حدوث النوبة القلبية التي قد تقضي على حياتك، عليك أن تأخذ أيضاً الأدوية الروحية التي تمنع قلبك من أن يقع تحت تأثير نوبة تلغي حركته ونبضته الإيمانية، لأنَّ هناك موتاً للقلب أيضاً. هناك كثير من الأحاديث عن بعض الأشياء التي تميت القلب، يقول الله عن بعض الناس {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} [البقرة : 10]، ليس هذا المرض هو مرض القلب بوجوده المادي، ولكنَّ النّفاق يمثّل مرض القلب بوجوده الروحي، والله يقول لكم: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24]، الله يشرف على قلبك، فقلبك تحت رقابة الله ونبضات قلبك بيد الله، هو يحوِّلها كيف يشاء ويسيِّرها كيف يشاء فلا تعتبر قلبك بمنأىً عن الله، فالله هو مقلّب القلوب، هو يحول بين المرء وقلبه، فيشرف على قلبه كلّه ويرعى قلبه كلّه، فاجعل قلبك من موقع إرادتك بيد الله، واجعله متحرّكاً في نبضاته وفي خفقاته وفي كلّ أحاسيسه في طريق الله، لا تدخل إلى قلبك أحداً ممّن لا علاقة بينه وبين الله، عندما يريد الآخرون الذين يحاربون الله ورسوله في دينه وفي شريعته وفي أوليائه وفي قيمه، عندما يريد هؤلاء أن يقتحموا قلبك على أساس بعض الأوضاع التي يرتاح إليها الحسّ الجسدي، ذكِّر قلبك بالأوضاع السيّئة التي لا يرتاح إليها الحسّ الروحي، ادخل دائماً في عملية مقارنة بين سلبيات هؤلاء وبين إيجابيّاتهم حتّى لا يسقط قلبك تحت تأثير إغراءاتهم، وحتّى لا ينفعل قلبك بالكلمات المعسولة التي يحاولون أن يثيروها في حياتك الشعورية.
حضور الأمم بين يديّ الله
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24] هذه هي الحقيقة الثالثة، ضعها في نفسك عندما تريد أن تقوم بأيّ عمل من الأعمال، عندما تكون وحدك ولا رقيب عليك اذكر رقابة الله عليك وحسابك غداً بين يديه، وعندما تكون مع الناس وأنتَ تملك بعض جوانب القدرة التي تستطيع من خلالها أن تنفع الناس أو تضرّهم في أرزاقهم وفي أهلهم وفي مصالحهم وفي كلّ أوضاعهم، اذكر حتّى وأنت في مواقع قوّتك، حولك جندك وحولك أهلك وبيديك سلاحك، لكن كيف بك إذا وقفت غداً بين يديّ الله عارياً من كلّ شيء، ليس هناك وليّ ينصرك وليس عندك قوّة تنتصر بها، كيف بك إذا حاسبك الله عن تحريك قدرتك في ما لا يرضاه، مَن ينصرك من الله عندما تحشر مع الناس في كلّ ما يجتمع الناس من اجتماعات دينية أو اجتماعات اجتماعية أو سياسية أو اجتماعات اللّذات والشهوات؟ عندما تحشر مع الناس في الدنيا فكِّر بهذه الحقيقة، إنّك تحشر وحدك ومع الناس في الآخرة، وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى وأكَّد أنّ كلّ أُمّة تُدعى إلى حسابها، كلّ أُمّة جاثية بين يديّ الله، كلّ جماعة وكلّ عشيرة عندما تتضامن يجمعها الله بعضها مع بعض، كذلك الطوائف والأحزاب والتنظيمات لها كتاب واحد، لماذا؟ لأنّها اجتمعت على أن تتحمّل المسؤولية في أعمالها وفي أخطائها وفي مفاوضاتها وفي كلّ شيء، فالله يقول لكم: صحيح أنّ كلّ إنسان يُجزى بعمله الفرديّ، ولكنّكم عندما تجتمعون على عمل، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعاقب المجتمع كلّه.
السكوت عن الحقّ لا يعفيك من المسؤولية عن النتائج
خذوا مثلاً قوم صالح (عليه السلام) الذين عقروا الناقة، الإمام عليّ (عليه السلام) يعلِّق على هذه المسألة، يقول: "أيُّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط"(1)، يعني أنّ الذي يجمعكم ويجعلكم جماعة واحدة ويحمّلكم مسؤولية واحدة ليس التعاون في العمل فقط بل التعاون في إعطاء الحالة النفسية للعمل؛ أن ترضى عن عمل أو تعين عليه أو تشارك في التخطيط له، في هذا المجال أنت شريك في العمل، يقول: إنّما يجمع الناس الرضى والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب، لما عمّوه بالرضى، فقال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء : 157] على الرغم من أنَّ الذي عقرها هو شخص واحد، لهذا لا تعتبر نفسك بمنأى عن المسؤولية غداً بين يديّ الله إذا تجنَّبت صراعات الناس في ما بينهم وجلستَ في بيتك ورضيت بعمل قوم معيّنين؛ مدحتهم، شجّعتهم، عاونتهم، رضيت عنهم بقلبك، أنتَ معهم وإنْ لم تشاركهم شيئاً. في حديثٍ آخر للإمام عليّ (سلام الله عليه) يقول: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(1) الله يقول لك: أنتَ جزء منهم إنْ كانوا خيّرين فأنتَ جزء من الخير الذي يعمّهم، وإنْ كانوا أشراراً فأنتَ جزء من ذلك الشرّ، لأنّك وإن لم تكن منهم بعملك لكنّك منهم بعواطفك، والله يريد للفكر أن يكون مسؤولاً وللعاطفة أن تكون مسؤولة، للفكر حدوده في أن ينطلق إلاّ في طريق الخير وأن لا يخطّط إلاّ للخير، وللعاطفة حدودها في أن لا تنطلق مع أعداء الله، وأن لا تمتنع عن أولياء الله، وهذا الحديث الذي قرأته عليكم مراراً حديث يقول: إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإنْ كان قلبك يوالي أولياء الله ويُعادي أعداء الله ففيك خير، والله يحبّك، وإنْ كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير، والله يبغضك، ثمّ يعطي القاعدة "والمرء مع مَن أَحَب"(2)، يعني يحشر الناس يوم القيامة على الحبّ والبغض.
الدين.. أن تحبّ الله وأولياءه
الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال في ما رُوِيَ عنه لبعض أصحابه وهو يحدّثه عن مسألة الحبّ والبغض. قال: إنَّ الحبّ والبغض شيء والدين شيء آخر، كما يقول الشاعر اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة، مثلاً بعض الناس يقولون: إنَّ الدين لله والوطن للجميع، الدين لله نريد أن نتركه في المسجد وليس لك حريّة أن تنطلق به من المسجد، يعني يبقى الدين مع الله فليبقَ الله في المسجد وليبقَ الدين في المسجد، أمّا الوطن، فليس لله شغل به، ولا للدين شغل به، الوطن للجميع يعني ليس هناك دين للعلاقات بين الناس، هناك حديث يقول: فلنخرج الدين من علاقاتنا ولنخرج الدين من أوضاعنا ومن سياستنا، عندما تتحدّثون عن السياسة والاجتماع اتركوا كلام الدين، اذكروا الوطن، اذكروا القومية، اذكروا كلّ ذلك، لكن أبعدوا الدين جانباً، أي أنّ الدين لا عمق له في حياتنا وليس له تأثير، الإمام (عليه السلام) قال: "وهل الدين إلاّ الحبّ والبغض"(1)، أن تحبّ الله وتحبّ أولياءه ذلك هو الدين، أن لا تحبّ الله ولا تحبّ أولياءه ذلك أيضاً دين معاكس. هذه المسائل تحتاج لأن نعمّقها دائماً وندرك أهميّتها، من هذه الفقرة {... وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24]، يعني لا تأخذ حريّتك، تصفّق عندما يصفّق الناس وتهتف عندما يهتف الناس، وتسبّ عندما يسبّ الناس وتصدر أحكامك عندما يصدر الناس أحكامهم، لأنَّ الجوّ الحماسي والانفعالي والعاطفي يغمرك ويستولي على كيانك.
الحشر بين يديّ الله
فكِّر: سأنفصل عن الناس بعد قليل وسينفصل الناس عنّي بعد قليل، وأنّني ربّما أدعى بعد انصرافي عن لقاء الناس إلى لقاء الله، وأنّ الناس سوف يُدعون أيضاً بعد انصرافهم عنّي إلى لقاء الله، فكيف أُواجه الله إذا قال لي: كيف صفّقت؟ وكيف شتمت؟ وكيف لعنت؟ وكيف حكمت؟ وكيف قلت؟ مَن ينقذني من الله إذا لم يكن عندي جواب، ومَن يخلّصني من عذاب الله إذا لم يكن عندي أيّ شيء أُبرِّر به عملي، أليس ذلك كلام الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ما يدعو به، "ومِنْ أيدي الخُصماء غداً مَنْ يخلّصني وبحبل مَن أتّصل إنْ أنتَ قطعتَ حبلك عنّي، فواسوأتاه على ما أحصى كتابك من عملي، الذي لولا ما أرجوه من كرمك وسعة رحمتك ونهيك إيّاي عن القنوط، لقنطت" تذكّروا في كلّ دعاء الإمام (سلام الله عليه) أو دعاء أبو حمزة الثمالي، تذكّروا الحشر، "أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حامِلاً ثقلي على ظهري أنظرُ مرَّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني"، تذكّر الحشر بين يديّ الله، تذكَّر ذاك اليوم العظيم الذي لا ينفع أي إنسان فيه إلاّ عمله، هذا يركِّز لنا الثبات على الإيمان، وعلى الموقف، يركِّز لنا الوعي لكلّ القضايا التي تطرح علينا لنختار منها القضية التي تخلّصنا عند الله لا القضية التي تخلّصنا عند الناس وتجعلنا نقف موقف الخزي والعار أمام الله.
المسؤولية في مواجهة الموقف
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25] واجهوا الموقف على أساس أن تتحمّلوا المسؤولية جميعاً عن أيّة فتنة تحدث، سواء كان ذلك في الفتنة التي تصيب الناس في دينهم فينحرفون عنه، أو الفتنة التي تصيب الناس في أمنهم فينحرفون عمّا يصلح أمنهم، والفتنة التي تصيب الناس في سياستهم وفي اقتصادهم فينحرفون عن الخطّ السياسي المستقيم وعن الخطّ الاقتصادي المتوازن، لا تقل أمام الفتنة "فُخَّار يكسِّر بعضه" ليس لنا شغل، نحن شيء والناس الذين يتقاتلون شيءٌ آخر، نحن بجانب والناس بجانبٍ آخر، الفتنة كالريح العاصف إذا أوقد إنسان أو جماعة النار في وقت اشتداد الريح فهل يحترق الذين أوقدوا النار فقط أم أنّ الحريق يطال كلّ البيدر ويدخل كلّ البيوت من خلال العواصف التي تزيد النار اشتعالاً في ما تنقله في حال العاصفة من حطب ومن كلّ ما يوجب زيادة الاحتراق، والحرائق الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية هي حرائق لا يمكن أنْ تنحصر في دائرة أصحابها، بل إنّها تتوسّع بفعل العلاقات التي توجب أن تكون خطّ تماس بين كلّ موقع وموقع في المجتمع. والذين يثيرون الحرائق أو يتحرّكون في داخلها ليسوا فئة منفصلة عن المجتمع لتكون نتائج الحرائق مختصّة بهم ولكنّهم فئة تعيش في عمق المجتمع ويعيش المجتمع في عمقها، ولهذا يقول الله على المجال الأخروي والمجال الدنيوي: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} تحمَّلوا مسؤوليّتكم في كلّ ما تستطيعون أن تمنعوا به الفتنة من الاتّساع أو تمنعوها من الاستمرار أن تحاصروها أولاً بكلّ ما عندكم من عقل وإرادة ووعي وأن تحاصروا كلّ الذين يريدون أن يستمروا فيها وينطلقوا بها، لأنّها ستترك في داخل الواقع المأساة التي تحرق الواقع كلّه وتحرق الحياة كلّها.
الله شديد العقاب
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 25] عندما تحرِّكون ألسنتكم بالفتنة وعندما تحرّكون أيديكم بالفتنة وعندما تسخّرون جاهكم لمصلحة الفتنة، وعندما تنفقون أموالكم لمصلحة الفتنة، عندما تحرّكون هذا وذاك؛ فإنَّ عليكم أن تنتظروا عقاب الله لأنّكم شاركتم إذا لم تكونوا مشاركين في الفتنة في بدايتها فأنتم مشاركون في الفتنة في استمرارها ـــ أيّ فتنة كانت ـــ ولهذا لا بدّ للإنسان من أن يكون واعياً لكلمته، واعياً لموقفه، واعياً لعلاقاته، واعياً لعواطفه، لأنَّ ذلك إذا لم يكن في خطّ الوعي فربّما تغفل ويستغفلك الناس ليدخلوك في الفتنة من خلال أوضاعك العائلية أو من خلال مصالحك الشخصية أو من خلال علاقاتك الاجتماعية، وهكذا حتّى تكون الإنسان الذي يدفع الفتنة إلى أن تشتعل. لا بدّ لنا أن نفكِّر في أنّ الله شديد العقاب وأنّنا سنُقدم عليه، وعلينا أن نحذر عقابه لأنَّ عقاب الله سبحانه وتعالى ليس مثله عقاب {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 ـــ 26].
عباد الشيطان وعباد الرحمن
ثمّ يقول الله لكلّ الناس قبل أن يلتقوه، لكلّ نفس قبل أن تلتقيه {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27 ـــ 28]، النفس الواعية المطمئنة من خلال اطمئنان العقل واطمئنان العاطفة واطمئنان الشعور، ارجعي إلى ربّك راضية بنعم الله مرضية بطاعتك {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29 ـــ 30] هل نريد أن نكون من عباد الشيطان، أم من عباد الرحمن، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}، وكلمة أن تكون من عباد الله هي كلمة تحتاج إلى الجهد وإلى الوعي وإلى الكثير من المواقف التي تجعل الإنسان خائفاً مقام ربّه وخائفاً من لقاء ربّه ومنفتحاً على رحمة ربّه، ثمّ يقول الله للمؤمنين الذين كانوا مع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويقول لكلّ المؤمنين الذين جاؤوا بعد النبيّ وكانوا قلّة وكانت الحياة تحاصرهم وكان الناس يتخطّفونهم ليعرفهم أنّ الله أنعم عليهم بأنْ أواهم، وأنعم عليهم بأنْ أيّدهم بنصره، وأنعم عليهم بأن رزقهم من الطيّبات، لا تعتبروا هذا الخطاب موجَّهاً إلى الذين كانوا في زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بل اعتبروه موجَّهاً إليكم عندما عشتم بعض النصر في تاريخكم وبعض الأمن في تاريخكم وبعض الطيّبات في ماضيكم وحاضركم.
وحدة الخطّ
{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال : 26] أن تشكروا الله في هذه النِّعَم، ونحن نعرف أنّ خطّ الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين أخلصوا لله رسالته وانفتحوا على الناس كلّهم، كانوا يعيشون هذه القلّة، وهذا الاستضعاف وهذا التخطّف، وأيّدهم بنصره. فاشكروا الله، وشكركم لله أن تستخدموا نصر الله في نتائجه بطاعة الله. استخدموا هذه القوّة التي منحكم الله إيّاها، فلا تظلموا الناس من خلال قوّتكم ولا تتعرَّضوا لنفوسهم من خلال قوّتكم، ولا لأموالهم ولا لأعراضهم ولا لحريّاتهم، لأنَّ القوّة أمانة الله عند الأقوياء. فإذا لم يحرِّكوا أمانة الله في ما يرضي الله فإن الله سيستردّ أمانته وسيضعف الأقوياء في الدنيا قبل الآخرة، لأنَّ نعمة الله لا تستمرّ عندما تحرّكها في غير ما يحبّه الله ويريده، لهذا {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والشكر لله هو أن نبقى جماعة الإسلام في وحدة الخطّ الصحيح الخالص، وأن نعيش أجواء أهل البيت (عليهم السلام) في ما استلهموه من الإسلام وفي ما حرَّكوه في طريق الإسلام لنعمل على أن يكون ذلك سرّ الوحدة بيننا وفي كلّ مواقعنا الإسلامية مع كلّ المسلمين في العالم.
لا تخونوا الله
ثمّ يقول الله بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ}، {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ...} [الأنفال : 24] فإذا استجبتم لله وللرسول وانتميتم إلى دينه وسرتم في هذا الخطّ، فلا تخونوا الله فالإسلام عهد بينك وبين الله وهو أمانة الله عندك، والإسلام عهد بينك وبين رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو أمانة الرسول عندك، لا تخونوا الله في دينه، لا تخونوا الرسول في شريعته، بل أخلصوا لله والتزموا دينه ودافعوا عنه وأخلصوا لرسول الله والتزموا شريعته ودافعوا عنها ولا تخونوا أماناتكم أيضاً، في علاقاتكم، في وحدتكم، في تآخيكم، في كلّ القضايا الكبيرة التي تحكم حياتكم، في حديثكم، في كرامتكم، في كلّ مواقع العدالة في حياتكم، تلك هي الأمانة التي يجب أن تحافظ الأُمّة عليها في ما تحتاجه في حاضرها ومستقبلها، ولذلك يريد الله منّا أن نعيش مسؤولية كلّ ذلك، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، ثمّ يريد الله بعد ذلك أن يحدِّثنا أَنَّ الإنسان قد يخون أمانته بفعل عاطفته تجاه أولاده الذين يريدون منه، أو تريد منه مصالحهم، أن يخون أمانة الله ورسوله وأمانة الأُمّة، وربّما يدفعك مالك إلى أن تخون أمانة الله والرسول، لأنَّ هناك طمعاً عند أعداء الله والرسول ليمنحوك المال على أساس الخيانة، إنَّ الله يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ...} إنَّ الله يختبركم بأولادكم ويختبركم بأموالكم، هل تنهار مواقفكم أمام عاطفتكم تجاه أموالكم وأولادكم، أم أنّ مواقفكم لا تنهار ليكون الله أقرب إليكم من أموالكم وأولادكم وأَحَبَّ إليكم من أولادكم ومن أموالكم، الله يقول مالك تعيش معه وقتاً، أولادك تعيش معهم وقتاً، {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] ولكنّك عندما تفضِّل الله على أموالك وعلى أولادك فإنّك ستجد الأجر العظيم عند الله، وعندما تحصل على الأجر العظيم عند الله فإنّك تحصل على السعادة الخالدة والفوز الكبير، تلك هي أجواء القرآن، وذلك هو الذي أراد الله من خلاله أن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يحيي عقولنا بالقرآن، وأن يدفع بالحياة إلى حياتنا بالقرآن، لأنَّ الله جعله نوراً وموعظة وشفاءً لما في الصدور، وجعله حياة للقلب وللروح وللعقل، وهذا ما يجب أن نلتفت إليه دائماً، لنجلس إلى القرآن لنستنطقه في ما يريد أن يوجّهنا إليه، ولندرس حلوله في ما يمكن أن يحوط مشاكلنا فيه، القرآنيون الذين جعلوا القرآن شفاءهم وجعلوا القرآن دستورهم وجعلوا القرآن أساس حياتهم لم يلتفتوا يميناً ويساراً وإنّما انطلقوا إلى الجادّة المستقيمة ليستمعوا إلى الله في القرآن، يقول لهم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] القرآن هدانا، وهو الذي يذكّرنا دائماً، عندما نضعف، بأنَّ الله هو الأقوى، ويذكّرنا دائماً، عندما تمتلئ قلوبنا بالكبار الذين يريدون أن يسيطروا على مقدّراتنا، بأنَّ الله أكبر، ويذكّرنا، عندما نتطلَّع إلى المواقع العليا في بلادنا وفي بلاد الآخرين ليقول الناس هذه هي الدولة الأعلى، وهذا هو الرئيس الأعلى، ليقول لك القرآن إنَّ الله هو الأعلى، وإنّ كلّ مَن يقول أنا ربّكم الأعلى سوف يُنكَّل نكال الآخرة والأولى.
الثبات على الحقّ
بالقرآن تعيشون العزّة وتشعرون بمسؤولية عزّتكم {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] بالقرآن تتعلَّمون كيف يخاطب بعضكم بعضاً ويحاور بعضكم بعضاً ويعاشر بعضكم بعضاً ويتحمّل بعضكم مسؤولية بعض، تلك هي إيحاءات القرآن، فلنلتزم القرآن، ولنلتزم كلّ آياته، ولنترك كلّ مَن يريد أن يبعدنا عن القرآن تحت تأثير أيّ عنوان وأيّ وضع. إنّ القرآن لا يعزلنا عن الآخرين لأنَّ الله يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ...} [الممتحنة: 8] إنّ الله لا يعزلنا عمّن نختلف معه، بل يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران: 64]، هذا قول القرآن. بعض الناس يتصوَّر أنّه بقدر ما يكون مؤمناً، بقدر ما يكون تقيّاً، بقدر ما يكون مسلماً، بقدر ما يكون ملتزماً بالقرآن؛ يجب أن ينعزل عن الناس، يقول لا أُريد أن أنفتح على أحد، الله سبحانه وتعالى لم يمنعنا من أن ننفتح على أحد، لكن يقول إذا أردتم أن تنفتحوا على الناس حافظوا على أفكاركم، لا يخدعنّكم الناس عن أفكاركم، لا يخدعنّكم الناس عن مواقفكم، لا يخدعنَّكم الناس عن كلّ واقعكم، اثبتوا، لا تتزلزلوا، لا تسقطوا أمام التحدّيات، اثبتوا عندما تؤمنون بفكرة أنّها الحقيقة، عندما تؤمنون بموقف أنّه الحقّ اثبتوا عليه، مهما صادفكم من مشاكل ومن أوضاع، تلك هي المسألة.
لقاء الإمام
وهذا ما كنّا نستشرفه في زيارتنا إلى الجمهورية الإسلامية عندما التقينا بالإمام الخميني (حفظه الله) الذي كانت قيمته في كلّ حياته منذ أن تحرَّك ومنذ أن واجَهَ الأخطار والمشاكل وواجَهَ السُبَاب والشتائم والاتهامات وكلّ أساليب التعسف التي وجَّهها إليه العالم المستكبر، إنّه سحق كلّ ذلك بقدميه لأنّه شعر بأنّ الإنسان الذي يريد أن يقف في وجه الباطل المستكبر لاسيّما إذا كان في موقع الدول الكبرى، فعليه أن يعتبر هذه الأساليب أساليب طبيعية لأنَّ الآخرين عندما يخافون من موقفك ويخافون من صدقك وإخلاصك فإنّهم يلجؤون إلى هذه الأساليب حتّى يشوّهوك وحتّى يسقطوك، ولكن ما قيمة الناس حتّى يسقطوا مجاهداً أو قائداً أو مؤمناً إذا كان الله يريد أن يرفعه، وإذا كان الله يريد أن يجعله في المواقع العليا، ولذلك تحدَّث الناس كثيراً عنه وقالوا عنه الكثير وتحدَّثت عنه الدول كثيراً وحاصرت كلّ مواقعه ومواقفه، ولكنّه كان قرآنياً، قرأ القرآن كأروع ما يقرأ الإنسان القرآن، وأدخل القرآن إلى عقله فكان عقله يخطّط من خلال القرآن، أدخل القرآن إلى روحه فكانت روحه تنفتح على القرآن، وأدخل القرآن إلى حياته فكانت قيادته تنطلق في دروب القرآن، لذلك استطاع أن يثبت وتكسَّرت كلّ الدول التي أرادت أن تسقطه والتي أرادت أن تنحرف به عن الخطّ، حتّى عندما اضطر لأنْ يغلق باب الحرب نتيجة الظروف التي صنعها الاستكبار العالمي حتّى يضيق عليه الخناق من كلّ جانب، لم يسقط، وإنّما قال إنّي أتجرَّع السمّ، ولكن لن أسقط سأبقى في مواقع الإسلام أدعو الناس إلى الإسلام، وسأبقى في مواقع الحريّة أدعو الناس إلى الحريّة، وسأبقى لِأُحرِّك ثورة المستضعفين في مواجهة المستكبرين، قالها وهو يعبِّر عن موقفه، وقالها وهو يدعو الناس إلى أن لا يعتبروا القبول بالقرار قبولاً بالخضوع للاستكبار أيّاً كان المستكبرون. قال لهم أن تبقى لهم روحهم لأنَّ المعركة بيننا وبين المستكبرين، أنّهم يريدون إسقاط روحنا لنتحرّك بلا روح. وهكذا كانت قيمته أنّه أخلص لله وأنّه كان الواعي الذي يعرف أنّ التحدّيات التي توجه إلى الوضع هناك ليست تحدّيات موجّهة إلى إيران ولكنّها موجّهة إلى الإسلام، قالها لي: إنَّ أميركا تعمل على أن تحارب الإسلام لا أن تحارب إيران، القضية ليست قضية وطن يدخل الصراع مع أميركا على أساس سياسي أو أمني أو اقتصادي، ولكنَّ القضية قضية إسلام يدخل الصراع مع أميركا من أجل أن يخفّف كلّ استكبار أميركا في سيطرتها على العالم، إنّه يفكّر بهذه الطريقة، وعندما قلت له: إنَّ الاستكبار عمل على أن يحاصر الحالة الإسلامية في لبنان بكلّ الوسائل، قال: إنّها حركة الاستكبار في مواجهة الإسلام الذي تمثّله الحالة الإسلامية بصدق، وعندما طلبت إليه أن يبعث برسالة إلى المؤمنين هنا، كلّ المؤمنين الواعين الملتزمين المنفتحين على خطّ الإسلام في الدعوة وفي الجهاد في سبيل الله، قال: قل لهم إنّني أبعث إليهم بكلّ محبّة وتحيّة وسلام، وأذكرهم في دعائي، قل لهم أن يبقوا واقفين في وجه الاستكبار، لا يسقطوا مهما كانت الضغوط وأن يحتضنوا الإسلام في حياتهم كمسؤولية إلهية، فلا يتركوا الإسلام مهما كانت التحدّيات وعليهم أن لا يتعبوا من السير في الخطوط الصعبة في خطّ الجهاد وعليهم أن لا يسقطوا أمام كلّ ما يُوَجَّه إليهم من ضغط على جميع المستويات لأنَّ الاستكبار الطاغي والاستكبار الكافر يعمل على أن يخوّف المؤمنين بتهاويله، ويعمل على محاصرة الإسلام في خططه، ويعمل على أن يضعف موقع الناس. فلا تكونوا الضعفاء ولا تكونوا المنهارين بل كونوا الأقوياء {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 139] تلك هي وصيّته، أن نبقى الواقفين في كلّ مواقع التحدّي لأنَّ المسألة ليست مسألة حالة سياسية طارئة ولكنَّ المسألة مسألة إسلام يريد أن يتحرّك في كلّ الحياة كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال : 39] من خلال كلّ الإمكانات التي نملكها.
الجمهورية الإسلامية لن تسقط تحت الضغوط
وعلى هذا الأساس، فإنّنا نشعر أنّ علينا أن نظلّ منفتحين على كلّ قضايا العالم الإسلامي وأنّ علينا أن نعرف قبل كلّ شيء أنّ الجمهورية الإسلامية لم تسقط تحت تأثير ضغوط استكبارية ولم تقدِّم أيّة تنازلات تنحرف بها عن الخطّ، وإذا كانت هناك بعض الأفكار تتحرّك في الساحة فإنَّ الخطّ الذي يحتوي كلّ تلك الأفكار هو الخطّ الذي يمثّله الإمام (حفظه الله) وهو الخطّ الذي يفرض نفسه، وإنّه يعطي الحريّة للناس وللمفكّرين حتّى يتحاوروا في أفضل السبل لخدمة الإسلام من دون أن يسمح لهم بأن يكون خلافهم مؤدّياً إلى سقوط الدولة الإسلامية، إنّه حوار في الفكر من أجل أن يؤدّي إلى وضوح الرؤية أكثر، وليس نزاعاً يعمل على إيجاد المشاكل في الداخل، لقد كنت مطمئناً للجوّ العام في سلامة الخطّ وفي سلامة الدولة، وليس معنى ذلك أنّه ليس هناك مشاكل، ولكنَّ المشاكل ليست بالمستوى الذي تصل فيه إلى حدود الخطر، ولكلّ بلدٍ مشاكله، ولكلّ مرحلة مشاكلها.
إعلان الدولة الفلسطينية
ونحن في هذا الموقع، لا بدّ من أن نتطلَّع إلى الحدث الجديد الذي حصل قبل أيّام في ساحتنا الإسلامية، وهو إعلان الدولة الفلسطينية المستقلّة(1)، إنّنا لسنا معقّدين من أن تعلن دولة فلسطينية إلى جانب الدول الأخرى الموجودة في المنطقة، وإنْ كنّا نطمع في أن تكون كلّ الدول دولة واحدة، لأنَّ الوحدة تستطيع أن تعطي القوّة بما لا تعطيه التفرقة، لكن دولة فلسطينية لا تملك حريّة الأرض وحركة الأرض، لا تستطيع أن تدخل أرضها، وقبل أن تحصل على أيّ شيء قدَّمت التنازلات في الوقت الذي لم تقدِّم "إسرائيل" الغاصبة لكلّ الأرض والتي تريد أن تغتصب أرضاً أخرى وأن تغتصب مستقبلاً آخر من دون أن تقدِّم أيّ تنازل حتّى على هذا المستوى، إنَّ هذه الخطوة التي أضافت إلى الأوهام العربية السياسية وهماً جديداً والتي هيَّأت لكثير من الناس أنّها نصر جديد للقضية الفلسطينية في الوقت الذي يمثِّل ذلك هزيمة للمواقف الصلبة التي يجب أن تكون في الإصرار على أن تبقى كلّ أرض فلسطين لأهلها، إنَّنا نعتقد أنّها تدخل في نطاق التنازلات العربية السياسية التي بدأها العرب منذ وقت طويل بسياستهم وهم يقدِّمون التنازلات تلو التنازلات حتّى أصبحوا في جامعتهم العربية وفي علاقاتهم الثنائية وفي مجالسهم المحوريّة في ما بين دولة وأخرى، أصبحوا يلهثون وراء "إسرائيل" لتقبل منهم أن يحاوروها، وأنْ يجلسوا معها في نطاق المؤتمر الدولي حفاظاً على ماء الوجه، لكنَّ "إسرائيل" بقيت على طرحها الأوّل، وهي أنّها لا تجلس مع العرب إلاّ منفردين، وليست مستعدّة لأن تجلس معهم مجتمعين، أو في نطاق مؤتمر دولي، لأنّها تريد أن تقودهم إلى أن يسلموا لها فلسطين كاملة، أو أكثر، وحتّى تقبل بالصلح معهم.
الاعتراف بإسرائيل
المسألة هي ليست أن يقبل العرب بالصلح مع "إسرائيل"، فقد أصبحت مسألة الصلح مع "إسرائيل" مسألة أساسية في السياسة العربية، وقد أصبح الحديث عن السلام مع "إسرائيل" في تصريحات ممثّل الجامعة العربيّة بالصوت العالي المسموع، ولكنّ المسألة هي أن تقبل "إسرائيل" بمصالحة العرب لأنّها لا تريد ذلك إلاّ من خلال شروطها. لهذا فإنَّ المسألة هي أنّ منظمة التحرير قدَّمت هذا التنازل بدون نتائج، ربّما كانت هناك نصائح دولية كبيرة، إضافةً إلى النصائح العربية، بأن تقدِّم منظمة التحرير هذه التنازلات لكي تقبل أميركا الاعتراف بمنظّمة التحرير لأنّها وضعت شرطاً أن تعترف منظمّة التحرير بــ "إسرائيل" أوّلاً، وعندما اعترفت بالقرارين 242 و338 فمعنى ذلك أنّه يعتبر اعترافاً ضمنياً بــ "إسرائيل"، ومع ذلك ما النتائج؟ علَّقت أميركا بأنّ في هذا القرار إيجابيات ولكن هذا ليس كافياً، حتّى تصرَّح منظّمة التحرير تصريحاً كاملاً بالاعتراف الكامل بــ "إسرائيل" وبعد ذلك تنظر أميركا إنْ كانت مستعدّة لأن تتحدّث مع منظمة التحرير. تصوَّروا أنّ رئيسة حكومة بريطانيا تناشد رئيس الولايات المتحدة الآن بصيغة جلب العطف، أن يتنازل ويعطف على هذا القرار ويشجِّع الفلسطينيّين ببعض اللّفتات حتّى يتنازلوا أكثر، يعني لا تكونوا جامدين؛ أعطوهم ضحكة، بسمة، أعطوهم تصريحاً، لأنَّ العرب يحبُّون التصاريح الفضفاضة، لأنّهم يعتبرونها نصراً، أصبحت انتصاراتنا الكبيرة السياسية في ما يقدّمه لنا الأميركيون والأوروبيون من مبادرات إعلانية لا مبادرات سياسية، ومع ذلك لا يزال ريغن الذي أصبح الشمس الغاربة، لا يزال غير مستعد لأنْ يعطي كلمة عطف لهذا القرار حتّى يقود التنازلات إلى هزيمة سياسية أكثر من هذه الهزيمة.
الانتفاضة تقدّم الشهداء
منظّمة التحرير التي تملك، لا نقول تملك، بل هي لا تملك الانتفاضة كلّها، قد تملك بعض مواقعها، هذه الانتفاضة التي بلغت عامها الأوّل، ودخلت في نهاية هذا العام ولا تزال تقدِّم الشهداء وتقدِّم المواقف الصلبة في كلّ موقع من مواقع فلسطين، ومع ذلك فإنَّهم يقدِّمون التنازلات لــ "إسرائيل" من دون أن تقدِّم هي أيّ تنازل، حتّى على مستوى تخفيف الضغط على الانتفاضة، ونحن نتصوَّر أنّ إعلان الدولة الفلسطينية في هذا الإطار السياسي سوف يكون تجربة ثانية بعد مبادرة وزير الخارجية الأميركي لتطويق الانتفاضة وتدجينها ومحاصرتها حتّى تتحوّل إلى حركة من أجل تسجيل النقاط في ساحة المفاوضات لا من أجل تحويل الواقع إلى ثورة حقيقيّة تعمل على تثوير العالم الإسلامي. لهذا نحن كإسلاميين نرفض هذه الدولة، نحن نريد أن تكون هناك دولة من موقع إرادة الحريّة للشعب الفلسطيني المسلم لا من موقع إرادة التنازلات للوسط السياسي الفلسطيني الذي يتحرّك في دائرة الهزيمة العربية بدلاً من أن يتحرّك في دائرة النصر العربي. ونقول لكلّ إخوتنا من المجاهدين الإسلاميين هناك أن لا يقعوا في هذا المطبّ، وأن يكونوا الواعين للدور الكبير الذي ينتظرهم، لأنّه ليس لدى الشعب الفلسطيني المجاهد ما يخسره إلاّ أغلاله، ليس له إلاّ هذه الأعمال وليس له ما يخسر، إنّه سيربح الحريّة من خلال ذلك.
اللبنانيون سلَّموا أمورهم للدول الكبرى
ثمّ لا بدّ من أن نواجه في المسألة اللبنانية الداخلية التي يُحكى عن وجود إيجابيات ووجود إمكانات للحلّ فيها، المسألة اللبنانية التي يُفترض أن يتحرّك اللبنانيون فيها من موقع الوعي والإرادة القويّة ليدبّروا أنفسهم بأنفسهم وليقلِّعوا شوكهم بأظافرهم، ولكنّهم سلَّموا هذه المهمّة للدول الكبرى، لدولة كبرى واحدة وهي أميركا، ولهذا فإنَّ المسألة هي ماذا تريد أميركا، الحديث عن موفد أميركي في الفاتيكان وموفد أميركي إلى لبنان، والحديث عمّا تخطّط له الإدارة الأميركية وهل تهتمّ بلبنان، وهم يستجدونها الاهتمام بلبنان، أو هل أميركا تهتمّ بلبنان أم لا تهتمّ، وإذا اهتمّت فليس لبنان في موقع الأولويّات.
من خلال الرصد الدقيق للمسألة اللبنانية في الواقع الذي نعيشه والذي برزت فيه كثير من التطوّرات في المنطقة، وفي طليعتها مسألة الدولة الفلسطينية، وبعض الأمور المتحرّكة في المنطقة، نرى أنّ لبنان هذا الذي أُريدَ له أن يكون ساحة لكلّ العواصف السياسية في المنطقة، ولكلّ المشاريع الغربية في المنطقة، ولكلّ النفوذ الأميركي في المنطقة، لبنان هذا يُدرّس الآن دوره لا من خلال المآسي التي يعيشها شعبه في ما يعاني من جوع وتشريد وحرمان وانهيار على جميع المستويات، المسألة ليست في ما يقاسي شعبه؟ ولكن يفكّرون كيف نستفيد من لبنان في هذه المرحلة، ما دور لبنان في ما يُقبلُ عليه الواقع السياسي في المستقبل القريب، في المسألة الفلسطينية؟ وما دور لبنان في الموقع الذي تفكِّر فيه أميركا لكي يكون مدخلاً لسيطرة نفوذها السياسي على المنطقة؟ وما موقع لبنان في ما يخطّط لكثير من الاهتزازات السياسية في المنطقة بعد انتهاء حرب الخليج، أو بعد أنْ شارفت على نهايتها؟ لأنّهم لن يتركوا المنطقة مستقرّة ما دام في المنطقة نفط وما دام في المنطقة الكثير من المواقع الاستراتيجية، وما دامت المنطقة تعمل على أساس أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، وهم يريدونها سوقاً استهلاكية.
دور الرئيس من دور لبنان
التفكير الآن ما هو دور لبنان في أزمة المنطقة، وما هو دور لبنان في طبيعة الأوضاع السياسية الأخرى في المنطقة؟ وذلك ما يحدّد مسار السياسة اللبنانية. ليست المسألة أن يتّفق اللبنانيون على رئيس أو لا يتّفقوا، ليست المسألة مَن هو شخص هذا الرئيس وما هي الأسماء المتداولة مارونياً، وما هي الأسماء التي يحملها هذا أو ذاك.. المسألة هي ما هو الدور اللبناني ومَن هو الرئيس الذي يُراد له أن يرتّب في دوره وفي دائرته الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية في لبنان بحيث لا يسيء إلى أيٍّ منهم. ليس البحث عن الرئيس، ولكن البحث عن دور الرئيس وعن دور لبنان، ولهذا ليست المسألة المطروحة هي مسألة الإصلاح ولكنّها مسألة الشخص، لأنَّ مسألة الإصلاح تتعلّق بالداخل، والداخل ليس مهمّاً عند الدول الكبرى، أمّا مسألة الرئيس فهي تتعلَّق بالوضع الخارجي، في علاقة لبنان بالأوضاع السياسية في المنطقة وفي خارجها، ولهذا يقع موقع الاهتمام.
فليغلق ملفّ الحقد
ولذلك فإنَّنا نتصوَّر ـــ من دون أن ندخل في مسألة التفاؤل والتشاؤم ـــ أنّ المسألة ليست قصيرة وأنّ الجميع يأخذون وقتهم في ترتيب الأمور على قياساتهم حتّى يكون التفصيل تفصيلاً ملائماً للجسد الأميركي في المنطقة من دون أيّة زيادة أو نقصان، ولهذا فعلينا أن ننتظر وقتاً طويلاً حتّى تنجلي المشكلة، وعلينا أن نعمل على أن نقلّع كثيراً من أشواكنا بأظافرنا، وأن لا نضيف إلى أشواكنا أشواكاً جديدة، وعلينا أن ننطلق جميعاً في هذه المرحلة الصعبة التي سوف تأتي بعدها مراحل أصعب وأمرّ.. لا بدّ من أن نعمل جميعاً من أجل الوحدة ومن أجل إيجاد قاعدة للتوازن في داخل الصف الواحد ومن أجل أن نبتعد عن كلّ الكلمات التي تدخل في أساليب المهاترات، وأن نغلق كلّ ملفات الحروب الإعلامية، وأن نفتح قلوبنا لله، لأنَّ القلوب المفتوحة لله سوف تكون مفتوحة للجميع من خلال ذلك، ليرتفع الصوت أنْ يتوحَّد الناس وليرتفع الصوت أن يغلق كلّ ملف الحقد والبغضاء والعداوة والفتنة والقتل والقتال، وأن يجلس الجميع إلى شريعة الله لتقول الشريعة كلمتها في كلّ ما يختلف فيه الناس، وفي كلّ ما يتنازعون فيه {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103] فلا تعودوا إلى النار من جديد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
الاستجابة لله في حركة الواقع(*)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ*وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ*وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ*وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 24 ـــ 28].
الحياة الاجتماعية والموت الاجتماعي
في هذه الآيات دعوة من الله للذين آمنوا إلى أن يستجيبوا لله ولرسوله في دعوتهما، في دعوة الرسول الذي يؤدّي عن الله والذي يحدِّث الناس بوحي الله، أن يستجيبوا إليه في ما يدعوهم إليه من شريعته التي تشمل كلّ مواقع حياتهم سواء في حياتهم الفردية أو في حياتهم الاجتماعية، فقد أراد الله للإنسان أن يُخضع كلّ حياته لإرادته ولأحكامه التي تمثّل مواقع الله، فأنتَ عبد الله وقد جعل الله لكَ حياتين: حياة مادية تتمثّل في هذه الحيوية التي تمنحها الروح لجسدك فيعيش في حالة نمو وحركة من خلال هذه الجذوة الإلهية المشرقة الموجودة في هذا الجسد وهي الروح، ويريدك الله أن تحافظ على حياتك فلا تُلْقِ بيدك إلى التهلكة إلاّ في ما أباح الله لك ذلك في خطّ الجهاد وفي ما يشبه ذلك، وهناك حياة معنوية يريد الله لكَ أن تعيشها وذلك بأن يحيا عقلك بالفكر الذي ينفتح على الله وينفتح على الناس بما ينفعهم، وأن يكون لك شعورك الذي يعطي الناس المحبّة والخير والسلام، وأن تكون لك قِيَمك الأخلاقية الروحية التي أراد الله لك أن تحرِّك حياتك في اتّجاهها ليكون لك الصبر عند الشدائد فلا تسقط أمام كلّ أنواع البلاء، وليكون لك القلب الكبير الذي يتّسع للنّاس فلا ينبض إلاّ بالخير، وأن يكون لك صدرك الواسع الذي يمتصّ كلّ الانفعالات ليتّسع لكلّ الإساءات التي يسيؤها الناس إليك، وللمشاكل التي يثيرها الناس في حياتك ليكون في صدرك الحلم، وليكون في أخلاقك العفو عند المقدرة، ولتكون حياتك شعوراً بالمسؤولية لخدمة الناس ـــ كلّ الناس ـــ في ما أعطاكَ الله من عقل يحتاج الناس إلى فكره، وما أعطاك الله من علم يحتاج الناس إلى نتائجه، وما أعطاك الله من مال يحتاج الناس إليه، وما أعطاك الله من جاه يقصدك الناس من أجل أن تخدمهم من خلاله، وما أعطاك الله من وعي للمسؤولية لتحرِّك كلّ طاقاتك في رفع مستوى الناس وحماية حريّة الناس، تلك هي الحياة المعنوية. الجهل موت والعلم حياة، العبودية موت والحريّة حياة، الخيانة موت والإخلاص حياة، البُعد عن المسؤولية موت والتحرّك في قلب المسؤولية حياة، أنتَ ميّت موتاً روحياً ومعنوياً إذا أخذت بأسباب الفسق والفجور في حياتك، لأنّك أَمَتَّ طاقة الطهر والنقاء في حياتك، مات طهرك، مات صفاؤك، مات نقاء قلبك.
عندما تأخذ بأسباب الفجور، وعندما تنعزل عن مشاكل الناس وعن كلّ قضاياهم، فأنتَ ميّت اجتماعياً لأنّك لا تتحسَّس آلام الناس ولا تتحسَّس مشاكلهم وقضاياهم، الناس يصرخون وأنت لا تسمع صراخهم، الناس يتألّمون وأنتَ لا تحسّ بألمهم، الناس يعانون المشاكل وأنتَ لا تشعر بمعاناتهم، أيّ فرق بينك وبين الميّت، الميّت لا يحسّ لأنّه يفقد الحياة الجسدية وأنتَ لا تحسّ لأنّك تفقد الحياة الروحية المعنوية، أنت ميّت في هذا المجال والمسؤولية المتحرّكة التي تجعلك تنتقل إلى الناس لترفض كلّ أوضاعهم وآلامهم، تنزل دموعك عندما تلتقي بالمأساة لتشاركهم بهذه الدموع وتتحرّك طاقاتك عندما تلتقي بمشاكلهم لتحلّ مشاكلهم، فالله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين الأحياء، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، الذين يسمعون ويبصرون ويتحرّكون يقول لهم: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} من الطبيعي أنّه لا يريد الحياة الجسدية لأنّه يخاطب الأحياء ولا يخاطب الأموات، ولكنّه يريد الحياة الروحية، الحياة المعنوية التي تتّسع لكلّ آفاق الخير في حياتك، ولكلّ قِيَم الروح في شخصيّتك، ولكلّ حركة المسؤولية في واقعك.
الحياة تحت تدبير الله
أنتَ في حياتك تحرّك يدك وفي المسؤولية تحرّك طاقتك، إذا عشت غير مسؤول فمعنى ذلك أنّ طاقاتك ميّتة لا تتحرّك؛ لا فرق بينها وبين الميّت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} وعلى ضوء هذا يمكن أن نفهم من الآية أنّ الإسلام الذي يلتزم للإنسان بكلّ هذه الحياة المعنوية في ما ينفتح فيه من العقيدة التي تجعل الإنسان منفتحاً بكلّه على الله وعلى رسوله وعلى كتبه وعلى اليوم الآخر، وفي ما يخطّط من شريعة تجعل الإنسان إنساناً مسؤولاً عن الحياة كلّها بحجمه، وإنساناً متحرّكاً ينطلق في الحياة ليشعر أنّ الحياة واقعة تحت تدبير الله، وأنّ الله أوكل للإنسان أن يكون خليفته في الأرض فينفِّذ ما يريد الله أن ينفِّذه، لقد جعلك الله خليفته في الأرض لتتحرّك في مواقع الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولتفتح الحياة كلّها على ما يحبّه الله، وقد جعلك الله خليفته في المال الذي أعطاك إيّاه وقال: {... وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد : 7]، أنتَ خليفة الله في ماله، وعليك أن تسخّر ماله في ما يريد. وأنتَ خليفة الله في حركة الحياة فعليك أن تحرِّك الحياة في ما يحبّ الله وما يرضاه.
ولهذا عندما تكون ملتزماً بالإسلام فأنتَ حيّ، ولكنّك عندما تضع الإسلام وراء ظهرك ولا تلتزم بكلّ أحكامه وبكلّ مواقعه وبكلّ قِيَمه فأنتَ ميّت إسلامياً.. عندما تنتمي إلى الإسلام اسماً وتتركه روحاً وتبتعد عنه أخلاقاً وتبتعد عنه حركة في خطّ الله، فأنتَ ميّت إسلامياً، لأنّك لا تحرّك الإسلام في حياتك.
حياة القلب من حياة الروح
ومن هنا، لا بدّ لنا إذا أردنا الحياة الإسلامية التي دعانا الله إليها والتي دعانا الرسول إليها، فعلينا أن نبني أنفسنا بناءً أخلاقياً، وعلينا أن نمنع عملية الموت في قلوبنا، كما تمنع موت قلبك في ما تأخذه من الأدوية التي تفتح لك الشريان أو التي تمنع حدوث النوبة القلبية التي قد تقضي على حياتك، عليك أن تأخذ أيضاً الأدوية الروحية التي تمنع قلبك من أن يقع تحت تأثير نوبة تلغي حركته ونبضته الإيمانية، لأنَّ هناك موتاً للقلب أيضاً. هناك كثير من الأحاديث عن بعض الأشياء التي تميت القلب، يقول الله عن بعض الناس {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً} [البقرة : 10]، ليس هذا المرض هو مرض القلب بوجوده المادي، ولكنَّ النّفاق يمثّل مرض القلب بوجوده الروحي، والله يقول لكم: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24]، الله يشرف على قلبك، فقلبك تحت رقابة الله ونبضات قلبك بيد الله، هو يحوِّلها كيف يشاء ويسيِّرها كيف يشاء فلا تعتبر قلبك بمنأىً عن الله، فالله هو مقلّب القلوب، هو يحول بين المرء وقلبه، فيشرف على قلبه كلّه ويرعى قلبه كلّه، فاجعل قلبك من موقع إرادتك بيد الله، واجعله متحرّكاً في نبضاته وفي خفقاته وفي كلّ أحاسيسه في طريق الله، لا تدخل إلى قلبك أحداً ممّن لا علاقة بينه وبين الله، عندما يريد الآخرون الذين يحاربون الله ورسوله في دينه وفي شريعته وفي أوليائه وفي قيمه، عندما يريد هؤلاء أن يقتحموا قلبك على أساس بعض الأوضاع التي يرتاح إليها الحسّ الجسدي، ذكِّر قلبك بالأوضاع السيّئة التي لا يرتاح إليها الحسّ الروحي، ادخل دائماً في عملية مقارنة بين سلبيات هؤلاء وبين إيجابيّاتهم حتّى لا يسقط قلبك تحت تأثير إغراءاتهم، وحتّى لا ينفعل قلبك بالكلمات المعسولة التي يحاولون أن يثيروها في حياتك الشعورية.
حضور الأمم بين يديّ الله
{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24] هذه هي الحقيقة الثالثة، ضعها في نفسك عندما تريد أن تقوم بأيّ عمل من الأعمال، عندما تكون وحدك ولا رقيب عليك اذكر رقابة الله عليك وحسابك غداً بين يديه، وعندما تكون مع الناس وأنتَ تملك بعض جوانب القدرة التي تستطيع من خلالها أن تنفع الناس أو تضرّهم في أرزاقهم وفي أهلهم وفي مصالحهم وفي كلّ أوضاعهم، اذكر حتّى وأنت في مواقع قوّتك، حولك جندك وحولك أهلك وبيديك سلاحك، لكن كيف بك إذا وقفت غداً بين يديّ الله عارياً من كلّ شيء، ليس هناك وليّ ينصرك وليس عندك قوّة تنتصر بها، كيف بك إذا حاسبك الله عن تحريك قدرتك في ما لا يرضاه، مَن ينصرك من الله عندما تحشر مع الناس في كلّ ما يجتمع الناس من اجتماعات دينية أو اجتماعات اجتماعية أو سياسية أو اجتماعات اللّذات والشهوات؟ عندما تحشر مع الناس في الدنيا فكِّر بهذه الحقيقة، إنّك تحشر وحدك ومع الناس في الآخرة، وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى وأكَّد أنّ كلّ أُمّة تُدعى إلى حسابها، كلّ أُمّة جاثية بين يديّ الله، كلّ جماعة وكلّ عشيرة عندما تتضامن يجمعها الله بعضها مع بعض، كذلك الطوائف والأحزاب والتنظيمات لها كتاب واحد، لماذا؟ لأنّها اجتمعت على أن تتحمّل المسؤولية في أعمالها وفي أخطائها وفي مفاوضاتها وفي كلّ شيء، فالله يقول لكم: صحيح أنّ كلّ إنسان يُجزى بعمله الفرديّ، ولكنّكم عندما تجتمعون على عمل، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يعاقب المجتمع كلّه.
السكوت عن الحقّ لا يعفيك من المسؤولية عن النتائج
خذوا مثلاً قوم صالح (عليه السلام) الذين عقروا الناقة، الإمام عليّ (عليه السلام) يعلِّق على هذه المسألة، يقول: "أيُّها الناس إنّما يجمع الناس الرضا والسخط"(1)، يعني أنّ الذي يجمعكم ويجعلكم جماعة واحدة ويحمّلكم مسؤولية واحدة ليس التعاون في العمل فقط بل التعاون في إعطاء الحالة النفسية للعمل؛ أن ترضى عن عمل أو تعين عليه أو تشارك في التخطيط له، في هذا المجال أنت شريك في العمل، يقول: إنّما يجمع الناس الرضى والسخط، وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب، لما عمّوه بالرضى، فقال: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء : 157] على الرغم من أنَّ الذي عقرها هو شخص واحد، لهذا لا تعتبر نفسك بمنأى عن المسؤولية غداً بين يديّ الله إذا تجنَّبت صراعات الناس في ما بينهم وجلستَ في بيتك ورضيت بعمل قوم معيّنين؛ مدحتهم، شجّعتهم، عاونتهم، رضيت عنهم بقلبك، أنتَ معهم وإنْ لم تشاركهم شيئاً. في حديثٍ آخر للإمام عليّ (سلام الله عليه) يقول: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم"(1) الله يقول لك: أنتَ جزء منهم إنْ كانوا خيّرين فأنتَ جزء من الخير الذي يعمّهم، وإنْ كانوا أشراراً فأنتَ جزء من ذلك الشرّ، لأنّك وإن لم تكن منهم بعملك لكنّك منهم بعواطفك، والله يريد للفكر أن يكون مسؤولاً وللعاطفة أن تكون مسؤولة، للفكر حدوده في أن ينطلق إلاّ في طريق الخير وأن لا يخطّط إلاّ للخير، وللعاطفة حدودها في أن لا تنطلق مع أعداء الله، وأن لا تمتنع عن أولياء الله، وهذا الحديث الذي قرأته عليكم مراراً حديث يقول: إذا أردت أن تعرف نفسك فانظر قلبك، فإنْ كان قلبك يوالي أولياء الله ويُعادي أعداء الله ففيك خير، والله يحبّك، وإنْ كان قلبك يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله فليس فيك خير، والله يبغضك، ثمّ يعطي القاعدة "والمرء مع مَن أَحَب"(2)، يعني يحشر الناس يوم القيامة على الحبّ والبغض.
الدين.. أن تحبّ الله وأولياءه
الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال في ما رُوِيَ عنه لبعض أصحابه وهو يحدّثه عن مسألة الحبّ والبغض. قال: إنَّ الحبّ والبغض شيء والدين شيء آخر، كما يقول الشاعر اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضيّة، مثلاً بعض الناس يقولون: إنَّ الدين لله والوطن للجميع، الدين لله نريد أن نتركه في المسجد وليس لك حريّة أن تنطلق به من المسجد، يعني يبقى الدين مع الله فليبقَ الله في المسجد وليبقَ الدين في المسجد، أمّا الوطن، فليس لله شغل به، ولا للدين شغل به، الوطن للجميع يعني ليس هناك دين للعلاقات بين الناس، هناك حديث يقول: فلنخرج الدين من علاقاتنا ولنخرج الدين من أوضاعنا ومن سياستنا، عندما تتحدّثون عن السياسة والاجتماع اتركوا كلام الدين، اذكروا الوطن، اذكروا القومية، اذكروا كلّ ذلك، لكن أبعدوا الدين جانباً، أي أنّ الدين لا عمق له في حياتنا وليس له تأثير، الإمام (عليه السلام) قال: "وهل الدين إلاّ الحبّ والبغض"(1)، أن تحبّ الله وتحبّ أولياءه ذلك هو الدين، أن لا تحبّ الله ولا تحبّ أولياءه ذلك أيضاً دين معاكس. هذه المسائل تحتاج لأن نعمّقها دائماً وندرك أهميّتها، من هذه الفقرة {... وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال : 24]، يعني لا تأخذ حريّتك، تصفّق عندما يصفّق الناس وتهتف عندما يهتف الناس، وتسبّ عندما يسبّ الناس وتصدر أحكامك عندما يصدر الناس أحكامهم، لأنَّ الجوّ الحماسي والانفعالي والعاطفي يغمرك ويستولي على كيانك.
الحشر بين يديّ الله
فكِّر: سأنفصل عن الناس بعد قليل وسينفصل الناس عنّي بعد قليل، وأنّني ربّما أدعى بعد انصرافي عن لقاء الناس إلى لقاء الله، وأنّ الناس سوف يُدعون أيضاً بعد انصرافهم عنّي إلى لقاء الله، فكيف أُواجه الله إذا قال لي: كيف صفّقت؟ وكيف شتمت؟ وكيف لعنت؟ وكيف حكمت؟ وكيف قلت؟ مَن ينقذني من الله إذا لم يكن عندي جواب، ومَن يخلّصني من عذاب الله إذا لم يكن عندي أيّ شيء أُبرِّر به عملي، أليس ذلك كلام الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ما يدعو به، "ومِنْ أيدي الخُصماء غداً مَنْ يخلّصني وبحبل مَن أتّصل إنْ أنتَ قطعتَ حبلك عنّي، فواسوأتاه على ما أحصى كتابك من عملي، الذي لولا ما أرجوه من كرمك وسعة رحمتك ونهيك إيّاي عن القنوط، لقنطت" تذكّروا في كلّ دعاء الإمام (سلام الله عليه) أو دعاء أبو حمزة الثمالي، تذكّروا الحشر، "أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حامِلاً ثقلي على ظهري أنظرُ مرَّةً عن يميني وأُخرى عن شمالي إذ الخلائق في شأن غير شأني"، تذكّر الحشر بين يديّ الله، تذكَّر ذاك اليوم العظيم الذي لا ينفع أي إنسان فيه إلاّ عمله، هذا يركِّز لنا الثبات على الإيمان، وعلى الموقف، يركِّز لنا الوعي لكلّ القضايا التي تطرح علينا لنختار منها القضية التي تخلّصنا عند الله لا القضية التي تخلّصنا عند الناس وتجعلنا نقف موقف الخزي والعار أمام الله.
المسؤولية في مواجهة الموقف
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال : 25] واجهوا الموقف على أساس أن تتحمّلوا المسؤولية جميعاً عن أيّة فتنة تحدث، سواء كان ذلك في الفتنة التي تصيب الناس في دينهم فينحرفون عنه، أو الفتنة التي تصيب الناس في أمنهم فينحرفون عمّا يصلح أمنهم، والفتنة التي تصيب الناس في سياستهم وفي اقتصادهم فينحرفون عن الخطّ السياسي المستقيم وعن الخطّ الاقتصادي المتوازن، لا تقل أمام الفتنة "فُخَّار يكسِّر بعضه" ليس لنا شغل، نحن شيء والناس الذين يتقاتلون شيءٌ آخر، نحن بجانب والناس بجانبٍ آخر، الفتنة كالريح العاصف إذا أوقد إنسان أو جماعة النار في وقت اشتداد الريح فهل يحترق الذين أوقدوا النار فقط أم أنّ الحريق يطال كلّ البيدر ويدخل كلّ البيوت من خلال العواصف التي تزيد النار اشتعالاً في ما تنقله في حال العاصفة من حطب ومن كلّ ما يوجب زيادة الاحتراق، والحرائق الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية هي حرائق لا يمكن أنْ تنحصر في دائرة أصحابها، بل إنّها تتوسّع بفعل العلاقات التي توجب أن تكون خطّ تماس بين كلّ موقع وموقع في المجتمع. والذين يثيرون الحرائق أو يتحرّكون في داخلها ليسوا فئة منفصلة عن المجتمع لتكون نتائج الحرائق مختصّة بهم ولكنّهم فئة تعيش في عمق المجتمع ويعيش المجتمع في عمقها، ولهذا يقول الله على المجال الأخروي والمجال الدنيوي: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} تحمَّلوا مسؤوليّتكم في كلّ ما تستطيعون أن تمنعوا به الفتنة من الاتّساع أو تمنعوها من الاستمرار أن تحاصروها أولاً بكلّ ما عندكم من عقل وإرادة ووعي وأن تحاصروا كلّ الذين يريدون أن يستمروا فيها وينطلقوا بها، لأنّها ستترك في داخل الواقع المأساة التي تحرق الواقع كلّه وتحرق الحياة كلّها.
الله شديد العقاب
{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 25] عندما تحرِّكون ألسنتكم بالفتنة وعندما تحرّكون أيديكم بالفتنة وعندما تسخّرون جاهكم لمصلحة الفتنة، وعندما تنفقون أموالكم لمصلحة الفتنة، عندما تحرّكون هذا وذاك؛ فإنَّ عليكم أن تنتظروا عقاب الله لأنّكم شاركتم إذا لم تكونوا مشاركين في الفتنة في بدايتها فأنتم مشاركون في الفتنة في استمرارها ـــ أيّ فتنة كانت ـــ ولهذا لا بدّ للإنسان من أن يكون واعياً لكلمته، واعياً لموقفه، واعياً لعلاقاته، واعياً لعواطفه، لأنَّ ذلك إذا لم يكن في خطّ الوعي فربّما تغفل ويستغفلك الناس ليدخلوك في الفتنة من خلال أوضاعك العائلية أو من خلال مصالحك الشخصية أو من خلال علاقاتك الاجتماعية، وهكذا حتّى تكون الإنسان الذي يدفع الفتنة إلى أن تشتعل. لا بدّ لنا أن نفكِّر في أنّ الله شديد العقاب وأنّنا سنُقدم عليه، وعلينا أن نحذر عقابه لأنَّ عقاب الله سبحانه وتعالى ليس مثله عقاب {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ*وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 ـــ 26].
عباد الشيطان وعباد الرحمن
ثمّ يقول الله لكلّ الناس قبل أن يلتقوه، لكلّ نفس قبل أن تلتقيه {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 27 ـــ 28]، النفس الواعية المطمئنة من خلال اطمئنان العقل واطمئنان العاطفة واطمئنان الشعور، ارجعي إلى ربّك راضية بنعم الله مرضية بطاعتك {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي*وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29 ـــ 30] هل نريد أن نكون من عباد الشيطان، أم من عباد الرحمن، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي}، وكلمة أن تكون من عباد الله هي كلمة تحتاج إلى الجهد وإلى الوعي وإلى الكثير من المواقف التي تجعل الإنسان خائفاً مقام ربّه وخائفاً من لقاء ربّه ومنفتحاً على رحمة ربّه، ثمّ يقول الله للمؤمنين الذين كانوا مع النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويقول لكلّ المؤمنين الذين جاؤوا بعد النبيّ وكانوا قلّة وكانت الحياة تحاصرهم وكان الناس يتخطّفونهم ليعرفهم أنّ الله أنعم عليهم بأنْ أواهم، وأنعم عليهم بأنْ أيّدهم بنصره، وأنعم عليهم بأن رزقهم من الطيّبات، لا تعتبروا هذا الخطاب موجَّهاً إلى الذين كانوا في زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بل اعتبروه موجَّهاً إليكم عندما عشتم بعض النصر في تاريخكم وبعض الأمن في تاريخكم وبعض الطيّبات في ماضيكم وحاضركم.
وحدة الخطّ
{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال : 26] أن تشكروا الله في هذه النِّعَم، ونحن نعرف أنّ خطّ الإسلام في خطّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين أخلصوا لله رسالته وانفتحوا على الناس كلّهم، كانوا يعيشون هذه القلّة، وهذا الاستضعاف وهذا التخطّف، وأيّدهم بنصره. فاشكروا الله، وشكركم لله أن تستخدموا نصر الله في نتائجه بطاعة الله. استخدموا هذه القوّة التي منحكم الله إيّاها، فلا تظلموا الناس من خلال قوّتكم ولا تتعرَّضوا لنفوسهم من خلال قوّتكم، ولا لأموالهم ولا لأعراضهم ولا لحريّاتهم، لأنَّ القوّة أمانة الله عند الأقوياء. فإذا لم يحرِّكوا أمانة الله في ما يرضي الله فإن الله سيستردّ أمانته وسيضعف الأقوياء في الدنيا قبل الآخرة، لأنَّ نعمة الله لا تستمرّ عندما تحرّكها في غير ما يحبّه الله ويريده، لهذا {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} والشكر لله هو أن نبقى جماعة الإسلام في وحدة الخطّ الصحيح الخالص، وأن نعيش أجواء أهل البيت (عليهم السلام) في ما استلهموه من الإسلام وفي ما حرَّكوه في طريق الإسلام لنعمل على أن يكون ذلك سرّ الوحدة بيننا وفي كلّ مواقعنا الإسلامية مع كلّ المسلمين في العالم.
لا تخونوا الله
ثمّ يقول الله بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ}، {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ...} [الأنفال : 24] فإذا استجبتم لله وللرسول وانتميتم إلى دينه وسرتم في هذا الخطّ، فلا تخونوا الله فالإسلام عهد بينك وبين الله وهو أمانة الله عندك، والإسلام عهد بينك وبين رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وهو أمانة الرسول عندك، لا تخونوا الله في دينه، لا تخونوا الرسول في شريعته، بل أخلصوا لله والتزموا دينه ودافعوا عنه وأخلصوا لرسول الله والتزموا شريعته ودافعوا عنها ولا تخونوا أماناتكم أيضاً، في علاقاتكم، في وحدتكم، في تآخيكم، في كلّ القضايا الكبيرة التي تحكم حياتكم، في حديثكم، في كرامتكم، في كلّ مواقع العدالة في حياتكم، تلك هي الأمانة التي يجب أن تحافظ الأُمّة عليها في ما تحتاجه في حاضرها ومستقبلها، ولذلك يريد الله منّا أن نعيش مسؤولية كلّ ذلك، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، ثمّ يريد الله بعد ذلك أن يحدِّثنا أَنَّ الإنسان قد يخون أمانته بفعل عاطفته تجاه أولاده الذين يريدون منه، أو تريد منه مصالحهم، أن يخون أمانة الله ورسوله وأمانة الأُمّة، وربّما يدفعك مالك إلى أن تخون أمانة الله والرسول، لأنَّ هناك طمعاً عند أعداء الله والرسول ليمنحوك المال على أساس الخيانة، إنَّ الله يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ...} إنَّ الله يختبركم بأولادكم ويختبركم بأموالكم، هل تنهار مواقفكم أمام عاطفتكم تجاه أموالكم وأولادكم، أم أنّ مواقفكم لا تنهار ليكون الله أقرب إليكم من أموالكم وأولادكم وأَحَبَّ إليكم من أولادكم ومن أموالكم، الله يقول مالك تعيش معه وقتاً، أولادك تعيش معهم وقتاً، {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] ولكنّك عندما تفضِّل الله على أموالك وعلى أولادك فإنّك ستجد الأجر العظيم عند الله، وعندما تحصل على الأجر العظيم عند الله فإنّك تحصل على السعادة الخالدة والفوز الكبير، تلك هي أجواء القرآن، وذلك هو الذي أراد الله من خلاله أن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يحيي عقولنا بالقرآن، وأن يدفع بالحياة إلى حياتنا بالقرآن، لأنَّ الله جعله نوراً وموعظة وشفاءً لما في الصدور، وجعله حياة للقلب وللروح وللعقل، وهذا ما يجب أن نلتفت إليه دائماً، لنجلس إلى القرآن لنستنطقه في ما يريد أن يوجّهنا إليه، ولندرس حلوله في ما يمكن أن يحوط مشاكلنا فيه، القرآنيون الذين جعلوا القرآن شفاءهم وجعلوا القرآن دستورهم وجعلوا القرآن أساس حياتهم لم يلتفتوا يميناً ويساراً وإنّما انطلقوا إلى الجادّة المستقيمة ليستمعوا إلى الله في القرآن، يقول لهم: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] القرآن هدانا، وهو الذي يذكّرنا دائماً، عندما نضعف، بأنَّ الله هو الأقوى، ويذكّرنا دائماً، عندما تمتلئ قلوبنا بالكبار الذين يريدون أن يسيطروا على مقدّراتنا، بأنَّ الله أكبر، ويذكّرنا، عندما نتطلَّع إلى المواقع العليا في بلادنا وفي بلاد الآخرين ليقول الناس هذه هي الدولة الأعلى، وهذا هو الرئيس الأعلى، ليقول لك القرآن إنَّ الله هو الأعلى، وإنّ كلّ مَن يقول أنا ربّكم الأعلى سوف يُنكَّل نكال الآخرة والأولى.
الثبات على الحقّ
بالقرآن تعيشون العزّة وتشعرون بمسؤولية عزّتكم {... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] بالقرآن تتعلَّمون كيف يخاطب بعضكم بعضاً ويحاور بعضكم بعضاً ويعاشر بعضكم بعضاً ويتحمّل بعضكم مسؤولية بعض، تلك هي إيحاءات القرآن، فلنلتزم القرآن، ولنلتزم كلّ آياته، ولنترك كلّ مَن يريد أن يبعدنا عن القرآن تحت تأثير أيّ عنوان وأيّ وضع. إنّ القرآن لا يعزلنا عن الآخرين لأنَّ الله يقول: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ...} [الممتحنة: 8] إنّ الله لا يعزلنا عمّن نختلف معه، بل يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران: 64]، هذا قول القرآن. بعض الناس يتصوَّر أنّه بقدر ما يكون مؤمناً، بقدر ما يكون تقيّاً، بقدر ما يكون مسلماً، بقدر ما يكون ملتزماً بالقرآن؛ يجب أن ينعزل عن الناس، يقول لا أُريد أن أنفتح على أحد، الله سبحانه وتعالى لم يمنعنا من أن ننفتح على أحد، لكن يقول إذا أردتم أن تنفتحوا على الناس حافظوا على أفكاركم، لا يخدعنّكم الناس عن أفكاركم، لا يخدعنّكم الناس عن مواقفكم، لا يخدعنَّكم الناس عن كلّ واقعكم، اثبتوا، لا تتزلزلوا، لا تسقطوا أمام التحدّيات، اثبتوا عندما تؤمنون بفكرة أنّها الحقيقة، عندما تؤمنون بموقف أنّه الحقّ اثبتوا عليه، مهما صادفكم من مشاكل ومن أوضاع، تلك هي المسألة.
لقاء الإمام
وهذا ما كنّا نستشرفه في زيارتنا إلى الجمهورية الإسلامية عندما التقينا بالإمام الخميني (حفظه الله) الذي كانت قيمته في كلّ حياته منذ أن تحرَّك ومنذ أن واجَهَ الأخطار والمشاكل وواجَهَ السُبَاب والشتائم والاتهامات وكلّ أساليب التعسف التي وجَّهها إليه العالم المستكبر، إنّه سحق كلّ ذلك بقدميه لأنّه شعر بأنّ الإنسان الذي يريد أن يقف في وجه الباطل المستكبر لاسيّما إذا كان في موقع الدول الكبرى، فعليه أن يعتبر هذه الأساليب أساليب طبيعية لأنَّ الآخرين عندما يخافون من موقفك ويخافون من صدقك وإخلاصك فإنّهم يلجؤون إلى هذه الأساليب حتّى يشوّهوك وحتّى يسقطوك، ولكن ما قيمة الناس حتّى يسقطوا مجاهداً أو قائداً أو مؤمناً إذا كان الله يريد أن يرفعه، وإذا كان الله يريد أن يجعله في المواقع العليا، ولذلك تحدَّث الناس كثيراً عنه وقالوا عنه الكثير وتحدَّثت عنه الدول كثيراً وحاصرت كلّ مواقعه ومواقفه، ولكنّه كان قرآنياً، قرأ القرآن كأروع ما يقرأ الإنسان القرآن، وأدخل القرآن إلى عقله فكان عقله يخطّط من خلال القرآن، أدخل القرآن إلى روحه فكانت روحه تنفتح على القرآن، وأدخل القرآن إلى حياته فكانت قيادته تنطلق في دروب القرآن، لذلك استطاع أن يثبت وتكسَّرت كلّ الدول التي أرادت أن تسقطه والتي أرادت أن تنحرف به عن الخطّ، حتّى عندما اضطر لأنْ يغلق باب الحرب نتيجة الظروف التي صنعها الاستكبار العالمي حتّى يضيق عليه الخناق من كلّ جانب، لم يسقط، وإنّما قال إنّي أتجرَّع السمّ، ولكن لن أسقط سأبقى في مواقع الإسلام أدعو الناس إلى الإسلام، وسأبقى في مواقع الحريّة أدعو الناس إلى الحريّة، وسأبقى لِأُحرِّك ثورة المستضعفين في مواجهة المستكبرين، قالها وهو يعبِّر عن موقفه، وقالها وهو يدعو الناس إلى أن لا يعتبروا القبول بالقرار قبولاً بالخضوع للاستكبار أيّاً كان المستكبرون. قال لهم أن تبقى لهم روحهم لأنَّ المعركة بيننا وبين المستكبرين، أنّهم يريدون إسقاط روحنا لنتحرّك بلا روح. وهكذا كانت قيمته أنّه أخلص لله وأنّه كان الواعي الذي يعرف أنّ التحدّيات التي توجه إلى الوضع هناك ليست تحدّيات موجّهة إلى إيران ولكنّها موجّهة إلى الإسلام، قالها لي: إنَّ أميركا تعمل على أن تحارب الإسلام لا أن تحارب إيران، القضية ليست قضية وطن يدخل الصراع مع أميركا على أساس سياسي أو أمني أو اقتصادي، ولكنَّ القضية قضية إسلام يدخل الصراع مع أميركا من أجل أن يخفّف كلّ استكبار أميركا في سيطرتها على العالم، إنّه يفكّر بهذه الطريقة، وعندما قلت له: إنَّ الاستكبار عمل على أن يحاصر الحالة الإسلامية في لبنان بكلّ الوسائل، قال: إنّها حركة الاستكبار في مواجهة الإسلام الذي تمثّله الحالة الإسلامية بصدق، وعندما طلبت إليه أن يبعث برسالة إلى المؤمنين هنا، كلّ المؤمنين الواعين الملتزمين المنفتحين على خطّ الإسلام في الدعوة وفي الجهاد في سبيل الله، قال: قل لهم إنّني أبعث إليهم بكلّ محبّة وتحيّة وسلام، وأذكرهم في دعائي، قل لهم أن يبقوا واقفين في وجه الاستكبار، لا يسقطوا مهما كانت الضغوط وأن يحتضنوا الإسلام في حياتهم كمسؤولية إلهية، فلا يتركوا الإسلام مهما كانت التحدّيات وعليهم أن لا يتعبوا من السير في الخطوط الصعبة في خطّ الجهاد وعليهم أن لا يسقطوا أمام كلّ ما يُوَجَّه إليهم من ضغط على جميع المستويات لأنَّ الاستكبار الطاغي والاستكبار الكافر يعمل على أن يخوّف المؤمنين بتهاويله، ويعمل على محاصرة الإسلام في خططه، ويعمل على أن يضعف موقع الناس. فلا تكونوا الضعفاء ولا تكونوا المنهارين بل كونوا الأقوياء {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران : 139] تلك هي وصيّته، أن نبقى الواقفين في كلّ مواقع التحدّي لأنَّ المسألة ليست مسألة حالة سياسية طارئة ولكنَّ المسألة مسألة إسلام يريد أن يتحرّك في كلّ الحياة كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال : 39] من خلال كلّ الإمكانات التي نملكها.
الجمهورية الإسلامية لن تسقط تحت الضغوط
وعلى هذا الأساس، فإنّنا نشعر أنّ علينا أن نظلّ منفتحين على كلّ قضايا العالم الإسلامي وأنّ علينا أن نعرف قبل كلّ شيء أنّ الجمهورية الإسلامية لم تسقط تحت تأثير ضغوط استكبارية ولم تقدِّم أيّة تنازلات تنحرف بها عن الخطّ، وإذا كانت هناك بعض الأفكار تتحرّك في الساحة فإنَّ الخطّ الذي يحتوي كلّ تلك الأفكار هو الخطّ الذي يمثّله الإمام (حفظه الله) وهو الخطّ الذي يفرض نفسه، وإنّه يعطي الحريّة للناس وللمفكّرين حتّى يتحاوروا في أفضل السبل لخدمة الإسلام من دون أن يسمح لهم بأن يكون خلافهم مؤدّياً إلى سقوط الدولة الإسلامية، إنّه حوار في الفكر من أجل أن يؤدّي إلى وضوح الرؤية أكثر، وليس نزاعاً يعمل على إيجاد المشاكل في الداخل، لقد كنت مطمئناً للجوّ العام في سلامة الخطّ وفي سلامة الدولة، وليس معنى ذلك أنّه ليس هناك مشاكل، ولكنَّ المشاكل ليست بالمستوى الذي تصل فيه إلى حدود الخطر، ولكلّ بلدٍ مشاكله، ولكلّ مرحلة مشاكلها.
إعلان الدولة الفلسطينية
ونحن في هذا الموقع، لا بدّ من أن نتطلَّع إلى الحدث الجديد الذي حصل قبل أيّام في ساحتنا الإسلامية، وهو إعلان الدولة الفلسطينية المستقلّة(1)، إنّنا لسنا معقّدين من أن تعلن دولة فلسطينية إلى جانب الدول الأخرى الموجودة في المنطقة، وإنْ كنّا نطمع في أن تكون كلّ الدول دولة واحدة، لأنَّ الوحدة تستطيع أن تعطي القوّة بما لا تعطيه التفرقة، لكن دولة فلسطينية لا تملك حريّة الأرض وحركة الأرض، لا تستطيع أن تدخل أرضها، وقبل أن تحصل على أيّ شيء قدَّمت التنازلات في الوقت الذي لم تقدِّم "إسرائيل" الغاصبة لكلّ الأرض والتي تريد أن تغتصب أرضاً أخرى وأن تغتصب مستقبلاً آخر من دون أن تقدِّم أيّ تنازل حتّى على هذا المستوى، إنَّ هذه الخطوة التي أضافت إلى الأوهام العربية السياسية وهماً جديداً والتي هيَّأت لكثير من الناس أنّها نصر جديد للقضية الفلسطينية في الوقت الذي يمثِّل ذلك هزيمة للمواقف الصلبة التي يجب أن تكون في الإصرار على أن تبقى كلّ أرض فلسطين لأهلها، إنَّنا نعتقد أنّها تدخل في نطاق التنازلات العربية السياسية التي بدأها العرب منذ وقت طويل بسياستهم وهم يقدِّمون التنازلات تلو التنازلات حتّى أصبحوا في جامعتهم العربية وفي علاقاتهم الثنائية وفي مجالسهم المحوريّة في ما بين دولة وأخرى، أصبحوا يلهثون وراء "إسرائيل" لتقبل منهم أن يحاوروها، وأنْ يجلسوا معها في نطاق المؤتمر الدولي حفاظاً على ماء الوجه، لكنَّ "إسرائيل" بقيت على طرحها الأوّل، وهي أنّها لا تجلس مع العرب إلاّ منفردين، وليست مستعدّة لأن تجلس معهم مجتمعين، أو في نطاق مؤتمر دولي، لأنّها تريد أن تقودهم إلى أن يسلموا لها فلسطين كاملة، أو أكثر، وحتّى تقبل بالصلح معهم.
الاعتراف بإسرائيل
المسألة هي ليست أن يقبل العرب بالصلح مع "إسرائيل"، فقد أصبحت مسألة الصلح مع "إسرائيل" مسألة أساسية في السياسة العربية، وقد أصبح الحديث عن السلام مع "إسرائيل" في تصريحات ممثّل الجامعة العربيّة بالصوت العالي المسموع، ولكنّ المسألة هي أن تقبل "إسرائيل" بمصالحة العرب لأنّها لا تريد ذلك إلاّ من خلال شروطها. لهذا فإنَّ المسألة هي أنّ منظمة التحرير قدَّمت هذا التنازل بدون نتائج، ربّما كانت هناك نصائح دولية كبيرة، إضافةً إلى النصائح العربية، بأن تقدِّم منظمة التحرير هذه التنازلات لكي تقبل أميركا الاعتراف بمنظّمة التحرير لأنّها وضعت شرطاً أن تعترف منظمّة التحرير بــ "إسرائيل" أوّلاً، وعندما اعترفت بالقرارين 242 و338 فمعنى ذلك أنّه يعتبر اعترافاً ضمنياً بــ "إسرائيل"، ومع ذلك ما النتائج؟ علَّقت أميركا بأنّ في هذا القرار إيجابيات ولكن هذا ليس كافياً، حتّى تصرَّح منظّمة التحرير تصريحاً كاملاً بالاعتراف الكامل بــ "إسرائيل" وبعد ذلك تنظر أميركا إنْ كانت مستعدّة لأن تتحدّث مع منظمة التحرير. تصوَّروا أنّ رئيسة حكومة بريطانيا تناشد رئيس الولايات المتحدة الآن بصيغة جلب العطف، أن يتنازل ويعطف على هذا القرار ويشجِّع الفلسطينيّين ببعض اللّفتات حتّى يتنازلوا أكثر، يعني لا تكونوا جامدين؛ أعطوهم ضحكة، بسمة، أعطوهم تصريحاً، لأنَّ العرب يحبُّون التصاريح الفضفاضة، لأنّهم يعتبرونها نصراً، أصبحت انتصاراتنا الكبيرة السياسية في ما يقدّمه لنا الأميركيون والأوروبيون من مبادرات إعلانية لا مبادرات سياسية، ومع ذلك لا يزال ريغن الذي أصبح الشمس الغاربة، لا يزال غير مستعد لأنْ يعطي كلمة عطف لهذا القرار حتّى يقود التنازلات إلى هزيمة سياسية أكثر من هذه الهزيمة.
الانتفاضة تقدّم الشهداء
منظّمة التحرير التي تملك، لا نقول تملك، بل هي لا تملك الانتفاضة كلّها، قد تملك بعض مواقعها، هذه الانتفاضة التي بلغت عامها الأوّل، ودخلت في نهاية هذا العام ولا تزال تقدِّم الشهداء وتقدِّم المواقف الصلبة في كلّ موقع من مواقع فلسطين، ومع ذلك فإنَّهم يقدِّمون التنازلات لــ "إسرائيل" من دون أن تقدِّم هي أيّ تنازل، حتّى على مستوى تخفيف الضغط على الانتفاضة، ونحن نتصوَّر أنّ إعلان الدولة الفلسطينية في هذا الإطار السياسي سوف يكون تجربة ثانية بعد مبادرة وزير الخارجية الأميركي لتطويق الانتفاضة وتدجينها ومحاصرتها حتّى تتحوّل إلى حركة من أجل تسجيل النقاط في ساحة المفاوضات لا من أجل تحويل الواقع إلى ثورة حقيقيّة تعمل على تثوير العالم الإسلامي. لهذا نحن كإسلاميين نرفض هذه الدولة، نحن نريد أن تكون هناك دولة من موقع إرادة الحريّة للشعب الفلسطيني المسلم لا من موقع إرادة التنازلات للوسط السياسي الفلسطيني الذي يتحرّك في دائرة الهزيمة العربية بدلاً من أن يتحرّك في دائرة النصر العربي. ونقول لكلّ إخوتنا من المجاهدين الإسلاميين هناك أن لا يقعوا في هذا المطبّ، وأن يكونوا الواعين للدور الكبير الذي ينتظرهم، لأنّه ليس لدى الشعب الفلسطيني المجاهد ما يخسره إلاّ أغلاله، ليس له إلاّ هذه الأعمال وليس له ما يخسر، إنّه سيربح الحريّة من خلال ذلك.
اللبنانيون سلَّموا أمورهم للدول الكبرى
ثمّ لا بدّ من أن نواجه في المسألة اللبنانية الداخلية التي يُحكى عن وجود إيجابيات ووجود إمكانات للحلّ فيها، المسألة اللبنانية التي يُفترض أن يتحرّك اللبنانيون فيها من موقع الوعي والإرادة القويّة ليدبّروا أنفسهم بأنفسهم وليقلِّعوا شوكهم بأظافرهم، ولكنّهم سلَّموا هذه المهمّة للدول الكبرى، لدولة كبرى واحدة وهي أميركا، ولهذا فإنَّ المسألة هي ماذا تريد أميركا، الحديث عن موفد أميركي في الفاتيكان وموفد أميركي إلى لبنان، والحديث عمّا تخطّط له الإدارة الأميركية وهل تهتمّ بلبنان، وهم يستجدونها الاهتمام بلبنان، أو هل أميركا تهتمّ بلبنان أم لا تهتمّ، وإذا اهتمّت فليس لبنان في موقع الأولويّات.
من خلال الرصد الدقيق للمسألة اللبنانية في الواقع الذي نعيشه والذي برزت فيه كثير من التطوّرات في المنطقة، وفي طليعتها مسألة الدولة الفلسطينية، وبعض الأمور المتحرّكة في المنطقة، نرى أنّ لبنان هذا الذي أُريدَ له أن يكون ساحة لكلّ العواصف السياسية في المنطقة، ولكلّ المشاريع الغربية في المنطقة، ولكلّ النفوذ الأميركي في المنطقة، لبنان هذا يُدرّس الآن دوره لا من خلال المآسي التي يعيشها شعبه في ما يعاني من جوع وتشريد وحرمان وانهيار على جميع المستويات، المسألة ليست في ما يقاسي شعبه؟ ولكن يفكّرون كيف نستفيد من لبنان في هذه المرحلة، ما دور لبنان في ما يُقبلُ عليه الواقع السياسي في المستقبل القريب، في المسألة الفلسطينية؟ وما دور لبنان في الموقع الذي تفكِّر فيه أميركا لكي يكون مدخلاً لسيطرة نفوذها السياسي على المنطقة؟ وما موقع لبنان في ما يخطّط لكثير من الاهتزازات السياسية في المنطقة بعد انتهاء حرب الخليج، أو بعد أنْ شارفت على نهايتها؟ لأنّهم لن يتركوا المنطقة مستقرّة ما دام في المنطقة نفط وما دام في المنطقة الكثير من المواقع الاستراتيجية، وما دامت المنطقة تعمل على أساس أن تحقِّق الاكتفاء الذاتي، وهم يريدونها سوقاً استهلاكية.
دور الرئيس من دور لبنان
التفكير الآن ما هو دور لبنان في أزمة المنطقة، وما هو دور لبنان في طبيعة الأوضاع السياسية الأخرى في المنطقة؟ وذلك ما يحدّد مسار السياسة اللبنانية. ليست المسألة أن يتّفق اللبنانيون على رئيس أو لا يتّفقوا، ليست المسألة مَن هو شخص هذا الرئيس وما هي الأسماء المتداولة مارونياً، وما هي الأسماء التي يحملها هذا أو ذاك.. المسألة هي ما هو الدور اللبناني ومَن هو الرئيس الذي يُراد له أن يرتّب في دوره وفي دائرته الأوضاع السياسية الإقليمية والدولية في لبنان بحيث لا يسيء إلى أيٍّ منهم. ليس البحث عن الرئيس، ولكن البحث عن دور الرئيس وعن دور لبنان، ولهذا ليست المسألة المطروحة هي مسألة الإصلاح ولكنّها مسألة الشخص، لأنَّ مسألة الإصلاح تتعلّق بالداخل، والداخل ليس مهمّاً عند الدول الكبرى، أمّا مسألة الرئيس فهي تتعلَّق بالوضع الخارجي، في علاقة لبنان بالأوضاع السياسية في المنطقة وفي خارجها، ولهذا يقع موقع الاهتمام.
فليغلق ملفّ الحقد
ولذلك فإنَّنا نتصوَّر ـــ من دون أن ندخل في مسألة التفاؤل والتشاؤم ـــ أنّ المسألة ليست قصيرة وأنّ الجميع يأخذون وقتهم في ترتيب الأمور على قياساتهم حتّى يكون التفصيل تفصيلاً ملائماً للجسد الأميركي في المنطقة من دون أيّة زيادة أو نقصان، ولهذا فعلينا أن ننتظر وقتاً طويلاً حتّى تنجلي المشكلة، وعلينا أن نعمل على أن نقلّع كثيراً من أشواكنا بأظافرنا، وأن لا نضيف إلى أشواكنا أشواكاً جديدة، وعلينا أن ننطلق جميعاً في هذه المرحلة الصعبة التي سوف تأتي بعدها مراحل أصعب وأمرّ.. لا بدّ من أن نعمل جميعاً من أجل الوحدة ومن أجل إيجاد قاعدة للتوازن في داخل الصف الواحد ومن أجل أن نبتعد عن كلّ الكلمات التي تدخل في أساليب المهاترات، وأن نغلق كلّ ملفات الحروب الإعلامية، وأن نفتح قلوبنا لله، لأنَّ القلوب المفتوحة لله سوف تكون مفتوحة للجميع من خلال ذلك، ليرتفع الصوت أنْ يتوحَّد الناس وليرتفع الصوت أن يغلق كلّ ملف الحقد والبغضاء والعداوة والفتنة والقتل والقتال، وأن يجلس الجميع إلى شريعة الله لتقول الشريعة كلمتها في كلّ ما يختلف فيه الناس، وفي كلّ ما يتنازعون فيه {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا...} [آل عمران : 103] فلا تعودوا إلى النار من جديد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين